مازن هاشم
أثار طرح صموئيل هنتنغتون “تصادم الحضارات” جدلاً عريضاً على الصعيدين السياسي و الأكاديمي، و أصبح كتابه اليوم شائع التداول لأنه اعتبر مفسراً للأحداث العالمية. وقد رد عليه الكثير من الكتاب وأثارت الردود جولة أخرى من الردود، وليس من غرضي أن أستعرض هذا السجال العلمي بل غرضي أن أسجل نقطة منهجية أجعلها مدخلاً لما أريد أن أطرحه في هذا المقال.
إن مشكلة رئيسية في طرح هنتنغتون تكمن في الخلط بين مستويات التحليل. وذلك لأن فكرة وجود أنماط حضارية متمايزة ليست فكرة جديدة، والنموذج الحضاري يوجه الفعل الحضاري باتجاهٍ ما ويعطيه طابعه وصبغته فيتجلى ذلك في الأدب والفن والمعمار وغيرها. فالنموذج الإغريقي مثلاً يفترق بشكل واضح في فنونه وآداب أهله عن فنون وآداب الحضارة الصينية أو الحضارة الإسلامية وأهلها. وإنه أذا كان هذا واضحاً ومفهوماً فإنه يجب الإنتباه إلى أن مفهوم النموذج الحضاري مجرد واسع الإستيعاب ولا يمكن تصويره كمعمل للتعليب الثقافي. فالنموذج الحضاري الواحد ينتج تجليات متعددة، فالصوفية و الفقهية القانونية مثلاً نشأتا ضمن مناخ حضاري واحد و كذلك الرواقية والنفعية كذلك نشأتا في مناخ حضاري مختلف آخر. أي أن القول بتميز النموذج الحضاري لا يمنع من وجود التنوع (المتباعد في ما بين أشكاله أحياناً)، وإن كان هذا التنوع ذاته ينصبغ أيضاً بصباغ مستمد من خصوصية حضارية.
وانطلاقاً من هذه الملاحظة فإني أشير إلى ثلاثة إشكالات منهجية في طرح مفهوم تصادم الحضارات: الأولى هي الإغفال الكامل للتنوع الداخلي ضمن كل حضارة، والثانية تكمن في رحابة مفهوم الحضارة وشموله بحيث لا يصح معه الاهمال التام للتلاقح بين الحضارات، والثالثة – وهو ما يهمني في هذا المقال – استخدام هذا المفهوم التحليلي لتفسير ظاهرة على مستوىً آخر. وهنا لا بد من بعض التفصيل.
إن لكل مفهوم تحليلي دائرة أو مجال يصح استخدامه فيها، ولا يصح تعميم النتائج المتعلقة بمجال ما لتشمل أموراً متعلقة بظاهرة أخرى في مجال آخر. فلو طورنا مفهوماً حول كيفية انتشار الجراثيم وتكاثرها في الدم فإنه لا يصح على الإطلاق أن أستخدم هذا المفهوم لتفسير انتشار الجراثيم في بيت المريض. ولو طورت مفهوماً لتفسير الصراعات الإثنية فلا يصح استخدامه لتفسير الخلافات الأسرية، ولو وقعنا على بعض التشابه بين هذين المسألتين فإنه يعتبر تشابهاً عابراً لا يستقيم به التفسير العلمي وإن كان يمكن إيراد ذكر التشابه على سبيل المجاز و تقريب الفهم. وعلى هذا فإنه يصح أن يطرح مفهوم التباين الحضاري كتفسير للتوجهات الثقافية أو النمط السياسي والاقتصادي العام، ولكن لا يصلح أن يستخدم في تفسير الفعاليات والوقائع العملية السياسية والاقتصادية الخ. ولكن يمكن تعقب أوجه التباين بين نموذجين حضاريين في أمر ما لدراسة الأبعاد التي يدخلها في حسابه كل منهما وشدة التركيز على هذا الأبعاد. وحين يلتقي نموذجان حضاريان في مسرح تاريخي واحد فالذي يحدث عملياً ليس التنافر المطلق بل التلاقح و التأثير البطيء المتبادل علاوة على التنافر.
والخلاصة أن الذي لا يصح منهجياً هو استخدام مفهوم الحضارة لتفسير صراعات سياسية أو تنافس اقتصادي (محلي أو إقليمي) مع تجاوز تحليل أفعال وتصرفات المؤسسات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية2 و أثر ذلك على إدارة الصراع، ولا سيما إذا وصف بالحتمية. والتخالف الحضاري قد يشير إلى شهوة الصراع واستساغته أكثر من الأسباب الداعية له والموصلة إليه. ولا يخفى أن نغمة صراع الحضارات تُعجب السياسي أحياناً لأنها تعطي المبرر الأخلاقي لأفعاله الناشزة، كما تجدر الإشارة الى أن معظم أدبيات الحركة الإسلامية تقع في هذا الفخ المنهجي فيطرحون التاريخ طرحاً مؤدلجاً مثل ما يفعل غيرهم.