مقال للأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار … بعنوان : محاربة الأشباح

محاربة الأشباح
الجمعة 20 جمادى الأولى 1430 الموافق 15 مايو 2009
د. عبد الكريم بكار

العولمة لا تقوم على تسهيل انتقال الأفكار والمفاهيم والأموال والنظم فقط، بل تقوم على تسهيل انتقال طرق الفساد وأساليب الغش والجرائم الاقتصادية أيضاً، ومن هنا فقد بات من واجبنا جميعاً العمل على نشر ثقافة جديدة يمكن أن نسميها ثقافة الشفافية أو ثقافة مكافحة الفساد، وذلك لأن الفساد المالي والإداري داء يفتك بكثير من مجتمعاتنا، ويتحمل الفقراء والضعفاء أسوأ الآثار المترتبة على انتشار ذلك لكن من المهم أن نعترف أن محاربة المفسدين هي عبارة عن معركة نطارد فيها أشباحاً لا تُرى، فوسائل الفساد وأساليبه باتت معقدة غاية التعقيد وخفية وملتوية، ويحتاج كشفها فعلاً إلى الكثير من الجهود الجادة والواسعة.

ولعلي أضيء هذه المسألة من خلال الإشارات التالية:

يشير تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام (2008) إلى شيء مؤسف ومخجل بالنسبة إلى العالم الإسلامي، حيث إن المتوقع أن يكون للإيمان بالله ـ تعالى ـ و لاعتناق المبادئ والقيم الإسلامية تأثير كبير جداً في استقامة المسلم ونزاهته وحرصه على الكسب المشروع، هذا هو المتوقع والمأمول، لكن التقرير المشار إليه يقول غير ذلك، وقد كان من جملة ما أشار إليه التقرير الآتي:

1ـ أفضل دولة عربية في الشفافية ونزاهة موظفي الدولة تحتل المرتبة الثامنة والعشرين بين الدول التي تناولها التقرير، وعددها ( 180 ) دولة.

2ـ معظم الدول الإسلامية لم تتمكن من الحصول على أربع نقاط من عشرة نقاط، على حين أن بعض الاسكندنافية بالإضافة إلى سنغافورة حصلت على ( 3/9) من النقاط.

3ـ إذا نظرنا في وضع أكثر ثماني دول فساداً وبعداً عن الحكم الصالح وجدنا فيها أربعاً من الدول العربية والإسلامية، وهذا شيء مؤسف للغايةّ!.
4ـ يلاحظ أن هناك نوعاً من الارتباط بين حجم الدولة وحجم انتشار الفساد، فالدول الأقل حجماً هي الأكثر نزاهة واستقامة، والدول الأكثر سكاناً هي الأكثر فساداً، ولهذه القاعدة استثناءات قليلة.

5ـ تشكل البلدان الأشد فقراً والبلدان المحرومة من الاستقرار الداخلي محضناً مناسباً جداً لنمو الفساد.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما الذي على الأمة أن تفعله من أجل مكافحة الفساد ومحاربة المفسدين ؟

أود أن أقول في البداية إن هذه المسألة معقدة جداً، ولهذا فإنها تحتاج إلى الكثير من الحلول المركبة والوسائل الإبداعية، ولعل منها الآتي:

1ـ الحل الاستراتيجي للفساد والانتصار عليه يتمثل في حرمانه الرئة التي يتنفس بها، وهذه الرئة هي وظائف القطاع العام، حيث إن الواقع يشهد أن الفساد المالي والإداري الموجود في الشركات والمؤسسات والدوائر الأهلية والخاصة هو أقل بكثير من الفساد الموجود في القطاعات الحكومية، ومن هنا فإن تقليص الأعمال التي تقوم بها الحكومات سيؤدي إلى تقليص أعداد الموظفين، والقاعدة الأساسية في هذا: تقوم الدولة بالأعمال التي يعجز عنها المواطنون كما تقوم بتلك الأعمال المتصلة بأمن البلاد مثل بعض الصناعات الاستراتيجية وبعض الشؤون الأمنية ومثل القضاء وما يستلزمه من مؤسسات….

2ـ ضرورة إفصاح موظفي الدولة ذوي المراكز المتوسطة والعالية عن

ذممهم المالية وعما لديهم من ممتلكات، ومراقبة حركة تلك الذمم من قبل جهات رقابية ومحاسبية طوال مدة الوظيفة، وتطبيق مبدأ (( من أين لك هذا ؟)) بعزم وحزم.

3 ـ الفساد ابن الظلام وسليل التستر والتواطؤ الخفي، وأفضل طريق لمحاربته هو أن نرتب أمورنا على أن يكون كل شيء في النور، ومن هنا فإن الدول التي نجحت في مكافحة الفساد وتحسين مستوى النزاهة والشفافية قد عمدت إلى وضع تشريعات تتيح لكل من له صلة بعمل دائرة أو جهة حكومية الاطلاع على محاضر اجتماعاتها والوصول إلى المعلومات التي يحتاجها من أجل الوصول إلى حقه، وفي الولايات المتحدة ـ مثلاً ـ من حق كل مواطن الاطلاع على محاضر اجتماعات ( البيت الأبيض ) مقابل دولار واحد يدفعه. وأعتقد أن مما يساعد على ذلك أن يكون لكل جهة حكومية ناطق رسمي باسمها يتحدث عن كل أعمالها، ويكون مستعداً لمحاورة الإعلاميين حول أعمال الجهة التي ينطق باسمها ؛ كما أن من المهم أن تُلزَم كل جهة حكومية بالرد على التساؤلات والاتهامات الموجهة إليها، ويكون الرد في نفس الوسيلة الإعلامية التي نشر فيها التساؤل…

4ـ الفساد المالي والإداري هو شيء أكبر من أن تكافحه لجنة أو جهة واحدة، ولهذا فإن جزءاً مهماً من الأعمال التطوعية والاحتسابية ينبغي أن يقوم به الناس، وفي هذا الإطار أرى أن من المهم أن تقوم لجان و جمعيات و مؤسسات شعبية بعدد المؤسسات والقطاعات المهمة مثل: الصحة والبنوك والنقل والبلديات والجمارك والضرائب والصناعة والزراعة….

وتكون مهمة كل واحدة منها العمل الدؤوب على متابعة كل ما يجري في القطاع الذي قررت الاحتساب عليه واعتقد أن علينا أن نتنافس في التطوع في هذا الأمر لأنه مع انتشار الفساد لن يكون هناك استثمار ولا تنمية ولا عدالة، ولن تكون هناك بالتالي حضارة ولا كرامة وطنية

كُتب في المناهج | التعليقات على مقال للأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار … بعنوان : محاربة الأشباح مغلقة

رحيل أمة في رجل .. العلامة الطبيب حسان حتحوت في ذمة الله

هناك رجال من طراز فريد ، ومنهم العلامة المفكر والطبيب الشاعر والداعية الفذ والمجاهد المحتسب (ولا نزكي على الله أحداً ) حسان حتحوت رحمه الله . وقد أضحى في ديار الحق وانتقل من ديار الفناء بتاريخ 26 نيسان 2009م ، ولم نجد له ترجمة خيراً مما كتبه بحقه رفيق دربه العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله. اللهم ارحم فقيدنا واخلف الأمة عنه خيراً وإن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ودعت الأمة الإسلامية، والدعوة الإسلامية، من يومين أو ثلاثة، علما من أعلامها الفارعة، ونجما من نجومها الساطعة، ولسانا من ألسنتها الناطقة بالصدق، وعقلا من عقولها المفكرة بالحق، وقلبا من قلوبها النابضة بالحب، ودّعت الطبيب النابغة، والعالم المتمكن، والكاتب البليغ، والشاعر المطبوع، والداعية المؤثر، والإنسان الرائع، الأستاذ الدكتور حسان حتحوت، الذى وافته المنية فى لوس أنجلوس فى الولايات المتحدة، بعد عمر حافل بالعطاء بلا منّ، وبالجهاد بلا كلل، وبالبذل بلا انتظار مكافأة من أحد: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (الليل:19ـ21).

وصف هو هذه الحياة بقلمه البليغ، فقال: إنها حياة ليس فيها مجال للملل، ولم يكن فيها للعبث مجال، يمد الناس أيديهم ليأخذوا، وأمد يدى لأعطى!

يتحيّر من يرثى حسانا أو يؤبنه، عن أى جانب من جوانب هذه الشخصية الفذة، وأى ناحية من نواحى حياته العامرة بالخير والبركة يتحدث، وهو أمة فى رجل؟

أيتحدث عن حسان الطبيب الذى نبغ فى طبه، وأحب مهنته، وأعطى لها حقها، فأحبه مرضاه، واعتبروه أبا لهم، لأنه لم يكن يرى الطب تجارة وكسبا، بل يراه رسالة ورحمة. ولم يكن يتعامل مع المريض على أنه جسد، بل يتعامل معه على أنه نفس إنسانية، تحتاج إلى البسمة الصادقة، والكلمة الطيبة، كما تحتاج إلى التشخيص الجيد، والدواء الملائم. فلا غرو أن كانت بشاشة وجهه، وحلاوة لسانه، وحسن معاملته، وصدقه مع نفسه، وتقواه لربه، من أدوات علاجه، مع الأسباب المعتادة.

ومن المعلوم أن تأثير النفس فى الجسم أمر أقره العلم، وأقره الدين، وأقره الواقع.
أم نتحدث عن حسان العالم الذى يشهد له المتخصصون أن له باعا فى اللغة والنحو والأدب، وباعا فى الفقه والدراسات الإسلامية، بجوار تضلعه فى العلوم الطبيعية؟ وقد كنا ــ نحن علماء الشريعة واللغة العربية ــ نسمع له بإعجاب من سعة اطلاعه، وحسن فهمه فى هذه المجالات.

أم نتحدث عن حتحوت الكاتب، الذى كان الكثيرون ينتظرون مجلة العربى، ليقرأوا خواطره الحية المعبرة عن عقل متألق، وشعور متدفق، وقلم متأنق، يخاطب الكيان الإنسانى كله: يقنع العقول، ويحيى القلوب، ويقوى الإرادات. ويعنى بالبشر كافة، عربهم وعجمهم، مسلمهم وغير مسلمهم، شرقيهم وغربيهم، متقدمهم ومتخلفهم، ويجتهد أن يعالج مشكلاتهم كلها، المادية والمعنوية، الدنيوية والدينية، فليس من طبيعته ولا من أخلاقه التعصب إلا للحق؟

أم نتحدث عن حتحوت (الشاعر) المطبوع، الذى ورث الشاعرية عن أبيه، ولذا كان هو وشقيقه ماهر شاعرين مجيدين وإن كان حسان أغزر وأشهر وأبهر، ومما عرفنا من شعر والده: الأبيات الجميلة التى ودع بها حسانا، وهو ذاهب إلى أرض فلسطين:

اهبط على أرض السلام جعلت يا ولدى فداك
ضمد جراحات العروبة سدد المولى خطاك
وامسح دموع الثاكلات عساك تسعدها عساك
واذكر فلسطين الجريحة وانس أمك أو أباك
إنى وهبتك للجهاد وأين لى سيف سواك؟

وقد ضاع الكثير من شعره، ولكن ما بقى منه أصدره فى ديوان (جراح وأفراح) الذى أسعدنى بإهداء نسخة منه إلىّ. ومن روائع شعره قصيدة:
(من وراء الأسوار)
الذى كتبها، وهو فى سجن أبوزعبل ــ طرة 1965، وفيها يقول:

إلى رحمة الرحمن أشكو وأفـزغُ
سقتنى الرزايا كأسها وهو مترع
ألا إن ركن الحر فى الخطب قومه
فماذا إذا ما خانه القوم يصـنع؟
لقد كان لى فى عز قومى مطمـع
فأضحى لقومى فى هلاكىَ مطمع
وقد أزمعوا أمرا علـىَّ وقـدَّروا
فبئس الذى قد قدروه وأزمعـوا
وما أسفى للقيد فـى الرُّسـغ إنما
لقيد أرى فيه بـلادى تمـزَّع!
وما كربتى سجنى ولكنَّ كـربتى
لسجن أرى فيه الملايين تقـبع!
وُلدنا من الأرحام أحـرار أنفـس
وترضعنا مصر الإبـاء فنرضع
فما بالنا صارت تروَّض أُسْــدُنا
فتغدو كأسد السِّرْكِ تعنو وتخضع؟
إذا ما فقدت الظفر والناب لا تقـل
أنا أسـد بل أنت كبش مطـوَّع!
إذا الشعب رَّبوْه على خشبة العصا
فماذا لدى سـاح الوغى نتوقـع؟
إلام تظل الأُسد رهن سجـونـها
وأبناء آوى فى الكـنانة ترتـع؟
إلهىَ طـال الليل ظلما وظلمـة
فهل تأمر الصبح المبين فيطلـع!
فليس لها من دون صنعك كاشف
وليس لنا من دون بابك مرجـع

ومن شعره فى (العاطفيات) قصيدة:
(نسمة حب)
أنا بالكلية بالقاهرة.. وهى بالشرقية بالإجازة.. وهبت نسمة هواء شرقية ذات ليلة صيف ــ 1946م

وســارية بالليل قلت لـها هبّى
صبت نحوها روحى وخف لها قلبى
معـطَّرة فـوَّاحـة فـكـأنــما
على من أتت من عند حيهمو تنبـى
هـموس أحـاديث الصبابة كلــما
تصدت لها إصغاءة الفنن الرطـب
من الشرق هبت تحمل الحب هل أتت
تعود فتى قد شفه الحب فى الغرب؟
أقول لها هاتى الحديث وصارحــى
فقد نامت الدنيا سـوى مقلة الصب
ألا كيف هم مذ فـارق الدار ركبهم
وفارقنى قلبى.. وراح مع الركـب
وقد همست بى نسـمة الليل همسة
سلاما وبـردا فهى للـروح كالطب
بأن الهوى حى وأن أحبتـــــى
يسيرون فى شرع الوفاء على دربى

ومن روائعه فى المدح النبوى قصيدة:
(فى ذكرى المولد النبوى الشريف)
ذكرتك فى ليلـة المولـد
ونارى فى القلب لم تخمد
ذكرتك يا أشرف المرسلين
ويا خير هاد لمن يهتدى
ذكرتك والقدس فيه اليهود
يعيثون بالنار فى المسجد
ذكرتك والهام فوق التراب
وقد كانت الهام فى الفرقد
ذكرتك والوطن اليعربى
تعيث به نزوة المعتدى
ذكرتك بـانىَ أركـانه
ولو لم يضيعك لم يهدد
ذكرتك والقـوم فى فتنة
كما لم تظن ولم تعهـد
ذكرتك فى أمة لم تصنك
فوا خجلتا منك ياسيدى

أم نتحدث عن حسان (الداعية) الموفق، الذى هيأ الله له القبول، بالعقول تفهمه، والقلوب تحبّه، والعزائم تستجيب له. فهو داعية بلسانه، وداعية بقلمه، وداعية بنثره، وداعية بشعره، وداعية بفكره، وداعية بعاطفته، وداعية بوجهه، وداعية بأخلاقه، وداعية بحسن تعامله. داعية إذا جد، وداعية إذا مزح، داعية إذا تكلم، وداعية إذا صمت، داعية فى المسجد، وداعية فى العيادة، وداعية فى الجامعة، وداعية فى البيت، وداعية فى الطريق.

كان ــ إلى جوار كونه كاتبا وشاعرا ــ محاضرا متمكنا، يحسن إعداد بحثه، وتوثيق مصادره، إيضاح فكرته، وإجادة عرضه، وانتقاء أسلوبه.

وكان خطيبا مفوها، يشد القلوب، ويحرك المشاعر، دون إسراف فى تهييج العواطف، أو التعدى على حق الفكر، وكان سليم الأداء، لا تستطيع أن تمسك عليه لحنة واحدة فى نحو أو صرف. كأنه عربى قح يتكلم بالسليقة، كما قال أحدهم قديما:
ولست بنحوى يلوك لسانه
ولكن سليقىّ أقول فأعرب!

وكانت عدته ثقافة إسلامية رصينة، حصلها من صلته الباكرة بدعوة الإخوان وقربه من مؤسس الدعوة ومرشدها العام حسن البنا، وقد كان له مكانة عنده، كما كان حسان يعتز بتتلمذه على حسن البنا، ويرى فيه المعلم القوى الأمين، والمربى الأسوة، والقائد البصير. ثم أكملها بالقراءة والاطلاع، مع قريحة وقادة، وعقلية نقادة.
أم نتحدث عن حسان (الإنسان) الذى لا يمارى صديق ولا عدو ولا قريب ولا بعيد، ولا مسلم ولا غير مسلم، فى إنسانيته التى وسعت الجميع فى رحابها، وأظلتهم بظلالها، وهو يستمد هذه الإنسانية من صلب الإسلام، كما فهمه نظرا، وآمن به اعتقادا، وعاشه عملا. ويرى أن الإسلام (دين إنسانى) بكل ما تعنيه الكلمة من الإخاء والحب والمساواة والرحمة والبذل والتعاون والتكافل والتسامح.

وكانت عنايته بالإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن عرقه أو لونه أو وطنه أو لغته أو دينه، أو مذهبه أو طبيعته، أو غير ذلك مما يفرق الناس بعضهم من بعض. وكيف لا وقد رأى النبى صلى الله عليه وسلم يقوم واقفا لجنازة يهودى، فقالوا له: يا رسول الله، إنها جنازة يهودى! فقال: «أليست نفسا»؟!.

ولا غرو أن حسان كان نبعا ثريا للحب لا يغيض ولا ينقص، كان الداعية الأول للحب، حب الناس كل الناس، وإطراح الكراهية والبغض، فإن البغضاء هى الحالقة، وكان يروى عن إمامه حسن البنا أنه كان يقول: سنقاتل الناس بالحب! يقول حسان: أنا إنسان محب، وأحب الحب، وأعتقد أنه إذا كانت المسيحية الحقة تقول: (الله محبة) فأنا كذلك أرى أن الله أوجز الإسلام كله فى كلمتين، وذلك فى خطابه لرسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107).

وأذكر أن آخر لقاء ضمنى بالدكتور حتحوت كان فى مقر منظمة الصحة العالمية فى مصر، حيث كنا مدعوين فيها، من المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية فى الكويت ومن عدد من المؤسسات الإسلامية والغربية، لإعداد (الميثاق الأخلاقى) للأطباء. وفى ختام الاجتماع طلب حسان الكلمة، وألقى فينا خطبة، دمعت لها العيون، ورقت لها القلوب، وكأنها موعظة مودع، كانت كلها دعوة إلى الحب، وترغيبا فى الحب، وتعميقا للحب، وأنه لم يجد أفضل للبشر ولا أنفع ولا أزكى من الحب، ولم يقدر لى أن ألقاه بعدها.
ومن إنسانية حسان: أنه حين ذهب فى سنة 1948م متطوعا للعمل فى فلسطين فى مجاله الطبى والعلاجى، ولاسيما فى إسعاف الجرحى، وعلاج المصابين، جىء بمجموعة من الأسرى اليهود جرحى، ولكن حسانا علم أن القيادة العسكرية قررت إعدامهم بالرصاص، انتقاما لما ارتكبوه أو ارتكبه قومهم ــ ولا يزالوا يرتكبونه ــ من قتل النساء والأطفال والشيوخ. إلا أن حسانا وقف فى وجه هذا القرار بكل قوة قائلا: لا ينفذ هذا القرار إلا على جثتى. فهؤلاء أسرى جرحى من حقهم أن يعالجوا كما يعالج كل جريح، ولا يحملون وزر قومهم، وقد قال تعالى عن الأسرى: {فَإِمَّا مَنّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} (محمد:4)، وقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينا وَيَتِيما وَأَسِيرا} (الإنسان:8). وغلبت إرادة حسان إرادة الإدارة العسكرية، ونجا هؤلاء وعولجوا حتى شفوا.

وقد عرف اليهود هذا الموقف وتحدثت عنه الصحف الإسرائيلية، وكانت سببا فى الإفراج عن طبيب مصرى كان أسيرا عند اليهود، وزميلا للدكتور حتحوت.

بداية صلتى بحسان: فى الحديث المتفق عليه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الأرواح جنود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف». صدق رسول الله.

تعارف روحى: ويبدو أن رُوحى قد تعارفت مع رُوح أخى حسان حتحوت فى (عالم الذر) كما يسمُّونه، فائتلفت معها: فقد أحببتُ حسانا قبل أن ألقاه، وعرَفتُه قبل أن يعرفنى.

فقد كنا نحن ــ طلاب الإخوان المسلمين فى المرحلة الثانوية ــ نتابع نشاط إخواننا (الكبار) من طلاب الجامعة، نعتزُّ بمواقفهم، ونتغنَّى بأمجادهم، ونطرب لأفراحهم، ونأسى لفواجعهم، ونزهى بنوابغهم.

وكان من هؤلاء النوابغ: مصطفى مؤمن بكلية الهندسة، وسعيد رمضان بكلية الحقوق، وحسان حتحوت بكلية الطب، وكلهم اشتهر بفصاحة اللسان، وبلاغة اليراع. وكانت تأتينا أعداد من مجلة أصدرها إخواننا طلاب القاهرة، اسمها: (الطالب العربى)، وهذا العنوان دليل قديم على عمق الحس العروبى إلى جوار الحس الإسلامى، والحس الوطنى لدى الإخوان.

وكانت المجلة تشتمل على أخبار الطلاب، وعلى بعض كلمات ومقالات وقصائد للنابهين منهم.
ومنها لحسان، الذى يبدو أن والده سماه بهذا الاسم، ليقوم فى الأواخر مقام (حسان) شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم فى الأوائل، فقد عرَفتُ من مذكرات حسان: أن والده كان شاعرا مطبوعا، كما تجلَّى ذلك فى أبياتها التى بعث بها إليه، حين ذهب إلى أرض فلسطين سنة 1948م، لخدمة المجاهدين فى الميدان، وقد سقناها من قبل.

ومما أذكره مما قرأتُه من قديم لحسان فى عنفوان شبابه، يتحدَّث عن القرآن:
هذا الكتـاب، وإنَّ فيه سياسـة
أتراه أمرا فى الكتاب عجيبا؟
إن كان تزعـجكم سياسته دعوه،
ونقِّبوا عن غيره تنقيبـا!
أو فاعرضوه على الرقيب فربَّما
أفتى، فغادر نصفه مشطوبا!
يا قوم سحـقـا للرقيب وأمـره
فكفى برب العالمين رقيبـا!

وحينما اقتادونا إلى الاعتقال فى أوائل يناير سنة 1949م، ووضعنا فى سجن قسم الشرطة، (قسم أول) بمدينة طنطا، وظللنا فيه نحو أربعين يوما، كان من رفقائنا فى السجن المهندس حكمت بكير، الذى جىء به من مقرِّ عمله بمدينة كفر الزيات، وكان من نشطاء طلبة الإخوان فى الجامعة، ويحمل ذكريات طيبة حدَّثنا بها عن إخوانه، وعلى رأسهم حسان، فزادنى ذلك حبّا له، وشوقا إليه. لقاء فى المعتقل:

ثم شاء الله أن ننتقل من سجن طنطا إلى معتقل الطور، وبعد فترة نقلونا ــ نحن طلبة الثانوى ــ من معتقل الطور إلى معتقل هايكستب، وفيه جاءنا حسان، من ميدان الجهاد فى فلسطين إلى المعتقل، وهو ما استغربه حسان من قومه: أن يكون الاعتقال والحبس وراء القضبان جزاءه وجزاء أشباهه ممَّن خدموا أوطانهم، بإخلاص، وعرَّضوا أنفسهم لخطر الهلاك من أجل أمتهم، وأنشد فى ذلك قول طَرَفَة:
وظلم ذوى القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند!

وفى هايكستب عرَفتُه عن كثب، ولقيته وجها لوجه، وجلستُ إليه، واستمعت إليه، وإلى شعره الرقيق، وإلى نوادره وفكاهاته، التى تصدر دون تكلُّف، ورغم أنه كان طبيبا نابها، وكنتُ طالبا فى نهاية المرحلة الثانوية، فلم أشعر فيه قط بتعالٍ أو صلف، بل كان قريبا من الجميع، حبيبا إلى الجميع، بزكاة نفسه، وطهارة قلبه، ورجاحة عقله، وحسن خلقه، وحبِّه لإخوانه، ومسارعته لنفعهم.

ورغم أنه كان فى استقامته كشعاع الشمس، وفى نقائه كماء المزن، وفى صرامته كحدِّ السيف، فقد شعر كلُّ مَن عاشره أو اقترب منه: أنه نعم الجليس، ونعم الأنيس، لخفَّة ظلِّه، ومرح رُوحه، وملاحة نِكاته، وقفشاته التى تصدر منه على البديهة، فى غير إسفاف ولا ابتذال، ولا جرح لأحد.

وبعد أن خرجنا من المعتقل التقينا فى ساحة الدعوة بالقاهرة، ثم فرَّقت بيننا الأيام، وعافاه الله سنة 1954م من (السجن الحربى)، الذى جمع الله به ــ رغم قسوته وما فيه من آلام وعذاب ــ بين كثيرين باعد بينهم الزمن، فقد كان خارج مصر. حتى هيَّأ الله لنا لقاءات ولقاءات فى مرحلة النضج، فى ندوات علمية، ومؤتمرات إسلامية، وخصوصا ندوات (المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية) بالكويت، التى سنَّت سنَّة حسنة فى الجمع بين علماء الفقه وعلماء الطبِّ، للتباحث المشترك فى القضايا الفقهية المتعلِّقة بالطبِّ، وكان حسان من أبرز الأعضاء المؤسِّسين والمشاركين فى هذه الحلقات، بخلفيَّته الإسلامية، وثقافته الشرعية، وبراعته الطبية، وقدرته الأدبية.

وأهم ما عرَفتُه فى حسان خلال تلك المراحل كلِّها، خصال ست، لم تتغيَّر فى شباب ولا هِرَم، وهى: الصدق الذى لا يعرف الكذب، والإخلاص الذى لا يشوبه رياء ولا طلب مغنم، والاستقامة التى لا تعرف العوج ولا الالتواء، والاعتدال الذى لا يعرف الشطط ولا التفريط، والثبات الذى لا يعرف التلون ولا التراجع، والحب الذى يَسَع الموافق والمخالف. كما وصف ذلك هو بقوله: (الصفاء بالمحبَّة لكلِّ الذين لقونى فى حياتى ظالمين أو مظلومين).

رجل يعرف الفضل لأهله: ومَن عرَف حسانا عرَف أنه رجل تميَّز بشعور رقيق، وحسٍّ دقيق، وفَهم عميق. ولأنه رجل أخلاق من الطراز الأول، يقدِّر القيم الأخلاقية حقَّ قدرها، ويعترف لأهلها بفضلهم، وينوِّه بشأنهم، لتتَّخذ الأجيال منهم خير أُسوة. انظر حديثه عن أبيه وأمه رحمهما الله، فى مطلع كتابه المؤثر (بهذا ألقى الله)، وهو يقول عن أمه: إنها كانت أُمَّة. وهو يذكرها أكثر مما يذكر أباه، وهذا يشير إلى أنه لا يحمل عقدة ضد جنس المرأة.
كما وضح ذلك فى حديثه عن زوجته د. سلوناس، التى يقول: إن قصته معها وقصتها معه، جديرة أن تُنشر فى كتاب، وقد حاول ذلك، ولكن زوجته هى التى تأبى.

وانظر حديثه ــ فى مذكراته عن السنوات العشر التى سمَّاها (العَقْد الفريد) ــ عن أستاذه الدكتور سليم صبرى، الذى اعتبره أستاذه فى الطب، كما كان الأستاذ البنا أستاذه فى الدعوة.

وانظر: حديثه عن الأستاذ محمد فريد عبدالخالق، الذى قال عنه: إنه كان مخلصا، وكان مثقَّفا، وكان مفكِّرا، وهو ثالوث نفيس ومفيد.
وحديثه عن الأستاذ صالح أبورقيق، وموقفه يوم (العلقة السخنة) فى معتقل الهايكتسب، فقد وقف أمام العسكر ومدَّ ذراعيه يتلقَّى الضربات عمن وراءه من الإخوان، وخصوصا من صغار الطلبة، (مثل محيى الدين عطية).
وحديثه عن الشيخ عبدالمعز عبدالستار، وهو يقول للجنود، وهم يضربونه بعصيهم الغليظة: اضربوا يا كلاب، اضربوا يا أنذال. وحديثه عن الشيخ فرغلى، ومصطفى مؤمن، وسعيد رمضان، وحسن دوح، وغيرهم وغيرهم.

حسان وحسن البنا: أما حديثه عن الأستاذ البنا فهو حديث المعجب المحب، حديث التلميذ عن أستاذه، والمريد عن شيخه، والجندى عن قائده، والابن عن أبيه، دون غلو ولا تقديس.

وهو يلتقط المواقف الهادية المعلِّمة بحاسته المرهفة، ويختزنها فى ذاكرته طوال تلك العقود، ليخرجها للناس حتى يلتمسوا فيها العظة، ويأخذوا منها العبرة، سواء كانت مواقف تنبئ عن عقل كبير، أو عن قلب كبير.

فمن المواقف التى تدلُّ على كبر عقل الرجل: حسن تخلُّصه من المآزق، والمواقف الحرجة بلباقة منقطعة النظير، بكلمات بلغية معبِّرة.
كما سُئل عن السينما: أحلال هى أم حرام؟ فقال: السينما الحلال حلال، والسينما الحرام حرام.

وحين اعترض العالم التقى الورع الشيخ محمد الحامد الحموى على استخدام الأستاذ البنا لكلمة (الكأس) فى مجال الكرة، حيث حصل فريق من الإخوان على (الكأس)، فقال الشيخ الحامد رحمه الله: إن الكأس تستعمل فى الخمر، فلا ينبغى أن تتَّخذ لدى الإخوان. فقال البنا: لا تغضب، يا شيخ محمد، لقد حصل الإخوان على (القدح)!

ومن المواقف المؤثِّرة التى حكاها حسان فى إحدى الكتائب التى أقامها قسم الطلاب، والتى كان يشهدها ويشارك فيها الأستاذ بنفسه: أنه استأذنهم لمدة ساعة، ثم عاد ليكمل برنامج ما قبل الفجر إلى نهاية الكتيبة.

وبعد انصرافهم قال حسان لبعض رفقائه: كأنى لحظتُ على وجه الأستاذ مسحة من حزن! فأنكروا ذلك.
وفى الساعة العاشرة اتصل الإخوان بهم ليدعوهم إلى جنازة ابن الإمام الشهيد حسام، فقد استأذن الإمام تلك الساعة ليودِّعه ويغطيه ويعود لاستكمال ما بدأه. وهذا ما لا يقدر عليه إلا الصديقون. نرجو الله أن يكون منهم.

رجل الاعتزاز والتسامح: وهو كذلك رجل مسلم شديد الاعتزاز بدينه، مستمسك بعروته الوثقى، ملتزم بمثله العليا، يؤمن به ويدعو إليه عقيدة وشريعة، ودينا ودنيا، ودعوة ودولة، وحقّا وقوَّة، ويقف عند حدوده، وينزل على أحكامه، ولا يجد فى نفسه حرجا منها، بل يسلم تسليما.

وهو يؤمن بأن هذا الدين هو سفينة الإنقاذ للبشرية، وفيه خلاصها مما تعانيه من الفلسفات المادية والإباحية، ومن أخطار الأيدولوجيات والأنظمة الوضعية التى أشقت البشر، ومن طغيان الأقوياء على الضعفاء الذى يهدد العالم. ومع هذا لا يدفعه هذا الاعتزاز والالتزام إلى التعصُّب ضد الآخرين، أو التنكر لحقوقهم، أو الإزراء عليهم، بل نجد موقفه مع الأقباط ــ نصارى مصر ــ فى غاية العدل والإنصاف، منطلقا من القرآن الكريم الذى أمر ببرهم والإقساط إليهم {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} )الممتحنة:8)، ومن السنة النبوية التى أوصت بأقباط مصر خاصة، فى عدد من الأحاديث.

حتى إن بعض إخوانه أطلقوا عليه من باب المزاح (الأب) حسان! وقد كتب فى مجلة الإخوان الإسبوعية مقالا بعنوان (أخى جرجس)، ورد عليه القمص سرجيوس الكاتب القبطى الشهير فى مجلة الأقباط، يبادله تحية بتحية، ووُدّا بوُدٍّ، وهو فى هذا ينطلق من حيث انطلق شيخه ومرشده الإمام البنا رحمه الله، كما وضَّح ذلك بما كتبه حسان فى مذكراته، فى فصل (نحن والأقباط).

وأكثر من ذلك: موقفه من اليهود، ودفاعه عن أسراهم، وقد ذكرنا هذا الموقف من قريب.

رجل طابعه الاعتدال: ومن الدلائل على أن حسانا رجل معتدل حقّا، وليس من أهل الغلو ولا التقصير أنه يجتهد أن يعطى كلَّ ذى حقٍّ حقَّه، لا يغمط أحدا ما قدَّمه من فضل، ولا يضفى على أحد هالة لا يستحقُّها. لا يبالغ فى المدح إذا احتاج إليه، ولا يذمُّ أحدا إلا إذا ألجأته الضرورة، وفرضت عليه الحقائق المُرَّة ذلك، وقد يذكر الشخص بالوصف لا بالاسم، أو بحروف اسمه الأولى عند اللزوم أو نحو ذلك.

وقد ينتقد نفسه فى بعض الأحيان، كما فعل حين كان طبيبا فى قرية بهوت، ودعاه البدراوى باشا إلى العشاء مع مهندس الرى والمفتش الزراعى، ولكنه اعتذر، وبقى فى محبسه. قال: لكننى كنتُ حساسا أكثر من اللازم فى موضع حفظ الكرامة، ويخيِّل لى بالنظرة الخلفية: أنه لم يكن علىَّ غبار أن أذهب وأتعرَّف بالناس.

وقد تعرَّض فى كثير من المواقف فى مذكراته لإعطاء الرأى فى كثير من المواقف والشخصيات والأحزاب. فقد تحدث عن (الملك) الذى كان أحب الناس إلى شعبه، فأمسى ــ بسوء سلوكه ــ أبغضهم إليه.. وتحدث عن حزب الأغلبية (الوفد) وموقفه من الإنجليز والرأى والدستور، وعن أحزاب الأقلية، التى تحكم مصر بالانتخابات المزوَّرة كلما أراد الملك أن يتخلَّص من الوفد، لكثرة الفساد والمحسوبية.

وتحدث عن قضية فلسطين وعن دخول الجيوش العربية السبعة فيها، وقال: يا ليتها لم تفعل.. وتحدث عن الأسلحة الفاسدة.. وتحدث عن بطولة المتطوِّعين من الإخوان.

وتحدث عن الإخوان وعن نظام (الكتائب) التربوى الفريد، وقال: وما زلت أعتقد اعتقادا راسخا بأن الحركة الإسلامية لن تحرز النجاح إلا إن بدأت من هذه البداية: تكوين اللبنات الصالحة. أما البداية من النشاط السياسى، أو العسكرى أو المذهبى، فهو بداية المرحلة من منتصف الطريق، وشروع فى البناء من غير حفر أساس.

وفى فصل (السؤال الأخير) الذى ختم به هذه المذكرات تحدث عن رأيه فى (النظام الخاص)، وفى الديمقراطية وفى الحضارة الغربية، وحديثه هنا ــ وإن كان خارج نطاق الذكريات ــ حديث المهموم بشئون أمته، وهموم دعوته، وأنا معه فيما ذهب إليه من جملة الأفكار، وقد سجلت ذلك فى أكثر من كتاب لى: فتاوى معاصرة، أولويات الحركة الإسلامية، من فقه الدولة فى الإسلام، وفى مذكرات ابن القرية والكتاب، وغيرها.
حسان يتحدث عن حياته: ولقد تحدث حسان عن نفسه وعن نشأته حديثا موجزا، ولكنه نافع وممتع فى كتابه (بهذا ألقى الله: رسالة إلى العقل العربى المسلم)، فقال:
(ولدت فى بلدة شبين الكوم فى دلتا النيل بمصر. نشأة الريف وسماحته وطيبته، الصفصافة التى أسدلت فروعها فى مياه بحر شبين، وكأنها عروس حلت ذوائبها الطوال. والساقية والنورج والحقول المعطاء الخضراء، وبحر شبين الذى كنت أظنه أكبر حاجز مائى، رغم أنه كان يجف فى الشتاء فنعبره سيرا على قاعه، حتى انتقلنا إلى القاهرة، فرأيت النيل أكبر، وزرت الإسكندرية، فرأيت البحر أكبر وأكبر، وما زال الأفق ينداح أمامى طوال الحياة.

الوالد شاعر رقيق، وأديب ضليع، وفيلسوف هادئ، لم تستطع سراء ولا ضراء أن تمثل له الدنيا بأكبر من حجمها، ومخزون لا ينفد من سرعة البديهية وحلاوة النكتة، وبهجة المحضر، حتى كانت الناس تجتمع على محضره كالفَراش.
والوالدة شعلة لاهبة من الوطنية، أسهمت فى الجهاد للوطن، وكانت أول من قاد مظاهرة نسائية فى بلدتنا المحافظة المتواضعة، احتجاجا على الاحتلال الإنجليزى، خرجت من المسجد العباسى، وسارت إلى كنيسة الأقباط، ولما تزوجَتْ وأنجبتْ أرضعتْ ولديها وغذتهما حب الله وحب الوطن.

ووفقنى الله فى دراستى وحصلت ما جعلنى أستاذا ورئيس قسم فى مادة تخصصى.
وتزوجت من اخترتها على نساء العالمين، وقررت أن أتزوجها أول مرة أراها فيها، وأبلغتها بهذا القرار، يقصد زميلته الدكتورة سلوناس.
وفقدت ابنتى الأولى فى حادث سيارة، فلما قرأت البرقية قلت على الفور: (اللهم إنى أعلم أنك تنظر إلى وملائكتك.. اللهم إنى أعلم أنك تختبرنى فأرجو أن أنجح فى الاختبار. اللهم إنى أعلم أن الناس تستوى بعد سنة، ولكن الاختبار فى الوهلة الأولى. اللهم إن كنت رضيت لى هذا فإنى رضيت. إنى رضيت. إنى رضيت. اللهم إنها كانت وديعتك لدينا فأصبحت وديعتنا لديك).

وشهدت حربا (يعنى حرب فلسطين 1948م) فشهدت قسوة الإنسان على الإنسان. وأحسست الموت يمر على مسافة سنتيمترات منى فى زخّات الرصاص، فعلمت ألا يصيبنى إلا ما كتب الله لى. وعهد إلى بجرحى من أسرى العدو فعاملتهم أكرم معاملة.

وأصاب معدتى مرض خبيث فلم أقل: ولماذا أنا! فمن الأنانية أن تطالعه فى الناس بهدوء، فإذا أصابك جزعت! وجاء شبح الموت فقلت: ومن ذا الذى لا يموت؟ وسبحان الحى الذى لا يموت!! وماذا عليّ لو وصلت إلى الشاطئ ونعمت فى أكرم جوار!
وأخذت العلاج فاشتدت عليّ وطأته، فقلت: لا بد أن أدفع البأس بالبأس، فألفت كتابا بالإنجليزية اسمه (قراءة العقل المسلم)، ونجح الكتاب كوسيلة دعوة تطلع غير المسلمين (والمسلمين) على الوجه الحقيقى للإسلام.
وزال المرض والحمد لله، إلا أن العلاج ترك بصمته على قلبى، لكن ما دام ينبض، فالحياة مستمرة والجهاد قائم، فقد قررت ألا أموت قبل أن أموت.
وتوافر لى فى حياتى ما لا يتوافر للكثيرين من معلمين ومرشدين ونماذج ناصعة، فى الإيمان والمثالية الطيبة ونقاء القلب وخدمة الناس، رحمهم الله جميعا.
وعشت فى الكويت فترة طويلة. وللكويت عليَّ يد لا تنسى، ليست الوظيفة وليس الراتب، فكان فى وسعى مثل ذلك وأزيد، ولكن فى وقفة وفاء لم يعلم بها إلا الأقلون من رجال الكويت، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.

وعوضنى الله خيرا كثيرا، وكان فضل الله عليّ عظيما.

انتقاله من الكويت للدعوة فى أمريكا: ويكتب حسان بقلمه عن الدوافع التى جعلته يستقيل من عمله بالكويت ليتفرغ للدعوة إلى الإسلام فى أمريكا، فيقول: (والذى صاحبنى طوال حياتى حبى للإسلام، أحمل اسمه، وأحمل همه، وأعمل له. ودلتنى زياراتى على أن الإسلام فى أمريكا فرصة حقيقية وتاريخية، إن ضيعناها فهى شيمتنا وما أكثر ما ضيعنا. وإن انتهزناها فربما أفضى ذلك إلى منعطف تاريخى يفيد أمريكا، ويفيد العالم، ويفيد المسلمين وقضايا المسلمين.

فاستقلت من عملى بالكويت وسافرت لأمريكا وطويت سجل العمل الطبى (الذى عشقته ولا أزال)، وقلت: أقصر شريحة من عمرى على خدمة الإسلام، وأنتهزها فرصة فى زمن الاستطاعة، وأربعون سنة من الطب إسهام واف، والحمد لله.
وأفضل خدمة للإسلام فى أمريكا (وفى غيرها من البلاد مسلمة أم غير مسلمة) هو أن يعيشه الإنسان بإخلاص، ويحسن عرضه على الناس. وأحببت أمريكا وإن كان بها فساد كبير، على مستوى الأخلاق، وعلى مستوى السياسة. لكنها تتيح قسطا من الحرية فى خدمة الإسلام لا يتوافر فى أكثر بلاد المسلمين. وحيث تكون الحرية (حرية الصلاح والفساد) فالإسلام هو الرابح على المدى البعيد، وحين تغيب الحرية فالإسلام أول خاسر وأكبر خاسر).

اتصلت به مرة بعد مدة من استقراره فى أمريكا، وسألته عن همه ونشاطه فى تلك المرحلة، فقال: همنا الآن هو بناء (المدارس) لنربى فيها أبناء المسلمين على الإسلام الصحيح، بجوار تعلمهم ما تقدمه المدارس هناك. إن الجيل الذى سبقنا كان همه بناء المساجد، ولكن إذا لم نرب للمساجد رجالا يعمرونها ويحرسونها، سيأتى جيل يبيع المساجد للنصارى، كما باع النصارى لنا كنائسهم، لنحولها إلى مساجد ومراكز إسلامية.

وصدق رحمه الله، فالمساجد وحدها لا تكفى للإبقاء على إسلام الناس حيا قويا، ما لم تسنده مؤسسات أخرى، تحافظ على هوية الجماعة المسلمة، وبخاصة المؤسسات التربوية. وقد ألَّف بعد مرضه كتابه (قراءة فى تاريخ العقل المسلم)، بلغته الإنجليزية الجميلة، ليخاطب به العقل الغربى، ويقنعه بجمال الإسلام، وقد كان للكتاب أثره فى كثير من الأمريكان، الذين أدهشتهم حقائق الإسلام، وطبع عدة مرات.

كما استطاع أن يؤثر فى الكثير من المسيحيين حتى دعوه مرارا إلى كنائسهم، كما استطاع أن يقيم تحالفات شتى مع مؤسساتهم الدينية، مثل: (التحالف ضد الأسلحة النووية)، و(التحالف ضد الإجهاض)، وغيرهما.

خوفه على المسلمين وأمله فى الصحوة الإسلامية: وهو ـ مع وجوده فى أمريكا ـ يعيش أبدا حاملا لهموم الأمة المسلمة، حريصا على أن تحيا بالإسلام وللإسلام، قوية ناهضة، مكانها فى الرأس لا فى الذيل، وإن كان الواقع يصدمه بغير ما يتمنى، يقول:

(وأطالع الإسلام على خريطة العالم، فأطالع ما يسر وما يسوء. وأتأمل أحوال المنتسبين إلى الإسلام، فأجد فيهم من يخدم الإسلام وأجد منهم من يؤذيه). وقديما هشت الدبة الذبابة عن وجه صاحبها بحجر. وربما رأيت من يرفع العقيرة حماسا لكن وقود حركته الكره والبغض وربما طال أذاه الأبرياء بل قتل الأطفال والنساء .. وهو يحسب ذلك جهادا وما هو بجهاد .. {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا} (الكهف:103،104).

والظاهر حقا أن عدوا عاقلا خير من صديق جاهل. وبين الفصائل المحسوبة على الإسلام الآن من أصبحت بصدق أخاف أن يصلوا إلى الحكم أو يتقلدوا السلطة.

يرى د. حسان أننا نعيش عصر الصحوة الإسلامية، وهذا حق، ولكنه يرى أن الصحوة فى حاجة ماسة إلى تعليم وترشيد قويين. وإسهاما ــ متواضعا ــ فى هذا السبيل أصدر كتابه (رسالة إلى العقل المسلم) قال: أكتبه وأنا على قمة عمر جاوز السبعين، وتمرس كبير بقضية الإسلام فى الشرق والغرب.. وعقل أرجو القارئ ألا يسىء الظن به، وقلب من يعرفه لا يشك فى إخلاصه. ولعله إضافة إلى جهود رجال مؤمنين، وأساتذة علماء ودعاة هداة، نذروا أنفسهم لخدمة الإسلام والذود عنه من الداخل والخراج، ولا يخالجنى ريب فى أن جهودهم ستكلل بالنجاح، وأن العاقبة للتقوى، وأن الله سيلهمهم حسن الإجابة يوم ينشر الحساب ويقول الله: أعطيتكم الإسلام، فماذا فعلتم به وماذا فعلتم له؟
وكان مما ركز عليه حسان فى كتابه ذاك: قضية (الحريات) وهى مضيّعة فى عالمنا العربى والإسلامى، مع أنها مدخل ضرورى لكل تغيير وإصلاح، وهو يعيب على كثير من المسلمين بأنهم ضيّقوا الإسلام الواسع والكبير، فكادوا يجعلونه لحية للرجل، وحجابا للمرأة، وضيّقوا الشريعة، فحصروها فى الحدود والعقوبات. ويؤكد أنهم لم يفهموا الشريعة على حقيقتها، فهى رحمة قبل أن تكون عقابا، وهى تصنع الضمير قبل أن تنزل العقاب.

ومع هذا يضيء مصباح الأمل أمام العاملين للإسلام حتى لا يقنطوا، أو يكسلوا، فيقول: ولقد يضيق الصدر أحيانا بوعورة الطريق، وانتكاس المسار، لكن الحصيلة – والحمد لله – تقدم ملموس فى مسيرة الإسلام، ومؤشرات ومبشرات بأن الله يغفر ما فات، ويصلح ما بقى إن شاء الله. وعلى زمان النبى عليه الصلاة والسلام كان يخطب الجموع بغير مكروفون أو مذياع فيدعو الله قائلا: «اللهم أسمع عن عبدك».

وهو دعائى وأنا أطرح هذا الكتاب على الناس: اللهم أسمع عن عبدك.
قالت زوجته الدكتورة سلوناس حينما اتصلت بها لأعزيها: لقد كان فى الفترة الأخيرة قوى الصلة بمولاه، مستعدا للقائه سبحانه، وكان يردد: إنى فى شوق إلى لقاء ربى.

وأحسب أنه تعالى قد استجاب لدعائه الخاشع، الذى قدم به كتابه (بهذا ألقى الله) وفيه يناجى ربه بقوله:
اللهم اهدنا واهد بنا
واجعل سعينا خالصا لك
اللهم هون علينا بقاءنا فى الدنيا
وهون علينا الخروج منها
واجعل خير أيامنا يوم نلقاك
عبدك الفقير إليك ــ حسان حتحوت

اللهم اغفر لعبدك المحب لك ولخلقك حسان حتحوت، وتقبله فى عبادك المقربين، وأسكنه الفردوس الأعلى مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واجزه خيرا عما قدم لدينه وأمته، واخلف أمتنا فيه خيرا. واجعله ممن رضيت عنهم ورضوا عنك. آمين.

لمحة عن حياة حسان:
ولد حسان فى مدينة شبين الكوم عاصمة المنوفية بمصر، فى 23/12/1924 فى بيت كريم، معروف بالوطنية أما وأبا، وقد كان والده مدرسا للغة الإنجليزية، كما كان شاعرا مجيدا. ومنذ كان طالبا فى الثانوى كان يخطب فى الطلاب، ويقودهم فى المظاهرات ضد الإنجليز، ثم انضم إلى الإخوان سنة 1941م، وكان له نشاط قيادى فى قسم الطلاب.

وقد التحق حسان بكلية الطب فى جامعة القاهرة وأنهى دراسته بها، وتخصص فى طب النساء والولادة، وحصل على دبلوم التخصص من نفس الكلية عام 1952م. ثم حصل على درجة الدكتوراه، ثم الزمالة من إنجلترا فى علم الأجنة، وعمل فى مستشفى الدمرداش بالقاهرة لمدة سنة، ثم بالقسم الريفى فى قرية بهوت، مركز طلخا، التابعة لمديرية الغربية فى ذلك الوقت.

ومن مصر انتقل إلى العمل فى عدة دول عربية، منها السعودية لمدة ثلاث سنوات، ثم انتقل للعمل بالكويت، وهناك مكث فترة طويلة، شارك خلالها فى تأسيس كلية الطب، ورئاسة قسم أمراض النساء والولادة، كما شارك فى النشاط الثقافى والدعوى والاجتماعى، وكان محترما محبوبا من كل من عرفه.

وبعد أن استقر فى عمله بالكويت، نسى ما أصابه فى المعتقل، وأرسل إلى المباحث العامة المصرية يطلب العودة إلى مصر، ليشارك بجهده وعلمه وخبرته فى خدمة بلده، فرحبت به السلطات المصرية، وعاد مدرسا بطب عين شمس عام 1961م، ثم بجامعة أسيوط الجديدة عام 1963م، وخلال هذه الفترة عمل على دعم العلاقة الودية بين المسلمين والأقباط، خلال محاضراته ودروسه حتى أحبه الجميع، ولكن كل هذا لم يكن شفيعا له، إذ تم اعتقاله عام 1965م، بناء على القرار الشهير الغريب الذى أصدره عبدالناصر، وهو قرار (اعتقال كل من سبق اعتقاله). واستمر الاعتقال عدة أشهر، ورغم عدم تعرض آلة التعذيب لشخصه، لكنه عايش وسمع ورأى بعينيه عمليات التعذيب الرهيبة، والتى عرفت باسم (المحرقة)، وخرج بعدها ليسافر إلى الكويت مرة أخرى، مقررا عدم العودة إلى مصر ثانية.

 

مقالة كتبها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي ، نقلاً عن : www.shorouknews.com

كُتب في الأعلام, الراحلون, منائر | التعليقات على رحيل أمة في رجل .. العلامة الطبيب حسان حتحوت في ذمة الله مغلقة

القرضاوي… ومسؤولية العلماء.. للأستاذ عبد الباري عطوان

أن تمنع دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ العلامة يوسف القرضاوي من دخول أراضيها، الى جانب علماء آخرين، للمشاركة في الدورة التاسعة عشرة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، فهذا قرار سيادي من حقها ان تقدم عليه، ولكن مصدر الغرابة أن أيا من العلماء المائتين المشاركين في هذه الدورة، ويعتبرون من ابرز قيادات الفكر الإسلامي في العالم بأسره، لم ينسحب احتجاجاً على هذا المنع، بل إن الجميع تعامل مع أمر المنع بشكل طبيعي وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق.

الأغرب من ذلك أن الشيخ يوسف القرضاوي نفسه، وقد تصفحت موقعه على الانترنت، لم يحتج مطلقاً على قرار منعه، بإصدار بيان يوضح موقفه، حتى تأكيد المنع جاء غامضاً، ولا اعرف ما هو السبب. وربما يفيد التذكير بأن الحكومة البريطانية عندما أصدرت قراراً بمنع الدكتور القرضاوي من دخول بريطانيا، استجابة لضغوط جماعات إسرائيلية، بدعوة تأييده للعمليات الاستشهادية في فلسطين المحتلة، قامت منظمات حقوق الإنسان في بريطانيا بحملات شرسة ضد هذا القرار قادها كين ليفنغستون عمدة لندن السابق شخصياً، وكانت من أسباب خسارته لموقعه في الانتخابات الأخيرة. صمت العلماء المسلمين على إجراءات تمسهم شخصياً، ناهيك عن أبناء الأمة الإسلامية، أمر محير للغاية لا نجد له أي تفسير غير الرضوخ لعقلية ‘الكفيل’، والتقاعس عن واجبات دينية وأخلاقية لا يجب التراجع عنها. فعندما احتجزت الحكومة السعودية الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة التونسي المعارض، في مطار جدة الذي وصله بتأشيرة صالحة من اجل أداء فريضة الحج، وإعادته على أول طائرة تركية إلى لندن عبر استانبول، لم ينطق الشيخ راشد بكلمة احتجاج واحدة، على أمل أن تثمر اتصالاته في حل المشكلة، ولكنها لم تحل في حينها، واستمر صمته لعله يتمكن من أداء الفريضة في العام الذي يليه، بعد أن تلقى تطمينات في هذا الخصوص، ولكن صمته وعدم احتجاجه لم يغفرا له، ومُنع الموسم الماضي من أداء الفريضة مرة أخرى. واستمر الصمت.

الحكومة المصرية تعتقل، وبصفة يومية، أعضاء من حركة الإخوان المسلمين، وباتت أنباء منع الدكتور عصام العريان من السفر، أو إعادة اعتقاله من الأمور العادية التي لا تثير اهتمام محرري الصحف من كثرة تكرارها، ومع ذلك لا تنقطع زيارات العلماء المسلمين للقاهرة، وعلى رأسهم الشيخ القرضاوي نفسه. نطالب فقط بالاحتجاج والرفض وممارسة ضغوط على الأنظمة من قبل العلماء الذين من المفترض أن يصححوا الأخطاء، ويرفعوا الظلم، وينحازوا إلى الحق، ويكونوا رأس حربة في عملية التغيير واحترام حقوق الإنسان. اصدار بيانات يوقع عليها مئات العلماء تندد بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، او جنوب لبنان، امر جميل، ولكن المطلوب أيضا وقفة أو وقفات شجاعة لإصلاح البيت العربي من الداخل، وتقويم ما فيه من اعوجاج، وما أكثره. نعود إلى قضية منع الدكتور القرضاوي من الدخول إلى الإمارات للمشاركة في أعمال مؤتمر هو احد ابرز مؤسسي المنظمة التي دعت إلى انعقاده، ونسأل عن الأسباب التي دعت إلى ذلك، ونأمل أن لا تكون مثل تلك التي تذرعت بها بريطانيا، أي مساندته للعمليات الاستشهادية. فالشيخ القرضاوي تعرض لحملة شرسة من إيران بسبب معارضته لعمليات التشييع في أوساط الطائفة السنية، ومطالبته بوقف سب صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. ودفعت هذه المواقف وكالة أنباء ‘مهر’ الإيرانية الرسمية إلى اتهامه بالعمالة للموساد الإسرائيلي.

والأكثر من ذلك انه كان على رأس فريق العلماء الذي ذهب إلى أفغانستان لمطالبة حركة طالبان بعدم هدم تماثيل بوذا استجابة لنداءات غربية باعتبارها من الآثار التاريخية، واصدر تنظيم ‘القاعدة’ بياناً شديد اللهجة ضده بسبب إقدامه على هذه الخطوة. ما نريد ان نقوله ان الرجل في قمة الاعتدال ويمثل الوسطية الإسلامية في انصع وجوهها، ويعارض التطرف والمغالاة، وهو مع الإسلام الذي يضع تطورات العصر في قمة حساباته دون التخلي مطلقاً عن الثوابت الأساسية، فلماذا يتعرض للمنع بينما يتم فرش السجاد الأحمر لآخرين لا نريد ان نذكر فئاتهم او أسماءهم او جنسياتهم تأدباً. ومن المفارقة ان المشاركين في المؤتمر المذكور قدموا أكثر من مائتي بحث ‘علمي قيّم’ تتعلق بقضايا عديدة من بينها حرية التعبير عن الرأي، واحترام حرية الإنسان في الإسلام، والأكثر من ذلك ان الشيخ محمد بن خالد القاسمي أمين عام الامانة العامة للاوقاف في امارة الشارقة التي تستضيف المؤتمر القى كلمة مؤثرة لفت نظرنا فيها قوله ‘ان تقليل الخلاف، وتضييق دائرته امر مطلوب في عصرنا، حيث اصبح من اهم الواجبات العمل بجهد على تآلف الامة، وجمع كلمتها ومعالجة الخلاف بين ابنائها، بالاحتكام الى جهات إسلامية من الأفراد والهيئات على ضوء كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لحل مشكلات المسلمين ومعالجة ما جدّ في حياتهم من قضايا’.

كيف يمكن معالجة الخلافات الإسلامية، واحترام حريات التعبير في ظل سياسات المنع والإقصاء، وعدم تضامن علماء اجلاء مع زملاء اجلاء لهم لم يتم السماح لهم بالمشاركة؟ أحوالنا تتراجع، وتندفع بسرعة نحو الحضيض، ليس فقط بسبب الحكام الذين نلومهم دائما ونحملهم مسؤولية كل ما يلحق بنا من هزائم واحباطات، وإنما أيضا بسبب النخب الإسلامية منها او الليبرالية. فعندما توجد في هذه الأمة قيادات إسلامية لا تخشى في الحق لومة لائم، وتتصدى للباطل، وتنتصر لقضايا حقوق الإنسان والمساواة والعدالة، ستخرج هذه الأمة من عثراتها، ومن المؤسف ان الهم الشاغل للكثير من علمائنا الأفاضل، ولا نعمم هنا، هو الظهور على الفضائيات وإصدار الفتاوى حول قضايا ثانوية، والابتعاد عن القضايا الأساسية المحورية، ولهذا تتغول الأنظمة الحاكمة، وتتراجع الحريات، وتتكاثر الهزائم.

– نقلا عن القدس العربي بتاريخ 29 أفريل 2009 نقلاً عن :www.ghannoushi.net

تعليق من إدارة الموقع : من الغريب أن يسلم الأستاذ عبد الباري عطوان بحدود بلاد الإسلام التي لا يجهل أحد أن الدول الاستعمارية قد وضعتها ، فصارت تلك الحدود تنتج قرارات سيادية!! كل ديك فيها أمير ، وليس عجيباً ان يسكت الجميع لأن ما ربيت الأمة عليه خلال قرون من الضعف سيكون أول ضحاياه أولئك العلماء، أو ليست حقوق الإنسان بدعة ، والحرية كفر وفساد عريض ، والاحتجاج فتنة ، بل يلهي عن ذكر الله كما أفاد أحد المحلقين وراء الزمان والمكان .. إن تلك الحوادث وأمثالها تؤكد ضرورة استقلال قرار العلماء التام عن كل الحكام ، وأن الالتصاق بهم هو عين الفساد.

كُتب في المناهج | التعليقات على القرضاوي… ومسؤولية العلماء.. للأستاذ عبد الباري عطوان مغلقة

بمناسبة يوم العمال العالمي : من الضمانات التي قدمها الإسلام

يحتفل العمال في العالم بالأول من آيار يوماً خاصاً بهم ، ولا مانع شرعي من المشاركة في ذلك ، فإن تذكير الناس بجهود العمال الصامتة هو من المعروف والخير ، وخصوصاً أن أكثر شعوب العالم قد صارت عاملة تحت أيد ظالمة بل مستعبدة لقوى احتكارية تصادر القرار ، وتمتص أعمار العمال والأمم والشعوب من أجل حفنة مترفة قارونية الاعتقاد.

أكمل قراءة التدوينة

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على بمناسبة يوم العمال العالمي : من الضمانات التي قدمها الإسلام مغلقة

شيخ أزهري: أرفض حجـاب ابنتي! [في مثل هذا السن]

….. الأستاذ عصام تليمة……

ربما كان عنوان مقالي مستفزا، وبخاصة عندما يصدر من شيخ أزهري معمم، لا يزايد أحد على حبه لدينه، وحرصه على التمسك به، ودعوة الناس إليه، ولا أحب أن يزايد أحد على هذا الحب والتمسك بديني، وأقدم بهذه التقدمة لأمهد لما أود قوله.

أحرص -وتحرص أكثر مني زوجتي- على قراءة أطفالي القرآن وحفظه، ومما يحمد لدولة قطر ووزارة التربية والتعليم جزاهم الله خير الجزاء وجعله في موازين حسناتهم: حرصهم الشديد على إقامة مسابقة القرآن للمدارس والروضات في كل عام، وبما أن طفلتي الكبرى في مرحلة التمهيدي، وهي ذات السنوات الست إلا بضعة أشهر، ستشترك في هذه المسابقة، فوجئت برسالة مع الطفلة قبل يوم المسابقة بعدة أيام، وأخذت أقرأ ما في الرسالة فكان كالتالي:

على الطفلة الحضور في الساعة كذا، مرتدية العباءة والحجاب!! وطبعا لا يوجد لدى طفلتي لا عباءة ولا حجاب، ليس إهمالا مني ولا تقصيرا، بل لأن هذه الطفلة ليست في سن ارتداء حجاب، ووقعت في حيرة من أمري، وعبثا حاولت أبحث في ملابس البنت عن حجاب، أو في ملابس أمها عن حجاب يناسبها، وطبعا هذا البحث نتج عن إلغائي لعقلي وفهمي لديني في هذه اللحظة، ثم فكرت برهة وقلت لزوجتي: فلتذهب بدون عباءة وحجاب، وليكن ما يكون، إن هذا الأمر ليس دينا أتعبد به، وليس فقها صحيحا ألتزم به.

الدين والحياة

هل أضع الحجاب على رأس ابنتي وأغرس فيها دون أن أدري العلمانية التي تنادي بفصل الدين عن الحياة، وأغرس فيها أن الحجاب موضعه فقط عندما تذهب لتلاوة القرآن، بينما في الروضة التي تتلقى فيها تعليمها لا مانع من خلعه، وعدم ارتدائه أساسا؟!

ثم رحت أبحث فيما درست وقرأت في الشرع الإسلامي الحنيف، فلم أجد رأيا واحدا يحكم على طفلة في السادسة من عمرها أن شعرها عورة، ولا أنها ينبغي عليها ارتداء حجاب أصلا في هذا السن، ولا هي في سن تقترب فيه من البلوغ حتى تتمرن وتتدرب على ارتداء الحجاب، وإن كان الأفضل أن نشرح لمن تقترب من سن البلوغ لماذا العفة؟ ولماذا الحجاب؟ حتى يصل الأمر إلى قناعة شخصية داخلية، لا إلى قرار يفرض، وأن نغرس ذلك بالتربية القوية؛ حتى يكون فعلا مأجورا على أدائه.

ثم ما الحكمة الدينية والتربوية في أن أحرم الطفلة من أن تعيش طفولتها بما فيها من براءة؟ وقد كنت طفلا مثلها وحكم علي وعلى معظم الأطفال الذين يحفظون القرآن صغارا بأن يكبروا قبل سنهم، ويعاملوا معاملة الكبار، والسبب في ذلك: أنهم حفظة لكتاب الله.. شيخونا صغارا فحرمونا من طفولتنا البريئة، وكأن حفظ القرآن كان عقابا لا تكريما، دون أن يدري المجتمع للأسف، فأنت حافظ للقرآن وسنك لم يتعد الرابعة عشرة أو أقل أو أكثر قليلا.. من الآن ممنوع اللعب.. ممنوع الضحك.. ممنوع كذا وكذا، وقائمة من الممنوعات لا تتناسب مع سن الطفل، بدعوى أنه صار شيخا، وقد وعى بين صدره كتاب الله القرآن العظيم، ونمضي في ممارسة أفعال من أكبر الأخطاء التربوية في حياة الأطفال، وإليك نماذج أخرى منها:

يحفظ الولد القرآن، أو يتفوق في دراسته فتفاجأ بأن المكافأة التي نكافئه بها: عمرة إلى بيت الله الحرام، وهذا أمر جميل جدا ورائع، إن كان باختيار الطفل ذاته، ولكن ما المانع أن يكون تكريم الطفل حافظ القرآن برحلة سياحية يجمع فيها بين المشاعر المقدسة، وتراث الإنسانية الرحب الذي يتعلم منه.

خطأ تربوي

إننا نخطئ عندما نريد أن نغرس القيم الإسلامية في نفوس أطفالنا عن طريق الدرس الديني فقط، وهذا ضرب من الخطأ التربوي والديني، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بالساعات يلقي محاضرات ليغرس في نفوس أصحابه القيم، بل كان يجعلها تأتي عرضا عن طريق مواقف الحياة المختلفة، فعندما يذهب للسوق ويشتري يجد رجلا قد أصاب تمره بلل، فيقول: «ما هذا يا صاحب التمر؟» فيقول: أصابه بلل السماء، فيقول: «هلا أخبرتنا؟ من غشنا فليس منا».

إنه درس في الأمانة لم يكن على منبر، ولا في حلقة درس علم.

وعندما كان في زيارة لبيت أحد الصحابة، وقد اغتنمت زوجة الرجل فرصة وجود النبي صلى الله عليه وسلم لتتعلم، فكان لها طفل صغير يلهو، ويشغلها بلعبه عن متابعة الحديث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت، وقد أغلقت يدها: يا عبد الله، تعال أعطيك، فقال صلى الله عليه وسلم: «وماذا ستعطينه؟» ففتحت يدها، وقالت: أعطيه تمرات في يدي، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة». وهناك مواقف كثيرة في التربية النبوية.

نستطيع أن نعلم الأطفال عن طريق اللعب، وعن طريق الترفيه، وبذلك نحقق لهم الجمع بين المتعة الشخصية والتربية السوية كما أمرنا بها ديننا، فليلعب دون أن يؤذي الطفل الآخر عند اللعب، وأعلمه كيف يحترم ممتلكات الطفل الآخر، ولا يفسد ما يلعب به، وهي تربية، وأعلمه أن القرآن وحفظه وتأمله لا يجعل حافظه مخاصما للحياة، ولا كارها لها، ولا مدبرا عنها منزويا، بل القرآن يغرس في نفس حافظه وقارئه حب الكون والحياة، والتربية الفاضلة القويمة.

ملحوظة: ذهبت طفلتي للمسابقة دون حجاب ولا عباءة، ولم يردها أحد، وحصلت على مركز متقدم والحمد لله، ولكن الموقف جعل هذه الخواطر تجيش في خاطري.

 

نقلاً عن موقع : إسلام أون لاين

عضو جبهة علماء الأزهر الشريف – باحث شرعي بجمعية قطر الخيرية.

كُتب في المناهج | التعليقات على شيخ أزهري: أرفض حجـاب ابنتي! [في مثل هذا السن] مغلقة

لماذا تسيست الدعوة الإسلامية

لماذا تتجه الحركات الإسلامية إلى السياسة ؟ يجيب الداعية والمفكر الإسلامي الأستاذ راشد الغنوشي عن الموضوع بشكل دقيق من خلال وضع الحركة الإسلامية في تونس نموذجاً ، وهو منقول عن موقع الجزيرة.

لماذا تسيست الدعوة الإسلامية؟
بقلم: راشد الغنوشي

لئن اشتركت الحركات الإسلامية في مرجعية الإسلام كتابا وسنة وإجماعا، فهي تختلف في الصبغة العامة التي تصطبغ بها كل واحدة منها باختلاف الملابسات التي حفت بظهورها.

ففي بلد خاضع للاحتلال الأجنبي المرجح أن تكون هموم التحرير هي الغالبة عليها، بينما في بلد يعاني من تأثيرات الغزو الثقافي والعلمنة الطاغية على هوية البلاد الإسلامية المنتظر أن يكون الهمّ الأعظم للحركة الإسلامية الدفاع عن مقومات الشخصية الإسلامية ومواجهة ضروب العلمنة السائدة مواجهة فكرية عقدية وتربوية، وهو ما كان عليه الأمر في تونس نهايات الستينيات من القرن العشرين المنصرم، وكان يمكن أن تستمر حركة دعوية فكرية دون انخراط كلي في السياسة، فلم لم يحدث ذلك؟

1- لم يمر على “الاستقلال” (1956) عقد ونصف حتى أخذت بذور التحديث البورقيبي تثمر محاصيلها، من طريق الاستخدام المفرط لمؤسسات دولة حديثة شديدة التمركز لتفكيك الإسلام عقائد وشعائر وقيما ومؤسسات، باعتبارها عوائق في طريق الإستراتيجية العليا للدولة التي يلخصها شعار بورقيبة الأثير “اللحاق بركب الأمم المتحضرة”.

فكان طليعة قرارات الاستقلال الأولى: تفكيك المؤسسة الزيتونية، الحارس لمقومات الشخصية العربية الإسلامية لتونس وأعظم قلعة لحضارة الإسلام في أفريقيا، وكان يومئذ يزاول التعليم فيها بمختلف مراحله 27 ألف طالب، وكانت قد قطعت شوطا بعيدا في طريق الإصلاح، استيعابا للعلوم الحديثة في إطار الإسلام ولغته العربية، فكان قرار شطبها بمثابة التقويض لأسس البناء وزلزالا لهوية البلاد واستهدافا للغة وللدين وللأخلاق.

وتلاحقت الضربات على البناء فكان إلغاء المحاكم الشرعية ومصادرة الأوقاف التي كانت تتصرف في حوالي ثلث الملكية الزراعية، مكرسة لخدمة مؤسسات المجتمع الأهلي كالتعليم. وحتى شعائر الدين لم تسلم من الاستهداف فكانت الدعوة الرسمية لانتهاك حرمة رمضان من قبل رئيس الدولة نفسه في غرة شهر رمضان 1961 حيث احتسى عند الظهيرة كوب عصير على ملأ من شعبه، مفتيا إياه بحالة الجهاد ضد التخلف!!

وحتى عقائد الإسلام الكبرى كالألوهية والنبوة والجنة والنار ومعجزات الأنبياء والقرآن نفسه لم تسلم، فقد تعرضت في خطب الرئيس للقصف، الأمر الذي دفع أئمة كبارا في العالم الإسلامي لاستتابته. وباسم تحرير المرأة تبنت دولة الاستقلال إستراتيجية شاملة منها تحديد النسل والإجهاض.. وإباحة الزنا –بشرط التراضي- وحظر الحجاب.. أفضت خلال أربعين سنة إلى تصحّر للنسل وإلى تفكيك شامل للأسرة وتعريض جملة البناء المجتمعي للتحلل ووضعه على طريق الانكماش والشيخوخة والفناء، في سابقة فريدة في عالم الإسلام والعالم الثالث الذي يشكو وفرة النسل، بما جعل حاجة البلاد ليست لفتح المزيد من المدارس بل للشروع في إيصاد أبواب المئات منها لنضوب المنابع.

ومن ذلك فإن المتقدمين لشهادة الباكالوريا لسنة 2009 قد انحدر عددهم بأكثر من 17 ألفا عن السنة الماضية، فضلا عن تراجع نسب الزواج وارتفاع نسب الطلاق والعنوسة والإجرام.. وكلها ثمار لنظام فاشي علماني متطرف، أرساه بقوة الدولة عهد “الاستقلال” وسوّقه باسم تحديث مغشوش.

2- ولدت الحركة الإسلامية بدايات السبعينيات، دعوة تجديدية لأصول الإسلام وللالتزام بشعائره، صلتها بالسياسة اليومية رقيقة، ولدت كأحد أهم دفاعات المجتمع التونسي عن مقومات شخصيته ووجوده واستمراره عربيا مسلما وامتدادا للأمة، وليس تابعا صغيرا لأمم الغرب.

ولأن الطلب كان قويا على مقومات هذه الهوية بسبب تفاقم الشعور بالخطر فقد نمت بسرعة، فأعادت بفضل الله الحياة للمساجد وللمصاحف وللشعائر ولقيم الإسلام، تجسّر العلاقة بينها وبين عالم الحداثة في معاهد التعليم والجامعة والإدارة، وتمتدّ بها تباعا إلى كل مؤسسات المجتمع النقابية والثقافية والسياسية انطلاقا من منظور الإسلام التوحيدي الشامل الذي يدعو المؤمنين ليعبدوا الله الواحد الأحد بكل نفوسهم وفكرهم وجوارحهم مخلصين له الدين في كل مسالكهم ومناشطهم، وإلا فهو الشرك الظاهر أو الخفي.

3- يمكن للمواطن في ظل نظام ديمقراطي تعلوه سلطة القانون أن يختار لنفسه نوع النشاط الذي ينسجم معه فينضوي في جمعية متفرغة لذلك المنشط، قد تكون سياسية وقد لا تكون لها علاقة بالسياسة، فيحقق أعلى درجات فعاليته دون أن يصطدم بالسياسة ولا هي تصطدم به، ولا ينشغل بها أصلا، ولكن في نظام شمولي فردي مركزي ستجد السياسة تلاحقك وتحيط بك حيثما اتجهت، إلا إذا آثرت حياة الخمول والدعة.

وتمثّل صور الرئيس المنبثة في كل مكان رمزا للسلطة المهيمنة على كل شيء والحاضرة في كل مكان والمهددة لكل من تحدثه نفسه بانتهاج سبيل غير سبيله، في محاولة للحلول محل الله في مخيال الناس. ومن ذلك اعتقال عدد من الشبان اعتادوا ممارسة لعبة الكرة إثر صلاة الفجر، والتهمة أنهم لم يحصلوا على ترخيص مسبق. ودوهمت من طرف الشرطة حفلات عرس اختار أصحابها إحياءها بموشحات وأناشيد دينية، بديلا عن الفنون الهابطة وأم المعاصي، باعتبارها مناشط أصولية، فانقلب العرس مأتما.

4- في ظل نظام من هذا القبيل ما كان يمكن تخيل أن تترك دعوة إسلامية تقوم على منظور إسلامي شامل لتنمو بشكل طبيعي، حتى ولو كانت في صيغة “جماعة التبليغ” البعيدة عن السياسة فقد تعرضت للاعتقال، فكان أول الاصطدام في المسجد الذي تعتبره السلطة ملكا لها تعيّن أئمته من قبل أعضاء الحزب الحاكم بل في كثير من الأحيان من الشرطة المتقاعدين، بينما يعتبره أهل الدعوة -كما كان الأمر في تاريخ حضارة الإسلام- ملكا لله، يديره المجتمع الأهلي عبر علمائه وجمعياته ومذاهبه وطرقه.. وامتد الصدام إلى المعاهد والجامعات.. لينتهي إلى الشارع، وفي حالات إلى الجبال.. ليس لك من خيار في مجتمع استبدادي، زبانية القمع في كل مكان يسدون كل طريق إلا أن تصطدم بهم، وتخوض غمار السياسة، فتواجه الاستبداد من أجل تفكيك مؤسساته بدءا بقوانينه وانتهاء باستبعاد القائمين عليه أو خضوعهم لحكم القانون وإرادة الناس.

ولذلك رغم أن الحركة الإسلامية في كل مكان نشأت حركة دعوية ثقافية فإنها ما إن حققت قدرا من النمو حتى تنبهت دولة الاستبداد لها فاستدارت لها لتوجه لها مدافعها، ولا تزال تفعل ذلك معها ومع غيرها ممن رفض أن يكون معارضة مؤنّسة مدجنة.

ليس في مثل هذا النوع مناص من ممارسة السياسة المفضية حتما إلى المواجهة مع الاستبداد، وليس المعارضة المعترف بها في الأنظمة الديمقراطية وبحقها في منافسة السلطة وحتى الحلول محلها، فهذه لا مكان لها حيث يسود الاستبداد، المواجهة لوضع أشد من الاحتلال بل هو نائب عنه، وهو ما يجعل الحديث عن مجتمع مدني في ظل الاستبداد حديثا حالما أو مخادعا يشبه الحديث عن مصالحة مع الاحتلال.

5- وكان حتما لازبا على نظام شمولي حداثوي فردي شديد التمركز أن يدخل في حلقات لا تنتهي من القمع لمعارضيه بكل اتجاهاتهم سواء أكانوا من داخل حزبه الأوحد (جماعة ابن يوسف، المستيري، ابن صالح..) أم كانوا من خارجه (يساريين، شيوعيين، نقابيين، ليبراليين، عروبيين، إسلاميين، حقوقيين..). لم يكن منتظرا من نظام من هذا الصنف أن يترك مجالا لأي منشط ثقافي أو سياسي وحتى رياضي أن ينشأ خارجه ويترك له فرصا للنمو المستقل عنه، فكل ما هو خارجه هو في صراع وجودي محتم معه حتى ينهيه أو يحتوي، ولذلك يمكن اعتبار تاريخ دولة الاستقلال ليس هو بحال تاريخ تداول السلطة بين التيارات السياسية بل هو تاريخ تداولها القمع والسجون والسلخ والتعذيب والتهجير.

لم تعرف السجون لحظة لالتقاط الأنفاس، فحلّ فيها اليساريون محل اليوسفيين وحل النقابيون محل اليسار وحل الإسلاميون منذ سنة 1981محل أولئك فسجن منهم يومئذ 500 وفي سنة 1987 سجن منهم عشرة آلاف وفي 1992 سجن منهم ثلاثون ألفا، أطلقت آخر دفعة منهم الآونة الأخيرة منهم الرئيس السابق للحركة أستاذ كلية الطب صادق شورو بعد أن أمضى 18 سنة معظمها في سجن انفرادي، سيم فيه أشد النكال.

ولأنه تجرأ على التصريح لبعض وسائل الإعلام بأنه لا يزال معتزا بانتمائه للنهضة، وطالب بالسماح لها بالنشاط القانوني، فقد أعيد اعتقاله ولمّا يستكمل استقبال المهنئين، ليحكم عليه مجددا بسنة سجنا. لم يغفر له أنه قاد حركته إلى نصر ساحق في انتخابات 1989، قرروا تزييفها ومعاقبة الفائزين بالاستئصال.

6- أما من الناحية النظرية التأسيسية فإن السياسة ليست شيئا ملحقا بالإسلام طارئا عليه وإنما هي من أصوله، وذلك إذا فهم كل من الإسلام والسياسة على حقيقته، على اعتبار السياسة فن رعاية شؤون الناس بما يحقق العدل فيهم والتعايش بينهم والسعادة لهم ووزع بعضهم عن بعض، وهل جاءت النبوات لغير تعريف الناس بربهم وبالغرض من وجودهم وبالقيم وبالموازين وبالشرائع الكفيلة بما يحقق مصالحهم وسعادتهم في الآجل والعاجل؟ وهو ما يجعل الإسلام مسيسا بطبعه، رافضا من منطلق قاعدة التوحيد أساس كل بنيانه أي صورة من صور الشرك، إن في مستوى الاعتقاد أو في مستوى السلوك الفردي أو الاجتماعي، خضوعا لأي مصدر آخر من مصادر الإلزام والتشريع ليس مستمدا من شرائع الله “وهو في السماء إله وفي الأرض إله”. وفي مجتمع مسلم تمثل آليات الحكم الديمقراطي أفضل سبيل لهذا الاستمداد.

7- وتاريخيا, منذ العهد المكي -رغم أن الفئة المؤمنة كانت تعيش مضطهدة في ظل أعراف وأحكام قبلية جاهلية- بدأت تهيئتها لأحكام الإسلام، فاقترن مثلا الحديث عن الصلاة بالحديث عن الزكاة، وظل صاحب الدعوة عليه السلام يبحث جاهدا عن أرض تؤوي دعوته بعد أن رفضها كبراء مكة والمتحكمون في ضعفائها، حتى إذ ظفر بها في خيبر بدأت الشرائع المفصلة تتنزل تباعا حسب الحاجة، وتأسس على ذلك النموذج واقتداء به وقياسا عليه واستمدادا من مقاصده فيض من الفقه، ما احتاج المسلمون على امتداد تاريخهم وحضارتهم لاستمداد تشريع من خارجه لتنظيم حياتهم في كل المجالات.

واستمر الأمر على ذلك حتى نكبت الأمة بالاحتلال الغربي، فما تلبّث بأنموذج الحياة الإسلامية وما قام عليه من شرائع وقيم حتى أخذ في إزاحته وإحلال تشريعاته العلمانية محله مبشرا بمنظورات فكرية وقيمية وفلسفية تقصي الإسلام عن شؤون الحياة والحكم وتعزله في أضيق نطاق تمهيدا لطرده جملة.

8- ومع أن الحركة الإسلامية في تونس قد واجهت التطرف العلماني السائد الذي تولى كبر قيادته وفرضه بأدوات الدولة الزعيم بورقيبة وواصله بأفدح خلفاؤه، ولم يكن أمامها غير تفنيده انتصارا لرؤية الإسلام التوحيدية، إلا أنها هنا لم تطرح في الساحة التونسية شعارات معتادة لدى حركات الإسلام مثل شعار الدولة الإسلامية، معتبرة أن المشكل اليوم ليس استبدال قانون شرعي بقانون وضعي -رغم أهمية ذلك- وإنما المشكل هو غياب فكرة القانون ودولة القانون وسيادته في ظل النظام القائم، ولك أن تقول غياب قيمة الحرية وسلطة الشعب لصالح سلطة الدكتاتور وتسلط الدولة على كل شؤون المجتمع بما فرض على الحركة الإسلامية أن تعتبر المحور الرئيسي لعملها هو محور الهوية والحرية والعدالة، وليس محور الشريعة، مع أنها كلها من مقاصدها، وهو ما عبرت عنه جميع وثائقها بدءا من وثيقة البيان التأسيسي إلى ميثاق حركة النهضة وسائر أدبياتها وبالخصوص إنتاج رموزها الذين يعتبر إسهامهم مهمّا في تطوير خطاب الحركة الإسلامية وبالخصوص في المغرب العربي صوب تبني النموذج الديمقراطي في الحكم والمعارضة والتأسيس له وتأصيله وتخريجه على أصول الإسلام باعتباره أفضل ما توصلت له الخبرة البشرية تطبيق الشورى ومقاومة أصل الشرور: الاستبداد، ليست هي بالتأكيد بالمثالية، ولكنها أفضل الموجود وقابلة للتطوير عبر النظر والتطبيق، حتى إن خير ما مدحت به الديمقراطية أنها أقل الأنظمة سوء.

والحق أن أهمية الديمقراطية إنما تتأكد إذ تقارن بالبدائل عنها، وهو ما يجعل العاقل يبرأ بنفسه أن يؤول نقده للديمقراطية إلى ما آل له النقد الماركسي، الذي أرسى أشد الأنظمة فردية وتوحشا.

9- وعلى نفس المنوال ينبغي أن يظل الحذر من تيارات إسلامية جعلت ديدنها تكفير الديمقراطية من دون وعي وانتباه إلى أنها ضحية لغياب الديمقراطية وأنها دون وعي تسوق المياه إلى مجاري الدكتاتورية تطيل ليلها، إلا أن الثابت أن هذه الجماعات ليست مندرجة ضمن التيار الوسطي العريض الكادح مع كل الكادحين من أجل مقاومة الاستبداد بأي برقع تبرقع، وأخطرها ما تبرقع بالإسلام، وذلك حتى لا نفاجأ بسجون ومهاجر تزدحم بالمعارضين تطاردهم أنظمة ترفع شعارات الإسلام والعياذ بالله من كل استبداد وبالخصوص ما رفع سيف الإسلام على معارضيه.

10- ثم إنه في الأخير، لطالما عيب على المسلمين بأثر عصور الانحطاط انصرافهم عن الدنيا وشؤونها إلى عوالم الروح واليوم الآخر، حتى جعل المصلحون هدفا أساسيا من أهدافهم استعادة الوعي بالدنيا وتأصيل الاهتمام بها والتأكيد المتكرر أن عمارتها مقصد للدين وطريق إلى الآخرة، فكان زعماء حركة التحرير يتصدون للطرق الصوفية ويتهمونها بتزييف وعي الناس، محرضين على الثورة، داعين المسلم إلى الكفاح والجهاد والكدح، إلا أنهم ما إن قضوا وطرهم، حتى أخذوا يبذلون أقصى الوسع في دفع الناس مجددا إلى حياة يغيب فيها الوعي السياسي، فطاردوا التسيّس على كل صعيد وخصوصا في الجامعات، التسيس الذي صنع قيادات هذا الجيل، دافعين الناس إلى الانغمار في خصوصيات أغراضهم ومطامحهم الشخصية الصغيرة، مشجعين طرقا وزوايا وضروبا من الشطح والدروشة طالما قاوموها زمن الحاجة إلى التسيس، شاهرين سيوفهم في وجه الإسلاميين بتهمة تسييس الدين.

وهم من دفعهم إلى التسيس وحتى إلى الإرهاب، ولم تسلم من قمعهم حتى جماعة بعيدة عن السياسة مثل جماعة التبليغ. وليست كل السياسة في الإسلام -عند التحقيق في خطابهم ومسالكهم- مذمومة، فما هم بعلمانيين أصلاء، يتركون الدين للمجتمع الأهلي، كلا بل هم الأحرص على تسييسه ولكن في اتجاه واحد يخدم سلطانهم، لتلهج المنابر بمآثرهم، نقيضا لمقاصد الدين: أن يكون الدين كله له، مخدوما لا خادما، وأن يكون الله وحده معبودا، لا الملك. قال تعالى “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” الذاريات.

11- ولأن الله قد كتب لهذا الدين البقاء، ولأن الحاجة إليه تزيد والطلب عليه يشتد، فقد فشلت كل مخططات تهميشه أو استحواذ السلطان عليه، فهو يتحرر من قبضته يوما بعد يوم وينقلب على ظلمه وفساده، لا سيما أمام الفشل المتفاقم للمشاريع التي تقدمت بدائل عنه في تنمية الأمة والدفاع عنها. ومسار القضية الفلسطينية يؤكد هذه الحقيقة التي عبر عنها الشاعر:
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم ** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

نقلاً عن موقع الجزيرة

كُتب في المناهج | التعليقات على لماذا تسيست الدعوة الإسلامية مغلقة

الشبهة بين العقيدة والشريعة والأخلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

مقال للأستاذ الدكتور أحمد السعدي حفظه الله

الشبهة بين العقيدة والشريعة والأخلاق

من أحاديث الأربعين ، والتي اختارها الإمام النووي رحمه الله ، راسمة لمعالم الإسلام العامة ، مما قال عنه العلماء إنه يشكل المرجعية التي يدور حولها التشريع _مدار الإسلام_ ، حديثُ الشيخين المشهور ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما : الحلال بيِّن ، والحرام بيِّن، وبينهما مشبَّهات .

وأهمية الحديث عن هذا الحديث الجامع ، من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي عليها مدار الإسلام ، تكمن في إحياء أثره مرَّة أخرى في حياة المسلمين ، بعد أن اعتبره بعض المسلمين حديثاً ضعُفَ أثره في الواقع من جانب ، وفي الخطاب الإسلامي المعاصر من جانب آخر ، بحجَّة تقصير المسلمين في معالم الحلال والحرام البيِّنة ، بل تخلخل معاقد الإيمان في قلوبهم ، فما الحديث عن الشبهات أمام هذا الواقع ، وأين مكانه في خطابٍ يتناسب معه؟!!

والحقيقة أنَّ الحديث مازال ذا تأثير في الصورة العامة التي ينبغي أن يرسمها المسلم لدينه ، ومنهجِهِ في الحياة بناء عليه ، فإذا فُقِدَ هذا التأثير في الواقع ، فوجوده في الصورة المرسومة دليل على وجوب إحيائه في الحياة ، قبل زواله من الصورة النفسية ، وبالتالي تعطيل جانب مهمٍّ من جوانب الشرع ، ممَّا عليه يُدار ، وهذا في اعتقادي هو تجديد الدين ، وهو إحياء سنّةٍ أماتها الناس . فتجديد الدين إنما هو إحياؤه في الواقع قبل أن يذبل في النفوس ، وهو إعادة المسلمين إلى دينهم ، وإعادة دينهم إليهم ، عبر إيقاظ صوره النائمة في نفوسهم لتنعكس حياة في واقعهم .

وقد أوقع الفهم القاصر للحديث ، كثيراً من الناس في التقليل من أهميته في واقعنا ، حين ظنوا أنَّ الحلال والحرام ينحصر في الأبواب الفقهية بين صلاة وزكاة وحجاب وإرث ، ونسوا أن الفقه ليس كلَّ الدين ، بل هو الجانب العملي من الشريعة وفق اجتهاد الفقهاء وجهود البشر في فهمهم لحقيقة دينهم . والصواب أنَّ الحلال والحرام واقع في معالم الدين عقيدة وشريعة وأخلاقاً ، ولذا تدخل الشبه في هذه المعالم على اختلافها ، والنهي عن الوقوع في الشبهات نهي عن الجرأة عليها في الاعتقاد والسلوك بل والنية . فالإيمان بِعِظَمِ الله واجب ، والقول بِعَجْزِهِ مُنْكَر ، وهذا وذاك من الظهور والوضوح بحيث لا يجهله مسلم ، لكنَّ الخوض في آلية كلامه سبحانه هو بمنزلة الوسط المشكل بين وضوح الطرفين ، وما أحرانا اليوم أن ندعو المسلمين للاهتمام بالبيِّن ، والحذر من المشبَّهات . وفي الشريعة : الكلُّ يعلم أنَّ سفورَ النساء معصية وسَتْرَهُنَّ واجب ، وثَمَّ خلاف في التفاصيل ، وحين تجد المرأة نفسها اليوم ، أمام ريبةٍ فيمن حولها ، يجب عليها أن تختار مما يطمئن إليه قلبها من الواجِبِ السِّتْرَ ، اتقاء للشبهة . وهذا الأمر يرى الناس اليوم نتيجة الاستمرار في العمل بالرخص فيما يتعلق به ، مع الإعراض عن التوصية باتقاء الشبهات .

أما في الجانب الأخلاقي ، وفي العلاقات الاجتماعية ، فإحياء هذا الحديث اليوم ، هو أعظم ما يتقرب به الواعظ إلى ربه فيما أتصور . تحكيم قانون هذا الحديث في التطبيقات الأخلاقية وفي تعاملات الناس ، والاستفادة من إشاراته الواضحة في تفصيلاتها ، تحيي في الأمّة ، جانباً افتقدت كثيراً من آثاره في حياتها ، حتى غدت المحاكم الإسلامية تزدحم ازدحاماً يعجز القضاة معه عن البت في مشكلاتها لعدة سنوات ؛ لأنَّ المسلمين افتقدوا ميزان مراعاة الوسط الغامض ، إن صح التعبير .

إذا كان بناء الإسلام هو الأخلاق ، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، والصلاة والزكاة….. أركان وأسس يرتفع عليها البناء ، فلا يقوم البناء دون أساساته ، لكنه شيء آخر غير أساساته ، إنه الأخلاق ، فإذا كانت رسالة الإسلام هي الأخلاق ، كان الحلال في الأخلاق ، والحرام فيها ، هي معالم الإسلام على الحقيقة ، إقداماً وإحجاماً ، وكان الوسط الغامض فيها ، هو أوسع تطبيق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “وبينهما مشبَّهات”، وإذا حاول الدعاة من جديد ، إحياء ميزان هذا الحديث ، في الوسط المشكل من الأخلاق ، أعاد للأمة تاريخها المضيء الذي ننشده ونتغنى به ليل نهار .

يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم مرة باجتهاد يخالف اجتهاد الخليفة الصديق ، فجاء رجل ممن يريد الاصطياد في الماء العكر ، وقال للصديق ، من الخليفة ؟ أنت أم عمر ؟ فأجابه الصديق : هو إن أراد . لقد فهم الصديق مقصد هذا الرجل ، واجتنب الشبهة التي أراد إثارتها . وأنهى مشكلة كان يبغيها ويتوخاها .

الرجل يعلم وجوب النفقة عليه ، والمرأة تعلم وجوب حفظ الرجل في ماله وبيته ، وبين ما يعلم كلا الزوجين حِلَّه أو تحريمه ، مشكلات ، يرتاب منها قلب كلٍّ منهما ، فبدل أن تكون الجسارة في هذا الموطن ، وتسبِّب هذه الجسارة في الأعم الأغلب خلافات ، قد يكون أقلَّ خسارةٍ فيها انحلالُ عقد الأسرة المسلمة ، ليكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حَكَماً ، فمن رعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، وفي الحديث الآخر : ” دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ” .

وكسْرُ لَبِناتٍ من حائط مشترك بين جارين ، حرام بيِّن ، وحديث الرجل بصوت منخفض مع أهله دون إزعاج جاره حلال بيِّن ، وبين هذا الحلال البيِّن ، وذاك الحرام البيِّن تصرفات للجيران تشكُّ قلوبهم في نتائجها على العلاقة الجوارية ، التي قال فيها الحبيب الأعظم في حديث متواترٍ نصَّ الذهبيُّ وغيرُهُ على تواتره : ” مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنَّه سيورثه ” . ولو أنهم اجتنبوا هذه التصرفات ، اتقاء للشبهات ، لبقيت العلاقة الجوارية كما أرادها الإسلام .

وما أحوجنا اليوم لأن نحييَ في الناس اتقاء الشبهات في العقيدة والشريعة والأخلاق ، وأن نستدرك أنفسنا من خطر قادم ، فمعظم النار من مستصغر الشرر ، وللحديث تفصيل ليس هذا مكانه ، والمتكلمون فيه كثر . والله أعلم .

أحمد السعدي

دمشق 9/ 4 / 2009

كُتب في المناهج | التعليقات على الشبهة بين العقيدة والشريعة والأخلاق مغلقة

لماذا تستخدم المصارف الإسلامية أسعار الفائدة كمعيار للحساب والتقدير؟ما البديل؟

مقالة للإقتصادي الدكتور : أسامة القاضي

دأبت الكثير من المصارف الإسلامية على إنشاء كثير من عقود البيع الآجل وعقود البيع للآمر بالشراء وعقود البيع بالتقسيط للعقارات والسيارات معتمدة بذلك على أسعار الفائدة المتداولة في البنوك التقليدية دون أية مساءلة من الهيئة الشرعية متعللةً بأن المصارف الإسلامية محكومة بأسعار الفائدة في البنوك التقليدية التي اعتاد الناس على سماعها تباعاً في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، هذا طبعاً فضلاً عن استخدام البنوك المركزية في العالم الإسلامي بحجة أن أسعار الفائدة كأدوات اقتصادية من أجل الوصول إلى مرحلة التشغيل الكامل واستثمار الموارد الاقتصادية والمالية والفائدة بالنسبة للصيرفة العالمية على أنها تمثل الفرصة البديلة لتشغيل الأموال، فالمصرف التقليدي بحسب تلك الحجة يجب أن يحصل من أي عملية تمويل على عائد أعلى من سعر الفائدة السائد في الأسواق العالمية لتكون عملية التمويل مربحة.

عادةً مايقع العاملون في المصارف الإسلامية بحرج عندما يجلسون إلى العملاء الذين يريدون شراء حافلة أو عقار مثلاً فيسأل عن الربح الذي سيتقاضاه المصرف لقاء الاستدانة فيسارع الموظف بقوله المعدل 6 بالمائة مثلاً، ويحار في الإجابة عندما يسأله العميل وماهي هذه ال 6 بالمائة هل هي معدل الفائدة أو معدل الربح؟ على اعتبار أن المصارف التقليدية تتخذ نفس سعر الفائدة الذي هو معروف لدى العامة ولدى العميل لأنه بالتأكيد قد ذهب واستفسر عن حاجته لدى كل المصارف الإسلامية والتقليدية على السواء.

إن عدم استخدام مؤشرات شرعية كمعيار للحساب والاستثمار والربح يُضرّ للأسف بسمعة المصارف الإسلامية لدى العامة، خاصة لأنها تُتَهم للأسف بأنها نسخة طبق الأصل من المصارف التقليدية، وتستخدم نفس الأدوات “اللاإسلامية” من مثل معدلات فائدة “ليبور سعر الفائدة السائد بين البنوك في سوق لندن ” أو “البرايم ريت” ومعدلات الفائدة العالمية والمحلية في صعودها وهبوطها بحجة أن هذه مجرد أسعار استرشادية وأنهم مضطرون للأخذ بسعر الفائدة السائد في الأسواق العالمية عند تحديد هامش الربح في صيغ التمويل القائمة على البيوع الآجلة كعقد المرابحة وعقد التأجير، كي ينافسوا المصارف التقليدية، والتخريجة الأصولية هي “عموم البلوى”.

إن مسألة “عموم البلوى” على اعتبارها شيوع البلاء أو عسر الاحتراز أو صعوبة التخلص أو عسر الاستغناء أو صعوبة الابتعاد وتعذره (كما جاء في دراسة عموم البلوى-دراسة نظرية وتطبيقية لمسلم الدوسيري) لايمكن الأخذ بها في مسألة المصارف الإسلامية إلا على أنها نوع من التكليف كي تستحث المصارف الإسلامية للوصول لحالة من “الاستغناء” عن البدائل غير الشرعية، لا أن تستكين المصارف الإسلامية بعد ربع قرن من العمل إلى واقع الحال بل لابد أن تُعلن الهيئات الشرعية مجتمعة عن تحديد فترة زمنية لانتهاء فترة “الصعوبة” في الاحتراز من الأخذ بأسعار الفائدة كمرجعية، كأن تخرج فتوى بإمهال المصارف الإسلامية مجتمعة مدة سنتين للإنتهاء من هذه الاستعانة ريثما يتم لها استحداث مؤشراتها الخاصة بها.

البديل الذي ربما يكون أقرب لطبيعة الصيرفة الإسلامية هو أن تقوم البنوك الإسلامية مجتمعة بتخصيص جزء من ميزانيتها للبحث الاقتصادي والصيرفي العلمي لاستحداث مؤشرات للأرباح ولمخاطر الاستثمار في المصارف الإسلامية وكذلك مؤشرات اقتصادية في كل الدول التي لديها مصارف إسلامية وفي شتى ميادين العمل الاستثماري ومتابعته بشكل يومي وتوزيعه ونشره في الإعلام المقروء والمكتوب بحيث يكون هناك مثلاً معدل للأرباح العقارية والصناعية والتجارية آخذاً بعين الاعتبار التضخم ومستوى معيشة المواطنين في ذلك البلد الإسلامي وربما بهذا سيكون أكثر إقناعاً لعميل المصرف الإسلامي من مرجعية أسعار الفائدة هذا من جهة، وسيكون أقرب للعدل في تحديد الربحية المصرفية والذي تقوم على أساسه الصيرفة الإسلامية في عقود المرابحة، والبيوع الآجلة، والمضاربة، و عقود التأجير المنتهية بالتمليك وغيرها.

إن استخدام أسعار الفائدة مع استبدال المصطلح فقط هو نوع من الحيل “الشرعية” التي هي في حقيقتها غير شرعية لأن “العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني” كما يقول الأصوليون وإن استبدال المفردة اللغوية فقط لا يقنع العامة عندما يرون المصرف الإسلامي يقوم بتغيير عائد الاستثمار مع تغير أسعار الفائدة العالمية وبنفس المقدار حرصاً منه عدم تفويت فرص الربح.

هذا المطلب ليس جديداً فالدكتور نجاة الله صديقي طرحه في كتابه “استعراض للفكر الاقتصادي الإسلامي” 1987 بقوله: “لماذا لا يستخدم المعدل الجاري لنصيب رب المال في أرباح المضاربات التي تتولاها البنوك اللاربوية كأساس لتقويم ومقارنة الاستثمارات؟”

إن هناك إشكالية نأمل من الأخوة القائمين على الصيرفة الإسلامية التوجه لتداركها في المستقبل وهي أننا نطالب بأسلمة البنوك بينما سلوك البنوك الإسلامية –عموماً- يؤكد لعملاء المصارف الإسلامية أن استخدم أدوات المصارف التقليدية هي أكثر جدوى في الوصول للكفاءة الاقتصادية والمالية!

أعتقد أنه من الناحية الشرعية يجب أن نتأكد أن العملية المصرفية كلها من مبدأها إلى منتهاها ذات “نكهة شرعية” دون ترقيع “شرعي” وأن يكون عقد التمويل والبيع مكتمل الأركان وتام الشروط الشرعية بما فيها هامش الربح (سواء دُفع منجّماً( أي على أقساط) أو دُفع مرة واحدة) والحقيقة أنه لا ينبغي أن يُحَدد حسب لوائح أسعار الفائدة ، فضلاً عن تغير مبلغ القسط مع الزمن بتغير أسعار الفائدة وهذا تقليد تام لما يحصل في الصيرفة التقليدية عندما يكون سعر الفائدة على العقار مثلاً “معدل متحول” مؤلف من سعر الفائدة الأساسي (البرايم ريت) إضافة لهامش ربح (مثال برايم ريت 3% + 2% معدل ربح إضافي = 5% وفي حال قرر البنك المركزي رفع أسعار الفائدة إلى 5% فيصبح معدل الفائدة المفروض على العقار 5+2= 7%).

أدعو في هذه العجالة المصارف الإسلامية لإنشاء صندوق لتأسيس مؤسسة تعنى بـ”نَحت” واستحداث مؤشرات تسترشد بها المصارف الإسلامية على أن يدفع كل مصرف 0.5 بالمائة من مبلغ التأسيس (مرة كل عشر سنوات) على ألا يتجاوز المليون دولار (لوكان مبلغ التأسيس 100 مليون دولار فقط فالمبلغ المخصص لهذا الغرض سيكون نصف مليون دولار) فلو تصورنا أن ال300 مصرف إسلامي في أعلى تقدير قد ساهمت في هذا الصندوق فنحن لدينا حوالي 150-300 مليون دولار تكفي لهذا الغرض بشكل تقديري مبدئيا من أجل استحداث مؤسسة مالية متخصصة في استحداث المؤشرات المالية والتجارية بعد دراسة الأرباح والمخاطر في التمويل المصرفي الإسلامي خلال السنوات العشرين الماضية سيكون هذا عمل مبارك وطيب تستفيد منه الأمة وتعزز الصيرفة الإسلامية مكانتها كلاعب جاد في عالم المال والبنوك، وعندها فقط يمكننا أن نقدم للمصارف التقليدية خدمة الإستعانة بمؤشرات أقرب للعدالة، ونتمتع معاً بمصارف ذات “نكهة إسلامية خالصة” بدون “ترقيعات شرعية” والتعلل بمبدأ “عموم البلوى”، ولو خرجت الهيئات الشرعية بفتوى إمهال المصارف سنتين لاستحداث المؤشرات الشرعية المرجعية في الأرباح سيتذوق العامة والخاصة في عام2011 بـ”المذاق الشرعي الخالص” للمصارف الإسلامية.
http://www.almultaka.net/index.php

كُتب في المناهج | التعليقات على لماذا تستخدم المصارف الإسلامية أسعار الفائدة كمعيار للحساب والتقدير؟ما البديل؟ مغلقة

جريمة اختفاء الدكتورة (ن) للأستاذة الدكتورة هبة رؤوف عزة

عنوان المقال الأصلي : هو البحث عن الدكتورة “ن” ، ولكننا فضلنا تسميته : “جريمة اختفاء الدكتورة “ن” فليست الحكومات الظالمة هي الجهات الوحيدة التي يختفي المواطنون في سجونها ، بل هناك آخرون يدمرون من الحياة ما عجزت عنه الأنظمة الاستبدادية.
من أين تنبت العدالة في مصر إذا لم نروها في البيوت؟ وكيف نتطلع للتغيير الحقيقي ونحن أول أعدائه، وكيف نطالب بتطبيق الشرع والدين ونحن أول مخالفيه، وكيف نشكو من تراجع الأخلاق ونحن نتواطأ علي هدر كل قيمة نبيلة بصمت غريب وتخاذل عجيب غير مبرر ولا مفهوم.. ونخشي الناس ولا نخشي الله.. وكيف وكيف وكيف؟
ما زالت ضحكتها في أذني، هذا الصوت القوي وتلك الشخصية المرحة وهذا العقل الراجح.
تعارفنا منذ قرابة عام، وتقاربنا رغم أنها تقيم في الصعيد وأنا من أهل القاهرة. اتصلت بي لتكتب في تقرير دوري جزءاً عن الحالة الصحية..وبدأ التعاون.

مع الأيام تطورت الصداقة وعلمت أنها تتعرض للضرب والإهانة من زوجها منذ سنوات، وآلمني أنه من أصحاب الخطاب الديني الذين يتحركون في المجال العام بشكل منظم. الإهانات المتكررة تتعرض لها أمام أبناء تتراوح أعمارهم بين طلبة الجامعة وطلبة الابتدائي..بل ويتم التعدي عليها بالقول في مكان العمل أحياناً أمام الزملاء، رغم أنها تحترم زوجها بل تأخرت عمداً في الحصول علي الدكتوراه كي لا تتخطاه..لأنهما في التخصص نفسه.

حدثتني عن الأحلام البريئة حين قبلته زوجاً، عن مشاعر الحب التي ملأت قلبها نحوه، والآمال الكبري عن إصلاح المجتمع وتأسيس أسرة تنهض بالأمة، وكيف ذهبت هذه كلها مع الريح. ما أسهل أن نتحدث عن نهضة الأمة دون أن نغير طباعنا، وأن نرفع شعارات الحل لإقامة دولة لكن إقامة العدل والإحسان في داخل بيوتنا أصعب، حدثتني عن التفاصيل البسيطة..وما الحياة الزوجية إلا مجموعة من التفاصيل البسيطة.

شكت لي كثيراً وأنا أنصت حزينة علي حال مجتمع يشكو ظلم حكامه ونخبته وهو أكثر ظلماً لنفسه وسكوتاً عن الحقوق، تشكو في مرارة وأنا أنصحها بالمصارحة والكلام، فالكلام لا بديل له سوي صمت قاتل.. أو عنف بالغ، ثم كان نصحي مع تطور الأحداث بتدخل الأهل للإصلاح.

لكن العمر يمضي، والكيل يفيض، والزوج لا يقيم وزناً لمكانتها الإنسانية والزوجية والعلمية بل والاجتماعية، فهي ليست ابنة بيئة اعتاد أهلها علي تلك الخشونة فوالدها طبيب وكذلك والدتها، ومكانتهما الاجتماعية معلومة، والأولاد تكبر، وآثار الضرب علي وجهها تظهر فتبررها كل مرة أمام الصديقات والزملاء في الجامعة بأنها اصطدمت بالباب(!).

الدكتورة «ن» اعترضت وطلبت الانفصال ..لكنه تمادي، التمست النصرة من الأهل فنصحوها بالاستمرار حتي لا تهدم البيت،..ونظرت لأبنائها فوجدت كل واحد منهم مشغولاً بصورته أمام دائرة أصدقائه و«سمعته» لو صارت أمه «مطلقة» وطالبوها -كلهم- بالصبر، واستغاثت بمن يرفعون الشعارات الكبري من أصدقاء وزملاء زوجها الأكبر سناً والأعلي مقاماً منها فتحدثوا عن أولوية استقرار البيت، وهي تكرر بإصرار طلبها المشروع والشرعي: «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان»..لكن التفاوض الودي لم يثمر إلا المزيد من الإهانة فالتمست المشورة القانونية وبدأت- وحدها- تتصل بالمحامين في مدينتها وفي القاهرة. تعثر التفاوض مع الزوج وأهله، وخذلها الأبناء، وتراجع أهلها، وهي تتألم، لكن لا تتخلف عن أداء مسئولياتها ولا عن القيام بعملها بل وتتابع وتتحرك وتنشط في حملات العمل الاجتماعي لخدمة الفقراء من المرضي وتوعية النساء.. رغم أعبائها وأزمتها.

كانت الدكتورة «ن» في آخر مكالمة معي قد شكت لي أن زوجها الآن يتحدث عنها أمام الناس باعتبارها «أصابها مس من الشيطان أو حالة نفسية»، وأشعرني هذا بالخطر المقبل، فما أسهل أن يتم تشويه سمعة امرأة حين يكون من يفعل ذلك هو الزوج.. رافعاً شعار حرصه -هو- علي الحفاظ علي البيت.

وفجأة..

اختفت الدكتورة «ن»!

لا ترد علي الهاتف، ولا تتصل.

ثم وصلت رسائل للمحيطين بها تطلب منهم عدم الاتصال بها «حتي لا يحل عليهم غضب الله والناس»، ثم أصبح الهاتف مغلقاً.

سأل من يعرفونها من المحيطين عنها فجاءت الإجابات متضاربة، قالت الأم هي في زيارة لخالتها في محافظة أخري، وقال الابن لبعض الناس إنها تعاني من أعراض أشبه بالتوحد فتم عزلها عن الناس -وهي التي لم تكف عن الكلام والتواصل والحركة منذ عرفتها-، وبادر الزوج بالاتصال بآخرين قائلاً بحزم: «زوجتي حالتها النفسية متوترة فلا تحاولوا الاتصال بها..وإلا!».

سأل بعض معارفها الذين بدأوا يشعرون بمسئوليتهم أمام الله خبراء من أهل القانون فقالوا لا يمكن تحريك أي بلاغ إلا «من ذي صفة»، وهي لا يوجد حولها من أهل الصفة من يريد أن ينصرها، وحيدة هي الدكتورة «ن» تطلب العدالة، فكان جزاؤها أن تتهم بأنها «ليست في حالة طبيعية»..أما كل هؤلاء فأصحاء..لأن هدفهم الأسمي أن يحافظوا علي الأسرة….بهذا الثمن..لا بإمساك بمعروف..ولا بتسريح بإحسان..بل بهذا الذي يجري..ويبدو أن الأمر صار أكبر من حالة الدكتورة«ن»، صار مبدأ..ومذهباً..و«سمعة جماعة».

بلغني الخبر من عشرات المكالمات والرسائل، الكل يسأل ويتعجب، بل بدأ البعض في الإعداد لحملة علي الإنترنت للبحث عن الدكتورة «ن»..تدعو أن يشارك أي أحد يعرف معلومة منها أو عنها بما يعرف.

أنا لا أعلم أين هي الآن الدكتورة «ن» ..وخشيت أن أسأل فأنا «غير ذي صفة»، و«أصحاب الصفات» الحقيقيون يديرون الآن حياة امرأة تجاوزت الأربعين عاقلة طبيبة ملتزمة ناشطة.. ويهددون من يحاول الاقتراب منها أو السؤال عنها، أما هي فغائبة..لا يدري أحد خارج أسرتها أين مكانها ولا يعرف كيف يصل إليها.

كل ما أملكه وفاء لصداقتنا هو أن أكتب قصتها..قصة تلك المرأة الرائعة التي كانت تملأ الدنيا بزخم مشاعرها وحركتها وتمنح أبناءها ومرضاها ومن حولها وكل من عرفوها الطاقة والقوة والقدوة والعون..وناصرت أهل الحاجة والكرب لكن أحداً لم يناصرها حين طالبت أن يكون لها في بيتها قليل من الكرامة..أو حياة أكثر عدالة.

لا أحد!

ادعوا معي للدكتورة «ن» أن تعود من.. «مخبئها»، ادعو الله لها أن يفرج كربها..الذي هو كرب مصر.

http://dostor.org/ar/content/view/19143/31/
05/04/2009
*الأستاذة الدكتورة هبة رؤوف عزة ، مفكرة إسلامية ورائدة من رائدات الحركة الإسلامية النسائية ، وأستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة.

كُتب في المناهج | التعليقات على جريمة اختفاء الدكتورة (ن) للأستاذة الدكتورة هبة رؤوف عزة مغلقة

تايتانيك 3 …..

في كل بلاد الدنيا تحصل حوادث مؤسفة يذهب ضحيتها أشخاص أبرياء[1] وتذوي حياة أفراد مثل الورود ، ممن كانت أوطانهم تنتظرهم من أجل أن يدفعوها إلى النهضة والنماء.

لكن ما حصل في بحيرة زرزر من غرق بناتنا نتيجة ركوبهن في زورق متآكل هو مؤشر مخيف بحق ، ولم يكن أمراً طبيعياً بحال ، وهو قمة لجبل جليدي قاعه مرعب، ومن أجله كان هذا المقال.

أكمل قراءة التدوينة

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على تايتانيك 3 ….. مغلقة