هناك رجال من طراز فريد ، ومنهم العلامة المفكر والطبيب الشاعر والداعية الفذ والمجاهد المحتسب (ولا نزكي على الله أحداً ) حسان حتحوت رحمه الله . وقد أضحى في ديار الحق وانتقل من ديار الفناء بتاريخ 26 نيسان 2009م ، ولم نجد له ترجمة خيراً مما كتبه بحقه رفيق دربه العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله. اللهم ارحم فقيدنا واخلف الأمة عنه خيراً وإن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ودعت الأمة الإسلامية، والدعوة الإسلامية، من يومين أو ثلاثة، علما من أعلامها الفارعة، ونجما من نجومها الساطعة، ولسانا من ألسنتها الناطقة بالصدق، وعقلا من عقولها المفكرة بالحق، وقلبا من قلوبها النابضة بالحب، ودّعت الطبيب النابغة، والعالم المتمكن، والكاتب البليغ، والشاعر المطبوع، والداعية المؤثر، والإنسان الرائع، الأستاذ الدكتور حسان حتحوت، الذى وافته المنية فى لوس أنجلوس فى الولايات المتحدة، بعد عمر حافل بالعطاء بلا منّ، وبالجهاد بلا كلل، وبالبذل بلا انتظار مكافأة من أحد: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (الليل:19ـ21).
وصف هو هذه الحياة بقلمه البليغ، فقال: إنها حياة ليس فيها مجال للملل، ولم يكن فيها للعبث مجال، يمد الناس أيديهم ليأخذوا، وأمد يدى لأعطى!
يتحيّر من يرثى حسانا أو يؤبنه، عن أى جانب من جوانب هذه الشخصية الفذة، وأى ناحية من نواحى حياته العامرة بالخير والبركة يتحدث، وهو أمة فى رجل؟
أيتحدث عن حسان الطبيب الذى نبغ فى طبه، وأحب مهنته، وأعطى لها حقها، فأحبه مرضاه، واعتبروه أبا لهم، لأنه لم يكن يرى الطب تجارة وكسبا، بل يراه رسالة ورحمة. ولم يكن يتعامل مع المريض على أنه جسد، بل يتعامل معه على أنه نفس إنسانية، تحتاج إلى البسمة الصادقة، والكلمة الطيبة، كما تحتاج إلى التشخيص الجيد، والدواء الملائم. فلا غرو أن كانت بشاشة وجهه، وحلاوة لسانه، وحسن معاملته، وصدقه مع نفسه، وتقواه لربه، من أدوات علاجه، مع الأسباب المعتادة.
ومن المعلوم أن تأثير النفس فى الجسم أمر أقره العلم، وأقره الدين، وأقره الواقع.
أم نتحدث عن حسان العالم الذى يشهد له المتخصصون أن له باعا فى اللغة والنحو والأدب، وباعا فى الفقه والدراسات الإسلامية، بجوار تضلعه فى العلوم الطبيعية؟ وقد كنا ــ نحن علماء الشريعة واللغة العربية ــ نسمع له بإعجاب من سعة اطلاعه، وحسن فهمه فى هذه المجالات.
أم نتحدث عن حتحوت الكاتب، الذى كان الكثيرون ينتظرون مجلة العربى، ليقرأوا خواطره الحية المعبرة عن عقل متألق، وشعور متدفق، وقلم متأنق، يخاطب الكيان الإنسانى كله: يقنع العقول، ويحيى القلوب، ويقوى الإرادات. ويعنى بالبشر كافة، عربهم وعجمهم، مسلمهم وغير مسلمهم، شرقيهم وغربيهم، متقدمهم ومتخلفهم، ويجتهد أن يعالج مشكلاتهم كلها، المادية والمعنوية، الدنيوية والدينية، فليس من طبيعته ولا من أخلاقه التعصب إلا للحق؟
أم نتحدث عن حتحوت (الشاعر) المطبوع، الذى ورث الشاعرية عن أبيه، ولذا كان هو وشقيقه ماهر شاعرين مجيدين وإن كان حسان أغزر وأشهر وأبهر، ومما عرفنا من شعر والده: الأبيات الجميلة التى ودع بها حسانا، وهو ذاهب إلى أرض فلسطين:
اهبط على أرض السلام جعلت يا ولدى فداك
ضمد جراحات العروبة سدد المولى خطاك
وامسح دموع الثاكلات عساك تسعدها عساك
واذكر فلسطين الجريحة وانس أمك أو أباك
إنى وهبتك للجهاد وأين لى سيف سواك؟
وقد ضاع الكثير من شعره، ولكن ما بقى منه أصدره فى ديوان (جراح وأفراح) الذى أسعدنى بإهداء نسخة منه إلىّ. ومن روائع شعره قصيدة:
(من وراء الأسوار)
الذى كتبها، وهو فى سجن أبوزعبل ــ طرة 1965، وفيها يقول:
إلى رحمة الرحمن أشكو وأفـزغُ
سقتنى الرزايا كأسها وهو مترع
ألا إن ركن الحر فى الخطب قومه
فماذا إذا ما خانه القوم يصـنع؟
لقد كان لى فى عز قومى مطمـع
فأضحى لقومى فى هلاكىَ مطمع
وقد أزمعوا أمرا علـىَّ وقـدَّروا
فبئس الذى قد قدروه وأزمعـوا
وما أسفى للقيد فـى الرُّسـغ إنما
لقيد أرى فيه بـلادى تمـزَّع!
وما كربتى سجنى ولكنَّ كـربتى
لسجن أرى فيه الملايين تقـبع!
وُلدنا من الأرحام أحـرار أنفـس
وترضعنا مصر الإبـاء فنرضع
فما بالنا صارت تروَّض أُسْــدُنا
فتغدو كأسد السِّرْكِ تعنو وتخضع؟
إذا ما فقدت الظفر والناب لا تقـل
أنا أسـد بل أنت كبش مطـوَّع!
إذا الشعب رَّبوْه على خشبة العصا
فماذا لدى سـاح الوغى نتوقـع؟
إلام تظل الأُسد رهن سجـونـها
وأبناء آوى فى الكـنانة ترتـع؟
إلهىَ طـال الليل ظلما وظلمـة
فهل تأمر الصبح المبين فيطلـع!
فليس لها من دون صنعك كاشف
وليس لنا من دون بابك مرجـع
ومن شعره فى (العاطفيات) قصيدة:
(نسمة حب)
أنا بالكلية بالقاهرة.. وهى بالشرقية بالإجازة.. وهبت نسمة هواء شرقية ذات ليلة صيف ــ 1946م
وســارية بالليل قلت لـها هبّى
صبت نحوها روحى وخف لها قلبى
معـطَّرة فـوَّاحـة فـكـأنــما
على من أتت من عند حيهمو تنبـى
هـموس أحـاديث الصبابة كلــما
تصدت لها إصغاءة الفنن الرطـب
من الشرق هبت تحمل الحب هل أتت
تعود فتى قد شفه الحب فى الغرب؟
أقول لها هاتى الحديث وصارحــى
فقد نامت الدنيا سـوى مقلة الصب
ألا كيف هم مذ فـارق الدار ركبهم
وفارقنى قلبى.. وراح مع الركـب
وقد همست بى نسـمة الليل همسة
سلاما وبـردا فهى للـروح كالطب
بأن الهوى حى وأن أحبتـــــى
يسيرون فى شرع الوفاء على دربى
ومن روائعه فى المدح النبوى قصيدة:
(فى ذكرى المولد النبوى الشريف)
ذكرتك فى ليلـة المولـد
ونارى فى القلب لم تخمد
ذكرتك يا أشرف المرسلين
ويا خير هاد لمن يهتدى
ذكرتك والقدس فيه اليهود
يعيثون بالنار فى المسجد
ذكرتك والهام فوق التراب
وقد كانت الهام فى الفرقد
ذكرتك والوطن اليعربى
تعيث به نزوة المعتدى
ذكرتك بـانىَ أركـانه
ولو لم يضيعك لم يهدد
ذكرتك والقـوم فى فتنة
كما لم تظن ولم تعهـد
ذكرتك فى أمة لم تصنك
فوا خجلتا منك ياسيدى
أم نتحدث عن حسان (الداعية) الموفق، الذى هيأ الله له القبول، بالعقول تفهمه، والقلوب تحبّه، والعزائم تستجيب له. فهو داعية بلسانه، وداعية بقلمه، وداعية بنثره، وداعية بشعره، وداعية بفكره، وداعية بعاطفته، وداعية بوجهه، وداعية بأخلاقه، وداعية بحسن تعامله. داعية إذا جد، وداعية إذا مزح، داعية إذا تكلم، وداعية إذا صمت، داعية فى المسجد، وداعية فى العيادة، وداعية فى الجامعة، وداعية فى البيت، وداعية فى الطريق.
كان ــ إلى جوار كونه كاتبا وشاعرا ــ محاضرا متمكنا، يحسن إعداد بحثه، وتوثيق مصادره، إيضاح فكرته، وإجادة عرضه، وانتقاء أسلوبه.
وكان خطيبا مفوها، يشد القلوب، ويحرك المشاعر، دون إسراف فى تهييج العواطف، أو التعدى على حق الفكر، وكان سليم الأداء، لا تستطيع أن تمسك عليه لحنة واحدة فى نحو أو صرف. كأنه عربى قح يتكلم بالسليقة، كما قال أحدهم قديما:
ولست بنحوى يلوك لسانه
ولكن سليقىّ أقول فأعرب!
وكانت عدته ثقافة إسلامية رصينة، حصلها من صلته الباكرة بدعوة الإخوان وقربه من مؤسس الدعوة ومرشدها العام حسن البنا، وقد كان له مكانة عنده، كما كان حسان يعتز بتتلمذه على حسن البنا، ويرى فيه المعلم القوى الأمين، والمربى الأسوة، والقائد البصير. ثم أكملها بالقراءة والاطلاع، مع قريحة وقادة، وعقلية نقادة.
أم نتحدث عن حسان (الإنسان) الذى لا يمارى صديق ولا عدو ولا قريب ولا بعيد، ولا مسلم ولا غير مسلم، فى إنسانيته التى وسعت الجميع فى رحابها، وأظلتهم بظلالها، وهو يستمد هذه الإنسانية من صلب الإسلام، كما فهمه نظرا، وآمن به اعتقادا، وعاشه عملا. ويرى أن الإسلام (دين إنسانى) بكل ما تعنيه الكلمة من الإخاء والحب والمساواة والرحمة والبذل والتعاون والتكافل والتسامح.
وكانت عنايته بالإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن عرقه أو لونه أو وطنه أو لغته أو دينه، أو مذهبه أو طبيعته، أو غير ذلك مما يفرق الناس بعضهم من بعض. وكيف لا وقد رأى النبى صلى الله عليه وسلم يقوم واقفا لجنازة يهودى، فقالوا له: يا رسول الله، إنها جنازة يهودى! فقال: «أليست نفسا»؟!.
ولا غرو أن حسان كان نبعا ثريا للحب لا يغيض ولا ينقص، كان الداعية الأول للحب، حب الناس كل الناس، وإطراح الكراهية والبغض، فإن البغضاء هى الحالقة، وكان يروى عن إمامه حسن البنا أنه كان يقول: سنقاتل الناس بالحب! يقول حسان: أنا إنسان محب، وأحب الحب، وأعتقد أنه إذا كانت المسيحية الحقة تقول: (الله محبة) فأنا كذلك أرى أن الله أوجز الإسلام كله فى كلمتين، وذلك فى خطابه لرسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107).
وأذكر أن آخر لقاء ضمنى بالدكتور حتحوت كان فى مقر منظمة الصحة العالمية فى مصر، حيث كنا مدعوين فيها، من المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية فى الكويت ومن عدد من المؤسسات الإسلامية والغربية، لإعداد (الميثاق الأخلاقى) للأطباء. وفى ختام الاجتماع طلب حسان الكلمة، وألقى فينا خطبة، دمعت لها العيون، ورقت لها القلوب، وكأنها موعظة مودع، كانت كلها دعوة إلى الحب، وترغيبا فى الحب، وتعميقا للحب، وأنه لم يجد أفضل للبشر ولا أنفع ولا أزكى من الحب، ولم يقدر لى أن ألقاه بعدها.
ومن إنسانية حسان: أنه حين ذهب فى سنة 1948م متطوعا للعمل فى فلسطين فى مجاله الطبى والعلاجى، ولاسيما فى إسعاف الجرحى، وعلاج المصابين، جىء بمجموعة من الأسرى اليهود جرحى، ولكن حسانا علم أن القيادة العسكرية قررت إعدامهم بالرصاص، انتقاما لما ارتكبوه أو ارتكبه قومهم ــ ولا يزالوا يرتكبونه ــ من قتل النساء والأطفال والشيوخ. إلا أن حسانا وقف فى وجه هذا القرار بكل قوة قائلا: لا ينفذ هذا القرار إلا على جثتى. فهؤلاء أسرى جرحى من حقهم أن يعالجوا كما يعالج كل جريح، ولا يحملون وزر قومهم، وقد قال تعالى عن الأسرى: {فَإِمَّا مَنّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} (محمد:4)، وقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينا وَيَتِيما وَأَسِيرا} (الإنسان:8). وغلبت إرادة حسان إرادة الإدارة العسكرية، ونجا هؤلاء وعولجوا حتى شفوا.
وقد عرف اليهود هذا الموقف وتحدثت عنه الصحف الإسرائيلية، وكانت سببا فى الإفراج عن طبيب مصرى كان أسيرا عند اليهود، وزميلا للدكتور حتحوت.
بداية صلتى بحسان: فى الحديث المتفق عليه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الأرواح جنود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف». صدق رسول الله.
تعارف روحى: ويبدو أن رُوحى قد تعارفت مع رُوح أخى حسان حتحوت فى (عالم الذر) كما يسمُّونه، فائتلفت معها: فقد أحببتُ حسانا قبل أن ألقاه، وعرَفتُه قبل أن يعرفنى.
فقد كنا نحن ــ طلاب الإخوان المسلمين فى المرحلة الثانوية ــ نتابع نشاط إخواننا (الكبار) من طلاب الجامعة، نعتزُّ بمواقفهم، ونتغنَّى بأمجادهم، ونطرب لأفراحهم، ونأسى لفواجعهم، ونزهى بنوابغهم.
وكان من هؤلاء النوابغ: مصطفى مؤمن بكلية الهندسة، وسعيد رمضان بكلية الحقوق، وحسان حتحوت بكلية الطب، وكلهم اشتهر بفصاحة اللسان، وبلاغة اليراع. وكانت تأتينا أعداد من مجلة أصدرها إخواننا طلاب القاهرة، اسمها: (الطالب العربى)، وهذا العنوان دليل قديم على عمق الحس العروبى إلى جوار الحس الإسلامى، والحس الوطنى لدى الإخوان.
وكانت المجلة تشتمل على أخبار الطلاب، وعلى بعض كلمات ومقالات وقصائد للنابهين منهم.
ومنها لحسان، الذى يبدو أن والده سماه بهذا الاسم، ليقوم فى الأواخر مقام (حسان) شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم فى الأوائل، فقد عرَفتُ من مذكرات حسان: أن والده كان شاعرا مطبوعا، كما تجلَّى ذلك فى أبياتها التى بعث بها إليه، حين ذهب إلى أرض فلسطين سنة 1948م، لخدمة المجاهدين فى الميدان، وقد سقناها من قبل.
ومما أذكره مما قرأتُه من قديم لحسان فى عنفوان شبابه، يتحدَّث عن القرآن:
هذا الكتـاب، وإنَّ فيه سياسـة
أتراه أمرا فى الكتاب عجيبا؟
إن كان تزعـجكم سياسته دعوه،
ونقِّبوا عن غيره تنقيبـا!
أو فاعرضوه على الرقيب فربَّما
أفتى، فغادر نصفه مشطوبا!
يا قوم سحـقـا للرقيب وأمـره
فكفى برب العالمين رقيبـا!
وحينما اقتادونا إلى الاعتقال فى أوائل يناير سنة 1949م، ووضعنا فى سجن قسم الشرطة، (قسم أول) بمدينة طنطا، وظللنا فيه نحو أربعين يوما، كان من رفقائنا فى السجن المهندس حكمت بكير، الذى جىء به من مقرِّ عمله بمدينة كفر الزيات، وكان من نشطاء طلبة الإخوان فى الجامعة، ويحمل ذكريات طيبة حدَّثنا بها عن إخوانه، وعلى رأسهم حسان، فزادنى ذلك حبّا له، وشوقا إليه. لقاء فى المعتقل:
ثم شاء الله أن ننتقل من سجن طنطا إلى معتقل الطور، وبعد فترة نقلونا ــ نحن طلبة الثانوى ــ من معتقل الطور إلى معتقل هايكستب، وفيه جاءنا حسان، من ميدان الجهاد فى فلسطين إلى المعتقل، وهو ما استغربه حسان من قومه: أن يكون الاعتقال والحبس وراء القضبان جزاءه وجزاء أشباهه ممَّن خدموا أوطانهم، بإخلاص، وعرَّضوا أنفسهم لخطر الهلاك من أجل أمتهم، وأنشد فى ذلك قول طَرَفَة:
وظلم ذوى القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند!
وفى هايكستب عرَفتُه عن كثب، ولقيته وجها لوجه، وجلستُ إليه، واستمعت إليه، وإلى شعره الرقيق، وإلى نوادره وفكاهاته، التى تصدر دون تكلُّف، ورغم أنه كان طبيبا نابها، وكنتُ طالبا فى نهاية المرحلة الثانوية، فلم أشعر فيه قط بتعالٍ أو صلف، بل كان قريبا من الجميع، حبيبا إلى الجميع، بزكاة نفسه، وطهارة قلبه، ورجاحة عقله، وحسن خلقه، وحبِّه لإخوانه، ومسارعته لنفعهم.
ورغم أنه كان فى استقامته كشعاع الشمس، وفى نقائه كماء المزن، وفى صرامته كحدِّ السيف، فقد شعر كلُّ مَن عاشره أو اقترب منه: أنه نعم الجليس، ونعم الأنيس، لخفَّة ظلِّه، ومرح رُوحه، وملاحة نِكاته، وقفشاته التى تصدر منه على البديهة، فى غير إسفاف ولا ابتذال، ولا جرح لأحد.
وبعد أن خرجنا من المعتقل التقينا فى ساحة الدعوة بالقاهرة، ثم فرَّقت بيننا الأيام، وعافاه الله سنة 1954م من (السجن الحربى)، الذى جمع الله به ــ رغم قسوته وما فيه من آلام وعذاب ــ بين كثيرين باعد بينهم الزمن، فقد كان خارج مصر. حتى هيَّأ الله لنا لقاءات ولقاءات فى مرحلة النضج، فى ندوات علمية، ومؤتمرات إسلامية، وخصوصا ندوات (المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية) بالكويت، التى سنَّت سنَّة حسنة فى الجمع بين علماء الفقه وعلماء الطبِّ، للتباحث المشترك فى القضايا الفقهية المتعلِّقة بالطبِّ، وكان حسان من أبرز الأعضاء المؤسِّسين والمشاركين فى هذه الحلقات، بخلفيَّته الإسلامية، وثقافته الشرعية، وبراعته الطبية، وقدرته الأدبية.
وأهم ما عرَفتُه فى حسان خلال تلك المراحل كلِّها، خصال ست، لم تتغيَّر فى شباب ولا هِرَم، وهى: الصدق الذى لا يعرف الكذب، والإخلاص الذى لا يشوبه رياء ولا طلب مغنم، والاستقامة التى لا تعرف العوج ولا الالتواء، والاعتدال الذى لا يعرف الشطط ولا التفريط، والثبات الذى لا يعرف التلون ولا التراجع، والحب الذى يَسَع الموافق والمخالف. كما وصف ذلك هو بقوله: (الصفاء بالمحبَّة لكلِّ الذين لقونى فى حياتى ظالمين أو مظلومين).
رجل يعرف الفضل لأهله: ومَن عرَف حسانا عرَف أنه رجل تميَّز بشعور رقيق، وحسٍّ دقيق، وفَهم عميق. ولأنه رجل أخلاق من الطراز الأول، يقدِّر القيم الأخلاقية حقَّ قدرها، ويعترف لأهلها بفضلهم، وينوِّه بشأنهم، لتتَّخذ الأجيال منهم خير أُسوة. انظر حديثه عن أبيه وأمه رحمهما الله، فى مطلع كتابه المؤثر (بهذا ألقى الله)، وهو يقول عن أمه: إنها كانت أُمَّة. وهو يذكرها أكثر مما يذكر أباه، وهذا يشير إلى أنه لا يحمل عقدة ضد جنس المرأة.
كما وضح ذلك فى حديثه عن زوجته د. سلوناس، التى يقول: إن قصته معها وقصتها معه، جديرة أن تُنشر فى كتاب، وقد حاول ذلك، ولكن زوجته هى التى تأبى.
وانظر حديثه ــ فى مذكراته عن السنوات العشر التى سمَّاها (العَقْد الفريد) ــ عن أستاذه الدكتور سليم صبرى، الذى اعتبره أستاذه فى الطب، كما كان الأستاذ البنا أستاذه فى الدعوة.
وانظر: حديثه عن الأستاذ محمد فريد عبدالخالق، الذى قال عنه: إنه كان مخلصا، وكان مثقَّفا، وكان مفكِّرا، وهو ثالوث نفيس ومفيد.
وحديثه عن الأستاذ صالح أبورقيق، وموقفه يوم (العلقة السخنة) فى معتقل الهايكتسب، فقد وقف أمام العسكر ومدَّ ذراعيه يتلقَّى الضربات عمن وراءه من الإخوان، وخصوصا من صغار الطلبة، (مثل محيى الدين عطية).
وحديثه عن الشيخ عبدالمعز عبدالستار، وهو يقول للجنود، وهم يضربونه بعصيهم الغليظة: اضربوا يا كلاب، اضربوا يا أنذال. وحديثه عن الشيخ فرغلى، ومصطفى مؤمن، وسعيد رمضان، وحسن دوح، وغيرهم وغيرهم.
حسان وحسن البنا: أما حديثه عن الأستاذ البنا فهو حديث المعجب المحب، حديث التلميذ عن أستاذه، والمريد عن شيخه، والجندى عن قائده، والابن عن أبيه، دون غلو ولا تقديس.
وهو يلتقط المواقف الهادية المعلِّمة بحاسته المرهفة، ويختزنها فى ذاكرته طوال تلك العقود، ليخرجها للناس حتى يلتمسوا فيها العظة، ويأخذوا منها العبرة، سواء كانت مواقف تنبئ عن عقل كبير، أو عن قلب كبير.
فمن المواقف التى تدلُّ على كبر عقل الرجل: حسن تخلُّصه من المآزق، والمواقف الحرجة بلباقة منقطعة النظير، بكلمات بلغية معبِّرة.
كما سُئل عن السينما: أحلال هى أم حرام؟ فقال: السينما الحلال حلال، والسينما الحرام حرام.
وحين اعترض العالم التقى الورع الشيخ محمد الحامد الحموى على استخدام الأستاذ البنا لكلمة (الكأس) فى مجال الكرة، حيث حصل فريق من الإخوان على (الكأس)، فقال الشيخ الحامد رحمه الله: إن الكأس تستعمل فى الخمر، فلا ينبغى أن تتَّخذ لدى الإخوان. فقال البنا: لا تغضب، يا شيخ محمد، لقد حصل الإخوان على (القدح)!
ومن المواقف المؤثِّرة التى حكاها حسان فى إحدى الكتائب التى أقامها قسم الطلاب، والتى كان يشهدها ويشارك فيها الأستاذ بنفسه: أنه استأذنهم لمدة ساعة، ثم عاد ليكمل برنامج ما قبل الفجر إلى نهاية الكتيبة.
وبعد انصرافهم قال حسان لبعض رفقائه: كأنى لحظتُ على وجه الأستاذ مسحة من حزن! فأنكروا ذلك.
وفى الساعة العاشرة اتصل الإخوان بهم ليدعوهم إلى جنازة ابن الإمام الشهيد حسام، فقد استأذن الإمام تلك الساعة ليودِّعه ويغطيه ويعود لاستكمال ما بدأه. وهذا ما لا يقدر عليه إلا الصديقون. نرجو الله أن يكون منهم.
رجل الاعتزاز والتسامح: وهو كذلك رجل مسلم شديد الاعتزاز بدينه، مستمسك بعروته الوثقى، ملتزم بمثله العليا، يؤمن به ويدعو إليه عقيدة وشريعة، ودينا ودنيا، ودعوة ودولة، وحقّا وقوَّة، ويقف عند حدوده، وينزل على أحكامه، ولا يجد فى نفسه حرجا منها، بل يسلم تسليما.
وهو يؤمن بأن هذا الدين هو سفينة الإنقاذ للبشرية، وفيه خلاصها مما تعانيه من الفلسفات المادية والإباحية، ومن أخطار الأيدولوجيات والأنظمة الوضعية التى أشقت البشر، ومن طغيان الأقوياء على الضعفاء الذى يهدد العالم. ومع هذا لا يدفعه هذا الاعتزاز والالتزام إلى التعصُّب ضد الآخرين، أو التنكر لحقوقهم، أو الإزراء عليهم، بل نجد موقفه مع الأقباط ــ نصارى مصر ــ فى غاية العدل والإنصاف، منطلقا من القرآن الكريم الذى أمر ببرهم والإقساط إليهم {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} )الممتحنة:8)، ومن السنة النبوية التى أوصت بأقباط مصر خاصة، فى عدد من الأحاديث.
حتى إن بعض إخوانه أطلقوا عليه من باب المزاح (الأب) حسان! وقد كتب فى مجلة الإخوان الإسبوعية مقالا بعنوان (أخى جرجس)، ورد عليه القمص سرجيوس الكاتب القبطى الشهير فى مجلة الأقباط، يبادله تحية بتحية، ووُدّا بوُدٍّ، وهو فى هذا ينطلق من حيث انطلق شيخه ومرشده الإمام البنا رحمه الله، كما وضَّح ذلك بما كتبه حسان فى مذكراته، فى فصل (نحن والأقباط).
وأكثر من ذلك: موقفه من اليهود، ودفاعه عن أسراهم، وقد ذكرنا هذا الموقف من قريب.
رجل طابعه الاعتدال: ومن الدلائل على أن حسانا رجل معتدل حقّا، وليس من أهل الغلو ولا التقصير أنه يجتهد أن يعطى كلَّ ذى حقٍّ حقَّه، لا يغمط أحدا ما قدَّمه من فضل، ولا يضفى على أحد هالة لا يستحقُّها. لا يبالغ فى المدح إذا احتاج إليه، ولا يذمُّ أحدا إلا إذا ألجأته الضرورة، وفرضت عليه الحقائق المُرَّة ذلك، وقد يذكر الشخص بالوصف لا بالاسم، أو بحروف اسمه الأولى عند اللزوم أو نحو ذلك.
وقد ينتقد نفسه فى بعض الأحيان، كما فعل حين كان طبيبا فى قرية بهوت، ودعاه البدراوى باشا إلى العشاء مع مهندس الرى والمفتش الزراعى، ولكنه اعتذر، وبقى فى محبسه. قال: لكننى كنتُ حساسا أكثر من اللازم فى موضع حفظ الكرامة، ويخيِّل لى بالنظرة الخلفية: أنه لم يكن علىَّ غبار أن أذهب وأتعرَّف بالناس.
وقد تعرَّض فى كثير من المواقف فى مذكراته لإعطاء الرأى فى كثير من المواقف والشخصيات والأحزاب. فقد تحدث عن (الملك) الذى كان أحب الناس إلى شعبه، فأمسى ــ بسوء سلوكه ــ أبغضهم إليه.. وتحدث عن حزب الأغلبية (الوفد) وموقفه من الإنجليز والرأى والدستور، وعن أحزاب الأقلية، التى تحكم مصر بالانتخابات المزوَّرة كلما أراد الملك أن يتخلَّص من الوفد، لكثرة الفساد والمحسوبية.
وتحدث عن قضية فلسطين وعن دخول الجيوش العربية السبعة فيها، وقال: يا ليتها لم تفعل.. وتحدث عن الأسلحة الفاسدة.. وتحدث عن بطولة المتطوِّعين من الإخوان.
وتحدث عن الإخوان وعن نظام (الكتائب) التربوى الفريد، وقال: وما زلت أعتقد اعتقادا راسخا بأن الحركة الإسلامية لن تحرز النجاح إلا إن بدأت من هذه البداية: تكوين اللبنات الصالحة. أما البداية من النشاط السياسى، أو العسكرى أو المذهبى، فهو بداية المرحلة من منتصف الطريق، وشروع فى البناء من غير حفر أساس.
وفى فصل (السؤال الأخير) الذى ختم به هذه المذكرات تحدث عن رأيه فى (النظام الخاص)، وفى الديمقراطية وفى الحضارة الغربية، وحديثه هنا ــ وإن كان خارج نطاق الذكريات ــ حديث المهموم بشئون أمته، وهموم دعوته، وأنا معه فيما ذهب إليه من جملة الأفكار، وقد سجلت ذلك فى أكثر من كتاب لى: فتاوى معاصرة، أولويات الحركة الإسلامية، من فقه الدولة فى الإسلام، وفى مذكرات ابن القرية والكتاب، وغيرها.
حسان يتحدث عن حياته: ولقد تحدث حسان عن نفسه وعن نشأته حديثا موجزا، ولكنه نافع وممتع فى كتابه (بهذا ألقى الله: رسالة إلى العقل العربى المسلم)، فقال:
(ولدت فى بلدة شبين الكوم فى دلتا النيل بمصر. نشأة الريف وسماحته وطيبته، الصفصافة التى أسدلت فروعها فى مياه بحر شبين، وكأنها عروس حلت ذوائبها الطوال. والساقية والنورج والحقول المعطاء الخضراء، وبحر شبين الذى كنت أظنه أكبر حاجز مائى، رغم أنه كان يجف فى الشتاء فنعبره سيرا على قاعه، حتى انتقلنا إلى القاهرة، فرأيت النيل أكبر، وزرت الإسكندرية، فرأيت البحر أكبر وأكبر، وما زال الأفق ينداح أمامى طوال الحياة.
الوالد شاعر رقيق، وأديب ضليع، وفيلسوف هادئ، لم تستطع سراء ولا ضراء أن تمثل له الدنيا بأكبر من حجمها، ومخزون لا ينفد من سرعة البديهية وحلاوة النكتة، وبهجة المحضر، حتى كانت الناس تجتمع على محضره كالفَراش.
والوالدة شعلة لاهبة من الوطنية، أسهمت فى الجهاد للوطن، وكانت أول من قاد مظاهرة نسائية فى بلدتنا المحافظة المتواضعة، احتجاجا على الاحتلال الإنجليزى، خرجت من المسجد العباسى، وسارت إلى كنيسة الأقباط، ولما تزوجَتْ وأنجبتْ أرضعتْ ولديها وغذتهما حب الله وحب الوطن.
ووفقنى الله فى دراستى وحصلت ما جعلنى أستاذا ورئيس قسم فى مادة تخصصى.
وتزوجت من اخترتها على نساء العالمين، وقررت أن أتزوجها أول مرة أراها فيها، وأبلغتها بهذا القرار، يقصد زميلته الدكتورة سلوناس.
وفقدت ابنتى الأولى فى حادث سيارة، فلما قرأت البرقية قلت على الفور: (اللهم إنى أعلم أنك تنظر إلى وملائكتك.. اللهم إنى أعلم أنك تختبرنى فأرجو أن أنجح فى الاختبار. اللهم إنى أعلم أن الناس تستوى بعد سنة، ولكن الاختبار فى الوهلة الأولى. اللهم إن كنت رضيت لى هذا فإنى رضيت. إنى رضيت. إنى رضيت. اللهم إنها كانت وديعتك لدينا فأصبحت وديعتنا لديك).
وشهدت حربا (يعنى حرب فلسطين 1948م) فشهدت قسوة الإنسان على الإنسان. وأحسست الموت يمر على مسافة سنتيمترات منى فى زخّات الرصاص، فعلمت ألا يصيبنى إلا ما كتب الله لى. وعهد إلى بجرحى من أسرى العدو فعاملتهم أكرم معاملة.
وأصاب معدتى مرض خبيث فلم أقل: ولماذا أنا! فمن الأنانية أن تطالعه فى الناس بهدوء، فإذا أصابك جزعت! وجاء شبح الموت فقلت: ومن ذا الذى لا يموت؟ وسبحان الحى الذى لا يموت!! وماذا عليّ لو وصلت إلى الشاطئ ونعمت فى أكرم جوار!
وأخذت العلاج فاشتدت عليّ وطأته، فقلت: لا بد أن أدفع البأس بالبأس، فألفت كتابا بالإنجليزية اسمه (قراءة العقل المسلم)، ونجح الكتاب كوسيلة دعوة تطلع غير المسلمين (والمسلمين) على الوجه الحقيقى للإسلام.
وزال المرض والحمد لله، إلا أن العلاج ترك بصمته على قلبى، لكن ما دام ينبض، فالحياة مستمرة والجهاد قائم، فقد قررت ألا أموت قبل أن أموت.
وتوافر لى فى حياتى ما لا يتوافر للكثيرين من معلمين ومرشدين ونماذج ناصعة، فى الإيمان والمثالية الطيبة ونقاء القلب وخدمة الناس، رحمهم الله جميعا.
وعشت فى الكويت فترة طويلة. وللكويت عليَّ يد لا تنسى، ليست الوظيفة وليس الراتب، فكان فى وسعى مثل ذلك وأزيد، ولكن فى وقفة وفاء لم يعلم بها إلا الأقلون من رجال الكويت، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.
وعوضنى الله خيرا كثيرا، وكان فضل الله عليّ عظيما.
انتقاله من الكويت للدعوة فى أمريكا: ويكتب حسان بقلمه عن الدوافع التى جعلته يستقيل من عمله بالكويت ليتفرغ للدعوة إلى الإسلام فى أمريكا، فيقول: (والذى صاحبنى طوال حياتى حبى للإسلام، أحمل اسمه، وأحمل همه، وأعمل له. ودلتنى زياراتى على أن الإسلام فى أمريكا فرصة حقيقية وتاريخية، إن ضيعناها فهى شيمتنا وما أكثر ما ضيعنا. وإن انتهزناها فربما أفضى ذلك إلى منعطف تاريخى يفيد أمريكا، ويفيد العالم، ويفيد المسلمين وقضايا المسلمين.
فاستقلت من عملى بالكويت وسافرت لأمريكا وطويت سجل العمل الطبى (الذى عشقته ولا أزال)، وقلت: أقصر شريحة من عمرى على خدمة الإسلام، وأنتهزها فرصة فى زمن الاستطاعة، وأربعون سنة من الطب إسهام واف، والحمد لله.
وأفضل خدمة للإسلام فى أمريكا (وفى غيرها من البلاد مسلمة أم غير مسلمة) هو أن يعيشه الإنسان بإخلاص، ويحسن عرضه على الناس. وأحببت أمريكا وإن كان بها فساد كبير، على مستوى الأخلاق، وعلى مستوى السياسة. لكنها تتيح قسطا من الحرية فى خدمة الإسلام لا يتوافر فى أكثر بلاد المسلمين. وحيث تكون الحرية (حرية الصلاح والفساد) فالإسلام هو الرابح على المدى البعيد، وحين تغيب الحرية فالإسلام أول خاسر وأكبر خاسر).
اتصلت به مرة بعد مدة من استقراره فى أمريكا، وسألته عن همه ونشاطه فى تلك المرحلة، فقال: همنا الآن هو بناء (المدارس) لنربى فيها أبناء المسلمين على الإسلام الصحيح، بجوار تعلمهم ما تقدمه المدارس هناك. إن الجيل الذى سبقنا كان همه بناء المساجد، ولكن إذا لم نرب للمساجد رجالا يعمرونها ويحرسونها، سيأتى جيل يبيع المساجد للنصارى، كما باع النصارى لنا كنائسهم، لنحولها إلى مساجد ومراكز إسلامية.
وصدق رحمه الله، فالمساجد وحدها لا تكفى للإبقاء على إسلام الناس حيا قويا، ما لم تسنده مؤسسات أخرى، تحافظ على هوية الجماعة المسلمة، وبخاصة المؤسسات التربوية. وقد ألَّف بعد مرضه كتابه (قراءة فى تاريخ العقل المسلم)، بلغته الإنجليزية الجميلة، ليخاطب به العقل الغربى، ويقنعه بجمال الإسلام، وقد كان للكتاب أثره فى كثير من الأمريكان، الذين أدهشتهم حقائق الإسلام، وطبع عدة مرات.
كما استطاع أن يؤثر فى الكثير من المسيحيين حتى دعوه مرارا إلى كنائسهم، كما استطاع أن يقيم تحالفات شتى مع مؤسساتهم الدينية، مثل: (التحالف ضد الأسلحة النووية)، و(التحالف ضد الإجهاض)، وغيرهما.
خوفه على المسلمين وأمله فى الصحوة الإسلامية: وهو ـ مع وجوده فى أمريكا ـ يعيش أبدا حاملا لهموم الأمة المسلمة، حريصا على أن تحيا بالإسلام وللإسلام، قوية ناهضة، مكانها فى الرأس لا فى الذيل، وإن كان الواقع يصدمه بغير ما يتمنى، يقول:
(وأطالع الإسلام على خريطة العالم، فأطالع ما يسر وما يسوء. وأتأمل أحوال المنتسبين إلى الإسلام، فأجد فيهم من يخدم الإسلام وأجد منهم من يؤذيه). وقديما هشت الدبة الذبابة عن وجه صاحبها بحجر. وربما رأيت من يرفع العقيرة حماسا لكن وقود حركته الكره والبغض وربما طال أذاه الأبرياء بل قتل الأطفال والنساء .. وهو يحسب ذلك جهادا وما هو بجهاد .. {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا} (الكهف:103،104).
والظاهر حقا أن عدوا عاقلا خير من صديق جاهل. وبين الفصائل المحسوبة على الإسلام الآن من أصبحت بصدق أخاف أن يصلوا إلى الحكم أو يتقلدوا السلطة.
يرى د. حسان أننا نعيش عصر الصحوة الإسلامية، وهذا حق، ولكنه يرى أن الصحوة فى حاجة ماسة إلى تعليم وترشيد قويين. وإسهاما ــ متواضعا ــ فى هذا السبيل أصدر كتابه (رسالة إلى العقل المسلم) قال: أكتبه وأنا على قمة عمر جاوز السبعين، وتمرس كبير بقضية الإسلام فى الشرق والغرب.. وعقل أرجو القارئ ألا يسىء الظن به، وقلب من يعرفه لا يشك فى إخلاصه. ولعله إضافة إلى جهود رجال مؤمنين، وأساتذة علماء ودعاة هداة، نذروا أنفسهم لخدمة الإسلام والذود عنه من الداخل والخراج، ولا يخالجنى ريب فى أن جهودهم ستكلل بالنجاح، وأن العاقبة للتقوى، وأن الله سيلهمهم حسن الإجابة يوم ينشر الحساب ويقول الله: أعطيتكم الإسلام، فماذا فعلتم به وماذا فعلتم له؟
وكان مما ركز عليه حسان فى كتابه ذاك: قضية (الحريات) وهى مضيّعة فى عالمنا العربى والإسلامى، مع أنها مدخل ضرورى لكل تغيير وإصلاح، وهو يعيب على كثير من المسلمين بأنهم ضيّقوا الإسلام الواسع والكبير، فكادوا يجعلونه لحية للرجل، وحجابا للمرأة، وضيّقوا الشريعة، فحصروها فى الحدود والعقوبات. ويؤكد أنهم لم يفهموا الشريعة على حقيقتها، فهى رحمة قبل أن تكون عقابا، وهى تصنع الضمير قبل أن تنزل العقاب.
ومع هذا يضيء مصباح الأمل أمام العاملين للإسلام حتى لا يقنطوا، أو يكسلوا، فيقول: ولقد يضيق الصدر أحيانا بوعورة الطريق، وانتكاس المسار، لكن الحصيلة – والحمد لله – تقدم ملموس فى مسيرة الإسلام، ومؤشرات ومبشرات بأن الله يغفر ما فات، ويصلح ما بقى إن شاء الله. وعلى زمان النبى عليه الصلاة والسلام كان يخطب الجموع بغير مكروفون أو مذياع فيدعو الله قائلا: «اللهم أسمع عن عبدك».
وهو دعائى وأنا أطرح هذا الكتاب على الناس: اللهم أسمع عن عبدك.
قالت زوجته الدكتورة سلوناس حينما اتصلت بها لأعزيها: لقد كان فى الفترة الأخيرة قوى الصلة بمولاه، مستعدا للقائه سبحانه، وكان يردد: إنى فى شوق إلى لقاء ربى.
وأحسب أنه تعالى قد استجاب لدعائه الخاشع، الذى قدم به كتابه (بهذا ألقى الله) وفيه يناجى ربه بقوله:
اللهم اهدنا واهد بنا
واجعل سعينا خالصا لك
اللهم هون علينا بقاءنا فى الدنيا
وهون علينا الخروج منها
واجعل خير أيامنا يوم نلقاك
عبدك الفقير إليك ــ حسان حتحوت
اللهم اغفر لعبدك المحب لك ولخلقك حسان حتحوت، وتقبله فى عبادك المقربين، وأسكنه الفردوس الأعلى مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واجزه خيرا عما قدم لدينه وأمته، واخلف أمتنا فيه خيرا. واجعله ممن رضيت عنهم ورضوا عنك. آمين.
لمحة عن حياة حسان:
ولد حسان فى مدينة شبين الكوم عاصمة المنوفية بمصر، فى 23/12/1924 فى بيت كريم، معروف بالوطنية أما وأبا، وقد كان والده مدرسا للغة الإنجليزية، كما كان شاعرا مجيدا. ومنذ كان طالبا فى الثانوى كان يخطب فى الطلاب، ويقودهم فى المظاهرات ضد الإنجليز، ثم انضم إلى الإخوان سنة 1941م، وكان له نشاط قيادى فى قسم الطلاب.
وقد التحق حسان بكلية الطب فى جامعة القاهرة وأنهى دراسته بها، وتخصص فى طب النساء والولادة، وحصل على دبلوم التخصص من نفس الكلية عام 1952م. ثم حصل على درجة الدكتوراه، ثم الزمالة من إنجلترا فى علم الأجنة، وعمل فى مستشفى الدمرداش بالقاهرة لمدة سنة، ثم بالقسم الريفى فى قرية بهوت، مركز طلخا، التابعة لمديرية الغربية فى ذلك الوقت.
ومن مصر انتقل إلى العمل فى عدة دول عربية، منها السعودية لمدة ثلاث سنوات، ثم انتقل للعمل بالكويت، وهناك مكث فترة طويلة، شارك خلالها فى تأسيس كلية الطب، ورئاسة قسم أمراض النساء والولادة، كما شارك فى النشاط الثقافى والدعوى والاجتماعى، وكان محترما محبوبا من كل من عرفه.
وبعد أن استقر فى عمله بالكويت، نسى ما أصابه فى المعتقل، وأرسل إلى المباحث العامة المصرية يطلب العودة إلى مصر، ليشارك بجهده وعلمه وخبرته فى خدمة بلده، فرحبت به السلطات المصرية، وعاد مدرسا بطب عين شمس عام 1961م، ثم بجامعة أسيوط الجديدة عام 1963م، وخلال هذه الفترة عمل على دعم العلاقة الودية بين المسلمين والأقباط، خلال محاضراته ودروسه حتى أحبه الجميع، ولكن كل هذا لم يكن شفيعا له، إذ تم اعتقاله عام 1965م، بناء على القرار الشهير الغريب الذى أصدره عبدالناصر، وهو قرار (اعتقال كل من سبق اعتقاله). واستمر الاعتقال عدة أشهر، ورغم عدم تعرض آلة التعذيب لشخصه، لكنه عايش وسمع ورأى بعينيه عمليات التعذيب الرهيبة، والتى عرفت باسم (المحرقة)، وخرج بعدها ليسافر إلى الكويت مرة أخرى، مقررا عدم العودة إلى مصر ثانية.
مقالة كتبها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي ، نقلاً عن : www.shorouknews.com