الذين لم يولدوا بعد … مجموعة إقرأ: المقال 33

من بعيد يأتي ليزورنا، وكل آت قريب.يقطع الوديان والجبال والسهول.يجاوز الحدود والبحار والمحيطات.يتجاهل التأشيرة والتعرفة الجمركية.لا يلقي بالا لتقلبات الأوضاع السياسية و التحشدات العسكرية..
من بعيد يأتي ليزورنا، وكل آت قريب.
ننتظره أحيانا بلهفة،وأحيانا نفاجأ به في غمرة انشغالنا.مرة نفرح به ونستعد لزيارته لنا ،ومرة نضيق ونتبرم ،ونتمنى لو أخرها يوما واحدا ،وإن كنا نخفي ذلك تأدبا .
لا يخلف موعد زيارته أبدا،ولكن موعده يختلف بيوم أو يومين،يأتينا في السنة مرة مثل مغترب مشتاق فيمكث عندنا شهرا كما المغتربين المشتاقين،لكن المستعجلين،يأتي إلينا محملا بالحقائب والأمتعة،فنهرول إليها ،ولا نكاد نسلم عليه ونؤدي الواجب،حتى نلتفت إلى الحقائب فنبعثر محتوياتها وهداياها الغالية ،نتفحصها ونقيم أثمانها،ونتخاصم حول تقاسمها ونصدع رأسه بخصوماتنا ،وعندما يذهب تكون حقائبه خالية إلا من مشاكلنا وطلباتنا ،لو كان مثل المغتربين لأقسم ألا يأتي في السنة القادمة،لكنه لا يفعل ذلك أبدا،سيأتي في كل الأحوال .
رغم شبح الحرب الذي يروح ويجيء ،رغم صدودنا،رغم عقوقنا،رغم نسيانا،ورغم جحودنا،يظل يأتي إلينا في كل مرة……
رمضان على الأبواب، يكاد يطرقها، فلا تفتح له
ليس خطأ مطبعيا.
أقول لك هذه المرة لا تفتح له…….
نعم هذه المرة عندما يأتي رمضان لا تفتح له أبوابك.أوصدها جيدا،ارفع مستوى تحصيناتك، زد من الأقفال والمتاريس.اقطع الكهرباء عن جرس الباب،وأحكم إسدال الستائر،وضع القطن في أذنيك حتى لا تشعر بتأنيب الضمير.
لا تفتح له.
صدق ما أقول:لا تفتح له
إذا كنت ستفعل به ما فعلته في المرة السابقة، لا تفتح له.
إذا كان سيمر على حياتك كما مر في السنوات السابقة، لا تفتح له.
لا داعي لذلك.
إذا كان سيكون شهرا آخر تجوع وتعطش فيه قليلا،ثم تتخم وتمتلئ فيه بطنك كثيرا، من الآن أقول لك لا تفتح الأبواب.
إذا كان سيكون شهرا آخر تشترط عليه ألا يشترط عليك تستقبله و أنت تقرر أن لا عهود ولا مواثيق دائمة معه، فلا تفتح الأبواب.
أقول لك رمضان على الأبواب يكاد يطرقها فأطرق برأسك وفكر قبل أن تفتح له الباب أو لا تفتح.
ولأن القضية خاسرة إذ انه سيتسلل في كل الأحوال من الثقوب والمسامات وفتحات الشبابيك، وربما مواسير الماء فإني أقترح عليك اقترحا آخر.
افتح له ولكن ليس بالضرورة الأبواب .
في كل مرة نستقبله فيها، كأي ضيف آخر، كنت تفتح له الأبواب.
أقول لك:مادام الأمر سيان، فلا داعي إنه سيدخل ويتجاوز الأبواب في كل الأحوال، ولن يبالي إذا وجدها مغلقة بإحكام أو مشرعة مفتوحة على مصارعيها.ولن يعاتبك على أصول الاتيتكيت.
إنه سيدخل في كل الأحوال، فافتح له فتحا مختلفا هذه المرة، وليكن فتحا مبينا.
يا صديق …..في قلبك مغارات ومغارات،وفيه أيضا كهوف مغلقة،وأرض مجهولة وبقاع سرية.في قلبك أماكن لا يعرفها أحد،ولا أنت،بل أنت كذلك لا تعرفها.وفيه كواكب ومجرات لم تطأها قدم إنسان…وفيه غرف سرية لا يعرف مداخلها أحد……
وفيه صحارى وغابات عذراء،وفيه قارات مجهولة غاطسة تحت قاع البحر،وفيه كواكب ونجوم لم يرصدها (تلسكوب)بعد،ومجرات لا تزال تتوالد،وتتراكض في كون ممتد باستمرار … وفيه أهم من ذلك كله،وقبل ذلك كله،أنت: حفنة من هموم ومشاكل، عقد ومخاوف،هواجس وذكريات……
فأقول لك:افتح لرمضان قلبك.دعك من فتح الجيب والفم والعين…. رغم أنك تصوم منذ قرون،دعه يكون رمضانك الأول.
دعه يكون رمضانك الأول الذي يمر عليك وأن تراه من منظار آخر غير المنظار الذي كنت تراه في السابق فقد كان الناس يصومون طوال الوقت ويكونون حريصين على ذلك،لكن رمضان لم يدخل قلوبهم ،لم يدخل أعماقهم….
كان صيامهم مرتبط بالعادات والتقاليد والطقوس الجماعية أكثر مما كان مرتبطا بمعنى رمضان، وبحكمة رمضان…
كثيرون كما نعرف جميعا ونلاحظ من أهل الكبائر والمعاصي حتى أشدها وأعظمها يصومون في رمضان وربما أيضا يصلون ثم إنهم كأمر واقع يمتنعون عن معاصيهم وكبائرهم تلك طوال هذا الشهر،في الحقيقة لا تستطيع أن تبذل أي جدل في ذلك.لا أحد يمكنه أن يمنع أهل الكبائر من صيام رمضان أو من صلاة فيه ،ولكن المهم هو ما يلي ذلك ،بعد ما ينقضي الشهر،وربما في ليلة العيد هل سيعود هؤلاء إلى حياتهم الماضية ومعاصيهم وكبائرهم كما لو أن شيئا لم يكن؟ هل سيصدق عليهم إبليس ظنه؟هل سيتمكن من هدم ما بنوه في شهر؟
إذا حدث ذلك أخشى أن أقول:إنه لم يكن رمضان إذن، لو كان رمضان حقا لما عادوا أدراجهم.رغم أن الصداع أصابهم بسبب عدم شرب الشاي أو بسبب عدم تدخين سيكارة.
رغم الولائم والعزائم والأكل والتخمة التي تبعث على الكسل، والمسلسلات التي تبعث على الملل
رغم ذلك ،لكن مع الأسف ليس رمضان.
لو كان رمضان لحصل شيء آخر لهم ، لو كان رمضان قد دخل في قلوبهم لما عادوا أدراجهم السابقة ،لو كان رمضان لقربهم إلى الله خطوة أكثر إلى الله لامتنعوا عن المعصية المعينة،أو حاولوا التخفيف من الكبيرة الأخرى أو لحاولوا المواظبة على الصلاة.
لو كان رمضان حقا لتمسكوا في ذلك الحبل الذي يلقى إليهم، فيلعبون ويلهون ويقضون الوقت في شده وجره إلى أن تأتي الساعة فيلتف حول أعناقهم، ويخنقهم،يغرقهم بدلا من أن ينقذهم….لو كان رمضان لكان هناك كلام آخر.
إنه رمضان إذن، ولأنه كذلك فأبواب الجنة التي تمتد من الشام إلى اليمن قد فتحت وأبواب جهنم قد أغلقت والشياطين سلسلت وصفدت، ولأنه كذلك فإنه فرصة عظيمة للتذوق.
إنه فرصة عظيمة للتذوق ولكن ليس للموائد الممدودة طولا وعرضا،ليس للحلويات الرمضانية ولا للمقبلات والمشهيات،نعم رمضان فرصة عظيمة للتذوق ولكن عن شيء آخر أتحدث .
يقولون من ذاق اعترف ومن عرف اغترف
ولأنه يحبك ويريدك أن تبادله حبا بحب ولأنه يعلم أنك تجهل كم هو رائع حبه وهو العليم بما تعلم وما تجهل.ولأنه يعرف أنك لا تعرف شيئا وأنك حائر وضال وخائف ولأنه خبير بأنك تسرف في مشاعرك في الاتجاه الخطأ وأنك تقضي عمرك أحيانا في الأهداف الخطأ.
ولأنه يعرف أنك تحتاج إلى أن من تحبه كما تحتاج الماء والهواء وربما أكثر وأن حاجتك إليه موجودة في أعماقك حتى لو كنت تجهل وجودها ،لأنه يريد منك أن تمشي إلى شبكته بخطى ثابتة فإنه يضع لك الطعم في الصنارة،في رمضان تحديدا،ومن ذاق عرف ومن عرف…. الطعم في الصنارة.شهر واحد في السنة وتسهيلات غير مسبوقة من أجل أن نعرف ما سيفوتنا ما لم نغترف طيلة السنة ،سيقول لك اعبدني هذا الشهر وأبواب الجنة مفتوحة من أجلك وأبواب النار أغلقت والشياطين قد صفدت حتى لا تشوش عليك وسأغفر لك كل ما عملت من ذنوب وأعتقك من النار وأدخلك الجنة .
يا صديق كل حياتنا هي أيام معدودات لو تأملت الآن قصة حياتك ورحلتك فيها لوجت أن الزمن يفقد هيبته مثل متسول يدور على الأبواب وكان في أيامه عزيز قومه
وأقول لك بعد قليل أياما معدودات ستحزم حقائبك أنت وترحل وسأحزم أنا حقائبي وأرحل وسيبكي علينا أحباؤنا وأقربنا لأيام معدودات على الأكثر ثم ستأخذهم مطحنة التفاصيل وسيجدون في النسيان نعمة تلهيهم عنا.
أقول لك أيام معدودات وسيأتي رمضان ويكون غير شكل لأولئك الذين لم يولدوا بعد الذين سيتفاعلون مع هذه الكلمات فيضيء تفاعلهم حياتهم وحياة آخرين قربهم ،كلها أيام وستعلق الصنارة ويتذوقون الطعم ويعرفون لذته فيغترفون منه بقية السنة ويغطسون في ذلك النهر الجاري وتعلق قلوبهم كثريات ساطعة في سقوف الجوامع وينتمون لتلك الطبقة العليا طبقة 1%التي ستزيد بالتدريج نعم كلها أيام معدودات وسيحدث ذلك .
وفي نهاية المطاف كل رمضان وانتم بخير………..
كل رمضان ورمضان حقا رمضان…..

مأخوذة عن “الذين لم يولدوا بعد” من سلسلة ” ضوء في المجرة” للكاتب الدكتور ” أحمد خيري العمري” منشورات درا الفكر – دمشق.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كتب, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.