الصفحة 51 من 51« الصفحة الأولي...102030...4748495051

قيم المجتمع الأميركي نحو فهم الآخر

مازن هاشم

أثار طرح صموئيل هنتنغتون “تصادم الحضارات” جدلاً عريضاً على الصعيدين السياسي و الأكاديمي، و أصبح كتابه اليوم شائع التداول لأنه اعتبر مفسراً للأحداث العالمية. وقد رد عليه الكثير من الكتاب وأثارت الردود جولة أخرى من الردود، وليس من غرضي أن أستعرض هذا السجال العلمي بل غرضي أن أسجل نقطة منهجية أجعلها مدخلاً لما أريد أن أطرحه في هذا المقال.

إن مشكلة رئيسية في طرح هنتنغتون تكمن في الخلط بين مستويات التحليل. وذلك لأن فكرة وجود أنماط حضارية متمايزة ليست فكرة جديدة، والنموذج الحضاري يوجه الفعل الحضاري باتجاهٍ ما ويعطيه طابعه وصبغته فيتجلى ذلك في الأدب والفن والمعمار وغيرها. فالنموذج الإغريقي مثلاً يفترق بشكل واضح في فنونه وآداب أهله عن فنون وآداب الحضارة الصينية أو الحضارة الإسلامية وأهلها. وإنه أذا كان هذا واضحاً ومفهوماً فإنه يجب الإنتباه إلى أن مفهوم النموذج الحضاري مجرد واسع الإستيعاب ولا يمكن تصويره كمعمل للتعليب الثقافي. فالنموذج الحضاري الواحد ينتج تجليات متعددة، فالصوفية و الفقهية القانونية مثلاً نشأتا ضمن مناخ حضاري واحد و كذلك الرواقية والنفعية كذلك نشأتا في مناخ حضاري مختلف آخر. أي أن القول بتميز النموذج الحضاري لا يمنع من وجود التنوع (المتباعد في ما بين أشكاله أحياناً)، وإن كان هذا التنوع ذاته ينصبغ أيضاً بصباغ مستمد من خصوصية حضارية.

وانطلاقاً من هذه الملاحظة فإني أشير إلى ثلاثة إشكالات منهجية في طرح مفهوم تصادم الحضارات: الأولى هي الإغفال الكامل للتنوع الداخلي ضمن كل حضارة، والثانية تكمن في رحابة مفهوم الحضارة وشموله بحيث لا يصح معه الاهمال التام للتلاقح بين الحضارات، والثالثة – وهو ما يهمني في هذا المقال – استخدام هذا المفهوم التحليلي لتفسير ظاهرة على مستوىً آخر. وهنا لا بد من بعض التفصيل.

إن لكل مفهوم تحليلي دائرة أو مجال يصح استخدامه فيها، ولا يصح تعميم النتائج المتعلقة بمجال ما لتشمل أموراً متعلقة بظاهرة أخرى في مجال آخر. فلو طورنا مفهوماً حول كيفية انتشار الجراثيم وتكاثرها في الدم فإنه لا يصح على الإطلاق أن أستخدم هذا المفهوم لتفسير انتشار الجراثيم في بيت المريض. ولو طورت مفهوماً لتفسير الصراعات الإثنية فلا يصح استخدامه لتفسير الخلافات الأسرية، ولو وقعنا على بعض التشابه بين هذين المسألتين فإنه يعتبر تشابهاً عابراً لا يستقيم به التفسير العلمي وإن كان يمكن إيراد ذكر التشابه على سبيل المجاز و تقريب الفهم. وعلى هذا فإنه يصح أن يطرح مفهوم التباين الحضاري كتفسير للتوجهات الثقافية أو النمط السياسي والاقتصادي العام، ولكن لا يصلح أن يستخدم في تفسير الفعاليات والوقائع العملية السياسية والاقتصادية الخ. ولكن يمكن تعقب أوجه التباين بين نموذجين حضاريين في أمر ما لدراسة الأبعاد التي يدخلها في حسابه كل منهما وشدة التركيز على هذا الأبعاد. وحين يلتقي نموذجان حضاريان في مسرح تاريخي واحد فالذي يحدث عملياً ليس التنافر المطلق بل التلاقح و التأثير البطيء المتبادل علاوة على التنافر.

والخلاصة أن الذي لا يصح منهجياً هو استخدام مفهوم الحضارة لتفسير صراعات سياسية أو تنافس اقتصادي (محلي أو إقليمي) مع تجاوز تحليل أفعال وتصرفات المؤسسات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية2 و أثر ذلك على إدارة الصراع، ولا سيما إذا وصف بالحتمية. والتخالف الحضاري قد يشير إلى شهوة الصراع واستساغته أكثر من الأسباب الداعية له والموصلة إليه. ولا يخفى أن نغمة صراع الحضارات تُعجب السياسي أحياناً لأنها تعطي المبرر الأخلاقي لأفعاله الناشزة، كما تجدر الإشارة الى أن معظم أدبيات الحركة الإسلامية تقع في هذا الفخ المنهجي فيطرحون التاريخ طرحاً مؤدلجاً مثل ما يفعل غيرهم.

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على قيم المجتمع الأميركي نحو فهم الآخر مغلقة

الكلمة الشهرية (رمضان المبارك) 1426هـ – 2005-10-16

الحمد لله الذي إليه يرجع الأمر كله ، وأزكى صلاة على الهادي سيدنا محمد وآله وصحبه وعلى أهل الحق في كل البلاد.

 

إخواننا الأحبة، أخواتنا الغاليات: عليكم سلام الله دائما أبداً ورحمته وبركاته وبعد:

فهذا الموقع وقد سميناه (دربنا Darbuna) إنما هو مولود جديد في درب الدعوة يحبو، وبدعائكم وسديد رأيكم يشتد وينمو، حاولنا مااستطعنا أن نجعل فيه زاداً جديداً في درب قديم مااستطاع أحد أن يزعم له بدلاً، فالدعوة إلى الله هي عمل الأنبياء والرسل الكرام، ولقد أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “وَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِهُدَاكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أن يَكُونَ لَكَ حُمْرِ النَّعَمِ” (رواه البخاري-المناقب 3701).

من خلال موقعنا سنزرع الخير ألوانا، وسنتواصل مع كل إخواننا وأخواتنا في بقاع الأرض كلها، ولن نترك مورداً عذباً إلا وننهل منه؛ نرتاد ونستقي فنسقي، وفي موقعنا نرفع للنصح راية ونعيد السمت الأول إذ نجتمع على الأصل الذي إليه كلنا ينتسب فلا نحصر الإسلام في مدرسة ألفناها ولانجعل الأوسع حبيس الأضيق، بل نفزع إلى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء-92) ومن روح الأمة الواحدة نتناصح، ونبحث عن أفضل وسائل الدعوة إلى الله، وندرس مسائلها ونحيي فقهها مرة أخرى، ونُعَرِّجُ على سير السابقين من أعلام الأمة فنلتمس البركة من تجاربهم ونلصق خدنا بالأرض اعترافاً بفضلهم وسبق جهدهم، مع علمنا بأنهم بشر والكل يصيب ويخطئ، ومامن باب خير إلا وندقه، ولنا في ذلك منطلقات تحت دوحة الإيمان استظلت، وفي شغاف القلب نقشناها.

 

وإن سهت أعيننا فأنين أهل الحق يوقظنا، وحال البشرية التائهة يؤلمنا، والأجر من الله حادينا.

دربنا بالوعي نملؤوه، ولانرضى السذاجة في دربنا، ولانسير تقليداً من دون بصيرة، بل نبحث عن الصواب فنعلنه، ونرفع له راية، وتبقى دعوتنا أغلى من أن نجامل في حقائقها، أونغِّيب صريح معانيها.

 

من توفيق الله أن يكون انطلاق موقعنا في شهر التقوى، في رمضان ولله در رمضان ما أكرمه:

 

فلأنفاس رمضان … عبقٌ لايُنسى.

ودروب الخير فيه … تمتد بلا انتهاء.

في الصيام نداوة التوحيد ، ومدرسة التقوى.

وفيه الجهاد الأكبر والأصغر … يكون.

وعندما تكاد الأمة تتشرذم أو تضيع :

يلملم رمضان شملها … ويعيد زمرة القلب الواحد.

وفيه يكون الري … إذا جفت الينابيع والسواقي.

وبرحمة الله تعالى … يكون الفرح وإليها الشوق.

وإلى نفحات الهداية من المعلم الهادي صلى الله عليه وسلم … يكون الحنين.

وتحت المآذن والقباب … تولد الجموع من جديد.

رمضان عالَمُ إيمانٍ … أخاذٌ آسِر .

وشمس هداية لاتغيب … ومشكاة صدقٍ وتقوى … ومواساة وتراحم … ونصر وتأييد .. التقوى فيه ألوان لاتُعد..

فلنغترف منه .. فإن القلوب إلى ريه لظماء.

 

ببركة الله نبدأ سيرنا، وبكم إخوتنا تزدان الأرض وتمتلئ هداية وإيماناً.

نسأل الله السداد والرشاد والتوفيق

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

أحمد معاذ الخطيب الحسني

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على الكلمة الشهرية (رمضان المبارك) 1426هـ – 2005-10-16 مغلقة

سلسلة البناء الدعوي – 3

المبحث الثالث
أسلوب الداعية
مطلب : اعتماد طريقة المصحف البشري.
مطلب : ندعو الناس من خلال دنياهم.
مطلب : حديث لافتنة فيه.
مطلب : الهداية والتربية لا التعبئة والاستعداء.
مطلب : وعاء للخير كله.
مطلب : التدرج في الطرح.
مطلب : المبادرة.
مطلب : خير دائم وإن قل.

يقدم المنهج السليم ضمانات كبرى في تحقيق المطلب الشرعي ، ولكن ذلك لابد من اقترانه بأسلوب سليم أيضاً ، وكم من حق ضاع بسبب أسلوب لم يواكب المقصد والغاية ، ويقرر ذلك قوله تعالى : )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ([1] ، وفي ذلك أيما عبرة لحامل الحق والهداية ، ومما يزكي أسلوب الداعية مراعاته مايلي:
1- اعتماد طريقة المصحف البشري : يلاحظ في عديد من الدول الإسلامية انتشار هائل لمعاهد تحفيظ القرآن الكريم ، ولفت أحد الإخوة انتباهي إلى أنه لم يقرأ على لافتة واحدة اسم معهد لتفهيم القرآن الكريم!
لماذا لا تمتد عالمية الدعوة فتكون في مستواها الأول ؟ ولماذا لايتحول القرآن ليكون محور الحياة لا للمسلمين فقط بل للبشرية جمعاء. إن كثيرين من المسلمين يردون الانحسار الى الأسباب الخارجية والكيد والقوى المرصودة لحرب الاسلام ؛ والآية الكريمة توضح أن السبب الأول لكل علة مرده الى أمر داخلي: )أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ([2] .
من أهم عوامل الضعف الداخلية اختفاء كثير من المصاحف البشرية ، وتكريم القرآن والاهتداء به لايكون بوضعه على الجدران ، بل بأن يسكن القلوب وتتحرك به الجوارح وتبذل له النفوس . تحول الانسان المسلم الى مصحف بشري أصبح في غاية الندرة ، وأغلب البلاد الاسلامية فتحتها المصاحف البشرية قبل أن تصلها جيوش المسلمين ، والسيوف ربما ُتقهر ، أما المصاحف البشرية فلا يقيدها شيء.
الإمام بديع الزمان سعيد النورسي كان مصحفا بشريا ؛ قاوم سياسة الماسونيين في تركيا ، ولما أرسلوا له قرهصو اليهودي لمساومته ، خرج من عنده وهو يقول: (لقد كاد هذا الرجل العجيب أن يزجني بحديثه في الإسلام)[3]. كان النورسي يتدفق ايمانا واخلاصا ، ولما سألوه في السجن عما اذا كانت له طريقة صوفية قال : (إن عصرنا هذا هو عصر حفظ الايمان لاحفظ الطريقة.. إن كثيرين يدخلون الجنة بغير الانتماء إلى طريقة صوفية ، ولكن أحدا لايدخل الجنة بغير ايمان)[4].
إن الإخلاص مفتاح أساسي لفقه القرآن ، والإخلاص هو حادي العمل ، ويقول الإمام الجيلاني: (كم تتعلم ولاتعمل ، اطو ديوان العلم ثم اشتغل بنشر ديوان العمل مع الإخلاص وإلا فلا فلاح لك )[5].
2- ندعو الناس من خلال دنياهم : قال الإمام ابن القيم : (العارف لايأمر الناس بترك الدنيا فإنهم لايقدرون على تركها ، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم ، فترك الدنيا فضيلة ، وترك الذنوب فريضة …. العارف يدعو الناس إلى الله من دنياهم ، فتسهل عليهم الإجابة ، والزاهد يدعوهم إلى الله بترك الدنيا ، فتشق عليهم الإجابة)[6].

 

الحياة الطيبة في الدنيا هي بعض موعود الله لمن استقام :)مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ([7]. قال سعيد بن جبير وعطاء : (هي الرزق الحلال والعيش في الطاعة ، وحلاوة الطاعة ، والقناعة)[8].
3- حديث لافتنة فيه : أمر الله تعالى أن )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ([9]، وقال تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ([10] ، وجاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون أتُحبُّون أن يُكَذَّبَ الله ورسوله)[11]، وقد غلب عند بعض المسلمين فقه معين عمموه حتى صار عند كثيرين أصلاً يظنون الإسلام لايتسع لغيره، وطالما حصل بذلك صد غير مقصود عن سبيل الله ، وحرج وضيق بل إغلاق أبواب وتعسير سير، ومن ذلك مايظنه البعض من أن رد السلام على غير المسلم لايجوز بحال ! والتبس الأمر على البعض وفيه تفصيل ، وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن المدى الذي يمكن للمسلمين أن يتعاملوا به مع من حولهم من غير المسلمين؟ فقال في جملة جوابه : (يقول الله عز وجل : )لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ([12] ؛ أما مبرتهم فأن نحسن إليهم ، وأما الإقساط إليهم فأن نعاملهم بالعدل ، ومعاملة الإنسان لغيره لاتخلو من ثلاث حالات: إما أن يعامل بالإحسان ، وإما أن يعامل بالعدل ، وإما أن يعامل بالجور ؛ فالمعاملة بالجور محرمة ، حتى في حق غير المسلمين ؛ لايجوز لك أن تعاملهم بالجور والظلم ، حتى أن ابن القيم رحمه الله لما تكلم على قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((إذا سلم أهل الكتاب فقولوا وعليكم)) قال : هذا إذا قالوا السلام غير واضح بحيث يشتمل ويظن أنهم قالوا : السام ؛ أما إذا قالوا: السلام عليكم بلفظ صريح فإنك تقول : وعليكم السلام ، بلفظ صريح ، لقوله تعالى: )وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا([13] وقال : هذا هو مقتضى العدل ، وأما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم ؛ فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم علته في حديث ابن عمر قال: إن أهل الكتاب يقولون: السام عليكم ، فإذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم\\\” فبين الرسول r علة هذا الحكم ؛ على هذا نقول إنه لاحرج إذا سلموا علينا بلفظ صريح أن نرد عليهم السلام بلفظ صريح … )[14].
إن عالمية الرسالة تقتضي انفتاحاً واستيعاباً أشمل من النظرة الأحادية التي تساهم في انكماش مد الإسلام في الأرض ، وعالمية الرسالة تقتضي اغتنام كل جوانب الفقه ومدارسه الواسعة ، ليكون الإسلام بحق ديناً عالمياً صالحاً لكل زمان ومكان.
4- الهداية والتربية لاالتعبئة والاستعداء: من أسهل الأمور الاشتباك مع الناس ، وهذا مما لاتستقيم الدعوة به ، ولقد قال تعالى: )وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ([15].
في أحيان كثيرة فإن صبر الداعية واستيعابه للظرف يجعله يكسب الأطراف الأخرى ، وإن كثيرين من الناس انحرفوا لأنهم لم يجدوا يداً حانية هادية تمتد إليهم لتنقذهم من ظلمات الضياع ، ويذكر الداعية المرحوم عمر بهاء الدين الأميري أنه كان متوجهاً للتعزية بالشيخ البشير الإبراهيمي في الجزائر ، وتوقفت الطائرة ليلة في جنيف ، وكان يشرب البرتقال وحيداً عندما جلست بجانبه إحدى المضيفات طالبة منه أن يقدم لها كأساً من الخمر ؛ فقال لها : (معاذ الله ! كيف أقدم الأذى للناس وقد صنت عنه نفسي! قالت: وماذا يهمك من أمري؟ قلت: نحن من أسرة واحدة! عجبت [المضيفة] ، وسألت: كيف؟ قلت: أسرة الإنسانية ؛ إنها كلها أسرة المسلم ؛ قالت : ومن أنبأك أني إنسانة؟ لقد أُنسيتُ ذلك من زمن طويل! قلت: بل إنسانة والمسلم لاينسى الحق ؛ قالت: دعك من إنسانيتي! أنا هنا لأمارس حيوانيتي … قلت: وليس مكانك هنا! قالت: وأين؟ قلت: إلى جوار سرير طفل ؛ في كنف زوج! فأخذتها حُرقة ، وتساقطت من عينيها دموع ، وتمتمت : ما أرحمك ، وما أظلمك! ذكرتني بإنسانيتي فأحييتني حتى أبكيتني! ولكن ما الجدوى؟ إنسانة ولا أستطيع ان أعيش إنسانيتي ربع ساعة ….)[16].
إننا نحتاج حقيقة إلى روح الإيمان العظيمة الآسرة ، وعندها ستتبدل الحياة على أيدينا إلى الأصلح مصداقاً لقوله تعالى: )وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ([17].
5- وعاء للخير كله : هناك معان يفترض أن تعانق كل ذرة فينا ، ولنأخذ مثالاً عن ذلك حب الجمال في الحياة ؛ والذي علينا أن نأخذ منه بالحظ الأوفى ؛ فالمُشاهد أن أغلب الانحرافات تأتي ممن حرم نعمة تذوقه ، فهو قمة التناغم والتوافق والتألق والعطاء ، و((إن الله جميل يحب الجمال))[18] ، وعلى هذا فالإيمان هو ذروة الجمال ، والكفر هو غاية القبح ، وتذوق الجمال الإيماني مدعاة لكل بر ومعروف ، وفي ديننا يعلمنا الرسول r أن ((كل معروف صدقة))[19]، وهذا يمتد فيشمل حتى الحيوان البهيم فـ ((بينما كلب يطيف بركية ، كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل ؛ فنزعت موقها فسقته ، فغُفِر لها به))[20].
لايمكن للمد الدعوي أن يتسع ويتعمق في حياة الأمم حتى يكون أهل الدعوة أوعية لكل خير، وسباقون لكل معروف ، والمؤسف أن هذا أمر شديد الضمور ، فـ (لماذا لم يتضح في حس المسلمين أن محاربة جنون التسلح والتجارب النووية ، وإيقاف التلوث والحفاظ على البيئة ، ومنع انتشار المخدرات وغيرها ؛ فروض حضارية ومحور أساس في عالمية الإسلام وشموله)[21]، فليست دعوة الهداية كلاماً بل حالاً ، وروحاً تدب في الموات فتحييه ، وهي ليست كذلك جزئيات مبعثرة ، بل عقيدة صالحة تمتد في كل زمان ومكان.

6- التدرج في الطرح : إن الدهشة تعتري الباحث المسلم حين يرى الخلط العجيب عند بعض الدعاة بين الحكم الشرعي ، والتدرج في طرح ذلك الحكم ، ويؤدي ذلك إلى نتائج كارثية على الدعوة ، وعلى سبيل المثال فإن تحريم الخمر أمر لايختلف فيه مسلمان ، ولكن حمل ذلك إلى الأفراد والمجتمعات بحاجة إلى نظر حسب الظرف ، ومن أكثر الأمثلة إيلاماً ماذكره المؤرخون من أن بعض المسلمين البلغار قاموا حوالي عام 988 م بمحاولة إدخال الامبراطور فلاديمير إلى الإسلام (ولم يقف في سبيل تحوله هو ورعاياه إلى هذا الدين إلا الختان وتحريم الخمر المستعملين عند المسلمين ، وصرح بأن الروس لا يعدلون عنهما)[22]، لقد جعل بعض المسلمين الختان فريضة ، ولم يستطيعوا إقناع الامبراطور أن يترك الخمرة الحرام ، وكان يسعهم أن يخبروه بأن الله حرمها لحكم عظيمة ، ومن لايستطع تركها فليحاول قدر مايستطيع ، وقد نحصل بذلك على جيل مسلم فيه شربة خمر ، وهو خير من أمة كافرة .
7- المبادرة : ليست الدعوة شقشقة كلام ، وإنما هي خير عميم ينتظره الداعية بشوق عجيب ، ودعاة مجالس الكلام لايفلح على يدهم الكثير، والدعوة بحاجة للمبادرة ، والمبادرة أساسها الحركة الصحيحة، )وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ([23]، وقد فقه الإمام الجيلاني مريديه بذلك فقال: (عليك بالصف الأول لأنه صف الرجال الشجعان ، وفارق الصف الأخير فإنه صف الأجبان [الجبناء])[24].
(وقد ظهر أن أمة أوجماعة ليس فيها روح الدعوة ، والتقدم ، والهجوم ، لاتحافظ على وجودها ، وعلى مبدئها وعقيدتها ، وإن موقف المدافعِ موقفُ الضعيف المعرض للخطر ، وكل من لايكون داعيا يكون هدفا لدعوة أخرى ، وقد ثبت بالتجربة أن خير وسيلة للإيمان بالمبدأ والثبات عليه ، ومتانة العقيدة والاستماتة في سبيلها ،هي الدعوة إليها)[25].
8- دائم وإن قل (الإستمرار) : من آفات بعض الدعاة البداية بمشاريع دعوية كثيرة ثم الانصراف عنها ولما تتم ، ولقد أمرنا الله تعالى بالاستمرار في العبادة والخير فقال: )وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ([26] ، وقد (سئل النبي r: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل ، وقال: اكلفوا من الأعمال ماتطيقون\\\”[27].
لابد للداعية من الاستمرار ومن معارضات ذلك قلة الهمة ، حتى قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: (البكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم\\\”[28]، وإن ضعف الأمة الداخلي والكيد الخارجي علاجه الاستمرار في حمل الحق والاصرار العنيد على ذلك : )وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ([29].
ومن عجائب الدعاة واستمرارهم المهندس محمد توفيق المصري ، مؤسس دار تبليغ الإسلام ، وقد استمر في مراسلة أحد الأوربيين سبعة عشر عاماً حتى ظفر به مسلماً موحداً ، وفي هذا قال رحمه الله : (إنني في مجال تبليغ الدعوة للأجانب ، لا أترك الأجنبي الذي يراسلني بصدد دعوة الإسلام ، إلا بعدما يعلن الشهادتين)[30].

——————————————————————————–

[1] – سورة آل عمران ، آية 159.
[2] – سورة آل عمران ، آية 165.

[3] – إحسان قاسم الصالحي ، بديع الزمان سعيد النورسي ، نظرة عامة عن حياته وآثاره ، إستانبول ، دار سوزلر ، ط2 ، 1987 ، ص30.
[4] – المرجع نفسه ، ص80.
[5] – عبد القادر الجيلاني ، الفتح الرباني ، مرجع سابق ، ص200.
[6] – ابن قيم الجوزية ، ابن قيم الجوزية ، محمد بن أبي بكرالزرعي الحنبلي ( 751 هـ ) ، الفوائد ، تحقيق بشير محمد عيون، بيروت ، مكتبة دار البيان ، ط2، 1408/1984، ص299.

[7] – سورة النحل ، آية 97.
[8] – عبد الغني الدقر ، مختصر تفسير الخازن ، مرجع سابق ، 2 ،ص 923.
[9] – سورة النحل ، آية 125.
[10] – سورة إبراهيم ، آية 4.
[11] – ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، مرجع سابق ، كتاب العلم ، باب من خص بالعلم قوما دون قوم ، 1 ، ص272 ، وهو حديث علقه الإمام البخاري.
[12] – سورة الممتحنة ، 8.
[13] – سورة النساء ، ص86.
[14] – محمد بن صالح العثيمين وآخرين ، الأقليات المسلمة في العالم (بحوث وتوصيات المؤتمر العالمي السادس للندوة العالمية للشباب الإسلامي ، الرياض ، دار الندوة العالمية ، 1420هـ/1999م ، 3 ، ص 1339.
[15] – سورة الأنعام ، ص 108.
[16] – عمر بهاء الدين الأميري ، الإسلام في المعترك الحضاري (دراسات حضارية معاصرة) ، بيروت ، دار الفتح ، 1388هـ/1968م ، ص 40.
[17] – سورة السجدة ، آية 24.
[18] – يحيى بن شرف النووي ، شرح صحيح مسلم ، مرجع سابق ،كتاب الإيمان ، باب تحريم الكبر ، ص172.
[19] – ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، مرجع سابق ، كتاب الأدب ، باب كل معروف صدقة ، الحديث (6021).
[20]- المرجع نفسه ، كتاب أحاديث الأنبياء ، الحديث (3467).
[21] – أحمد معاذ الخطيب الحسني (بالاشتراك مع مؤلفين آخرين) ، مالا نعلمه لأولادنا (فصل: قضايا كبرى في بناء أطفالنا)، جدة ، مركز الراية للتنمية الفكرية ، 1423هـ/2003م ، ص30.
[22] – توماس أرنولد ، الدعوة إلى الإسلام ، القاهرة ، مكتبة النهضة المصرية ، ، ط3 ،1970، ص274.
[23] – سورة يس ، آية20.
[24] – عبد القادر الجيلاني ، الفتح الرباني ، مرجع سابق ، ص 220.
[25] – أبو الحسن الندوي، نحو التربية الإسلامية الحرة ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، ط2، 1397هـ/1977م ،ص 18.
[26] – سورة الحجر ، آية 99.
[27] – ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، مرجع سابق ، كتاب الرقاق ، باب القصد ، الحديث (6465).

[28] – سيد بن حسين العفاني ، صلاح الأمة في علو الهمة ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، 1420 ط2 ، هـ/1999م ، 1 ،
ص 591.
[29] – سورة العصر ، آية 1-3.

[30] – سيد بن حسين العفاني ، صلاح الأمة في علو الهمة ، مرجع سابق ، 2 ، ص119.

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على سلسلة البناء الدعوي – 3 مغلقة
الصفحة 51 من 51« الصفحة الأولي...102030...4748495051