المسجد المهجور … والابن البار بوالديه

كنا في جده في بيت الوالده حفظها الله صباح يوم الجمعه … وعند الضحى سألت خالي: ما رأيك أن نذهب إلى مكة لنصلي الجمعه هناك؟ فقال: فكره طيبة … نشرب الشاي ونطلع، فقلت لا بل نذهب الآن .. قبل ما يفتح لنا الشيطان باب الكسل.. ولك علي أن أشتري لك شاياً عدنياً لم تتذوق مثله في الطريق! كي نلحق دخول الحرم قبل الزحمة .. فاليوم يوم جمعه .. وكل أهل مكه سيصلون هناك.
عندما كنا في الطريق السريع … لفت نظري قبل مكه بحوالي خمسة وأربعين كيلومتر أو تزيد قليلا في الناحية الأخرى من الطريق .. بيت أبيض من بيوت الله … مسجد متواضع جميل .. وقد لفت نظري لعدة أسباب: لونه أبيض رائع … و مئذنته جميلة و عالية نسبيا، مبني على أسفل سفح جبل أو على تل تقريبا .. مما يجعل الوصول إليه يبدو صعبا قليلا … خاصة على كبار السن .. وإن كان واضحاً أن من بنى المسجد بناه على هذه الصورة من أجل أن يظهر للناس من بعيد … أن في هذا المكان مسجد.

المسجد كان مهدماً .. أو بمعنى أصح .. كان عبارة عن ثلثي مسجد فقط … و الجزء الخلفي مهدوم تماما .. و لا يوجد أبواب أو حتى شبابيك .. وليس أكثر من مكان مهجور مرتفع عن الأرض، ولست أدري لم بقى منظر هذا المسجد في قلبي … وصورته لا تفارق خيالي! .. ربما لشموخه و وقوفه خلال السنين … الله أعلم

وصلنا مكه ولله الحمد … وأوقفنا السيارة خارجها نظراً لشدة الزحام وصلينا وسمعنا الخطبة، وبعد الصلاة .. ركبنا سيارتنا وأخذنا طريق العوده للمرة الثانية … ولست أدري … ظهرت صورة نفس المسجد في بالي، المسجد الأبيض المهجور و صرت أكلم نفسي … بعد قليل سيظهر لنا المسجد وصرت التفت لليمين وأنا أبحث عنه وأذكر أن بجانبه مبنى المعهد السعودي الياباني ويبعد عنه حوالي خمسمائة متر وكل من يمر بالخط السريع يستطيع أن يراه.وأخيراً لاح المسجد وأدمنت النظر إليه فلفت انتباهي شئ ما .. سيارة .. فورد زرقاء اللون تقف بجانبه، ثواني مرت وأنا أفكر .. مالذي يجعل سيارة تقف هنا ؟ ومن عساه يكون سائقها؟ وما مبتغاه؟ .. ثم اتخذت قراري سريعا فخففت السرعه وانعطفت إلى اليمين على الخط الترابي ناحية المسجد … ليقضي الله أمرا كان مفعولا … وسط ذهول خالي وهو يسألني خير إن شاء الله ؟؟؟خير صار شئ ؟؟؟ اتجهت لليمين حوالي خمسمئة متر .. ثم اليمين مرة أخرى … ثم داخل أسوار مزرعة قديمة … ثم توجهت للمسجد مباشرة … وخالي لايكف عن السؤال : خير .. مابك ؟ رد علي !! قلت: أبدا .. أريد أن أعرف قصة هذه السيارة الواقفة قرب المسجد! قال … مالنا ومال الناس؟ قلت: لن نخسر شيئاً وفي نفس الوقت نصلي العصر.. سكت الخال، ثم أوقفنا السيارة في الأسفل … وطلعنا حتى وصلنا المسجد … وإذا بصوت واضح … يرتل القرآن باكياً … ويقرأ من سورة الرحمن … وكان يقرأ هذه الآية بالذات :”كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ”
فكرت أن ننتظر في الخارج مستمعين لهذه القراءة .. لكن الفضول بلغ بي مبلغه لأرى ماذا يحدث داخل هذا المسجد … المهدوم ثلثة … والذي حتى الطير لا تمر فيه، دخلنا المسجد.. وإذا بشاب قد وضع سجادة صلاة على الأرض … في يده مصحف صغير يقرأ فيه … ولم يكن هناك أحدٌ غيره،دهشت ثم قلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته … التفت الشاب مدهوشاً ثم نظر إلينا وكأننا أفزعناه … مستغربا من حضورنا .. ثم قال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فسألته : هل صليت العصر؟قال… لا قلت: طيب هل أذنت؟ قال لا… كم الساعة؟ قلت : لقد دخل الوقت قبل قليل..
أذنت لصلاة العصر … ولما هممت بإقامة الصلاة .. وجدت الشاب ينظر ناحية القبلة ويبتسم!! ابتسامة غريبة ولكن ملؤها حنين وشوق!!! يبتسم لمن؟ ؟
وقفت لأكبر … فسمعت الشاب يقول جملة طيرت عقلي تماما، قال بالحرف الواحد : “أبشر … جماعة مرة واحدة”.
نظر لي خالي متعجبا … فتجاهلت ذلك … ثم كبرت للصلاة وعقلي مشغول بهذه الجملة : “أبشر جماعة مرة واحدة”
يكلم من ؟؟؟ .. ليس معنا أحد !!! .. أنا متأكد أن المسجد لم يكن فيه أحد.. لقد كان خالياً! هل يمكن أن أحداً دخله دون أن أراه!… هل هو مجنون … لا أعتقد أبداً … إذاً هو يكلم من !!!
صلى الشاب خلفي … و تفكيري منشغل به تماما… و بعد الصلاة … استدرت إلى الخلف .. ووجدت خالي متهيئاً للانصراف.. فقلت له .. أرجو أن تنتظرني في السيارة ودقيقة فقط ثم ألحقك؟؟ نظر لي … وكأنه خائف علي من هذا الشاب الغريب الذي يتوقف عند مسجد مهجور ويقرأ القرآن فيه ثم لا نعلم من يكلم … حين يقول:
” أبشر جماعة مرة واحدة”
أشرت إليه أني جالس قليلاً ونظرت للشاب الذي كان مازال مستغرقا في التسبيح … ثم سألته كيف حال الشيخ؟

فقال: بخير ولله الحمد
سألته: لم أتعرف عليك؟
قال: فلان بن فلان
قلت فرصة سعيدة يا أخي … ولكن سامحك الله .. أشغلتني عن الصلاة، سألني لماذا؟ قلت … وأنا أقيم الصلاة سمعتك تقول: “أبشر جماعة مرة واحدة” … ضحك … وقال ما الغريب فيها؟ قلت : ما فيها شيء ..ولكن أنت كنت تكلم من !!!
ابتسم … ونظر للأرض وسكت لحظات … وكأنه يفكر .. هل يخبرني أم لا؟ هل سيقول كلمات أعجب من الخيال وأقرب للمستحيل تجعلني أشك أنه مجنون، أم كلمات تهز القلوب،و تدمع الأعين أم سيكتفي بالسكوت!!!
قال بهدوء : لو قلت لك .. سوف تقول عني مجنون..

تأملته مليا … ثم .. ضممت ركبتي لصدري … حتى تكون الجلسة أكثر حميمية .. أكثر قربا .. أكثر صدقا .. وكأننا أصحاب من زمان و قلت : .. لا أعتقد انك مجنون … شكلك هادئ جدا … وصليت معنا ….

أطرق الشاب قليلاً ثم قال كلمة نزلت علي كالقنبلة .. جعلتني أفكر فعلا .. هل هذا الشخص مجنون !!
قال: كنت أكلم المسجد! قلت مدهوشاً: ماذا قلت؟؟
قال: كنت أكلم المسجد …
سألته حتى أحسم هذا النقاش مبكراً: … وهل رد عليك المسجد؟
تبسم.. ثم قال : أما قلت لك … ستقول عني أنني مجنون .. وهل الحجارة ترد .. هذه مجرد حجارة،فابتسمت… وقلت : كلامك مضبوط .. طالما أنها لا ترد … فلماذا تكلمها !!!
قال بهدوء أسرني: هل تنكر …. إن منها لما يهبط من خشية الله؟؟ سبحان الله … كيف أنكر وهذا مذكور في القرآن

قال : و قوله تعالى “وإن من شئ إلا يسبح بحمده ” …قلت : لا أفهم شيئاً!

نظر للأرض برهة وكأنه مازال يفكر هل يخبرني؟؟ هل أستحق أن أعلم؟؟ ثم قال دون أن يرفع عينيه: أنا إنسان أحب المساجد .. كلما رأيت مسجداً قديماً أو مهدماً أو مهجوراً .. أفكر فيه.
أفكر في الأيام وا لأوقات التي كان الناس يصلون فيه وأقول: .. لابد أن المسجد يحن ويشتاق لما كان فيه من الصلاة … تلقاه يحن لذكر الله، أحس … أحس أنه مشغوف بالتسبيح والتهليل .. يتمنى لو يأتي مؤمن إليه فيقرأ آية تهز جدرانه .. وتجعل كل حجر فيه يهيم بأيام المصلين فيه وأنفاس العابدين وأنات التائبين … وأفكر .. وأفكر .. ربما في وقت كل صلاة ستكون المئذنة مشتاقة … و تتمنى أن تدوي فيها… حي على الصلاة … أن تبعث الإيمان في كل من تصله نداوة التوحيد يتردد من جنباتها!!

أحس أن المسجد المهجور… يشعر أنه غريب بين المساجد .. يتمنى من يركع فيه ركعة .. ومن ينحني لله في سجدة .. أحس أن محرابه يكاد يتفطر من الحزن .. يتمنى من يردد فيه .. لا إله إلا الله .. ينتظر أي عابر سبيل يبعثها تحيي القلوب والأرواح … الله أكبر … ثم يقرأ بعدها :
” الحمد لله رب العالمين “فإذا بالأكوان كلها تحني رأسها إجلالاً وتعظيماً لاسم الله تعالى.
أقول في نفسي : والله لأطفئن شوقك .. والله لأعيدن فيك بعض أيامك … آتي إلى المسجد المهجور … وأصلي فيه ركعتين لله … واقرأ فيه جزءاً من القرآن…. لا تقل غريب فعلي .. لكني والله … أحب المساجد …

دمعت عيناي …ونظرت في الأرض مثله حتى لا يرى دموعي المنسكبة.

هزني كلامه .. ومن تدفق إيمانه .. من صدق توجهه .. من فعله المبارك.. دخل قلبي وحتى أعمق أعماقه جمال الإيمان وعظمة السجود وجلال التوحيد .. لقد أكرمني الله برؤية رجل تعلق قلبه بالمساجد..

لم يخرج من فمي أي كلام … واكتفيت بأن قلت له: الله يجزيك كل خير
بدأ خالي يدق لي بوق السيارة يستعجلني .. فقمت … وسلمت على عاشق المساجد … وبرجاء قلت له: … لا تنسني من صالح دعائك.

أردت الخروج من المسجد فقال وعيناه ما تزالان في الأرض : هل تدري .. بماذا أدعو دائماً عندما وأنا خارج من المسجد؟

نظرت إليه .. وأنا أفكر …. من كان هذا فعله .. كيف يكون دعاه …

وبدأ بصوته الرخيم يخبرني بدعاء لم أسمع مثله من قبل :
اللهم …. اللهم ….. اللهم
إن كنت تعلم أني آنست هذا المسجد بذكرك العظيم … وقرآنك الكريم … لوجهك يا رحيم .. فآنس وحشة أبي وأمي في قبريهما وأنت ارحم الراحمين
حينها تتابع الدمع من عيني .. ولم استحي من ظهور ذلك .. أي فتى هذا .. وأي بر بالوالدين هذا … ليتني كنت مثله .. بل ليت لي ولد مثله..

رحم الله أباه وأمه كيف ربوه .. ما هذه التربية .. وعلى أي شئ نربي نحن أبناءنا، هزني هذا الدعاء … اكتشفت أني مقصر للغاية مع والدي رحمهما الله .. كم من المقصرين بيننا مع والديهم سواء كانوا أحياء او أموات، أرى بعض الشباب حين تأتي صلاة الجنازة أو حين دفن الأب … أراهم يبكون بحرقة … يرفعون أكفهم بالدعاء بصوت باكٍ … يقطع نياط القلوب …

و أفكر .. هل هم بررة بوالديهم إلى هذه الدرجة .. أم أن هذا البكاء محاولة لتعويض ما فاتهم من برهم بوالديهم !!! .. أم أنهم الآن فقط .. شعروا بالمعنى الحقيقي … لكلمة أب .. أو كلمة أم..

هذه القصة حقيقية وقد أخذت من شريط دمعة من هنا ودمعة من هناك لـأستاذ إبراهيم المرواني ، وقد تم التصرف فيها من قبل الموقع وإعادة صياغتها بشكل أقرب إلى الفصحى .. وقد أرسلها لنا أحد الإخوة الكرام بارك الله فيه (الأخ وائل أبو اسماعيل)…
وقد ذكرتني هذه القصة بما جرى قبل سنوات خلال زيارة رمضانية إلى مدينة كولومبيا (ولاية ميسوري- الولايات المتحدة) ، ففي دعاء ختم القرآن في ليلة القدر قال إمامنا الليبي المهاجر بدينه في الدعاء : اللهم إنك تعلم أننا مقصرون بحق والدينا .. فانهار المسجد كله بالبكاء .. وأغلب من فيه غريب أو ومضطهد أو مهاجر بدينه في سبيل الله .
أخي الحبيب … أختي المباركة في بلاد الغربة : هل أثقل عليكم إذا طلبت من كل منكم أن يرسل عشر رسائل بالبريد الإلكتروني إلى إخوانه وأخواته المغتربين أو غير المغتربين .. كي يبقى حب الإيمان في دمنا وبر الوالدين من أعظم ما نملك … بارك الله بكم .
مشرف الموقع أخوكم : أحمد معاذ الخطيب الحسني

كُتب في تذكرة, منائر | التعليقات على المسجد المهجور … والابن البار بوالديه مغلقة

الدين والأنا والضمير … للدكتور ياسر العيتي

قبل أن أتحدث عن علاقة (الدين) بكل من (الأنا) و(الضمير) أريد أن أعرض تعريفاً بسيطاً لكل من هذه المصطلحات الثلاث. (الدين) هو ما يعتقد الإنسان أنها تعليمات إلهية موجهة إلى البشر عبر الوحي. (الضمير) هو ذلك الصوت الهادئ الموجود في داخل كل واحد منا والذي يخبرنا بالصواب والخطأ والجميل والقبيح. (الأنا) هي ذلك الصوت العالي المستبد الموجود في داخل كل واحد منا والذي يثبت نفسه بنفي الآخرين وإقصائهم. بعض المشتغلين بالشأن الديني يفهمون (الدين) من خلال (الأنا) ويتصف هؤلاء بالصفات التالية:
1. يعاملون الناس كأشياء يجب إصلاحها وتهذيبها وليسوا كبشر عاقلين يملكون حرية الاختيار.
2. لا يفرحون لنجاح الآخرين ويعتبرونه تهديداً لهم. هذا النوع من المشتغلين بالشأن الديني يتضايق إذا نجح غيره فحاز عدداً أكبر من الأتباع. هؤلاء يتمنون الفشل لغيرهم ويفرحون به.
3. يتضايقون من التقييم السلبي. إن هؤلاء يثورون عندما يسمعون أيَّ نقد لهم. إنهم فارغون من الداخل ويفتقرون إلى أي قيمة حقيقية يقدمونها للناس سواء على المستوى الفكري أو على مستوى الوقوف في وجه الظالمين وجعل حياة الناس أكثر كرامة وبسبب هذا الفراغ الداخلي والشعور بانعدام القيمة الحقيقية يصبح مدح الناس لهم هو المصدر الوحيد لشعورهم بالأمن فإذا فقدوا هذا المصدر وجاءهم من ينتقدهم شعروا بالفزع الشديد ولربما عاقبوا صاحب هذا النقد وشهّروا به (بدعوى شق عصا الطاعة أو عدم احترام العلم والعلماء!).
4. يتبنون عقلية الندرة. إن الذين يتبنون عقلية الندرة ينظرون إلى الحياة على أنها قالب محدود من الحلوى فإذا أخذ غيرهم حصة أكبر من هذا القالب فقد أخذ من حصتهم لذلك كما قلنا هؤلاء لا يتمنون النجاح لغيرهم ويعتبرون نجاح الآخرين تهديداً لهم.
هؤلاء لا يتورعون عن فعل أي شيء في سبيل الحفاظ على مواقعهم بدءاً من تضليل الناس بشغلهم بكل شيء له علاقة بالدين اللهمَّ إلا بما يحرك في نفوسهم معاني العزة والكرامة ويدفعهم إلى رفض الظلم والظالمين، وانتهاء بالوشاية ببعضهم البعض أمام أجهزة الأمن ليكون الواشي أقرب منزلة وأوفر حظاً عند هذه الأجهزة! هؤلاء لا يوجد في قاموسهم كلمة (تضحية) لأن الذي يعيش وفقاً لما يمليه عليه (الضمير) هو الذي يضحي أما الذي يعيش وفقاً لما تمليه عليه (الأنا) فيضحي بكل شيء في سبيل (أناه) .. يضحي بالمبادئ وبمقاصد الدين وبالآخرين شركائه في العلم والدعوة فيكذب وينافق ويضلل ويشي بالآخرين أمام أجهزة الأمن ويبرر كل ذلك بالحفاظ على (موقعه) الذي يدّعي أنه يخدم الدين من خلاله، وما هذا (الموقع) إلا غلافٌ لـِ (أناه) المريضة المنتفخة المتورمة!
بالمقابل هناك مجموعة من المشتغلين بالشأن الديني يفهمون (الدين) من خلال (الضمير) ويتصف هؤلاء بالصفات التالية:
1. هم يعاملون الآخرين كبشر يتمتعون بنعمة العقل والتفكير. هؤلاء لا ينصبون أنفسهم أوصياء على عقول البشر ولا يحاولون إقناع الناس بأفكارهم وجعلهم نسخاً مكررة منهم. بل يعرضون ما لديهم من باب التذكير }فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ{ (الغاشية 21-22) والتبليغ }فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ{(الرعد: 40) وزيادة الخيارات أمام الناس تاركين لهؤلاء الناس حرية الاختيار ومتقبلين لهم حتى لو كانوا مختلفين عنهم.
2. هم يفرحون لنجاح الآخرين ويعتبرون أي نجاح لخطيب أو داعية أو جماعة دينية – بل حتى نجاح المؤسسات غير الدينية التي تعمل لخدمة الإنسان – هو نجاح لهم وللقضية التي يعملون من أجلها وهي خدمة الدين وخدمة الإنسان الذي جاء الدين من أجله.
3. يرحبون بالتقييم السلبي ويقبلون الانتقاد لأنهم لا يستمدون شعورهم بالأمن من مديح الناس لهم وتقبيل الناس لأيديهم وإنما يستمدون هذا الشعور من داخلهم؛ من فهمهم لجوهر الدين الذي يكرم الإنسان ويحرره من العبودية لغير الله.
4. يتبنون عقلية الوفرة. إن الذين يتبنون عقلية الوفرة ينظرون إلى الحياة على أنها نبع متدفق يكفي الجميع فإذا غرف غيرهم أكثر من هذا النبع فلا يعني أنه قد أخذ من حصتهم! لذلك كما قلنا هم لا يتضايقون من نجاح الآخرين بل يفرحون به ويعتبرونه نجاحاً لهم.
إن هؤلاء لا يعتقدون أن بقاء الإسلام مرتبط ببقائهم في مواقعهم وبأن الإسلام سيختفي من على وجه الأرض وبأن الأمة ستضيع من بعدهم إذا نالهم الطاغوت أو نال جماعتهم أو مؤسساتهم بسوء أو منعهم من التدريس أو الخطابة، بل يعتقدون أن عزة الأمة مرتبطة بصدقهم وشجاعتهم ودفاعهم عن مصالح الناس وحقوقهم في وجه الظالمين المتكبرين لذلك هم يقولون كلمة الحق بحكمة وشجاعة موقنين بأنهم إذا فقدوا مواقعهم ثمناً لهذه الكلمة فإن هذه المواقع ستتحول إلى مواقع حقيقية في قلوب الناس، مواقع تكسبهم المصداقية وتدفع الناس إلى الثقة بهم، عندها سيصبحون قادة حقيقيين قادرين على قيادة الناس في دروب الحرية والكرامة بدلاً من أن يظلوا مجرد ديكورات يتباهى الناس بجلبها وعرضها في حفلاتهم وأفراحهم ومآتمهم! إن الذين يفهمون الدين من خلال الضمير لا يعتقدون أن الدين سيضيع من بعدهم وبأن الأمة عقمت فلن تلد مثلهم أبداً، بل يعتقدون أنهم إذا دفعوا حريتهم أو حياتهم ثمناً لكلمة الحق فإن الأمة ستُنبت ببركة صدقهم وشجاعتهم وتضحيتهم ألفَ عالم شجاع يلتقط منهم شعلة الحرية ويتابع طريقتهم في الذود عن حقوق الأمة وكرامتها فلا يعود في الأمة مكان لطاغية يؤله نفسه على العباد ويمشي بهم في دروب الاستبداد والفساد ويقودهم إلى الخراب والدمار.
في كل مجتمع من المجتمعات يوجد هذان النوعان من المشتغلين بالشأن الديني. نوع تضخمت (الأنا) الخاصة به وانتبجت فأصبح (الدين) في خدمة هذه (الأنا) المتورمة، هؤلاء يفهمهم الطغاة جيداً فيقربونهم ويخدعونهم بمعسول الكلام ليجعلوهم في نهاية المطاف جزءاً من منظومة (السحق) التي تسحق الإنسان وتحوله إلى عبد خانع للطواغيت باسم (الدين). وهناك نوع آخر من المشتغلين بالشأن الديني فهموا (الدين) من خلال (الضمير) فأصبحوا هم في خدمة (الدين) وأصبحوا هم و(الدين) في خدمة الإنسان الذي جاء الدين من أجله تكريمه والارتقاء به. إذا أردنا أن نعرف أياً من هذين النوعين من المشتغلين بالشأن الديني هو السائد في مجتمعٍ ما علينا أن ننظر إلى واقع الإنسان في ذلك المجتمع فإذا وجدنا الإنسان معززاً مكرماً يمارس إنسانيته وحقوقه فمعنى ذلك أن المشتغلين بالشأن الديني الذين يفهمون (الدين) من خلال (الضمير) هم أكثرية المشتغلين بالشأن الديني في هذا المجتمع، أما إذا وجدنا الإنسان ذليلاً مسحوقاً مهاناً مستباحاً مظلوماً فمعنى ذلك أن المشتغلين بالشأن الديني الذين يفهمون (الدين) من خلال (الأنا) هم الشريحة الغالبة.
نقلاً عن موقع الدكتور ياسر العيتي: www.aleiti.com

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على الدين والأنا والضمير … للدكتور ياسر العيتي مغلقة

الذين لم يولدوا بعد … مجموعة إقرأ: المقال 33

من بعيد يأتي ليزورنا، وكل آت قريب.يقطع الوديان والجبال والسهول.يجاوز الحدود والبحار والمحيطات.يتجاهل التأشيرة والتعرفة الجمركية.لا يلقي بالا لتقلبات الأوضاع السياسية و التحشدات العسكرية..
من بعيد يأتي ليزورنا، وكل آت قريب.
ننتظره أحيانا بلهفة،وأحيانا نفاجأ به في غمرة انشغالنا.مرة نفرح به ونستعد لزيارته لنا ،ومرة نضيق ونتبرم ،ونتمنى لو أخرها يوما واحدا ،وإن كنا نخفي ذلك تأدبا .
لا يخلف موعد زيارته أبدا،ولكن موعده يختلف بيوم أو يومين،يأتينا في السنة مرة مثل مغترب مشتاق فيمكث عندنا شهرا كما المغتربين المشتاقين،لكن المستعجلين،يأتي إلينا محملا بالحقائب والأمتعة،فنهرول إليها ،ولا نكاد نسلم عليه ونؤدي الواجب،حتى نلتفت إلى الحقائب فنبعثر محتوياتها وهداياها الغالية ،نتفحصها ونقيم أثمانها،ونتخاصم حول تقاسمها ونصدع رأسه بخصوماتنا ،وعندما يذهب تكون حقائبه خالية إلا من مشاكلنا وطلباتنا ،لو كان مثل المغتربين لأقسم ألا يأتي في السنة القادمة،لكنه لا يفعل ذلك أبدا،سيأتي في كل الأحوال .
رغم شبح الحرب الذي يروح ويجيء ،رغم صدودنا،رغم عقوقنا،رغم نسيانا،ورغم جحودنا،يظل يأتي إلينا في كل مرة……
رمضان على الأبواب، يكاد يطرقها، فلا تفتح له
ليس خطأ مطبعيا.
أقول لك هذه المرة لا تفتح له…….
نعم هذه المرة عندما يأتي رمضان لا تفتح له أبوابك.أوصدها جيدا،ارفع مستوى تحصيناتك، زد من الأقفال والمتاريس.اقطع الكهرباء عن جرس الباب،وأحكم إسدال الستائر،وضع القطن في أذنيك حتى لا تشعر بتأنيب الضمير.
لا تفتح له.
صدق ما أقول:لا تفتح له
إذا كنت ستفعل به ما فعلته في المرة السابقة، لا تفتح له.
إذا كان سيمر على حياتك كما مر في السنوات السابقة، لا تفتح له.
لا داعي لذلك.
إذا كان سيكون شهرا آخر تجوع وتعطش فيه قليلا،ثم تتخم وتمتلئ فيه بطنك كثيرا، من الآن أقول لك لا تفتح الأبواب.
إذا كان سيكون شهرا آخر تشترط عليه ألا يشترط عليك تستقبله و أنت تقرر أن لا عهود ولا مواثيق دائمة معه، فلا تفتح الأبواب.
أقول لك رمضان على الأبواب يكاد يطرقها فأطرق برأسك وفكر قبل أن تفتح له الباب أو لا تفتح.
ولأن القضية خاسرة إذ انه سيتسلل في كل الأحوال من الثقوب والمسامات وفتحات الشبابيك، وربما مواسير الماء فإني أقترح عليك اقترحا آخر.
افتح له ولكن ليس بالضرورة الأبواب .
في كل مرة نستقبله فيها، كأي ضيف آخر، كنت تفتح له الأبواب.
أقول لك:مادام الأمر سيان، فلا داعي إنه سيدخل ويتجاوز الأبواب في كل الأحوال، ولن يبالي إذا وجدها مغلقة بإحكام أو مشرعة مفتوحة على مصارعيها.ولن يعاتبك على أصول الاتيتكيت.
إنه سيدخل في كل الأحوال، فافتح له فتحا مختلفا هذه المرة، وليكن فتحا مبينا.
يا صديق …..في قلبك مغارات ومغارات،وفيه أيضا كهوف مغلقة،وأرض مجهولة وبقاع سرية.في قلبك أماكن لا يعرفها أحد،ولا أنت،بل أنت كذلك لا تعرفها.وفيه كواكب ومجرات لم تطأها قدم إنسان…وفيه غرف سرية لا يعرف مداخلها أحد……
وفيه صحارى وغابات عذراء،وفيه قارات مجهولة غاطسة تحت قاع البحر،وفيه كواكب ونجوم لم يرصدها (تلسكوب)بعد،ومجرات لا تزال تتوالد،وتتراكض في كون ممتد باستمرار … وفيه أهم من ذلك كله،وقبل ذلك كله،أنت: حفنة من هموم ومشاكل، عقد ومخاوف،هواجس وذكريات……
فأقول لك:افتح لرمضان قلبك.دعك من فتح الجيب والفم والعين…. رغم أنك تصوم منذ قرون،دعه يكون رمضانك الأول.
دعه يكون رمضانك الأول الذي يمر عليك وأن تراه من منظار آخر غير المنظار الذي كنت تراه في السابق فقد كان الناس يصومون طوال الوقت ويكونون حريصين على ذلك،لكن رمضان لم يدخل قلوبهم ،لم يدخل أعماقهم….
كان صيامهم مرتبط بالعادات والتقاليد والطقوس الجماعية أكثر مما كان مرتبطا بمعنى رمضان، وبحكمة رمضان…
كثيرون كما نعرف جميعا ونلاحظ من أهل الكبائر والمعاصي حتى أشدها وأعظمها يصومون في رمضان وربما أيضا يصلون ثم إنهم كأمر واقع يمتنعون عن معاصيهم وكبائرهم تلك طوال هذا الشهر،في الحقيقة لا تستطيع أن تبذل أي جدل في ذلك.لا أحد يمكنه أن يمنع أهل الكبائر من صيام رمضان أو من صلاة فيه ،ولكن المهم هو ما يلي ذلك ،بعد ما ينقضي الشهر،وربما في ليلة العيد هل سيعود هؤلاء إلى حياتهم الماضية ومعاصيهم وكبائرهم كما لو أن شيئا لم يكن؟ هل سيصدق عليهم إبليس ظنه؟هل سيتمكن من هدم ما بنوه في شهر؟
إذا حدث ذلك أخشى أن أقول:إنه لم يكن رمضان إذن، لو كان رمضان حقا لما عادوا أدراجهم.رغم أن الصداع أصابهم بسبب عدم شرب الشاي أو بسبب عدم تدخين سيكارة.
رغم الولائم والعزائم والأكل والتخمة التي تبعث على الكسل، والمسلسلات التي تبعث على الملل
رغم ذلك ،لكن مع الأسف ليس رمضان.
لو كان رمضان لحصل شيء آخر لهم ، لو كان رمضان قد دخل في قلوبهم لما عادوا أدراجهم السابقة ،لو كان رمضان لقربهم إلى الله خطوة أكثر إلى الله لامتنعوا عن المعصية المعينة،أو حاولوا التخفيف من الكبيرة الأخرى أو لحاولوا المواظبة على الصلاة.
لو كان رمضان حقا لتمسكوا في ذلك الحبل الذي يلقى إليهم، فيلعبون ويلهون ويقضون الوقت في شده وجره إلى أن تأتي الساعة فيلتف حول أعناقهم، ويخنقهم،يغرقهم بدلا من أن ينقذهم….لو كان رمضان لكان هناك كلام آخر.
إنه رمضان إذن، ولأنه كذلك فأبواب الجنة التي تمتد من الشام إلى اليمن قد فتحت وأبواب جهنم قد أغلقت والشياطين سلسلت وصفدت، ولأنه كذلك فإنه فرصة عظيمة للتذوق.
إنه فرصة عظيمة للتذوق ولكن ليس للموائد الممدودة طولا وعرضا،ليس للحلويات الرمضانية ولا للمقبلات والمشهيات،نعم رمضان فرصة عظيمة للتذوق ولكن عن شيء آخر أتحدث .
يقولون من ذاق اعترف ومن عرف اغترف
ولأنه يحبك ويريدك أن تبادله حبا بحب ولأنه يعلم أنك تجهل كم هو رائع حبه وهو العليم بما تعلم وما تجهل.ولأنه يعرف أنك لا تعرف شيئا وأنك حائر وضال وخائف ولأنه خبير بأنك تسرف في مشاعرك في الاتجاه الخطأ وأنك تقضي عمرك أحيانا في الأهداف الخطأ.
ولأنه يعرف أنك تحتاج إلى أن من تحبه كما تحتاج الماء والهواء وربما أكثر وأن حاجتك إليه موجودة في أعماقك حتى لو كنت تجهل وجودها ،لأنه يريد منك أن تمشي إلى شبكته بخطى ثابتة فإنه يضع لك الطعم في الصنارة،في رمضان تحديدا،ومن ذاق عرف ومن عرف…. الطعم في الصنارة.شهر واحد في السنة وتسهيلات غير مسبوقة من أجل أن نعرف ما سيفوتنا ما لم نغترف طيلة السنة ،سيقول لك اعبدني هذا الشهر وأبواب الجنة مفتوحة من أجلك وأبواب النار أغلقت والشياطين قد صفدت حتى لا تشوش عليك وسأغفر لك كل ما عملت من ذنوب وأعتقك من النار وأدخلك الجنة .
يا صديق كل حياتنا هي أيام معدودات لو تأملت الآن قصة حياتك ورحلتك فيها لوجت أن الزمن يفقد هيبته مثل متسول يدور على الأبواب وكان في أيامه عزيز قومه
وأقول لك بعد قليل أياما معدودات ستحزم حقائبك أنت وترحل وسأحزم أنا حقائبي وأرحل وسيبكي علينا أحباؤنا وأقربنا لأيام معدودات على الأكثر ثم ستأخذهم مطحنة التفاصيل وسيجدون في النسيان نعمة تلهيهم عنا.
أقول لك أيام معدودات وسيأتي رمضان ويكون غير شكل لأولئك الذين لم يولدوا بعد الذين سيتفاعلون مع هذه الكلمات فيضيء تفاعلهم حياتهم وحياة آخرين قربهم ،كلها أيام وستعلق الصنارة ويتذوقون الطعم ويعرفون لذته فيغترفون منه بقية السنة ويغطسون في ذلك النهر الجاري وتعلق قلوبهم كثريات ساطعة في سقوف الجوامع وينتمون لتلك الطبقة العليا طبقة 1%التي ستزيد بالتدريج نعم كلها أيام معدودات وسيحدث ذلك .
وفي نهاية المطاف كل رمضان وانتم بخير………..
كل رمضان ورمضان حقا رمضان…..

مأخوذة عن “الذين لم يولدوا بعد” من سلسلة ” ضوء في المجرة” للكاتب الدكتور ” أحمد خيري العمري” منشورات درا الفكر – دمشق.

كُتب في كتب, منائر | التعليقات على الذين لم يولدوا بعد … مجموعة إقرأ: المقال 33 مغلقة

القرآن وفن الطيران … للسيد الفاضل محمد علي العمار

نشرت هذه المقالة في العدد السادس ( السنة الأولى ) شعبان سنة 1354 هـ من مجلة التمدن الإسلامي

دهش العالم دهشة استطار لها اللب حينما برز فن الطيران بمنطاده إلى حيز الوجود وتضخم وتعدد وأصبح كالمدائن الفخمة تُقل على متنها الناس وما شاؤا حتى أصبحت الدول تعتز بأسطولها الجوي كما تعتز بأسطولها البحري .

وإذا تحرينا الفكر الذي انتبه إلى السياحة الجوية لنقدر له ملاحظته فإننا لا نشك نبحث عن واجب إنساني يقضي بتقدير كل أمر قدره . أكمل قراءة التدوينة

كُتب في من كنوز التمدن الإسلامي | التعليقات على القرآن وفن الطيران … للسيد الفاضل محمد علي العمار مغلقة

المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية – 4

الوضع السكاني (الديموغرافي):

كانت أعداد المسلمين قليلة جدا حتى بداية القرين العشرين، وفي النصف الأول منه بدأت تتزايد ببطء؛ أما الآن فهناك اعتقاد بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارا في الولايات المتحدة الأمريكية، (انظر، ويليامز، 1994 م) ويتزايد عدد المسلمين من طرق ثلاث:
1-الزيادة الطبيعية عن طريق التوالد.
2-الزيادة عن طريق الهجرة، وتسمى في علم اجتماع السكان بالزيادة غير الطبيعية، ويمكن بواسطتها أن يتضاعف عدد السكان في وقت وجيز بينما لا يمكن أن يتضاعف العدد عن طريق الزيادة الطبيعية في أقل من عشرين سنه.
3-اعتناق الإسلام من قبل غير المسلمين، وهو أيضاً من عوامل الزيادة غير الطبيعية.

والصورة لا زالت غير واضحة حول عددهم في الربع الأخير من القرن العشرين، وفي بداية الثمانينات كانت التقديرات تتراوح ما بين واحد واثنين من العشرة مليون نسمة، إلى ثلاثة ملايين، والى الآن لم يتم مسح علمي للمسلمين في أمريكا، وذلك لعدم وجود معلومات يمكن الاعتماد عليها حول عددهم في تلك البلاد، والمعول عليه في هذا الجانب هو التقديرات المعتمدة على بعض المؤشرات المقبولة.
وتختلف التقديرات وتتباين كثيرا من شخص لآخر، فهناك من يبالغ كثيرا في عدد المسلمين، فيقدرهم بأحد عشر مليوناً، ويقدرهم عبد الرحمن عثمان، إمام المركز الإسلامي بمانهاتن في نيويورك، بعشرة ملايين نسمة، ومن جهة أخرى هناك من يبالغ في تقليل عددهم فلا يقدرهم بأكثر من مليوني نسمة، والفئة الأولى هم غالباً من المسلمين، أو من أصدقاء المسلمين الذين تغلب عليهم عواطفهم والذين يسرهم أن يشعروا أن عدد المسلمين كبير ولو عن طريق المبالغة، أما الفئة الثانية وهم الذين يبالغون في الإقلال من عدد المسلمين فهم غالباً من أعداء المسلمين الذين يسؤهم أن يروا عدد المسلمين كبيرا، لأنهم يعلمون أنه كلما زاد عددهم زاد نفوذهم وزاد ثقلهم في المجتمع الأمريكي، وهولاء غالباً صهاينة، أو أصدقاء للصهيونية.

ويذكر التقرير الإحصائي الذي صدر عن الأكاديمية الأمريكية للعلوم الدينية في مدينة (نيو أورليانز) بولاية ( لويزيانا) في أواخر ديسمبر من عام 1978م أن عدد المسلمين في الولايات المتحدة بلغ ثلاثة ملايين نسمة، ويشكلون 5، 1% من مجموع سكان الولايات المتحدة، ويذكر التقرير أن المسلمين السود يشكلون ثلثي المجموعة الإسلامية، بينما يمثل المسلمون المهاجرون الثلث الأخر.. ويذكر أيضاً أن المسلمين في أمريكا أصبحوا يشكلون المجموعة الثالثة بين المجموعات الدينية الكبرى في أمريكا (أنظر: الداري، 1403).
ويشير (ويليامز) إلى أن الإسلام هو أسرع الأديان انتشاراً في أمريكا، ذلك أن عشرة في المائة على الأقل من الذين يهاجرون الآن إلى الولايات المتحدة مسلمون، وكما يقول فريد نعمان، من المجلس الإسلامي في واشنطن، ونسبة الولادة بين المسلمين عالية كنسبة الذين يعتنقون الإسلام، ونظرا للفصل الدستوري بين الدين والدولة في الولايات المتحدة فإن الإحصاءات السكانية لا تشمل الدين، مما يجعل معظم التقديرات تخميناً، فمعهد المعلومات الإسلامية في شيكاغو يقدر عدد المسلمين بثلاثة ملايين ونصف المليون (3.5) نسمة، أما صحيفة ( وول ستيريت) فذكرت عام 1990 م أن عددهم أربعة ملايين، بينما تحدد الموسوعة البريطانية العدد بـ (6، 5) ملايين نسمة، وتقدره صحيفة (نيويورك تايمز) بخمسة ملايين، بينما يقول وارث الدين محمد وهو الإمام الذي قاد حركة أمة الإسلام إلى المذهب السني، أن عددهم تسعة ملايين.. ولعل أفضل التقديرات هو الذي يضع العدد بين 4-6 أربعة وستة ملايين شخص، أي ما يماثل عدد اليهود في أمريكا (9. 5 ملايين نسمة) (ويليامز، 1994) .

وهناك من يشير إلى وجود مائة وستين 160 ألف مسلم في السجون الأمريكية، حيث اعتنق السود الإسلام، فيما تشير تقديرات إلى أن خمسة وعشرين 25 ألف شخص في الولايات الخمسين يعتنقون الدين الحنيف كل سنة (انظر: المصدر السابق)، ويقال أن أول رجل اعتنق الإسلام من الأمريكيين البيض هو (محمد اسكندر وب) وذلك في سنة 6 0 3 1 هـ 1887م وكان يعمل قنصلا لبلاده في الفلبين وهناك اطلع على بعض الكتب عن الإسلام فأسلم وعاد إلى بلاده عن طريق الهند بعد أن استقال من منصبه، واستقر في نيويورك، وفي سنة 1311 هـ، 1893 م، أي قبل أكثر من مائة سنة، أصدر العدد الأول من مجلة (العالم الإسلامي، Muslim World وتوفي في سنة 1314 هـ (انظر: الداري، 1403: 22، النمر، 07 14: 2).
ولقد قامت ( كارل ستون ، Carol Stone,1991) وهي باحثة أمريكية متخصصة في الدراسات السكانية (الديموجرافيا) بدراسة تقديرية لعدد المسلمين في أمريكا مبنية على تقديرات ترى هي أنها متحفظة جدا، وأشارت في تلك الدراسة إلى التركز الجغرافي لبعض الخلفيات العرقية في الولايات المتحدة، ومصادر الهجرة إليها، وقد اعتمدت في تقديرها عدد المسلمين في عام 1980م على ثلاثة مصادر :
1-إحصاء عام 1980 للولايات المتحدة الأمريكية، والذي يحوي إشارات إلى دولة الأجداد.
2-إحصاء الهجرة لعام 1980 والذي صنف حسب دولة الأصل.
3-تقدير نسبة المسلمين في كل دولة يوجد بها مسلمون.
والناتج الحسابي لهذه التقديرات يعطي التقدير العام للمسلمين في الولايات المتحدة لعام 1980 م.

هذا وقد قامت مصلحة الإحصاءات العامة في أمريكا بوضع أصول السكان الذين يعيشون في أمريكا في مجموعات حسب القارات وحسب المناطق مثل أوروبا الغربية، والصحراء الإفريقية، واسيا، والشرق الأوسط، ويضم شمال إفريقيا، ودول الكاريبي. وافترضت الباحثة أن نسبة المسلمين في أمريكا من المهاجرين من تلك البقاع تعادل نسبة المسلمين الموجودة في كل إقليم، واعترفت بأن ظروف الهجرة قد تزيد أو تنقص من النسبة، لاختلاف الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية من إقليم لآخر، وبناءً عليه قدّرت عدد المسلمين في أمريكا في عام 1980م بثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف نسمة (000 ، 3.300) وهم يشكلون 5، 1% من سكان أمريكا، مقابل 3% لليهود. والجدول (رقم 2) يوضح تقدير (ستون Stone ) للمسلمين في أمريكا في عام 1980م م حسب مناطق الأصل. وعند تقدير الزيادة التراكمية للمسلمين ما بين عام 1980م وعام 1986م عن طريق تقدير المهاجرين والمواليد، يصبح عدد المسلمين حوالي 000،000، 4 أربعة ملايين نسمة، بزيادة مقدارها 21% في ست سنوات، وإذا افترضنا استمرار هذا المعدل بطريقة ثابته فإن عدد المسلمين سيتضاعف بحلول عام 2000 م ليزيد عن ثمانية ملايين نسمة تقريبا.

مناطق تركز المسلمين في الولايات المتحدة :
استخدمت (كارل ستون C.Stone) إحصاء عام 1980 م لتقدير كثافة المسلمين في المناطق المختلفة، وبناء عليه وجدت أن هناك ثلاث ولايات يتركز فيها المسلمون أكثر من غيرها وهي ولايات كاليفورنيا، ونيويورك، والينوي. وتشير الأرقام إلى أن أكبر عدد من المسلمين يوجد في كاليفورنيا، حيث يقدر عددهم في تلك الولاية في عام 1980م بخمسمائة وخمسين (550) ألف نسمة، ويشكلون حوالي 5. 2% من سكان الولاية، ومعظم أولئك المسلمين جاؤا من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وقدر عدد المسلمين في نيويورك بأربعمائة (400) ألف نسمة، ويشكلون حوالي 3. 2% من سكان الولاية، ويتساوى في ذلك عدد من جاؤا من أوربا الشرقية، ومن الشرق الأوسط وشمال إفريقية، والمسلمون السود. وتضم ولاية (الينوي) حوالي مائة وسبعين (170) ألف نسمة من المسلمين، بنسبة متقاربة بين المهاجرين من أوربا الشرقية، والشرق الأوسط وشمال إفريقية، والسود، وبهذا يكون حوالي ثلث المسلمين في أمريكا يعيشون في تلك الولايات الثلاث.
وفي عام 1988م عقد مؤتمر إسلامي أكاديمي في جامعة (ما ساشو ستس) شارك فيه أكثر من 300 باحث، وكان حول الشؤون الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية، وقدمت فــيه (كارل ستـون) تقـريرا يقول: (إن عـدد المسلمين في الولايات المتحـدة حـالياً يبلغ حوالي 7، 4 مليون مسلم يشكلون نسبة 6، 1 من مجموع عدد السكان الكلي. وأضافت السيدة ستون، التي استعانت دراستها بالإحصاء الأمريكي: (إن عدد المهاجرين المسلمين إلى الولايات المتحدة في تزايد مستمر في الآونة الحالية، لا سيما من الدول الآسيوية، فقد دخل الولايات المتحدة في السنوات الست الماضية أكثر من نصف مليون مسلم، أي بمعدل يقل قليلا عن 000، 00 1 سنوياً (ضناوي،1413: 181).

أما عبد الرحمن عثمان وهو أزهري وإمام للمركز الإسلامي في (مانهاتن) بنيويورك فيؤكد أن غالبية المسلمين الذين يترددون على المركز الذي يؤمه هم أمريكيون، ويرى أن عددهم في نيويورك يقارب مليون شخص، بينما يقدر عدد المسلمين في أمريكا بعشرة ملايين شخص، وتشير التقديرات إلى أن عدد الذين يعتنقون الإسلام كل سنة يتراوح بين 25 و 50 ألف شخص، ويبدو أن إنتشار الدين الإسلامي والإقبال عليه يزدهر في البيئة المعادية، فهذا عبد الرحمن عثمان يقول: (إن أزمة سلمان رشدي اجتذبت إلينا كثيرين ممن اعتنقوا الإسلام) (انظر: ويليامز، 1994 : 18).

وفي سنة 1979م قدر المركز الإسلامي في واشنطن عدد المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية بمليون ومائة وستين ألف نسمة، وقدرهم أحد الباحثين في عام 1974م بمليوني نسمة، وفي عام 1978م قدرتهم مجلة ( هورايزن Horizon) التي تصدر عن اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا بثلاثة ملايين نسمة، أما مجلة المؤتمر الإسلامي التي تصدر في كراتشي بباكستان فقدرت عدد المسلمين في أمريكا الشمالية بخمسة ملايين نسمه (بكر، 1412: 24). ونشرت مجلة (تايم Time Magazne) في عددها الصادر في 23/ 5/ 1988م تقريرا عن المسلمين في أمريكا بعنوان ( أمريكيون يستقبلون مكة المكرمة ) قدرت فيه عدد المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية بـ 4،644،000 نسمة .

أما ( فريد نعمان، Fareed H. Numan فقد أعد تقريرا موجزا ومركزا عن عدد المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية نشره المجلس الإسلامي الأمريكي ( the American Muslim Council) يقول في مقدمته: (بذل علماء العلوم الاجتماعية المسلمون جهوداً كبيرة لتحديد عدد المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية، وأغلبهم يقبل التقدير الذي يضعهم ما بين خمسة ملايين إلى ثمانية ملايين، وهذا يعني أن خمسة ملايين شخص في أمريكا الشمالية ينتمون إلى الإسلام سواء طبقــوه في حـياتهم أم لم يطبقــوه) Numan,1992:11 ويذكر أنه اعتمد في تقريره على تقديرات عملت في عام 1991م وعلى المعلومات المتاحة، وخلص إلى تقدير عدد المسلمين بخمسة ملايين نسمة، كما هو موضح في الجدول رقم (4).
أما بالنسبة للتوزيع الجغرافي بين الولايات فيرى (نعمان Numan) أن أعلى نسبة توجد في ولاية كاليفورنيا، وتأتي ولاية نيويورك في المقام الثاني، أما ألنويز فتأتي في المركز الثالث، ويوضح الجدول التالي أهم الولايات التي بها عدد كبير من المسلمين حسب تقدير فريد نعمان.

ويقـدر ( نعــمان، Numan) أن عـدد المسلمين في الجـيـش الأمريــكي وصـل في عام 1988م إلى ما يقارب 120 ألف شخص، وحوالي 0 6 ألفاً في القوات الجوية، وحوالي 95 ألفاً في سلاح البحرية Navy & Marines ، ومن كل ما تقدم يمكن أن نستخلص أن أعداد المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية في تزايد سريع عن طريق الدخول في الإسلام من جميع فئات المجتمع وخاصة السود ، وعن طريق الهجرة ، فأكثر الذين يهاجرون إلى أمريكا في العقود الأخيرة يأتون إليها من البلدان الإسلامية . وأخيراً عن طريق التوالد ، فمعدل المواليد بين المسلمين يميل إلى الارتفاع ، ولا ننسى دور الطلاب الذين يأتون لمواصلة دراستهم في الولايات المتحدة في تدعيم الجماعات الإسلامية ، وتصحيح مفاهيمها ، وتعليمها عقيدة الإسلام وقيمة الصحيحة.

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية – 4 مغلقة

الإسلام والمسلمون ….للأستاذ إحسان سامي حقي

مقالة نشرت في السنة الأولى من مجلة جمعية التمدن الإسلامي 1935م.

لم يعرف التاريخ أمة ضعيفة رغم قوتها ، قليلة رغم كثرة عددها ، ذليلة رغم عزتها ، مشتتة رغم جمعها فقيرة رغم ثروتها ، كالأمة الإسلامية في هذا العصر ، وإذا ما أطلقنا لفظ الإسلام على هذه الأمة التي أصبحت تعرف به(1) فإنما نطلقه كتعريف جغرافي تاريخي كان يطلق على أناس مسلمين حقيقيين ، خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وتخلقوا بغير خلق آبائهم ثم انتسبوا إليه زوراً وبهتاناً .
ولا يحق لنا أن نسمى اليوم بالمسلمين أبداً لأن الإسلام عقائد وأقوال وأفعال لا أقوال فحسب وهو بالأحرى اسم لمجموعة طيبة هي : العزة (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) المنعة (إن تنصروا الله ينصركم) الكثرة رغم القلة (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ) خوف الله وخشيته (إنما المؤمنون الذي إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) التوكل (وعليه فليتوكل المتوكلون) الاتحاد (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) الجهاد (… وجاهَدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) وغير ذلك من الصفات الكثيرة الجليلة التي تجعل الأمة عزيزة قاهرة قوية حاكمة غير محكومة سائدة غير مسوده . وبغير مبادئ الإسلام لا يكون مسلمون ولا إسلام ولا تُغني الأسماءُ عن الحقائق شيئاً فالأمة التي لديها مثل هذه الجواهر النفيسة والدرر الثمينة والأعلاق الغالية وهي مفلسة ذليلة مقهورة يسيطر على مجموعها أفراد ويحكم في رقابها من لا يخاف الله ولا يرحمها ويسومها سوم البهيمة ثم ترضى بعد ذلك بالذل والعار وتكون آباؤها وأبناؤها وإخوانها وأزواجها وعشيرتها وأموالها وأموال اقترفتموها وتجارة تخشي كسادها ومساكن ترضها ووظيفة تؤثرها وشهوات تبتغيها أحبّ إليها من الله ورسوله وجهاد في سبيله ، هي أمة لا تمت إلى الإسلام بصلة أبدا والأمة التي تأتي نواهي دينها وترتكب محارمه ولا تعمل بأوامره ثم تدعي صلتها به هي أمة هازئة ساخرة لا تستحق من الجزاء أكثر مما يستحق الهازئ .
هذه حقيقة مؤلمة أيها المسلمون لا بد لنا من الاعتراف بها إذا كنا نريد الشفاء مما نحن فيه من الأدواء ؛ وأن نعترف إلى جانب هذا أيضاً بأن الإسلام شيءٌ والمسلمون شيءٌ آخر وأننا لا نمثل ديننا تمثيلاً صحيحاً أبداً لا بل نسيء إليه بمجموعنا ـ إلا النذر ـ من علماء وزعماء وتجار وزراع وصغار وكبار إلخ وإن كانت الإساءة على درجات ، ولا مناص لنا من الإقرار بذلك . إن مسلمي اليوم الجغرافيين ليسوا على الإسلام الذي سنَّهُ الله لهم ووعدهم بموجبه النصر والعزة إنما هم قد اتخذوا الاسم وسهوا عن الجسم وهم يخدعون أنفسهم وما يشعرون ولو كانوا على سنة الله لنصرهم الله سبحانه وتعالى الذي نصر أجدادهم العراة الحفاة الذين دوخوا ملك الروم وفارس والسند والهند وأخضعوا لهم أساطين الأرض وجاءت أقيالها إليهم صاغرة ولم يكن لديهم من السلاح إلا الإسلام وحده ، فالإسلام والصَغارُ لا يجتمعان والإيمان والذل ضدان مفترقان .

ولا يقيم على ضيم يراد بـه           إلا الأذلان عير الحي والـوتـد
هـذا على الذل مربوط برمته         وذا يـشج فـلا يرثي له أحـد

ولم يكن الإسلام في يوم من الأيام دين قول وتشدق بل هو دين عمل وفعل وهو بيع النفس والنفيس في سبيل الله تعالى وخدمة خلقه فلا غرابة أن نرى المسلمين اليوم وقد نسوا ما أمرهم به دينهم ، قد ذلوا بعد عزهم ، وتشتتوا بعد جمعهم ، وضعفوا بعد قوتهم ، فأين منا اليوم مثل أولئك المسلمين الذين خلفوا لنا هذه الأرض ؟ فأتوني بمثلهم آتكم بملك مثل ملكهم وسلطان كسلطانهم . أين من أغنيائنا من يملكون آلاف الدنانير المخزونة في الصناديق كمن جهز جيش العسرة . وأين منهم كمن يأتي إلى الرسول عليه السلام بإعانة عامة فيسأله الرسول صلى الله عليه وسلم كم تركت لأهلك ؟ فيجيبه قائلاً : تركت لهم الله ورسوله(2) وأين منهم أمثال من يبكي ويحزن إذا ما فاتته الشهادة في الجهاد ، وأين منهم من يعذب ويَصْلى حر الرمضاء لينكر إيمانه فلا يفعل ، وأين منهم من يُصلب وهو على عقيدته وإيمانه فلا يحيد عنه قيد أنملة بل يترنم ويقول :

ألا هل أتى سلمى بأن حليلها          على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل
على ناقة لم ينكح الفحل أمها            مشـــذبة أطرافها بالمناجل

هؤلاء هم المسلمون المؤمنون وهؤلاء هم الذين وعدهم الله نصره وقد أنجز وليس الإسلام بلحية ولا عمامة وجبة ولا بمسبحة وسجادة حتى وليس بالصلاة ولا بالصيام ولا بقراءة القرآن أيضاً إذا لم يكن الفعل مقروناً بالإيمان الحق وقد ندد الله تعالى بمثل هؤلاء كما جاء في القرآن الكريم (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون) وقال صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وأمثال ذلك كثيرة ، فإذا كنا أيها المسلمون ننتظر ـ ونحن على ما نحن عليه ـ نصر الله ، فقد ظلمنا أنفسنا وظلمنا الحق أيضاً وما ظلمنا الله فعباد الله عنده سواء وإن أكرمهم عند الله أتقاهم ، ولئن نصرنا الله ونحن على ما نحن عليه فيكون ذلك بعيداً عن عدله . فعلينا إذن وقد عرفنا داءنا أن نبدل الأفعال بالأقوال ثم نطلب العزة الأولى فننالها ، إذ نكون قد سلكنا سبيلها ، ونحن نرى اليوم أكثر الحركات التحريرية إنما تقوم والحمد لله على بعض المبادئ الإسلامية فما بالكم لو عاد الإسلام مرة ثانية بأحكامه وعاد المسلمون الأولون بأفعالهم أفلا تخضع لهم الأرض كلها ؟ بلى !! بلى ولا نعود نسمع لغير كلمة التوحيد صدى في الأرض ولا في السماء فاسلكوا أيها المسلمون سبل ربكم ولا تظلموا أنفسكم وتبتغوا من الله ما لستم له أهلاً وأنتم ما أنتم عليه فأن الله سبحانه وتعالى عادل ولا ينال النصر بالدعاء فحسب ! (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)

إحسان سامي حقي
سكرتير المؤتمر الإسلامي الأوربي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ولا يعرف هو بها (التمدن الإسلامي)
(2) بل كم عدد من يدفع منهم خمسة قروش فقط لجمعية تدافع عن الدين ؟ (التمدن)

كُتب في من كنوز التمدن الإسلامي, منائر | التعليقات على الإسلام والمسلمون ….للأستاذ إحسان سامي حقي مغلقة

فيروسات التداعي والخراب – 2007-08-31

أحاول أن أثني القلم كيلا يبوح بكل ماعنده، مؤثراً السلامة بين كل أنواع الأوصياء الذين نصبوا أنفسهم آلهة فوق رقابنا سواء كانوا حكاماً ضج من ظلمهم أهل الأرض وسخط عليهم أهل السماء، أم من بعض المنتسبين إلى الجسم الديني المتآكل الذين ما بلي الدين بل الحياة بمصيبة إلا ولهم القدح المعلى فيها، أو كانوا من فتات الطرفين ممن فقههم الأوحد السؤال عن دم الذباب وأمام أعينهم ينسكب دم آل البيت الأطهار.

ثم أذكر قولة الإمام أحمد رحمه الله: “إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق!”فيصر القلم بعدها على نقش بعض الحروف مهما كانت معانيها مرة.

لا حرية في الإسلام فهو قائم على العبودية، عبارة اهترأت لكثرة ما لاكتها أفواه المدافعين الأغبياء عن الإسلام، ممن سحبوا العبودية لله فصيروها عبودية لغير الله ، وصار الحديث عن الحريات العامة قرين الكفر في عقولهم الكليلة!

إن المؤمن مادام عبداً خالصاً لله فكيف يشرك في عبوديته تلك أحداً، وكيف يكون عبداً لله ثم لا يكون في أوفر حرية مع من سواه!

لم تكن إشكالية الحرية آخر المصائب بل صدمني مؤخراً ما ذكره طالب علم من أن من الخطأ ذكر عبارة (الأبرياء في الأرض) وقال أن بعض العلماء أخبروه أن هذا كلام باطل وأنه لا يوجد في الشريعة الإسلامية أبرياء!! وإنما يوجد: لا تقتلوا شيخاً ولا طفلاً ولا امرأة؛ أما ما عدا ذلك فمباح الدم!!

حاولت أن أمسك نفسي أمام هذا الافتراء على الله والإجرام بحق البشرية والتطاول على كتاب الله (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُون).[المائدة:32] وقد ساق القرطبي عن ابن عباس أن “من قتل نفساً واحدة وانتهك حرمتها، فهو مثل مَن قتل الناس جميعاً، ومن ترك قتل نفسٍ واحدة وصان حرمتها واستحياها خوفاً من الله، فهو كمن أحيا الناس جميعاً).

ومذهب الكوفيين وما نقل عن الثوري من حرمة دماء كافة الناس (مؤمنهم وغير مؤمنهم) أولى بالإعمال من مذاهب لم يخطر في بال أئمتها ما يسوقه جهلة أتباعهم اليوم ممن يقولون للناس عملياً: دمائكم مهدورة والمجتمع الإسلامي لا أمان فيه ولا ضمان لأحد والكل مهدورالدم.

لفهم بعض آراء الفقهاء القدامى رحمهم الله (والتي نجزم بانتهاء فعاليتها الاجتهادية اليوم قناعة بمذهب شيخنا الغزالي [المعاصر] رحمه الله) نضرب مثالاً بما يلي: تستخدم الدول في بعض الأحيان مايسمى بحالة الطوارئ لفرض النظام أو مواجهة ظروف شديدة تحتاج إلى حزم ، وبعدها تستقر الأمور وترجع الحياة إلى طبيعتها وتلغى الأحكام المؤقتة، وهذا حال العديد من الأحكام حتى الشرعية، ومنها إعطاء الأولوية في حفظ الدماء لعنصر الأمة وجوهرها، وبعد ذلك فلا بد أن تكون هناك مساواة وعدل في الدماء وغير الدماء، وإلا فلماذا نطالب برفع قوانين الطوارئ، وهناك من يسحب علينا من أصحاب العمائم ماهو أمر وأقسى!

الأنظمة القمعية وحدها تستمر بها أحكام الطوارئ عقوداً وتتغير الدنيا والأنظمة تزداد تصلباً (وهو ما يقودها للفناء في النهاية) وتقفز الحكومات فوق دساتيرها وتبدأ الأمة بالتداعي وحرفيو قوانين الطوارئ يسومون الأمة الرعب والفزع ويزجونها في المضايق وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وخصوصاً إذا ترافق ذلك مع سوء الإدارة ونهب الأموال  وفشو الظلم وعدم تكافؤ الفرص، وتنفيس لعقد نفسية  وتاريخية.

لقد ذكرنا مراراً أن هناك ثلاث تحديات أمام القافلة الإسلامية اليوم، وهي الهيمنة الخارجية، والاستبداد السياسي، والنخر الداخلي، وطفنا حول الموضوع مراراً، وسنقتحم جزءاً منه الآن. ولكن علينا الانتباه الشديد إلى أنه من الخطورة بمكان الانهماك بإحدى تلك المسائل الثلاث دون الفطنة لأخواتها لأننا مهما أصلحنا فإن الفيروسات الثلاثية القاتلة متضافرة فيما بينها (وكل منها تحته آلاف الفيروسات الفرعية) وستتسلل من النوافذ الباقية لتخرب كل جهد نبذله، لذا لا بد من العمل على المحاور الثلاثة معاً، وليتقاسم العاملون أجزاءه ، ولكن عليهم جميعاً أن يكونوا في غاية الفطنة له. ولما أنهكني (فيروس إلكتروني) زار حاسبي أحضرت العديد من البرامج للتخلص منه ولكن هيهات، ثم أخبرني المختص أنه قد تمكن في الأعماق وأن حاسبي نفسه أصبح خير وطن له وهو الذي يعينه على إعادة التشكل والحركة والتدمير، وليس هناك من حل إلا إعادة هيكلة الجهاز كله من أوله إلى آخره.

هذا هو حال الأمة اليوم فنحن نتحدث عن الهيمنة الخارجية (الفيروس الثالث) ونتعجب كيف يمكن احتلال أفغانستان والعراق وفلسطين، وكيف تقاد لبنان وتساق السودان، وكيف تمتص الثروات وتصادر القرارات ونحن أمة المليار ومائتي مليون مسلم! أصحاب الحضارة والسيادة وألوية النصر المعقودة أبداً (كلمات عاطفية رنانة لا تغتر بها إن لم تعرف أسباب النصر والخذلان) .. ولكن بالله عليكم كيف يمكن الحد منها وأغلب حكام المسلمين (الفيروس الثاني) خونة حتى العظم، ونحن أمة سيطرت عليها العواطف وتفتنها العبارات الطنانة، ونقبل كل حاكم ونصفق له بغض النظر عن الطريقة التي أتى بها.

إن سبب قبولنا للحكام الظالمين هو العامل الأخطر وهو النخر الداخلي (الفيروس الأول) وأنا أزعم أنه شيء صنعه جسم ديني ممتد هيأ الأمة وأعاد هيكلتها بحيث أنه لم يعد أمامها مخرج وكلما حاولت الخروج عادت لما خرجت منه (كالحمار يدور حول الرحى والذي ارتحل منه هو الذي ارتحل إليه ، حسب عبارة ابن عطاء الله).

في العديد من الدول الأفريقية ظاهرة طريفة وهي أنه في يوم الاستقلال تجد الحاكم وقد اصطف بجانبه العديد من الحكام السابقين، وقد يكون بينهم خلافات وزج أحدهم الآخر في سجنه لكنهم في النهاية أبعد منا بكثير عن الاستبداد، وعندهم حظ من الشورى أوسع مما في أكثر بلادنا، أما حادثة استدعاء هرقل لأبي سفيان فتحمل عبرة ملفتة، فإن هرقل عندما فكر بالدخول في الإسلام نخر بطارقته، فنزل عند رأيهم وقال أنه كان يختبرهم، وهذا يدل على أن الاستبداد عندهم رغم ظلمهم أقل مما عندنا وأن للشورى حظاً ليس بالقليل في حكمهم، ويعزز هذا ماجاء من تعقيب في حديث المستورد القرشي الوارد في صحيح مسلم من أن الروم أمنع الناس من ظلم الملوك.

لوكان هناك حاكم عربي فكر في أن يتبع دين الشيطان لما أخذ رأي أحد، ولو أنه جن في الليل فقرر الحرب في الصباح مفنياً البلاد والعباد لما جرؤ أحد على اعتراضه، ولو أنه جعل السلام الخيار الاستراتيجي لصفق قطيع الأنعام للحكمة البالغة والنظر الدقيق فالأمر لايحتاج إلى أخذ رأي عاقل ولا مشاورة حكيم فإن القائد الفذ له من صفات الألوهية مايغنيه عن كل عون! وستجد مع كل قرار للحاكم ألف صاحب عمامة دجال يسابق الناس في التصفيق والدبك والصياح.

لست ساخطاً على الحكام بمقدار ما أرثي لهم، ولكن المسؤولية الأولى تقع على أكتاف أصحاب العمائم، وفساد اليوم ليس وليد الحاضر بل هو عفن تاريخي متأصل صنع عمائم خلال مئات السنين وكان هو المدرسة الأولى في تأصيل الذل في النفوس.

النبي الهادي r كان يكثر من مشاورة أصحابه، ولكن بعدها زرع فينا زرعاً أن الشورى لا تلزم حاكماً وأن الأمة قطيع يسوقه الحاكم كما يريد، وصار الاستبداد والذل شيئاً يتمرغ به بعض طلاب العلم بحيث لم يبق فيهم بقية لإنكار منكر ولا إقامة معروف.

وقد يفتن حاكم بمنصبه فيعتقد المسكين أو تعتقد زبانيته الفانية أنه باق إلى الأبد، قبل أن تضمه حفرة الموت وتقتلعه من مكانه اقتلاعاً.

والحكم إلى الأبد قريب إلى نفوس الحكام، ولكن قيادة الدعوة إلى الأبد أخطر بكثير، وقد مر ببعض الحركات الإسلامية في القرن الماضي من موجع النكبات ما لايحصيه كتاب، وكان أحد أزماتها الأساسية أنها لم تقرر خطها بالضبط، فهي نظرياً تدعو إلى التربية ولكنها عملياً تحمل في بذورها مكونات عنفية لم تجد الشجاعة للتنصل منها إلا منذ فترات قريبة!

على الحركة الدعوية أن تقرر بصراحة إن كانت فصيلاً عسكرياً أم مدرسة تربوية، وبهذا تضمن في أن لا تجر إلى خط لم تتبناه بسبب مكونات متناقضة ظاهرها الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وباطنها: في ظل السيف تربينا ….  ولو فطنت بالأمس إلى مافطنت إليه من قريب لنجت من مصارع قاتلة.

والآن عندنا أزمة داخلية (وفيروس في الأعماق) وعلى الحركات الإسلامية أن تكون شجاعة في اتخاذ قرار حوله!

هل الإمارة إلى الأبد أم يجب حدها بمدة أو خطوط واضحة! قد لا يشعر البعض بأزمة في الموضوع ولكن لو سابقنا الزمان قليلاً لرأينا أن كل حركة (مهما حفتها قرائن الشورى العامة) فهي في النهاية كما يقول الأستاذ الراشد لابد منصبغة بلون زعمائها، ووضع مدد لهم يعيد العافية إلى أي جماعة ويبعد عنها التأثيرات الخاصة القاتلة ويصحح لها مساراً يمنع منه الآن هيبة القيادة وما يذكر من وحدة الصف والظروف الصعبة (وهي مفردات وياللأسف يتشارك فيها الإسلاميون مع جلاديهم من الحكام الظالمين) … وعملياً فقوانين الطوارئ موجودة في كلا الطرفين. 

أظن أن الصواب هو في تحديد مدة قابلة للتكرار مرة واحدة، ثم يصبح القادة السابقون مرشدين روحيين وملهمين فكريين ويكون لهم من الاحترام والتقدير أضعاف ما كان لهم في زمن القيادة الفعلية، وينصرفون إلى جمع تجاربهم ليقدموها للقادة الجدد بريئة من السلبيات، محيطة بالظروف، فيأخذها الجدد ويضعون معها روحهم وهمتهم فيكون هناك تجديد ونهوض وانبعاث … وإلا فكيف ننادي بإزالة حالة الطوارئ ونحن أول من يعيشها.

إن انتقال السلطة بشكل سلمي وهادئ خلال تاريخنا الدعوي محدود جداً … وفي عصرنا الحاضر فإن هناك تجارب معدودة (ضمن ما أعلم) ومن أشهرها ترك رئيس الجمهورية السودانية عبد الرحمن سوار الذهب السلطة لمن بعده بعدما استقرت الأمور (سوار الذهب داعية من طراز رفيع وهو أمين منظمة إسلامية عالمية للدعوة إلى الله) … واليوم تقديم الطيب أردوغان رفيق دربه عبد الله غول ليكون أول رئيس لتركية يحمل صفة إسلامية واضحة! وكفى أردوغان فضيلة أنه لم يتشوف ليكون رئيساً للجمهورية، فكلنا لبنات في درب هذا الدين مهما كان موقعنا.

 

انتشرت بيننا مقولات لابد من حد لآثارها السلبية ومنها قول بعضهم: آخر شهوة تخرج من قلوب الصديقين حب الرئاسة! غفرانك اللهم فما الحكمة أننا من أكثر الأمم عشقاً للرئاسة!

وسار بين عامة المريدين فكر التمحور حول الشخص لا الفكرة، والزعيم الملهم لا المبدأ:

وليس على الله بمستغرب     أن يجمع العالم في واحد

ومما أسره لي مدير مؤسسة شرعية أنه لا يريد فلاناً من التلاميذ ويفضل عليه نموذجاً آخر من المريدين ممن يقبلون يده أمام الناس حتى يكون لأهل العلم هيبتهم.

وأذكر أن طالباً فصل من معهد شرعي ظلماً وحاول البعض تلافي الأمر فأصر أصحاب القرار لأنه صدر ولا رجعة فيه حفاظاً على هيبة المعهد، ونطق مربٍ فاضل فقال لهم: وأين هيبة الإسلام؟

ومنذ سنوات كنت أزور أخاً لي في الله فقال أن عند زوجته استفهاماً، وذلك أن الشيخة التي تحضر الأخت عندها دروس الدين ربما أتت وهي معكرة المزاج فتوزع الاتهامات على الحاضرات من بنات المسلمين، (ولديها مهارة تمثيل تفوق أعظم الممثلين) وتزعم أن المجلس ثقيل! ولا بد أن فلانة من الحاضرات قد عملت أثقالاً من الذنوب حتى تعكر قلب المرشدة الصالحة!!

إذا لم يكن الضلال في مثل هذا فأين يكون، وهل بداية الذل إلا تلك الأبواب من أبواب الشياطين … وقلت للأخت: أرجو أن تكون لديك الشجاعة لتقولي لأمثال تلك المدعية للولاية والكرامات: إذا كنت تحسين بضيق الصدر فانظري إلى ما تعملين أنت من الذنوب، ولعل من أعظمها اعتقادك العصمة واحتقارك لعمل الناس.

إضافة إلى تلك الانحرافات فقد فشا في صفوف الأمة حديث لايصح الاحتجاج به! وهو: “صلوا وراء كل بر ٍّ وفاجر” وهو حديث منقطع! نعم صلى بعض سلف الأمة وراء الفجار حرصاً على الجماعة، أما أن يكون أمراً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغير مسلم ولا ثابت، وطرقه كلها واهية جداً كما ذكر الحافظ، بل قال أبو أحمد الحاكم: هذا حديث منكر! فانظر كيف صار في الأمة ديناً فتح الباب للفجار لا في إمامة الصلاة بل في إمامة الأمة كلها! وأقوى منه رغم أنه ضعيف حديث الدارقطني: “اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدُكم فيما بينكم وبين ربكم”، والحديث الأقوى ما أخرجه ابن ماجة عن ابن عباس أن ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً ومنهم “رجلاً أمَّ قوماً وهم له كارهون” قال العراقي: وإسناده حسن، وقد وردت فيه روايات “يقوي بعضها بعضاً فينتهض بها على تحريم أن يكون الرجل إماماً لقوم يكرهونه” كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار 3/177. كما يقول الشوكاني أنه ثبت عن علي رضي الله عنه مرفوعاً : “لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه” 3/163.        

 

يتعاون الفكر الخرافي مع الفكر الاستبدادي بشكل ممنهج ومدروس لتخدير العباد، ويحرص الظالمون على إيجاج مرجعيات دينية تشغل الناس بالصغائر والتوافه وتغض نظرها بل لا تجرؤ على طرح مسألة تمس بالفراعين، ومن يقرأ بعض ماورد من الصفات الكفرية التي نسبت إلى بعض العلماء قادة الأمة (وهم منها براء)  يعلم أثرها الإذلالي المخيف في نفوس الرعاع، وقد قرأت أشعاراً كفرية يزعم صاحبها بحق نفسه أنه:

كل الناس بالبيت طائف        وأنا البيت طائف بخيامي

ثم يقول إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنما خمدت النيران حوله! لما بصق عليها ذلك الولي العظيم.

وبدهي أن تلك الشركيات تنتقل بالإيحاء إلى القطعان الغافلة من البشر الذين لم يكفهم مصابهم بالظالمين فابتلوا بسدنة وكهنة قلبوا عالي الدين أسفله، وبدل أن يعلموهم أن النبي الهادي قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، صار هناك تركيز على أن الشيخ إن لم يعلم الغيب الصراح فهو قريب من علمه! وأخبرني رجل عالم أثق بدينه وصلاحه أن أول سيره كان في مسجد أحد الأحياء مع جماعة من الدجالين قبل أن ينجيه الله، وكان الشيخ يبث جهازه الأمني في المساء قريب منتصف الليل في الطرقات … وربما صادف أحد التلاميذ أحد أفراد الجهاز فيظن لبراءة قلبه أن الله قد أكرمه برؤية احد الأحباب في الله والذي كان يبادره قائلاً: خير إن شاء الله، أين كنت؟ وربما أفضى التلميذ ببعض المعلومات عن مشكلة أو حادثة جعلته يذهب هنا أو هناك أو يتأخر .. ويمضيان وقد غمر التلميذ عبق الحب في الله وأما الآخر فيجمع كل مالديه ثم يتصل بالشيخ بطريقة لا بد أن أجهزة المخابرات ستحسد الشيوخ عليها!

وبعد درس صلاة الفجر يقول الشيخ الدجال: البعض لا يعرفون أن الشيخ قد فتح الله عليه، وهو يعلم مافي قلوب تلامذته وإلا لم يكن شيخ صدق، والواحد يتأخر عن إدراك الجماعة الأولى ليس لعذر مقبول، بل لأن ابن خالته جاء من السفر، وبقي عنده حتى الثانية عشرة ليلاً، وبعد العشاء جرت أحاديث شيء منها مفيد وأكثرها من كلام أهل الغفلة! ..ويالطيف .. لولا كرامة الشيخ عند الله لاحترق التلميذ بغفلته!

ويبهت التلميذ ويزداد اعتقاده في ولاية الشيخ، ويصبح ناشراً لها بين إخوانه وجهاز الأمن يزود الشيخ بالمعلومات .. إلى أن يرحم الله المريد فيفتضح أمر الشيخ عنده كما حصل بمحدثي .. ولكن هناك كثيرين خرجوا من الالتزام كله وأصبح المسجد وأهل العلم أبغض شيء إليهم.

إذا كان الشيخ يعلم الغيب، والشيخ كله قابل للبس في أيدي أو أرجل الأجهزة الأمنية الحقيقية! فقل لي أين صار المريد؟

حقيقة أعجبني يوماً ما ذكره الطبيب الشاعر والكاتب المفكر ياسر العيتي بما خلاصته أن أولئك الغشاشين المنافقين سوف يكونون أول المنقلبين على الحكام الذين ربوهم، فإنهم زرعوا فيهم قلة الأمانة مع الله فكيف سيكونون معهم.

إن هذا التشبث الخطير بالمواقع هو المدد العملي في النفوس المعوجة لإيجاد منافذ كلما ضاقت السبل على الحكام، وهو من الممهدات لهم في نفوس الناس لقبول الذل والإجحاف بالحقوق ونهب خيرات الأمة، ومصادرة قراراتها، بل القبول بقطع أعناق وأرزاق أبنائها تجاوباً مع المخدرات التي يوزعها الدجالون تحت راية الدين، وليس من نهاية لذلك النفق في النهاية إلا الفناء للجميع!

أمن أجل أن الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم تحدد مدة لهما للحكم صار مقبولاً أن يبقى الحاكم إلى الأبد! بل بلغ السفه بالبعض أن ولى أكثر من ولي عهد من بعده كي لا يضيع الكرسي من أيدي ذريته لا بارك الله بها ولا بأمثالها! وولي في بعض الفترات أطفال لا يعرف واحدهم أن ينظف نفسه! فكيف ينهض بأمة!!

قل لي عن حاكم كان يقف فرد من رعيته فيقول له: ياعمر لا سمع لك ولا طاعة! وذلك من أجل ثوب أطول من ثوبه ظن ظناً أن عمر قد استأثر به من دون الناس!

ألم تتعلم الأمة خلال أكثر من ألف عام أن الذين طال بهم الحكم وكانوا من الصالحين قلة تعد على الأصابع، وأن المقابل السلبي سبب أعظم التداعيات في هذه الأمة، وأن انتقال السلطة السياسية بشكل سلمي ومدروس هو عين الصواب وهو مدخل للاستقرار والازدهار، وأن الواحدية في كل شيء عقيمة لا تنجب ومليئة بالعقد فلا ينتفع بها! وأخطرها واحدية الحكم والقرار!

ألم تتعلم الأمة أن جمع كل السلطات في يد شخص أو أسرة أو حزب هو نوع من ادعاء الألوهية! وأن تقرير مدة معينة للحكم يرحل الحاكم بعدها إلى بيته معززاً مكرماً ليس فيه إشكال شرعي كبير ولاصغير، وأن الأمة حينما يتكرر فيها الزعماء والقادة ويتبادلون الأدوار برضى الناس واتفاقهم فإن في ذلك أكبر ضمان لحصول العدل ومنع الظلم والانفراد بالرأي، وهو أكبر عامل في تجنيب البلاد الكوارث كلها والأخطار، ويبقى العديد من الفعاليات الحية تحت تصرف الأمة. 

الهيمنة الخارجية مهما طالت فليس لها قرار، وهاهي أنياب الوحش الأميركي تتكسر في العراق وأفغانستان، والاستبداد السياسي فضح أمره وبدأ طوفان الحرية يعلو مده ليطيح بكل ظلاَّمٍ للعباد … وليست المشكلة الأساسية في هذين الفيروسين على خطورتهما .. ابحثوا عن الفيروس الأول المتواري بخبث في الأعماق، فمن دون إيقافه ستعود آلاف الفيروسات القاتلة لتزرع الضعف وتخنق الأمة وتخرب دروب نهضتها من جديد.

 

أحمد معاذ الخطيب الحسني

كلمة شهر شعبان المعظم 1428هـ الموافق 1 أيلول 2007م

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على فيروسات التداعي والخراب – 2007-08-31 مغلقة

( هَيتَ لك ) .. ” كلمات للشيخ د : عائض القرني “

تقول امرأة العزيز ليوسف عليه السلام : هيت لك قال : معاذ الله

وكلمة هيت لك فيها من الجذب والإغراء والفتنة ما يقود النفس الأمارة للاستجابة ، ولكن الله سلم وعصم ولطف.
ويا لمقام يوسف عليه السلام ، وقوته وصلابة عزيمته وجلالة نفسه يوم هزم هذا الإغراء الفاتن بالكلمة الطاهرة الخالدة ، معاذ الله .
وياليت كل مسلم إذا ماجت أمامه الفتن وتعرضت له الإغراءات أن يفزع إلى : معاذ الله ليجد الحفظ والصون والرعاية

ويحتاج المسلم كل وقت إلى عبارة معاذ الله ،
فالدنيا بزخرفتها وزينتها تناديه : هيت لك
والمنصب ببريقه وطلائه يصيح : هيت لك
والمال بهالته وصولته يقول : هيت لك
والمرأة بدلالها وحسنها وسحرها تعرض نفسها وتصيح : هيت لك

فمن ليس عنده معاذ الله ماذا يصنع ؟

وإن الفتنة التي تعرض لها يوسف لهي كبرى ، وإن الإغراء الذي لقيه لهو عجيب ، فهو عليه السلام شاب غريب في الخلوة وفي أمن الناس لأنها زوجة الملك ، ثم هي مترفة متزينة ذات منصب وجمال وشرف ومال
وهي التي غلقت الأبواب ودعته إلى نفسها فاستعصم ، ورأي برهان ربه ونادي : معاذ الله

فكان الانتصار على النفس الأمارة والهوي الغلاب ، فصار يوسف مثلا
لكل عبد غلب هواه ، خاف ربه ، وحفظ كرامته ، وصان عرضه.
ونحن في هذا العصر بأمس الحاجة إلى مبدأ :

معاذ الله

فالمرأة السافرة ، والشاشة الهابطة ، والمجلة الخليعة ، والأغنية الماجنة كلها تنادي : هيت لك
وجليس السوء ، والصاحب الشرير ، وداعية الزور ، وشاعر الفتنة كلهم يصيحون : هيت لك
فإن وفق الله وحصلت العناية ، وحلت الرعاية صاح القلب صيحة الوحداني : معاذ الله.

 

كُتب في غير مصنف | التعليقات على ( هَيتَ لك ) .. ” كلمات للشيخ د : عائض القرني “ مغلقة

الجمود للأستاذ المفضال الشيخ محمد سعيد العرفي (الجزء الثاني)

للأستاذ المفضال علامة الفرات الشيخ محمد سعيد العرفي أحد الداعين باستمرار إلى اليقظة الإسلامية
(نشرت هذه المقالة في السنة الأولى 1935م) من مجلة جمعية التمدن الإسلامي

لولا جمود العقل الذي جرد الإنسان من الشجاعة الأدبية والجرأة لما نقل التاريخ أن الشخص الواحد من العدو كان يومئذ يأتي إلى القافلة المسلحة رجالها فيأمرهم بالوقوف وأن يربطوا أنفسهم بالحبال ويغلوا أيديهم فما أسرع ما يلبون طلبه ويفعلون بأنفسهم ما يريده منهم وعندئذ يكر عليهم فيقتلهم بسلاحهم عن بكرة أبيهم .
وهذا ليس بغريب فقد حصل الكثير منه في عصرنا هذا لاستيلاء الوهم على النفوس الصغيرة ـ وهي الأكثر أفراداً ـ فلم يُبق فيها جرأة على مقاومة الباطل ومناصرة الحق المشروع الواضح والاستبسال في سبيل الدفاع عنه ، وهكذا كلما انتشر الجمود استعرت نار الفتنة واستفحل الوهم وكثرت الأماني فتمزقت الأمة وأضاعت كيانها وصارت غير مستحقة للحياة .
على أن الجمود أجاز لتيمور في أواخر القرن الثامن وأول التاسع أن يزيل من عالم الوجود أنقاض الآثار المادية والأدبية التي هدمها التتر والأتراك حينما كانوا في خدمة البلاط العباسي وفي انقراضه من بغداد عام 656 هـ .
والجمود هو الذي أوهى قوى الأندلس فتقوض عز العرب منها واندرست معالم الإسلام وطمست معظم آثاره القيمة العظيمة لاشتغالهم بالأمور التافهة عن الأمور المتعلقة بحياة الأمة واستبدالهم الظن باليقين .
والجمود هو الذي سهل للسلطان سليم في الربع الأول من القرن العاشر أن يستحوذ على الخلافة الإسلامية من عباسي مصر ويسعى لتثبيتها بإيجاد حرب مذهبية بين السنة وبين الشيعة في محارباته مع إسماعيل شاه الصفوي وما بعدها فما زلنا نتجرع مرارة هذا النزاع حتى الآن رغماً عن أن البلاء قد أحاط بنا فعظم الكرب واشتد الهول وضاقت على المسلمين الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، لأن الجمود يحول دون التفكير بأن هذا نزاع تافه في الحقيقة ما دام الجميع يؤمنون بكتاب واحد مصون من التغيير والتحريف .
وأنى لهم أن يتفقوا ؟ ومن أراد الوقوف على معاني الآيات والتدبر بها فإنه يحجر عليه ويمنع من تفسيرها وإن كان وفق القواعد العربية ولا يباح له إلا ما ورد من أقوال العلماء المدونة تفاسيرهم قبل قرون ونحن نقول : جزى الله المفسرين أفضل الجزاء ولكن ألا يجوز أن تكون الوجوه التي أوردوها كانت ملائمة لأفكار عصرهم أو لظروف اقتضت ذلك ولكن تلك الآراء غير صالحة لهذا العصر
ولربما توجد بعض أقوال لا توافق معنى الآية الصريح وغير منطبقة على روح الدين ولكنها مضى على تدوينها مرور زمن أو أزمان وهو حجة وإن كان خطؤه واضحاً في حين أن كتاب الله منزه عن الخطأ وصالح لكل شخص وأمة في كل زمان ومكان .
لولا الجمود لما بقي القرآن كنزاً مخفياً تحتاطه الطلاسم الكثيرة وأقل ما فيها التهويل على المسلم المستطيع بالإقدام على تفسيره وتخويفه من هذه الجريمة حتى لا يجرأ على الخوض في معانيه وإن كانت واضحة جلية .

أما السُنَّة فحدث عن الجمود فيها ولا حرج ومن أغرب أنواعه أن المقلد الجامد يستدل بجزء من الحديث ويرفض بقيته لأنه غير موافق لمذهبه ومع هذا فهو مقتنع بهذه العقيدة جازم بصحتها لأن الجمود أوجب عليه ذلك وتلقاه عن بعض الشيوخ أو وجده في كتاب فما وسعه إلا الرضاء والقبول وإن كان غير معقول .
ولقد تغلغل الجمود في أذهان كثير من المقلدين الجامدين حتى بلغ الأمر بأحدهم أن لا يتجرأ على الفتيا بقول إمام الذي قلده إذا قرأ في بعض كتب المتأخرين خلافه لأنه متيقن أن ذلك المتأخر قد اطلع على أقوال إمامه حتماً فهو أعرف منا بها لأن الجمود جعله يعتقد أن كل متأخر قد اطلع على جميع التفاسير وعلى الأحاديث النبوية كلها ووقف على أقوال جميع من سبقه وعرف الغثَّ من السمين فهو لا يخفى عليه شيء من ذلك ، وفي هذا من البلاهة ما تمج العقول سماعه فضلاً عن الإيمان به ولكنك لو ناقشته بالدليل تريد هدايته إلى سواء السبيل رماك بالطعون والقذف والشتائم هيلاً بغير كيل .
وبالأحرى أن يرفض أقوال أئمة المذاهب الأخرى أو يطعن فيها أو يشمئز منها فعلاً وإن زعم التسليم بها قولاً بل إن بعضهم لم يسلمها إلا مرجوحة وإن وافقت قول إمامه .
قال في جمع الجوامع وشرحه للمحلي في الكتاب السادس في الترجيح والتعادل في ترجيح أحد قولين للمجتهد :
ثم قال أبو حامد الإسفرايني : مخالف أبي حنيفة منهما أرجح من موافقه فإن الشافعي إنما خالفه لدليل أهـ
وقال البناني محشيه : الظاهر أن غير أبي حنيفة كمالك مثله أهـ . ج 2 ص 230 ونقل المحشي العطار مثله عن الشهاب عميرة أهـ ج 2 ص 367
ولا سيما أن أمثال هؤلاء الذين ابتلى الله بهم الأمة ، المفرقين لكلمتها الدينية والدنيوية ، يغذيهم أناس غير قليلين يريدون وراء ذلك دوام انقسام الأمة وافتراق كلمتها لتكون للعدو لقمة سائغة ، وقد تم لهم من بعض النواحي ما أرادوه غير أن خشية انتباه الأمة يضطرهم إلى التشديد في الجمود والمبالغة فيه حتى يطول نومها فتبقى راكدة خانعة ذليلة أو أنها تفيق فيضطرها الضغط إلى الانفلات والخروج على الدين والمروق منه فالطعن فيه وهذا بغية شعوب غير قليلة من أعداء الإسلام لأن الجمود إذا بقي معشعشاً في أدمغة المنتمين إلى العلم ورئاسة الدين ففي أدمغة العوام أكثر فتحصل نفرة عامة من الدين ويبقى الإسلام في معزل عن الأمم الأخرى أو أنهم ينظرون إليه نظرة استخفاف وازدراء عندما يرون المسلمين أضعف الأمم قاطبة بين أجناس أهل الأرض .

لا شك في أن شخصاً ينتمي إلى دولة ذات كيان في الهيأة الاجتماعية قد تأنف نفسه من الانتماء للإسلام وإن درس أحكامه وتبين له وجه حقيقتها ومطابقتها للعقول لأنه يظن الدين سبب انحطاطهم وتقهقرهم فيقول : ” لو كان في هذا الدين خير لاستفاد منه المتمسكون به ولسابقوا الأمم التي تقدمت في ميدان الحياة ” ، وهذا الذي حذرنا منه الله منه بقوله : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } سورة الممتحنة ـ الآية 5 مع أن جمود المسلمين على العادات ونبذهم كتاب الله وراءهم ظهرياً وجعلهم العلاقة مع الدين اسمية فقط لتمسكهم بالقشور وتركهم اللباب هو الذي أخرهم وأورثهم ذلة وصغاراً على أن المقارنة بين كثرة المسلمين الحاضرين مالاً ورجالاً مع الحقارة والهوان وبين قلة المسلمين الأولين مالاً ورجالاً مع العزة والسيادة على العالم تبين الحقيقة واضحة ملموسة.
هذه بعض المصائب التي أحاطت بالدين من الجمود وفروعه فأصبح معتقداً صورياً جامداً بعد ما جعله الله سمحاً سهلاً ليناً كافلاً لسعادة الدنيا والآخرة يتسع لكل نقد وبحث لأنه نظري عملي في آن واحد .
وعلى هذا نقدر أن نقول : إن الجمود قد أوهى القوى وهدم أركان الدين وأخرجه من نافع مصلح روحاني إنساني محض خاطب العقل والروح والبدن معاً إلى هيكل صوري أجوف ذو طقوس ظاهرة وتكاليف شاقة تعلقت باللسان والأعضاء الظاهرة فوقفت عند الحناجر ولم تصل إلى القلب حتى يظن الجهول به أنه عدو لدود للعقل والنفع العام في حين أنه جاء محرراً للعقل من قيوده ورحمة للعالمين .
ثم بلغ بنا الجمود في فهم الحياة أن أحدنا إذا وجد كسرة يسد بها رمقه في حياة ذليلة وعيش نكد ظن أنه قضى لبانته من هذه الحياة الدنيا وأثنى على تلك الحال المؤلمة بأبلغ عبارات المدح والإطراء اعتماداً على ما دعت إليه الحمقى والمغفلون من المتسمين بالعلم والدين ، أو استمداداً من أفكار الملاحدة الذين اتخذوا دين الله هزواً ولعباً فركنوا في تنفيذ خطتهم وترويج عملهم إلى المتنطعين والجامدين الذين جعلوا دين الله وسيلة للارتزاق فحسنوا للمسلم القعود والبطالة وشوقوه إلى الكسل والرضاء بالذلة فاعتقد الأبله أن هذا قصارى ما يرتجيه من الحياة وبذلك تأخر المسلمون ولا سيما العرب منهم أشواطاً بعيدة عن غيرهم في حين أن دينهم أوجب عليهم أن يكونوا السابقين في مضمار الحياة ويبقوا الدماغ المفكر للبشرية حتى يكون مقامهم أمام شعوب العالم أجمعه كي يمثلوا الشرف والرفعة والفضيلة والعلم والعدل والسمو والكمال بأتم معانيه في الأزمنة والأدوار كلها .
لكن الجمود قد سيطر على العقول وقيدها بالعادات السافلة والأخلاق المنحطة وأطلق عنان الجهل وأخرجه من سجنه الذي حبسه فيه الدين الإسلامي فانتشرت الضلالة وعم الفساد وهجر المسلمون المقاصد واستعاضوا عنها بوسائل غير مثمرة لا علاقة لها بالمقصود فتفرقوا شيعاً وأحزاباً يلعن بعضهم بعضاً وتباعدوا عن الاتحاد والاتفاق لأن عين الحقيقة طمس الجهل معالمها فأصبحت لا تَرى ولا تُرى .
أما ما يعود على الأمة بالنفع وعلى صاحبه بالخير فإن معرفته أو دوام العمل به أشبه بوميض البرق لكثرة المرجفين والمفسدين فيحولون دون رواجه إلا إذا اختبأ وراءه الدمار والهلاك وبذا قضوا على تقديس المصلحة العامة ومحوا أثرها من أدمغة الرأي العام الإسلامي حتى لم يعودوا يتصورونها فضلاً عن أن يحترموها أو يعملوا لأجلها بعد ما كانت هدف كل مسلم وكانت سر نجاح المسلمين في جميع الأدوار والشئون .
واستحكم الجهل في الأدمغة فأفسد خيالها وعطل تصورها الصحيح فلم يستطع واحد منها أن يخترع شيئاً ينفع الأمة أو يكون له أثر في الهيئة الاجتماعية .
نعم قد تشذ بعض الأدمغة الجبارة بإيجاد شيء ذي نفع ولكن أمامه ألوفاً من المفسدين يهدمون ما بناه ويبنون على أنقاضه أماني لم تتعد حدود الخيال والتصور المستحيل الوقوع أو الشبيه به .

واستولى الجمود على الأعضاء فلم تصلح لأن تعمل فيما خلقت له وبذلك قصرنا عن مجاراة غيرنا من الأمم الراقية ولم نقلدهم إلا في السفاهة والأمور التافهة فصرنا ننتقل من سيء إلى أسوء حتى ضاق العيش بنا ولم نقدر على الاستفادة من أراضينا الخصبة الواسعة بعد أن كان يعيش على ظهرها أضعافنا عشرات المرات .
أما معادننا الكثيرة فحرام علينا أن نستحصل منها ثمرة لأن الجمود قد حكم ـ وحكمه واجب الإطاعة ـ بأنها وقف على غيرنا وهدية لعدونا نقدمها له عن طيبة نفس ورضاء خاطر وبلغ الأمر بنا أن أصبحنا نعد ذلك من المآثر التي نباهي بها ويفاخر بها المتزعمون منا الذين قدمتهم ظروف معلومة وهم أعضاء غير نافعة لا يستحقون إلا بتراً .
ذلك جزء يسير من أضرار الجمود الذي دخل في شئوننا كلها فعطلها وألقى الأمة في هوة سحيقة فلم تعد تسمع صوت مصلح ولا وصراخ مرشد ولا إهابة هاد لأن كل تشبث يتعلق بنهضة هذه الأمة هو عقيم الإنتاج ما دام الخمول ضارباً أطنابه .
إذاً يسوغ لنا أن نصارح حضرات القراء بالجملة الآتية : إن هذه الأمة لا يصلحها إلا ما أصلح أولها والذي أصلح أولها تحرير العقل من عبودية الهوى والركود ونبذ العادات المضرة وإن تأصلت ، وهجر الأعمال المفسدة وإن قدست .
فأول الواجبات بعد التوحيد الحقيقي كسر قيود الجمود وتمزيق شمله تمزيقاً لا يتمكن بعده من العودة والالتئام كما فعل به الدين الإسلامي فإنه لو لم يجعل الجمود هباء منثوراً لما استطاعت الأمة العربية أن تقوم بتأسيس مجدها العظيم الخالد (1).

دير الزور ـ محمد سعيد العرفي

(1) (التمدن الإسلامي) نرى أن من خير الوسائل للقضاء على الجمود تعارف المتألمين منه وسعيهم المنظم الأدبي المستمر للتنبيه على أضراره بإلقاء محاضرات وكتابة مقالات في شتى الأنحاء ، وقد أخذت وطأة الجمود ـ حسبما يتراءى لنا ـ تضمحل بفضل تنبيه فريق من مفكري الأمة على أخطاره ومعاداته ولو عن حسن نية إلى الشريعة الإسلامية التي تبرأ منه وهي السمحة الخالدة التي كانت خاتمة الشرائع السماوية لأنها تتعهد بما يكفل للبشرية الحياة السعيدة التقية ، فالإسلام يأبى الجمود كما تأباه الحياة .

كُتب في من كنوز التمدن الإسلامي, منائر | التعليقات على الجمود للأستاذ المفضال الشيخ محمد سعيد العرفي (الجزء الثاني) مغلقة

الداعية المحمول عبء على الدعوة ….

تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجل فيها راحلة، بهذه الكلمات الموجزة البليغة، وصف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حال ركب الدعاة في كل عصر. وإن كانت كلماته ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلك تنصرف على الناس في كل أحوالهم ومجالات حياتهم، إلا أنها بحال الدعوة ألصق، وبمجال العمل في سبيل الله عز وجل أوثق.
يقول اللغويون في تعريفهم للراحلة: هي البعير النجيب المختار، كامل الأوصاف، الحَسَن المنظر، القوي على الأحمال والأسفار، وإذا كان في إبل عرف، لقلته وندرته.
والرواحل من الدعاة تجدهم كذلك فعلاً، فهم نجباء مصطفون، يقتربون من الكمال، حَسُنت ظواهرهم التي تشي بحسن باطنهم، تجد منهم – وإن كان في بدنهم ضعف- القوة والجلد على حمل أعباء الدعوة، والقيام بها على أفضل ما يكون، لا يعرفون تعللا ولا اعتذارا، وليس في قاموسهم القعود ولا النكوص، يُعرفون في جموع الدعاة ويبرزون كعلامات وشامات، دون إعلان عن أنفسهم، يشقون للدعوة، ويمدونها بعصارة نفوسهم.
وليت هؤلاء الرواحل من الدعاة يحملون أنفسهم وأحمالهم هم فقط، ويؤدون واجباتهم هم فقط، وإنما الواقع أنهم في الأغلب الأعم- لتخاذل البعض وتكاسله وتوانيه- ينوءون أيضا بحمل غيرهم وأثقالهم، وأداء واجبات هؤلاء الأغيار من الغثاء المحمول.
وليت هؤلاء المحمولين اكتفوا بإلقاء أحمالهم وساروا على أرجلهم، فكفوا الرواحل أنفسهم، ولكن هذا الصنف يأبى إلا أن يركب ويتصدر، دون أن يكلف نفسه جهدا، ولا نفقة من وقت أو مال، مطلقين ألسنتهم الحداد بالسوء من القول في حق من يحملونهم، إن توجع هؤلاء الرواحل أو صدر عنهم الأنين من ثقل ما يحملون!!.
هذا صنف، وهناك صنف آخر من المحمولين، لا يقل خطرهم عمن ذكرنا أولاً، وهم لا شك يمثلون عقبة في طريق الرسالة، وثقلاً فوق ظهور الرواحل، إنهم صنف قبع خلف أسوار نفسه، واستراح في ظلال الدنيا، تجدهم يحملون ألقاب الدعاة، مكتفين بشرف الانتساب، ولا يملون من التغني ليل نهار بهذا الشرف، ولسانهم لا يمل من الثناء على المثل العليا من الدعاة والمصلحين في الماضي والحاضر، وحكاية ما يبذلون ويقدمون، ممصمصين شفاههم، دون أن يؤدوا ما يفرضه عليهم هذا الانتساب الشريف من تبعات، باذلين الأعذار الواهية، والحجج المائعة، متواكلين على أن هناك غيرهم من الدعاة من يقومون بالمهمة دونهم، فهناك من يفكر عنهم، ويقرر عنهم، بل وينفذ عنهم، عطلوا عقولهم، وأنكروا قلوبهم، وشلوا جوارحهم، وأخرسوا ألسنتهم إلا عن مهاجمة من يريد تحريك ساكنهم، وإحياء مواتهم، وتنبيه حواسهم، متهمين إياه بالاندفاع تارة، وبضعف ثقته بالقيادة والمنهج تارة أخرى!!.
شبهة وردها
ربما يقول البعض – مريحا نفسه من عناء الإصلاح، أو يائسا من إجراء التغيير- بأن هذه الندرة في الرواحل سنة إلهية، وفطرة طبيعية، وناموس كوني لا ينبغي لنا أن نصادمه أو نعمل على تغييره، وأن مسألة عدد العاملين والمجاهدين ليست مطروحة في المنطق الإسلامي، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله … إلخ، ولكن – حسب ما أتصور – أن هذا يصح عندما تكون هذه الفئة القليلة كلها – أو الأكثرية الغالبة منها على الأقل- من الرواحل، وليس العكس، بأن يكون هناك بضع رواحل، والأكثرية الغالبة محمولة على ظهور هؤلاء الرواحل.
والأعداد فعلاً لا نعتبرها عندما تكون المواجهة بين الدعوة وأعدائها من الخارج، مصدقين بقول ربنا، ومؤمنين بوعده لنا، ولكنها لا شك تكون معتبرة عندما يتعلق الأمر بالحسابات الداخلية للمنتمين لهذه الدعوة، والذي يحسبون عليها بأنهم من حملتها والقائمين بشئونها، والمجاهدين في سبيلها.
ولا شك أن ظاهرة المحمولين تؤثر تأثيرا بالغا وخطيرا على سير العمل الدعوي، وعلى إنتاجه، وعلى أفراده أيضا، ومعرفة بعض هذه الآثار قد يدفعنا للسعي الحثيث لتجنبها بعلاج هذه الآفة في الحقل الدعوي، ومن أهم هذه الآثار:
1- إعاقة إخوانهم من الدعاة الرواحل، وعرقلة جهودهم، وإبطاء سيرهم، والحد من قدرتهم على الاستمرار بأحمالهم الزائدة.
2- إشاعة العدوى بين الدعاة، فقد ينقل هؤلاء المحمولون آفتهم إلى إخوانهم من الدعاة المخالطين، ممن ضعفت مناعتهم، وفترت هممهم، فيصيرون قدوة للكسالى وفاتري الهمم.
3- تضييع الأوقات واستهلاك الطاقات في حل ما يثيره هؤلاء الأفراد من مشكلات، مما لو أنفق بعضه في الدعوة لحققت إنجازات قيمة ونجاحات طيبة.
الأسباب أولاً

وإذا أردنا الوقوف على علاج لظاهرة المحمولين، نخفف به عن ظهور الرواحل، ونضيف إليهم من يحمل معهم، فلا بد أن نعرف الأسباب أولاً لنتجنبها، ونحصن الدعاة منها، مع اعتبار أن ظهور كل صنف من هؤلاء المحمولين له أسبابه التي تختلف عن أسباب ظهور الصنف الآخر، ولكننا نجمع في حديثنا بين الصنفين، لأن آثارهما واحدة في الغالب، ومن تلك الأسباب:-
1- الوهن القلبي، بحب الدنيا، والغفلة عن الموت والاستعداد له.
2- فساد النية عند المنتسب للدعوة، باتخاذها إما وظيفة ينال عن طريقها المال، أو كوسيلة للظهور والشهرة، أو لاكتساب وجاهة اجتماعية، فأمثاله يريدون الدعوة أن تخدمهم، لا أن يخدموها هم، ويعيشون عليها لا لها، مثلهم كمثل الطفيليات التي تتغذى على غيرها، فهم في الدعوة وليسوا منها، والدعوة عندهم – كما يقول الدكتور فتحي يكن – : كالزهرة يضعونها في عروة ردائهم، مصدراً للجمال، يلفتون بها الأنظار، وينتزعون بها الإعجاب، فإذا ذبلت رموها، وبحثوا عن وردة جديدة أو دعوة جديدة، هم الذين يحرصون على أن يُنتخَبوا في كل مجلس إدارة، وأن يمثلوا في كل وفد، وأن يحضروا كل اجتماع.
3- تشوش الرؤية، وافتقاد الوجهة، والجهل بطبيعة طريق الدعوة، ومتطلبات السير فيه، والتضحيات الواجبة على سالكه.
4- انشغال الفرد بأعماله الدنيوية انشغالاًَ مبالغاً فيه، والنهم في جمع المال، والغرق في تلبية ملذاته وشهواته، وانتقال هذا بتأثير متبادل إلى أهله وذريته (إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15].
5- تأثير البيئة التي ينحدر منها الداعية، وطبيعة النشأة الأسرية والمجتمعية، وما تأصل فيه من طباع سلبية، كل هذا قد يترك أثرا في الداعية حتى بعد انتسابه للدعوة، ويأخذ وقتا طويلاً وجهدا جهيدا لعلاجه منها.
6- استعجال المربين في الحكم على المبتدئ، من خلال مواقف ومعايشات سطحية، واختبارات تمثيلية غير حقيقية، مما يؤدي إلى الزج به في أعمال ومسئوليات أكبر منه، قبل إنضاجه جيدا، وإكمال تربيته.
ولا شك أن هذه الأسباب كلها منشؤها واحد، وهو ضعف التربية الأولية التي يتلقاها الداعية في بداية ارتباطه بهذه الدعوة، وإهمالها لصالح الأعمال والإداريات، وعدم توفر المربي الكفء الذي يربي الدعاة على نهج سليم، فيقوم بالمهمة أناس إما أدعياء، وإما مساقون مضطرون، أو اضطرت الدعوة إليهم، فألقت بهم لاحتلال مواقع المربين، وهم للتربية أحوج، فيؤصلون في الأفراد قيما فاسدة، ويعطون من أنفسهم قدوات معيبة.
أعراض ومظاهر
فإذا توفرت هذه الأسباب أو البعض منها، تبدأ الأعراض في البروز، وهي مؤشرات ينبغي أن يلتفت إليها المربون ليتعاملوا معها مبكرا قبل استفحالها وتمكنها من الداعية، ومن هذه الأعراض:-
1- خفة الهم الدعوي، وعدم استشعار عظمة ما يحمل من رسالة، فالدعوة وشئونها لا تحتل مكانا في قلب هذا الداعية المحمول ولا في عقله، فلا نجده يتأثر إيجابا بنجاح تحققه، أو بفتح قامت به، ولا سلبا بإخفاق تتعرض له أو بمحنة تبتلى بها.
2- عدم إتقان واجباته الدعوية، هذا إن قام بها أصلاً، فضلاً عن إهماله وتخليه عن الكثير منها بالكلية.
3- الاتكالية والسلبية، وافتقاد الذاتية، فهو لا يتحرك إلا بتكليف، ولا يعمل إلا حرجا من المحاسبة.
4- إعطاء الدعوة فضول الأوقات، وفضول الطاقة، وفضول المال، والدعوة لا تقتات أبدا بالفضلات، وتأبى إلا أن تطعم بالمكارم والنفائس (لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92].
5- كثرة الأعذار الواهية والحجج الباطلة في التخلف عن أداء تكاليف الدعوة، يسوقها بينه وبين نفسه، أو يتعلل بها للناس تخلصا من المعاتبة والمحاسبة.
6- كثرة النقد بحق وبدون حق، والتنظير الدائم دون عمل، وتلمس العيوب والأخطاء والمثالب، وتضخيمها، دون اقتراح حلول أو بدائل.
7- رفض النصيحة، والغضب من التذكير، وضيق الصدر من العتاب.
8- الاستشراف للقيادة، وحرصه عليها، وطلبه إياها دون امتلاكه لمقوماتها، والقعود والإهمال إن تولاها غيره.
9- الجزع عند الابتلاءات، والانهيار السريع أمام الفتن والمحن، (ومِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ولَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ) [العنكبوت: 10].
10- المن على إخوانه الدعاة وعلى دعوته بالقليل الذي قد يقدمه، وتضخيم أعماله وإن كانت هينة، وهي في أغلبها هينة.

كيف العلاج؟

وبمعرفتنا للأسباب والمظاهر، يسهل علينا العلاج، فهو لا يكون إلا بتجنب الأسباب والقضاء عليها، وعمل عكسها، والالتفات للأعراض والانتباه لها أولاً بأول، وعلاجها قبل أن تستفحل.
وهذا كله طريقه واحد، هو التربية، ثم التربية، ثم التربية، والاهتمام بتجويد عناصرها، من مربين، ومناهج، وبيئة مساعدة، بشكل متواصل، وبالتوازي مع الأعمال، مع التذكير الدائم بقيمة الرسالة، والغاية، والمتابعة، والتقويم المستمر والمراجعة لكل عناصر العملية التربوية، وتعديل ما يحتاج منها إلى تعديل، اتساقا مع المتغيرات، دون تفريط في الثوابت الحقيقية، لا ما يظنه البعض ثوابت، والمحاسبة أولاً بأول، بالحزم والشدة تارة، وبالعاطفة واللين تارة أخرى، حسبما يحتمل الموقف، مع اعتماد المصارحة والشفافية، في ضوء ما أرشدنا إليه ديننا من أخلاق، وما تفرضه علينا أمانة الدعوة من واجبات.
هذا، وإلا فإن دعوة يعشش في جنباتها هؤلاء المحمولون، ويركبون ظهور رواحلها، أعتقد أنها لا ترتجي بلاغا لرسالتها على الوجه الأكمل، ولا أداء لأمانتها كما ينبغي، وستظل تُستنزف في طاقاتها، وأوقاتها، وأموالها، وكلما زاد عدد المحمولين كلما أبطأت الرواحل، وطال الطريق، ولم تشرق له نهاية، ولم يبزغ لسعيها فلاح.

نسأل الله عز وجل أن يستعملنا ولا يستبدلنا، وأن يجعلنا من الذين يحملون دعوته، ويبلغون رسالته.
الأستاذ فتحي عبد الستار

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على الداعية المحمول عبء على الدعوة …. مغلقة