القرآن وفن الطيران … للسيد الفاضل محمد علي العمار

نشرت هذه المقالة في العدد السادس ( السنة الأولى ) شعبان سنة 1354 هـ من مجلة التمدن الإسلامي

دهش العالم دهشة استطار لها اللب حينما برز فن الطيران بمنطاده إلى حيز الوجود وتضخم وتعدد وأصبح كالمدائن الفخمة تُقل على متنها الناس وما شاؤا حتى أصبحت الدول تعتز بأسطولها الجوي كما تعتز بأسطولها البحري .

وإذا تحرينا الفكر الذي انتبه إلى السياحة الجوية لنقدر له ملاحظته فإننا لا نشك نبحث عن واجب إنساني يقضي بتقدير كل أمر قدره .

لا تعجب أيها المسلم المهيض جناحه اليوم إن قيل لك أن هذا المخترع إنما كان عربياً مسلماً وأنه تثقف بمدرسة القرآن حتى اخترع ما اخترع ، فقد كان المسلمون ينبوع المدينة الحافزة إلى الإبداع وهم الذي يقدرون التفكير قدره .

وهذا التفكير الحر النزيه إنما قدَرَهُ في نفوسهم القرآنُ الحكيمُ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد . إن هذا الكتاب الكريم قد دعاهم وحرضهم على النظر والتفكر في ملكوت الله المملوء بالأسرار والعجائب ليشهدوا به منافع لهم وليذَّكر أولو الألباب بعظمة خالقه الواحد الأحد القادر الحكيم المنزه عن الشريك والمعين ، فصاروا يجيلون الطرف في آياته ويمعنون النظر في أسراره ومكنوناته ، ويستنبطون منه النظريات العلمية ، والقواعد الفنية ، وصار عندهم اعتقاد راسخ من الجبال الشوامخ أن لكل آية بل لكل حرف سراً من الأسرار لا يعمله إلا الله والراسخون في العلم ، ومن جملة آياته الحكيمة التي نزلت على قلب الطاهر قلب مُمَدِّنِ العالم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } الملك ـ الآية 19 تفكر المسلمون في هذه الآية كغيرها تفكراً عميقاً متسائلين عن القبض والبسط اللذين جعلهما الله سبحانه دليلاً من جملة الأدلة الناطقة بوجوده تعالى ؟

لقد كان من جملة من تدبر هذه الآية العباس بن فرناس الأندلسي فإنه قد وصل في جملة أبحاثه القرآنية إلى هذه الآية الكريمة { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ } الخ وتفكر فيها تفكراً عميقاً باحثاً عن أسرارها العلمية والعملية وقال في نفسه لا بد أن يكون في أمر الطير سر من الأسرار الإلهية جار على سنة طبيعية حتى جعلها الله دليلاً ناطقاً على وجوده سبحانه ونبه في الآية إلى الحقيقة التي هي مناط البحث والنظر والتفكير ، نفى تعالى عنهم هذه الرؤية وجعلهم كأنهم لم يروا الطير وما ذلك إلى لأنهم لم يبحثوا ولم يتفكروا .

أدرك العباس ذلك وقال لا بد أن أبحث وأبذل غاية جهدي في اكتناه هذا السر حتى أكشف عنه اللثام وظل يفكر ويشتغل حتى أداه التعمق بالبحث والتنقيب عن السر إلى النتيجة المتوخاة ولسان الحال منه يقول أن الله سبحانه وتعالى على سنة قرآنه ينبهنا في هذه الآية إلى فهم سنته في الهواء ، ومقدار ما يحمل من أثقال ولا يكون ذلك إلا بدراسة طبيعة الهواء والطير فلنتأمل كيف خلق الله الطير على ذلك النحو الخاص انتبه إلى الريش والأجنحة فقال بها استطاعت بقدرة الله أن تقف في الجو إذ قد أضاف الله الإمساك إلى نفسه وحده كما تنسب إليه جميع القوى الطبيعية قال تعالى: { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ } لأنه هو الذي أعدها بهذا الخلق لأن تقف في الجو . فاستطاع ذلك العالم الجليل أن يقف مع العلم جنباً لجنب بدراسة قوانية الطبيعية واستفاد من شكل الطير المذكورة في الآية فكسا جسمه بالريش ومد لنفسه جناحين وحلق في الفضاء ومشى مسافة بعيدة ولكنه سرعان ما وقع إذ أنه لم ينتبه إلى الذنب يعمل مثله ، ولم يكتف بذلك إن صح ما قيل أنه صنع بعدئذ طيارة واستطاع أن يحلق بها في الجو أمام جمع غفير من أهالي قرطبة ولكنه لم يستطع أن يمشي بها بل بقي واقفاً في مكانه وبقى عند هذا الحد اختراعه إذ عاجله الأجل قبل الإتمام . وقد ورد هذا الخبر في كتاب نفح الطيب المشهور مما يدل على مكانة الأندلس الزاهرة بالثقافة الإسلامية ومكانة العباس الطائر العربي الأول فإنه كان مخترعاً وكان أيضاً طبيباً للخليفة عبد الرحمن الثاني ملك الأندلس سنة 821 هـ ومما جاء في ذلك الكتاب عند استشهاد المؤلف على سبق الأندلسيين في استنباط العلوم والفنون وتفوق أذهانهم ما يأتي :

” ومن حكاياتهم أن أبا القاسم العباس بن فرناس حكيم الأندلس كان أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وأول من فك بها كتاب العروض للخليل وأول من فك الموسيقى ووضع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف الأوقات على غير رسم ومثقال . واحتال في تطيير جثمانه وكسا نفسه بالريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى مؤخرة ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زِمٍكِه ولم يعمل له ذنباً ” ا.هـ

وفيه قال مؤمن بن سعيد الشاعر أبياتاً منها :

يطم على العنقاء في طيرانها          إذا ما كسا جثمانه ريش قشعم

وقيل أن ابن فرناس هذا لما أراد أن يعرض اختراعه بشكله الثاني على أهالي قرطبة اجتمع خلق كثير لمشاهدته وكان نجاحه قليلاً لأنه لم يتمكن من الانتقال بطياراته في الجو بل كل ما أمكن أنه بقي مرتفعاً في مكان واحد وسقط بعد ذلك على الأرض بين أصوات الهتاف والاستهزاء والضحك .

تلك صورة من صور الإبداع التي كانت تفيض بها نفوس ملأتها الثقافة الإسلامية التي لم يقدرها المسلمون في تأخرهم حق قدرها ، بينما جعلها الغربيون أساساً لتقدمهم ، فأتموا ما بدأ به أسلافنا الأولون إلى أن وصلت حالهم العلمية إلى ما نرى من التقدم .

فانظر بعين الحقيقة والعبرة أيها المسلم إلى تاريخك الزاهر واتبع نهج سلفك بتدبرك آيات كتاب مدن العالم تدبراً حكيماً ، فحينئذ تجد نفسك عالماً عظيماً { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ } …

محمد علي العمار

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف من كنوز التمدن الإسلامي. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.