وظيفة الدين وحقيقته .. للأستاذ العلامة أحمد الريسوني

لا شك أن الأديان المنزلة ـ في جوهرها ، ومن أولها لآخرها ـ إنما هي دين واحد . فحديثي عن الدين بصفة عامة ، وعن الإسلام بصفة خاصة ، هو حديث عن شيئ واحد ، و إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران/19]
تحديد ( وظيفة الإسلام ) أو ( وظيفة الدين ) ، نقطة أساسية مركزية ، في كل مسعى لفهم الدين أو لاستنباط أحكامه ، أولمناقشة بعض قضاياه ، أو بعض القضايا المرتبطة به .خاصة بعد ظهور تضارب شديد ، يصل إلى حد التضاد والتنافي ، في هذه المسألة .
فهل الدين أفيون الشعوب؟ أم الدين محرر الشعوب؟ وهل الدين نور وهداية ؟ أم هو ظلام وخرافة؟ وهل الدين هوداء السياسة ومفسدها؟ أم هو دواؤها ومصلحها؟ وهل الدين معضلة أمنية ؟ أم هو أمن واطمئنان؟ وهل الدين هومُشعل الحروب ووقودها؟ أم هو مطفئها ومُسَكنها؟ وهل الدين ينشر المحبة والوئام ؟ أم ينشر الكراهية والخصام؟ وهل الدين نعمة وسعادة ؟ أم هو محنة وشقاوة؟ وهل الدين يحل مشاكل الإنسان ؟ أم ينتجها وهو جزء منها؟
والحقيقة أن كل واحدة من هذه الثنائيات المتناقضة ، يوجد من يعتقدها ويقول بها.
ولنصطلح على تصنيف هذه الأوصاف المتضادة واختصارها في وصفين جامعين ، هما : الوجه الإيجابي ، والوجه السلبي ، للدين.
وكذلك أسباب هذا الاختلاف والتضاد ، يمكن اختصارها وإرجاعها إلى سببين
السبب الأول : هو الإيمان أو عدم الإيمان بالدين . فالمؤمنون بالدين يقولون بالوجه الإيجابي ، وغيرهم يقولون بالوجه السلبي.ولذلك بلغ الوجه السلبي أسوأ درجاته عند الماركسية التي وصفت الدين بأقذع النعوت ، وأشهرها (الدين أفيون الشعوب).
السبب الثاني : هو مستند التصور للدين ووظيفته : هل هو الدين نفسه ، برسله وكتبه وتطبيقاته المرجعية النموذجية ؟ أم هو التدين الرديئ والممارسة التاريخية السيئة المسيئة؟
فمن عول على المستند الأول ، فهو لا شك واجدٌ وجوها مُشْرقة ومُشَرفة للدين والتدين ووظائفهما الإيجابية الكثيرة.ومن عول على المستند الثاني ، فهو واجدٌ وجوها كالحة مظلمة ، لتوظيف الدين وسوء استعماله ، في مختلف الأزمان والأوطان.
ولا شك أن الإنصاف يستوجب التعويل على الدين نفسه وعلى تطبيقاته الجيدة السليمة ، وعدمَ التعويل الانتقائي على الممارسات السلبية والتأويلات الظرفية ، التي سُطرت باسم الدين ، وهي في أحسن أحوالها اجتهادات تصيب وتخطئ .
فإذا اعتمدنا على الدين نفسه في تحديد وظيفته ومقاصده ، فإننا نجد الوجه الإيجابي ـ بجميع تجلياته المشار إليها قبل قليل ـ لائحا واضحا لاغبار عليه.
ـ تطالعنا أولاً سيَرُ الأنبياء ، والأدوار الفعلية التي قاموا بها في أزمانهم ، والآثار التي خلفوها بعد أزمانهم . إنهم المؤسسون للثقافات والممهدون للحضارات.وهم مصابيح الهداية والعدالة ، ورواد التربية والتزكية . وهم دعاة مكارم الأخلاق ، من محبة وتسامح وتراحم وتكافل.وهم المجاهدون ضد الجهل والظلم والفساد …
ـ وتطالعنا النصوص الصحيحة الصريحة ، التي تحدد رسالة الدين ووظيفته ، بما لا يقبل الالتباس أو التأويل ولا يحتاج إلى شرح أو تعليق.
ـ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه/123]
ـ كقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ  [الأنبياء/107]
ـ وقوله سبحانه  لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد/25]
ـ وبشيئ من التفصيل نجد ـ مثلا ـ قوله عز وجل:
 وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا
وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا  [الإسراء/23-37]
فهذه جملة من مبادئ الإسلام وتعاليمه وأولوياته ، لا يحق لأحد تجاهلها أو تجاوزها، وهو يريد تحديد رسالته وحقيقة وظيفته في هذه الحياة . بل هي المعيار والحَكَم على كل فكر إسلامي ومدى إسلاميته.

المصدر: http://www.raissouni.org/def.asp?codelangue=41&id_info=3017

كُتب في المناهج | التعليقات على وظيفة الدين وحقيقته .. للأستاذ العلامة أحمد الريسوني مغلقة

المقاصد الشرعية .. والإمام الشاطبي

محاضرة للأستاذ الدكتور أحمد الريسوني

أولا: في البدء كان الشاطبي!
إذا كان الإمام الشاطبي خاتمة المتقدمين من علماء المقاصد، فمن غريب الأقدار أن يكون هو نفسه فاتحتهم في العصر الحديث!! إذ شكلت طباعة ونشر كتابه “الموافقات” بداية الاهتمام بمقاصد الشريعة في هذا العصر. فالفكر المقاصدي الحديث بدأ بالشاطبي، وبدأ بولادة جديدة – أو بانبعاث جديد – للشاطبي.
الإمام الشاطبي ألف كتابه في أواخر القرن الثامن. ولكن المجتمعات الإسلامية دخلت في هذا الوقت وما بعده في طور الفتور والضعف على جميع المستويات. ومنذ ذلك الحين استمر هذا التدهور، وفي المقابل استمر تقدم الدول الأوربية والغربية ونهوضها. واستمر معه ما نراه الآن ومازلنا نعيش تداعياته من سيطرة الدول الأوربية والغربية على معظم أرجاء العالم الإسلامي. وما زالت مهيمنة عليه إلى الآن.
وأما بيئة الشاطبي وهي الأندلس، فقد كانت في عهده قد دخلت في حالة احتضار وليس فقط في حالة تخلف. بدأت تتفتت، وبدأت اسبانيا والبرتغال يتقاسمانها شيئا فشيئاً. وكانت غرناطة موطن الشاطبي هي آخر ما سقط من الإمارات الإسلامية بالأندلس. وفي هذه الحالة لم يكن هناك إمكان لمواصلة عمل الشاطبي أو غيره من عظماء هذا القرن، كابن تيمية وابن القيم وابن خلدون، وقد كانوا جميعا يرمون إلى الإنقاذ ووقف الانحدار. ولكن، كَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا …
مات الشاطبي ودفن رحمه الله، فمات ودفن كتابه كذلك. ومرت بعد ذلك ستة قرون استمر فيها انحدار المسلمين وتقدمُ الأوروبيين…

وفي مطلع القرن الثالث عشر الهجري طبع كتاب “الموافقات”، أي قبل قرن وربع قرن من الآن. طبع في تونس أولى طبعاته سنة 1302 هـ. فكانت هذه هي الولادة الثانية للشاطبي وكتابه وفكره. وكانت هي البداية والانطلاقة للفكر المقاصدي الحديث والمعاصر.
ولما طبع الكتاب ذاع وانتشر بعد ذلك مشرقا ومغربا:
في المشرق تلقفه الشيخ محمد عبده، وكان قد زار تونس في هذا الوقت، فصار يحث على قراءة الكتاب ونشره . وكان من أثر ذلك قيام تلميذه الشيخ عبد الله دراز بنشر كتاب “الموافقات” في مصر، وقيام تلميذه الآخر رشيد رضا بنشر كتاب “الاعتصام “. ومن مصر انتشر الكتابان وشاع تداولهما في عدد من الأقطار العربية…
وفي تونس البلد الذي طبع فيها الكتاب أول مرة، كان الاحتفاء به واضحا، وأخذ منحى أكثر حيوية وأسرع تأثيرا كما سنرى بعد قليل.

وفي المغرب كان الأثر المباشر لطباعة هذا الكتاب ووصوله إلى المغرب، هو أن أحد علمائه أخذه، وبطريقته وطريقة عصره، قام بنظمه، وهو الشيخ ماء العينين محمد فاضل بن مامين. وسمى منظومته “موافق الموافقات”. ثم قام بشرح النظم في كتاب آخر سماه “المرافق على الموافق”. وطبع في حياته سنة 1324هـ بفاس. ثم مؤخرا طبع طبعة محققة. وقد ذكر الشيخ ابن مامين في نهاية الشرح ما دعاه لإخراج كتاب “الموافقات” منظوما ومشروحا، قال: «لأني وجدت هذا الكتاب لا سيما في بلادنا مهجورا بل كأنه لم يوجد، ولم يكن له ذاكر فلم يكن مذكورا، فرجوت الله أن يحييه بنا ويحيينا به ما بقيت الأنام».
وهذا الشرح لم يكن له في ذاته أثر كبير ومباشر، ولكنه لفت الأنظار إلى “الموافقات” ودفع العلماء وطلاب العلم إلى طلبه وقراءته…

ونعود إلى تونس لكي نصل إلى ابن عاشور، الإمام الرابع من أئمة المقاصد الأربعة.
كان التجاوب مع كتاب “الموافقات” كبيرا جدا عند علماء الزيتونة الذين احتفوا بالكتاب أيما احتفاء، فدرَسوه ودرَّسوه وأخذوا منه الشيء الكثير. ولذلك ظهرت في تونس كتابات عديدة في الثلاثينيات والعشرينيات من القرن الميلادي الماضي، ومن أشهر من كتبوا في المقاصد الشيخ عبد العزيز الثعالبي وعبد العزيز جعيط وسالم بوحاجب وابن أبي الضياف. فبدأ هؤلاء وغيرهم يتكلمون عن مقاصد الشريعة وحكمتها وأهدافها، ويدعون إلى إعادة النظر في الفقه الإسلامي، المتأخر منه خاصة، لتصحيح كثير مما فيه، ولتجاوز كثير مما فيه، ولأجل القدرة على الاستجابة لمتطلبات العصر والإجابة على الإشكالات والتحديات التي دخلت فيها الأمة. ففي هذه الأجواء جاء ابن عاشور.

ثانيا: ابن عاشور الإمام الرابع من أئمة المقاصد
الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ولد عام 1296هـ/ 1879م، وتولى خلال عمره المديد أعلى المناصب العلمية الإسلامية في تونس، في القضاء والإفتاء ومشيخة الجامعة الزيتونية رحمها الله تعالى وفرج عنها، وكان عضوا في مجمعي اللغة العربية بدمشق والقاهرة… وتوفي عام 1393 هـ /1973م.
وقبل أن أتحدث عن بعض إضافته في المقاصد، أذكر أنه نشأ في أجواء من الاهتمام والاحتفاء بكتاب الشاطبي والتأثر به، وأيضا في أجواء جهود اليقظة ومحاولات النهضة والتجديد، التي كانت تنتشر يومئذ في العالم الإسلامي. ففي هذه الحقبة التي نحن فيها ظهر علامة الهند الكبير شاه ولي الله الدهلوي الذي كان له اهتمام بليغ بالمقاصد وألف كتابه “حجة الله البالغة”. كما نجد في هذه الحقبة – قبل ابن عاشور ومعه وبعده – العديد من علماء الأزهر وغيره، ألفوا عدة مؤلفات في حكمة التشريع وتعليل أحكام الشريعة، منها: “أسرار الشريعة الإسلامية” لإبراهيم أبو علي، و”المسلك البديع في حكمة التشريع” لعبد الرحمن خلف، و”حكمة التشريع وفلسفته” لعلي الجرجاوي، و”الأسرار الإلهية والحكم التشريعية” لعبد لرحمن راضي.
ثم في وقت متأخر نسبيا بدأ في الإطار الجامعي الجديد تقديم بحوث جامعية لنيل شهادة العالمية التي عودلت فيما بعد بالدكتوراه، فنجد الشيخ محمد مصطفى شلبي بحثا قيما هو “تعليل الأحكام في الشريعة الإسلامية”، والدكتور مصطفى زيد يقدم رسالته عن “المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي “…
هذه الحركية التي سبقت ورافقت ظهور الشيخ ابن عاشور لا شك أنها أفادته ويسرت له جوا عاما من الاهتمام بمقاصد الشريعة والتطلع إلى فائدتها وثمرتها، في إنعاش العلوم الإسلامية وتجديدها وتقويتها.

فإذا كان الشاطبي يمثل حصيلة من سبقوه في القرون المتقدمة، فابن عاشور يمثل حصيلة هذه التفاعلات مع “الموافقات” ومع التحديات والتطلعات ونزعات التجديد والبحث عن مخارج للوضعية الإسلامية.
وأول ما ظهر من اهتمامه بالمقاصد كان في كتابه الفريد، ولو أنه كتاب صغير، هو كتاب “أليس الصبح بقريب”. يدرس فيه قضية واحدة هي مناهج التعليم في المؤسسات الإسلامية، أو مناهج التعليم الموروثة والمتبعة يومئذ عند المسلمين، كما في الأزهر والزيتونة والقرويين. وقد كانت هذه القضية يومئذ – كما هي اليوم – محل صراع وجدال…
في هذا السياق وفي هذا الكتيب تناول أول ما تناول قضية المقاصد. فقد انتقد الطريقة المتبعة في عرض الفقه الإسلامي، الذي أصبح يقدم بدون مقاصد، أي بدون تعليله وبيان أبعاده ومراميه، فأصبح منهج تدريسه يقتصر على الأشكال والرسوم، ولا ينفذ إلى معرفة مقاصد الشريعة في تلك الأحكام. وقال: أشأم ما نجم عن ذلك شيوع مسألة الحيل في فتاوى الفقهاء؛ لأن الأحكام أصبحت تؤخذ بصورها وليس بروحها ومقصودها، فشاعت فكرة التحايل وشاع أن المفتي يستطيع أن يفتيك بما تريد، وأيا كانت فتواه يستطيع أن يجد لها تخريجا، وشاع إفتاء الخاصة بما لا يفتى به العامة، هذا كله ناجم عن غياب المقاصد. وهذا الكتاب كان مبكرا، ربما ألفه في العشرينيات من القرن العشرين.

بعد ذلك ألف كتابا آخر ظهر فيه اهتمامه المقاصدي بشكل أقوى، وهو كتاب صغير أيضا، وجاء أيضا استجابة لمعركة كانت قائمة وهي مسألة الوقف والحملات المعادية التي كانت موجهة إليه من السلطات الاستعمارية، في عدد من البلدان الإسلامية… فكتب ابن عاشور كتابه هذا دفاعا عن الوقف الإسلامي وأهميته ومقاصده. ومن فصول الكتاب “مقاصد الشريعة في تصريف الأموال”. ومن فصول هذا الكتاب “هل الوقف مصلحة أو مفسدة؟”
وهنا يمكن أن نضع أيدينا على أول كلام على المقاصد الخاصة، والمقاصد الخاصة ذكرتها سابقا. فهي ليست مقاصد عامة كلية، وليست مقاصد أحكام جزئية، بل هي مقاصد الشارع في نطاق تشريعي معين. فهي فوق المقاصد الجزئية وأوسع منها، ودون المقاصد الكلية وأضيق نطاقا منها. وهذا هو الصنف الذي خصص له القسم الثالث من كتابه “كتاب مقاصد الشريعة”.
وله بحث بعنوان “أثر الدعوة الإسلامية في الحرية والمساواة”، وهو الموضوع الذي عاد فتناوله في كتابيه “أصول النظام الاجتماعي في الإسلام” و”مقاصد الشريعة الإسلامية” .

كتابه هذا الأخير “مقاصد الشريعة الإسلامية”، وهو الأهم في موضوعنا. جاء ثمرة لقيامه بعمل آخر كان رائدا أيضا، وهو قيامه بتدريس كتاب “الموافقات” في الجامعة الزيتونية. فابنُ عاشور هو أول من درَّس كتاب “الموافقات”، وأول من درَّس مقاصد الشريعة في الجامعة. وهذا التدريس الذي استمر عدة سنوات، أفضى به إلى أن تكون له إضافات واستدراكات وتتمات لعمل الشاطبي. ولذلك فابن عاشور إذا كان هو الإمام الرابع، فهو أيضا الشاطبي الثاني، فهو مكمل لعمل الشاطبي، كما صرح بذلك.

كتاب “مقاصد الشريعة ” ألفه في أواخر الثلاثينيات من القرن الميلادي الماضي. وطبع وظهر في أول الأربعينيات. هذا الكتاب كما ذكر هو نفسه يواصل فيه ما بدأه الشاطبي. ولكنه قال كلمة حقيقية وصادقة، قال: أنا لا أعيد الشاطبي ولا ألخص الشاطبي، بل هو يواصل ويتمم ويضيف..
أول شيء تميز به ابن عاشور هو أنه لأول مرة أجرى مقارنة بين وظيفة علم أصول الفقه ووظيفة الدراسات المقاصدية، أو “علم مقاصد الشريعة”: ما المشترك وما المختلف؟ وهل هما – ولا بد – علم واحد أم يمكن – أو يلزم – الفصل بينهما واسقلال كل منهما بوظيفته؟
فأما المتقدمون، فبعضهم تناول المقاصد في كتب السياسة الشرعية، وبعضهم في كتب الفقه، وبعضهم في أصول الفقه، وبعضهم في كتب التصوف والتربية، وبعضهم في علم الكلام، وبعضهم في تفاسيرهم…
الشاطبي وإن أدرج الكلام عن المقاصد ضمن كتاب أصولي، إلا أنه كاد أن يفصله، حين جعله كتابا خاصا، له مقدمته وخاتمته.
ولكن ابن عاشور جاء رأسا إلى مقاصد الشريعة، وألف فيها كتابا مستقلا سماه باسمها . ثم نظرا للتداخل بين علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، احتاج ابن عاشور في بداية الكتاب الجديد، أن يبين الفرق بين موضوع علم أصول الفقه، وموضوع هذا الكتاب، ويبن أن لهذا الكتاب ولهذا العلم الذي يؤسسه، وظيفة مختلفة عن وظيفة علم أصول الفقه. فعلم أصول الفقه قواعد لغوية وقياسية وعقلية، لتفسير النصوص الشرعية والاستنباط منها، وهي قواعد أكثرها ظني مختلف فيه… وهذا العلم – علم مقاصد الشريعة – يتتبع المقاصد العامة للشريعة والكليات القطعية فيها، ليجعل منها مرجعا حاكما وموحدا للفكر الإسلامي وللفقه الإسلامي. وهي الوظيفة التي قصر فيها وانصرف عنها الأصوليون، كما يرى ابن عاشور.

سؤال: الإمام الشاطبي في كتابه “الموافقات” استدل بأدلة كثيرة على قطعية القواعد الأصولية، وكلام فضيلتك عن الشيخ ابن عاشور عليهما رحمة الله، جزم أن القواعد الأصولية ظنية، والمعلوم أن علم أصول الفقه فيه كليات وجزئيات، كليات عامة تندرج تحتها هذه الجزئيات، فما التوفيق بين كلام الشاطبي والأصوليين عموما وكلام الطاهر بن عاشور؟
جواب: هذه قضية مهمة جدا، وفيها كثير من سوء الفهم عند عدد من العلماء؛ قضية أصول الفقه قطعية أو ظنية. وأول من أثارها هو الجويني في البرهان، فنص فيه على أن أصول الفقه قطعية، ثم أجاب على بعض الإيرادات التي قد ترد عليه، مثل: كيف تقول أصول الفقه قطعية، ومباحث أخبار الآحاد والأقيسة والدلالات أكثرها ظني، وهي لا تُلفَى إلا في علم أصول الفقه؟
فأجاب: حسْبُ الأصوليِّ منها ما كان قطعيا، هذه وظيفة الأصولي وهذا حظ الأصولي، بمعنى ما ليس قطعيا ليس من صميم ما يقصده بقطعية الأصول، وليس من صميم القضايا الأصولية. بمعنى أن المسائل الظنية ليست مما يعنيه بقطعية الأصول، وإنما هي تطبيقات وتفريعات عرضية دخلت في أصول الفقه لضرورة التمثيل والتوضيح…

بعد ذلك نوقشت هذه المسألة عند من جاؤوا بعد الجويني؛ فناقشها المازري في شرحه على البرهان، والمازري تونسي في القرن السادس له شرح قيم على البرهان. ثم جاء شارح آخر للبرهان – وهو الأبياري، المالكي المصري – فأعاد النقاش. ثم جاء الشاطبي فقرر ما سمعناه في السؤال، وقوله مثل قول الجويني، إلا أنه توسع في البيان والاستدلال. قال: “أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية”، هذه عبارة الشاطبي، ثم أتـى بالأدلة على ذلك.
والإشكال الذي يقع، وهو سبب الاختلاف وسبب السؤال الذي سمعناه، هو أن كثيرا ممن تلقوا هذه العبارة اختلط عليهم الأمر بين “أصول الفقه”، و”علم أصول الفقه”. أصول الفقه هي أسس الفقه ومصادره وقواعده التشريعية الكبرى، فهذه هي”الأصول”، وهي لا بد أن تكون قطعية، وما لم يكن قطعيا، فه ليس أصلا من الأصول.

أما “علم أصول الفقه”، كما هو متعارف عليه في مؤلفاته، فلم يقل أحد إن كل مسائله وقواعده قطعية. بل القطعي منها محدود، وهو الذي يعنيه الجويني والشاطبي، ويسميانه”أصول الفقه”، أو بتعبير الشاطبي “أصول الفقه في الدين”. فهذه الأصول من حيث هي أصول لفقه الدين، عادة ما تكون قطعية متفقا عليها، فإذا دخلنا في فروعها وتوابعها وقواعدها، سنجد في ذلك القطعي والظني.

مثلا: “سد الذرائع”: إذا ذهبنا إلى النقاشات الأصولية سنجد: قال بها المالكية، وأنكرها الشافعية، وأشد إنكارا لها الظاهرية…، مما يوهم أن سد الذرائع مسألة أصولية ظنية مختلف فيها. ولكن حسب الشاطبي: هذه مسألة قطعية، وهذا أصل متفق على أصله. وإنما يأتي الاختلاف حينما نبدأ الدخول في التفاصيل: متى نسد الذرائع ومتى لا نسدها؟ متى نفتحها ومتى لا نفتحها؟ وشروط ذلك وحساباته؟ الغالب والأغلب، والقليل والنادر…؟؟ فهنا ترد الاختلافات في تطبيق القاعدة، أما أصل القاعدة فموجود في القرآن وفي السنة، وعند جميع المذاهب ما عدا الظاهرية، فالقاعدة قطعية. إذأً فهي تصلح أن تكون أصلا من أصول الدين، وأصلا من أصول التفقه في الدين.
وهكذا اعتبار المقاصد أصلا من أصول الفقه، واعتبار المصلحة أصلا من أصول الفقه، واعتبار المآلات أصلا قطعيا من أصول الفقه، وكذلك القياس – بغض النظر عن التفاصيل – أصل قطعي من أصول الفقه، واعتبار العادات والأعراف أصل قطعي من أصول الفقه…
ولكنْ كلُّ هذه الأصول القطعية، إذا بدأنا نفصل فيها، فسنصل إلى ما ليس بقطعي. فإذاً الذين تحدثوا عن قطعية أصول الفقه يقصدون مثل هذه الأصول في أصولها، والذين يقولون أصول الفقه مليء بالخلافات والظنيات، فإنما يقصدون مجمل ما في علم أصول الفقه من مباحث ونقاشات… قد نأتي إلى أي مسألة قطعية في الدين أو في القرآن الكريم، فنجد أصلها قطعيا مجمعا عليه، فإذا دخلنا في التفاصيل والتدقيقات، يتمايل الناس ذات اليمين وذات الشمال، ويتقدم بعض ويتأخر بعض… فحتى القرآن الكريم، الذي يعرفه الجميع ويتفق حوله الجميع، وهو الأصل الأول، إذا دخلنا في التعريف الأصولي- (الفلسفي المنطقي) – للقرآن الكريم، فسنجد في ذلك اختلافا كثيرا…، وليس شيئٌ من تلك التعريفات وشروحها أصلا من أصول الفقه.
فبهذا المعنى الأخير تكلم من تكلم عن وجود الظنية والاختلاف في أصول الفقه، ومنهم – للأسف- الشيخ ابن عاشور، بينما الجويني والشاطبي يقصدان المعنى الأول.

ونعود إلى الإضافات المقاصدية التي تميز بها ابن عاشور:
أ- من ذلك أنه تابع وأكمل موضوعا فتحه الشاطبي، وهو طرق إثبات المقاصد.
الشاطبي جعلها في آخر كتاب المقاصد، ولكن ابن عاشور جعلها في بداية كتابه. المهم أنه يأتي بعد الشاطبي في تناول هذه القضية الكبيرة والخطيرة. ويكفي من أهميتها أنها تفتح الباب للعلماء، وتغلقه على الأدعياء: تفتح الباب للعلماء، لكونها تحدد وتمهد لهم مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة. وتغلق الباب على الآخرين لأنهم متطفلون متخرصون، فإذا تحددت الطرق العلمية لمعرفة المقاصد، ظهر زيف من يخالفها ويتنكبها ويتقول على الشريعة ومقاصدها.
ولابن عاشور في هذا الباب إضافات مهمة، وخاصة في تطبيق استقراء الوقائع في السنة وعمل الصحابة، لإثبات مقاصد الشرع من مجموعة من الأحكام.
– وابن عاشور كالشاطبي، نص على أن المجتهد لا يمكنه الاستغناء عن المقاصد، في أي وجه من وجوه الاجتهاد. وقداستعرض مَحالَّ اجتهاد المجتهدين في أدلة الشريعة، فجعلها خمسة مَحال، أَختصِرها فيما يلي:

1- فهم نصوصها وألفاظها بحسب ما تقتضيه قواعد اللغة واصطلاحات الشرع فيها.
2- مقارنة المعنى المستنبَط، مع غيره من أدلة الشريعة وأحكامها، للتحقق من التوافق بينه وبينها، فيؤخذ به حينئذ بلا إشكال، أو يظهر نوعُ تعارض، فيُعمَل على التوفيق أو الترجيح…
3- قياس ما لا حكم له في الشرع، على نظيره المنصوص على حكمه، بعد التعرف على علته.
4- الحكم فيما يجِدُّ من حوادث غير منصوص على حكمها، وليس لها في الشرع نظير تقاس عليه.
5- النظر فيما لم تظهر حكمة الشرع فيه، وتصنيفه ضمن الأحكام التعبدية غير المعللة، أو اكتشاف علته ومقصوده، لإلحاقه بالأحكام المعقولة المعللة .
ثم قال «فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها »، بمعنى أن المقاصد لازمة للفقيه في جميع المناحي والوجوه الاجتهادية.

ب- كذلك تحدث ابن عاشور في موضوع المصالح والمفاسد ولخص وأعاد ما سبق عند ابن عبد السلام والقرافي والشاطبي. ولكن أيضا كانت له إضافات في هذا الباب، أهمها عنايته الفائقة بمصالح الأمة والمقاصد الجماعية والمقاصد العامة.
فبينما نجد العلماء السابقين على ابن عاشور كالغزالي والشاطبي وغيرهما، حين يعرفون – مثلا – الضروريات، يعرفونها بالقياس إلى الفرد وفي حق الفرد. ولذلك نحن حين نتدارس موضوع الضروريات يتبادر إلى أذهاننا الأمور التي يكون الفرد في اضطرار إليها ولا يستغني عنها، وإذا فقدها كان عرضة للهلاك أو لما يشبه للهلاك…
ابن عاشور طيلة كتابه، كلما صنف أو عرف شيئا من المقاصد والمصالح والمفاسد، كان اعتبار الأمة ماثلا ومعيارا معتمدا.
فحتى حينما أراد تعريف التحسينيات التي هي ألصق شيء بالأفراد وأذواقهم، عرفها بأنها هي المصالح التي تكون بها الأمة ذات منظر وبهجة، تنجذب إليها الأمم والشعوب الأخرى وتحترمها، وتهفو إليها نفوس الناس…
مثال آخر: الشاطبي يقول: المقصد من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد له اضطرارا.

يأتي ابن عاشور فيقول: المقصد العام للشريعة هو حفظ نظام الأمة وبقاء قوتها وهيبتها…
هذا صحيح وهذا صحيح، ولكن هذا من زاوية وهذا من زاوية. ولكن لا شك أن التركيز على زاوية الأمة وعلى حظ الأمة، وعلى مقاصد الشريعة على مستوى الأمة…،هو الأعلى والأولى، وهو الذي يحتاج أن يأخذ مكانته اللائقة المستحقة.
سؤال: هل عناية فضيلة الشيخ ابن عاشور بالأمة ومصالحها يعني أنه لم يعتن بالمصالح الفردية؟
جواب: لا أبدا، هو فقط يريد أن يصحح ويوازن ويعدل الكفة؛ لأن مصالح الأفراد أخذت كامل العناية والرعاية من الفقهاء والأصوليين والمقاصديين، بخلاف الأمة ومصالحها ومقاصدها، فهي ضامرة عند عامة علمائنا المتقدمين. هذا مع العلم أن المصالح الفردية لا تفضي بالضرورة إلى تحقيق مصالح الأمة إلا بشكل محدود، ولكن مصالح الأمة تفضي بالضرورة إلى مصالح الأفراد، فهي داخلة فيها.
ولكن حتى الحديث عن مصالح الأفراد وارد عنده في عدة مناسبات، ومنها على سبيل المثال ما تناوله في مقاصد الأموال، ومقاصد العقود المنعقدة على الأبدان، ومقاصد القضاء… وكل هذا في أواخر الكتاب.

ثالثا: علال الفاسي على خطى ابن عاشور
بعد ابن عاشور، ومعاصرة معه أيضا، ألف العالم والزعيم المغربي علال الفاسي كتابا مماثلا سماه “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”.
علال الفاسي هو أحد العلماء الزعماء المجاهدين، قاوم وكافح لأجل استقلال المغرب. وبعد الاستقلال جاهد لأجل حفظ الهوية العربية الإسلامية للمغرب. وكتب كتابه الجريئ” دفاع عن الشريعة”. واستمر في رئاسته لحزب الاستقلال إلى وفاته سنة 1974م. كما شارك في المؤسسات الحكومية والبرلمانية…
وعمل أستاذا جامعيا بالرباط وفاس. وهذا هو الذي قاده إلى تأليف الكتاب، فقد كان يُدَرِّس عدة مواد شرعية في كلية الحقوق وفي كلية الشريعة بجامعة القرويين، وفي دار الحديث الحسنية. وكان يركز في هذه المحاضرات على مقاصد الشريعة. ثم حول تلك المحاضرات إلى كتاب أصدره سنة 1965م بالعنوان الذي ذكرت “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”. وهناك قدر غير قليل من المباحث المشتركة بين علال الفاسي وابن عاشور، كالفطرة والحرية والكرامة والتركيز على مصالح الأمة والمجتمع. ولكن ما يميز علال الفاسي هو كونه درس الفكر الغربي وخاصة الفكر القانوني والحقوقي وشيئا من الفلسفة. لذلك كتابه يقارن مع التشريعات الرومانية والغربية الأوروبية الحديثة. ويحيل على قضايا فلسفية وحقوقية…
ومن آرائه المقاصدية: أن مقاصد الشريعة ليست مجرد مرجع تشريعي ثانوي، أو مرجع خارجي، يُرجع إليه ويُستأنس به، إلى جانب مصادر التشريع الأصلية، بل هي من صميم تلك المصادر، وهي العنصرالمحوري الثابت فيها وفي خلودها. يقول رحمه الله: «مقاصد الشريعة هي المرجع الأبدي لاستقاء ما يتوقف عليه التشريع والقضاء في الفقه الإسلامي، وأنها ليست مصدرا خارجيا عن الشرع الإسلامي، ولكنها من صميمه، وهي ليست غامضة غموض القانون الطبيعي، الذي لا يعرف له حد ولا مورد… ».

ومن جوامع كَلِمِهِ في هذا الباب قوله: «والشريعة أحكام تنطوي على مقاصد، ومقاصد تنطوي على أحكام »، وهذا معناه أن المقاصد تؤخذ من الأحكام، وأن الأحكام تؤخذ من المقاصد. وهذا أحسن تصوير وأوجز تقرير، لعلاقة المقاصد بالاجتهاد والاستنباط. ننظر في الأحكام فنستنبط منها المقاصد، وننظر في المقاصد فنستنبط منها الأحكام…

أسئلة:
الراغب الأصفهاني وابن رجب
سؤال: الراغب الإصفهاني، هل له شيئ في مجال المقاصد؟
جواب: طبعا الراغب الإصفهاني يستحق أن يذكر، خاصة بكتابه “الذريعة إلى مكارم الشريعة”، وكتابه الآخر “تفصيل النشأتين وتفصيل السعادتين”، وهو شبيه بأبي الحسن العامري الذي تحدثت عنه من قبل، وخاصة في المسحة الفلسفية والنفَس الفلسفي. ولكن الذين ذكرتهم كانوا هم الأكثر تآليفا وعناية. والمقام لا يتسع للاستقصاء والإكثار.
سؤال: ابن رجب الحنبلي في كتابه القواعد كان له شيء؟
جواب: بصراحة العلماء الكبار كلهم لهم شيء، بل أشياء. ولكن تم التركيز على من لهم عناية خاصة وبارزة ومتميزة. وليس ابن رجب من هذا الصنف.

الظاهرية والمقاصد
سؤال: حبذا لو نبذة مختصرة عن الظاهرية وكيف تعاملت مع مقاصد الشريعة لا سيما ابن حزم في كتاب “المحلى”.
جواب: الكتاب الذي يمكن أن نعتمد عليه لمعرفة أصول الظاهرية ومنهجهم، هو كتاب “الإحكام في أصول الأحكام”، لأن هذا الكتاب كتاب تنظير وتأصيل، و”المحلى” كتاب فقه تطبيقي.
وأنا أرجو أن لا يفهم مني انتقاص أي عالم، وافقته أو خالفته، فجميع العلماء أجلهم وأحبهم واستفدت منهم، وأعترف بجوانب الفضل عندهم. لكني باعتباري أشتغل بالمقاصد، أكثر من يقابلني من الجهة الأخرى هم الظاهرية وخاصة ابن حزم.
وابن حزم عالم كبير وجليل بكل معنى الكلمة، ولكن نحن نناقش قضايا العلم والمنهج العلمي.
ابن حزم وضع عدة أبواب ضمن كتاب “الإحكام في أصول الأحكام” لإبطال القياس، والعلل، والاحتياط، وسد الذرائع، والاستحسان، والاستنباط،…فهل يتصور ممن أبطل- بزعمه – كل هذا أن يكون له تعامل مع مقاصد الشريعة سوى الإبطال أيضا؟ القياس والتعليل في نظر ابن حزم إنما هو دين إبليس وطريقه. المصلحة وكون الشريعة جاءت بجلب المصالح، سماها القضية الملعونة.

لقد أبطل وأغلق كل الأبواب المفضية إلى معرفة مقاصد الشريعة والعمل بالمقاصد، فمن أين يدخل عليها ويصل إليها؟!
ولقد وصل الحال بالفقه الظاهري أن يفهم من قوله عليه السلام «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه » أن هذا النهي خاص بالبول، ولا يدخل فيه الغائط. وأيضا لو بال أحد في ماء راكد لم يجز له هو أن يتوضأ منه، ولكن يجوز ذلك لغيره، لأنه غير داخل في النهي. ولو بال أحد في إناء ثم صبه في ماء أو بال خارج الماء ثم جرى البول إلى الماء الراكد، فهذا يجوز أن يتوضأ هو منه، لأنه لم يبل فيه بل في غيره…!!
سؤال: أحسن الله إليكم هل يمكن في معرض الإجابة على ابن حزم في استدلاله بقياس إبليس وقصة آدم، أن هذا في القياس الذي نتفق فيه مع الظاهرية أنه ممنوع، وهو القياس مقابل النص، الآن جاءهم نص فأبطل النص بالقياس، وهو من القياس الممنوع الذي نتفق معهم أنه ممنوع، وأما القياس الذي ليس فيه نص، بل يكون محل نظر فهذا الذي هو موطن الخلاف.
جواب: نعم هذا يُرد به على ابن حزم وعلى كل نفاة القياس. ومما رُدَّ به على ابن حزم أن القياس كلمة تطلق على أشكال عديدة منه. والعلماء يقسمونه إلى قياس صحيح وقياس فاسد، وابن القيم وابن تيمية ممن أفاضوا في بيان الفروق بين القياسات الصحيحة والقياسات الفاسدة. وللشريف التلمساني -شيخ الشاطبي- كتيب صغير سماه “مثارات الغلط”. فمن مثارات الغلط أن يستعمل القياس استعمالا غير صحيح، والاستعمال غير الصحيح يرِدُ على جميع الأدلة، ما من دليل صحيح إلا وله استعمال خطأ عند من قصروا أو جاروا أو ذهبت بهم الأهواء، أو لأي سبب من الأسباب. وابن تيمية يقول ونفس العبارة كررها ابن القيم: لا يَعرف التمييزَ بين القياس الصحيح والقياس الفاسد إلا من عرف مقاصد الشريعة؛ لأن القياس الصحيح ينبني على مقاصد الشارع؛ ولأن أول سؤال ينبغي أن يرد في القياس، هو: هل هذه التعدية للحكم مقصودة أو غير مقصودة للشارع؟ إذا ظهر لنا أنها مقصودة للشارع، وأن الحكم ليس قاصرا وليس خاصا بالمحل المسمى في النص، نمضي في القياس، وإلا فلا.
وباختصار فقياس إبليس من القياس الفاسد عندنا، فلا يقول به أحد.

قياس إبليس أولاً: هو قياس مع النص، ولا قياس مع النص؛ لأن القياس يؤتى به في غياب النص.
وثانيا: القياس مع النص قد يكون غير مناهض للنص وغير مبطل لمقتضى النص، ومع ذلك فهو مرفوض، ولكن حينما يكون مناهضا للنص، وأُتِيَ به لنقض النص، فهذا أسوأ وأسوأ، ولا يقول به عاقل ولا عالم، ولا شافعي ولا مالكي ولا حنفي. القياس الذي استعمله إبليس ليس فقط قياسا مع النص، بل قياس لنقض النص، النص يقول افعل وقياسه يقول لا تفعل.
وثالثا: هذا الذي فعله إبليس، قد حكم الله تعالى في شأنه. فحتى لو كنا نتشكك هل هو صحيح أم غير صحيح، الله تعالى رتب عليه اللعنة والطرد… فهو قياس ليس مما نحن فيه بوجه من الوجوه.
على كل حال هذه بعض الردود على ابن حزم، ومع ذلك كما قلت: نجله ونحبه لإيمانه وغيرته وحسن قصده. ولكن هناك اختلال منهجي لا يمكن قبوله ولا السكوت عنه.

رابعا: عبد الله بن بية: بين الأصول والمقاصد
نعود إلى سياقنا وموضوعنا لهذا اليوم، وهو: المقاصد في هذا العصر. وكنت تحدثت عن ابن عاشور وعن علال الفاسي…وغير بعيد عنهما أنتقل إلى أستاذنا الشيخ عبد الله بن بية، فهو من العلماء المهتمين بمقاصد الشريعة في هذا العصر، تنظيرا وتطبيقا. فها قد وصلنا إلى المعاصرين الأحياء.
ومن هذا الباب هناك نكتة وقعت بالمغرب، وهي أن أحد الأساتذة كان يدرِّس بعض المواد الشرعية، وجاءه المفتش، وكان الكتاب المقرر الذي يعتمده الأستاذ من تصنيف المفتش نفسه، والأستاذ لا يدري. فكان يشرح ويقول للتلاميذ من حين لآخر: قال المصنف رحمه الله. في النهاية جاءه المفتش وقال له: أنت تقول عن المصنف رحمه الله، وأنا هو المصنف، فقال الأستاذ مندهشا: سبحان الله! وهل هناك مصنف باقٍ على قيد الحياة!!
كان يظن أن المصنفين كلهم من الأموات. فلا تظنوا أنتم أن المصنفين في المقاصد كلهم من القدماء ومن الأموات.
الشيخ عبد الله بن بية، له مكانة ورسوخ واجتهاد. فلذلك اخترته لتقديمه لكم، وإلا فالذين يكتبون اليوم في المقاصد عشرات وعشرات، ولكني أتحدث عمن لهم مكانة وعطاء ورسوخ.
الشيخ الفقيه ابن بية صدر له كتاب في المقاصد قبل نحو سنتين. وأصله محاضرة ألقاها بمكة المكرمة، ثم وسعها وجعلها كتابا اسمه “علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه”.
المسألة الأساس لهذا الكتاب هي المعبر عنها في عنوانه. وقد سبق أن عرضنا لها فيما سبق. ولها مكان يأتي في اليوم الأخير من هذه الدورة إن شاء الله عز وجل.
وللشيخ حفظه الله آراء وإضافات واستدراكات وتطبيقات، في جميع مباحث الكتاب، غير أن الجديد الكامل في نظري هو مبحثه الرابع الذي سماه “الاستنجاد بالمقاصد واستثمارها “.
وقد بدأه بتأكيد ما ذهب إليه الشاطبي من قبل، فذكر أن «أول استثمار لها -أي للمقاصد- هو ترشيح المستثمر لها، الذي هو المجتهد، ليكون مجتهدا موصوفا بهذا الوصف. فلا بد من اتصافـه بـمعرفة المقاصد..
ثم عرض رأي ابن عاشور الذي ذكرته سابقا، ثم قال :«ولبيان ما دندن حوله أبو المقاصد أبو إسحاق الشاطبي، والعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، رحمهما الله تعالى، نقول: إنه يُستنجَد بالمقاصد في أكثر من عشرين منحى من مسائل الأصول… ».
والحقيقة أنه قد أوصلها إلى ثلاثين وجها، هي كلها تقريبا عبارة عن قواعد أصولية، لغوية واستدلالية، تَمَّ تطعيمها وتسديد العمل بها، باستحضارالفكرة المقاصدية والنظر المقاصدي في إعمالها. ويمكن اعتبارها عملا نموذجيا لصياغة مقاصدية لعلم أصول الفقه.
وبعد أن استعرض الشيخ الجليل هذه المناحي الثلاثين للاستنجاد بالمقاصد، قال حفظه الله: «وهذه المناحي التي تسجَّـل لأول مرة، لو أردنا نشرها ـ كما تنشر بعد الطية الكتبُ ـ لكانت جزءا كبيرا، لكن مقصودنا من هذا هوالإشارة إلى أن المقاصد هي أصول الفقه بعينها، وهذه المناحي والمدارك أمثلة للوشائج الحميمة والتداخل والتواصل. ولو أمعنا النظر وأعملنا الفكر لأضفنا إليها غيرها. فأقول لطالب العلم: انحُ هذا النحو… ».
ومما يتميز به الشيخ ابن بية، نشاطه وإنتاجه الإفتائي، في مختلف قضايا العصر، وهو ما يتيح له تطبيق رؤيته المقاصدية. وبحوثه المقدمة في مختلف المجامع الفقهية، هي خير ما أحيل عليه.

خامسا: جمال الدين عطية وتفعيل المقاصد
أنتقل إلى نموذج آخر من المعاصرين الأحياء، ممن لهم جهود مقدرة ومفيدة في مجالنا… وهو الدكتور جمال الدين عطية. وقد صدر له منذ سنوات كتاب سماه “نحو تفعيل مقاصد الشريعة “. وفيه آراء وإضافات على هذا الطريق…
قسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: خصصه لما سماه قضايا محورية، وهي قضايا كُتب فيها الكثير، لكنه يلخصها ويبدي ما له من آراء وإضافات فيها، مثل قضية الضروريات الخمس وترتيبها، وحصرها أوالزيادة عليها..، ومثل طرق الكشف عن مقاصد الشريعة حيث ناقش بصفة خاصة دور العقل والفطرة في الاهتداء إلى مقاصد الشريعة والدلالة عليها…
الفصل الثاني: خصصه لإعادة ترتيب مجمل مقاصد الشريعة. نحن ذكرنا من قبل تقسيمات وترتيبات للعلماء: الكليات والجزئيات، العامة والخاصة، المقاصد العالية، كما سماها ابن عاشور. كما ذكرنا تقسيم الشاطبي المقاصد إلى مقاصد الشارع ومقاصد المكلفين…

جمال عطية تناول هذه المسألة ليقترح نمطا جديدا لتقسيم المقاصد، يتيح الفرصة كما يرى لإبراز جوانب أخرى من مقاصد الشريعة. فقسمها إلى ستة أنواع مرتبة فيما يلي:
1- مقاصد الخلق،
2- مقاصد الشريعة العالية،
3- مقاصد الشريعة الكلية،
4- مقاصد الشريعة الخاصة،
5- مقاصد الشريعة الجزئية،
6- مقاصد المكلفين.
وأما المجالات والدوائر المعنية بمقاصد الشريعة، فقد سبق أن المتقدمين ركزوا على المجال الفردي والدوائر الفردية ؛ فالمقاصد عندهم تقاس وتعرف وتقسم وترتب بالنظر إلى احتياجات الفرد ومصالحه وما هو مطلوبه أو مطلوب منه.
جاء ابن عاشور فأعطى اعتبارا أكبر لإبراز المقاصد بالنسبة لعموم الأمة. فهذا مجال وذاك مجال: الفرد والجماعة. وهكذا جرت التقسيمات بحسب نطاق المقاصد ومجالها إلى: العامة والخاصة، الأمة والفرد، فروض الكفاية وفروض الأعيان. فالفروض العينية خطاب فردي، ومقاصدها فردية. والفروض الكفائية خطاب جماعي ومقاصدها جماعية عامة. فانحصر الخطاب بين الفرد والجماعة.

الدكتور جمال الدين عطية يرى أن نتناول المقاصد متدرجة بحسب مجالات ودوائر أربع، تستوعب المقاصد العامة والخاصة والجزئية، وتقدم بديلا عن تقسيم الضروريات إلى الخمس المعروفة، لأنها تندرج وتتوزع على المجالات الأربعة المقترحة.
المجال الأول: هو مجال الفرد، وهذا لا إشكال فيه ولا جديد فيه. والمقاصد التي أدخلها فيه هي حفظ النفس والعقل والتدين – وليس الدين – والعرض والمال. فهذه هي الاحتياجات الفردية والمقاصد الفردية، أو التي تبرز على مستوى الأفراد أكثر مما تبرز على أي مستوى آخر.

المجال الثاني: هو مجال الأسرة؛ من الفرد إلى الأسرة. في مجال الأسرة سجل وتناول المقاصد الآتية:
– المقصد الأول تنظيم العلاقة بين الجنسين في مجال الأسرة، وهذا يبدو مستوحى من عند ابن عاشور في المقاصد الخاصة بالعائلة. فالشريعة لها مقاصدها في تنظيم العلاقة بين الجنسين. وهو أمر صحيح؛ فالعلاقة بين الجنسين تحتل مساحة كبيرة وأهمية كبيرة، في الأحكام الشرعية وفي الحياة البشرية، قد تكون أكبر مما هو الشأن بالنسبة لتنظيم مجموع علاقات الجنس البشري. علاقة الرجل والمرأة، الرجال والنساء، لها أهمية كبيرة وآثار بليغة في الحياة، وفي بناء المجتمعات. ولها تبعا لذلك أهمية كبيرة في الشريعة ومقاصدها.
– ثم مقصد حفظ النسل، فهو مقصد شرعي يتحقق أولا على مستوى الأسرة.
– ثم مقصد تحقيق السكن والرحمة.
– ومقصد حفظ النسب.
– ومقصد حفظ التدين في الأسرة، أي على مستوى الأسرة وليس الفرد.
– ثم التنظيم المؤسسي والمالي لشؤون الأسرة.

المجال الثالث: هو مجال الأمة؛ من الفرد إلى الأسرة إلى الأمة.
على مستوى الأمة سجل المقاصد الشرعية التالية:
أولا: التنظيم المؤسسي لشؤون الأمة، أي: الشؤون العامة للأمة تصبح منظمة وداخل مؤسسات.
ثانيا: مقصد الأمن.
ثالثا مقصد العدل.
ثم مقصد حفظ الدين والخلق.
ثم التعاون والتضامن والتكافل.
ثم نشر العلم وحفظ عقول الأمة. لاحظوا التفريق بين حفظ العقل للأفراد، وهو مقصد فردي، والآن حفظ العقل للأمة.
ثم في الأخير جعل عمارة الأرض وحفظ ثروة الأمة. أي من مقاصد الشريعة على صعيد الأمة: حفظ ثروتها وعمارة الأرض التي يقيم بها المسلمون.

المجال الرابع، أو الدائرة الرابعة: على مستوى البشرية أو الإنسانية، أي للشريعة مقاصد على المستوى البشري الأعم. من ذلك:
التعارف والتعاون والتكامل بين البشر وبين الأمم والشعوب.
ومن ذلك تحقيق خلافة الإنسان في الأرض.
ثم تحقيق السلام العالمي القائم على العدل.
ثم نشر دعوة الإسلام، أي على صعيد البشرية كلها.
هذه أهم الأفكار الجديدة عند الدكتور جمال الدين عطية في الفصلين الأول والثاني.

الفصل الثالث: وهو الذي يعكس عنوان الكتاب ويترجم رسالته “نحو تفعيل مقاصد الشريعة”. وهو يرمي ويدعو إلى جعل مقاصد الشريعة حاضرة ومؤثرة ومتبعة في مجالات جديدة، وفي مجالات واسعة، وبصفة خاصة في المجالات التي لا يسعها لا الفقه ولا أصول الفقه، بصورتيهما السائدة. ومن تلك المجالات: – أسلمة العلوم الإنسانية والاجتماعية والكونية، أي تأسيسها وتوجيهها وفق مقاصد الشريعة.
– ومنها الترقية المنهجية للعقلية الإسلامية، أو تكوين العقلية المقاصدية…

سادسا: سوء استعمال المقاصد

نصل إلى المسألة المتبقية، وهي أن المقاصد في هذا العصر قد تستعمل استعمالا سيئا. ولكن نحن قبل قليل كنا نتحدث أن القياس قد يستعمل استعمالا سيئا، واستعمل بعض الجهال والمغرضين القرآن استعمالا سيئا، حتى قال الشاطبي: استدل أهل التثليث بالقرآن، فقالوا: الله تعالى يقول:) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (، فمعناه أنه ثلاثة؛ لأن أقل الجمع ثلاثة، وهكذا القرآن يتحدث مرارا بصيغة الجماعة، إذاً هذا دليل على أن الأمر يتعلق بثلاثة وليس بإلـه واحد…!! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
إذن سوء الاستعمال هذا لا يبطل شيئا، حُرفت الكتب، وحرفت الأحكام، وحرفت المبادئ الجميلة. وباسم العدل والتحرير، جرى الآن احتلال العراق، ولأجل العدالة والديمقراطية والحرية… إلى آخر القائمة الطويلة من المبادئ الجميلة، ولكنها كلها استعملت بالنقيض. فسوء الاستعمال موجود للمقاصد، وموجود لغير المقاصد.
وهناك ناس يملؤون فتاواهم وبياناتهم وخطبهم بالآيات والأحاديث وأقوال السلف والخلف، والنتيجة ضلال وانحراف وتحريف.
وقديما – وليس اليوم – قال نجم الدين الطوفي، المعاصر لابن تيمية والمنتسب إلى مذهبه، قال: إذا تعارض النص مع المصلحة قدمنا المصلحة، لأن المصلحة هي مقصود الشرع، والنصوص كالوسيلة لتحقيق المقصود، فنقدم المقصد على الوسيلة… وسأعود إلى هذا في محاضرة قادمة إن شاء الله عز وجل.
اليوم شاع استعمال المقاصد بشكل سيء جدا من بعض العلمانيين، ومن بعض المؤمنين من ضعفاء الثقافة الشرعية، ممن غلبت عليهم الثقافة الغربية.
والعلمانيون المستغلون للمقاصد، والمتلاعبون بالمقاصد لإبطال الشريعة، يسيطرون الآن بصفة رسمية على مقاليد الدولة في بلدين إسلاميين، هما وتركيا وتونس. الدولة التركية ليست هي حزب العدالة والتنمية وحكومته وبرلمانه. الدولة التركية هي الجيش، والقضاء، والإعلام، والتعليم. وهذه المؤسسات كلها ما زالت في قبضة العلمانيين. أما في تونس فالأمر أسوأ، لأنهم وحدهم يصولون ويجولون في كل مرافق الدولة ومؤسساتها…
عندي الآن نموذج من تونس، شخص يدعى نور الدين بوثوري، له كتاب سماه “مقاصد الشريعة- التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد وقصور الاجتهاد”، ونشرته دار الطليعة، وهي دار نشر متخصصة في نشر الإلحاد والماركسية ومحاربة الإسلام.
نور الدين بوثوري هذا يتحدث عن التجديد المقاصدي في فقه الشيخ ابن عاشور، ويصل في النهاية إلى انتقاده، لكون مجهوداته في مقاصد الشريعة لم تأت بجديد، يقول: «فانحصر عمله في استبدال المقصد بالعلة، من دون أن يفضي ذلك إلى تقرير أحكام استنادا إلى المقاصد، تكون مخالفة للأحكام المقامة على علل الفقهاء. فالحلال ظل حلالا، والحرام حراما. وهكذا في سائر الأحكام. ويبدو أن ابن عاشور قد نزع هذا المنزع لمجرد إثبات أهلية المقاصد للبت في ما يعرض للناس من قضايا، من دون مناقضة الأحكام الشرعية المتوارثة ».
ثم يتقدم هو لينجز ما لم يجده عند ابن عاشور فيقول متحدثا باسم المسلمين المعاصرين: «المسلم اليوم لم يعد يستسيغ الكثير منها – يقصد الأحكام الشرعية – كتعدد الزوجات، والجَلد، والرجم… أو كما في العدة التي تلزم فيها المرأة المطلقة بأن تعتد ثلاثة قروء، والأرملة بأن تتربص أربعة أشهر وعشرا. والمقصد الأساسي من هذا الاحتياط إنما هو التثبت من حصول الحمل أو من عدمه، والحال أن وسائل الكشف تمكننا من معرفة ذلك يقينا، خلال نصف أقصر العدتين. بل تمكننا، في صورة ثبوت الحمل، من معرفة جنس الجنين بعيد العلوق. ولذلك ارتفعت عديد الأصوات تنادي بضرورة الاجتهاد في الأحكام النصية نفسها ».
وهكذا يبدو جليا صريحا أن الهدف من المقاصد ومن الاجتهاد والتجديد عند هؤلاء هو الإلغاء “الشرعي” للشريعة، وهو ألا يبقى الحلال حلالا ولا الحرام حراما. المطلوب هو إضفاء الشرعية الفقهية والأصولية، على الإلغاء الفعلي الذي نفذوه، ولكنه لم يشفِ غليلهم، ولم يبعد عنهم شبح الأحكام الشرعية.
على كل حال، فمثل هذه الأفكار وهذه المساعي، توجد اليوم في كل مكان. والحل ليس هو أن نخاف ونحتاط من المقاصد، ونهجرها ونغلق أبوابها، على الطريقة الحزمية، هذا غلط مزدوج…
الحل إنما هو في كلمتين: أن نملأ الفراغ، ونعطي القوس باريها. والله المستعان.

http://www.raissouni.org/def.asp?codelangue=41&id_info=2912

كُتب في المناهج | التعليقات على المقاصد الشرعية .. والإمام الشاطبي مغلقة

الرأي العام في القرآن الكريم .. قوة لم يفطن لها المسلمون

يعتبر الرأي العام من الوسائل الخطيرة في تغيير الأطر المرجعية للمجتمعات والأفراد ،  ولايزال الرأي العام الإسلامي على صعيد محلي أو عالمي في غاية الضعف ومصاباً بانكسارات عديدة ، والتعويض عنها لاينبغي أن يكون بالقفز فوق السنن الربانية بل بالتضلع في فهمها ، و ذكر العلامة أبو الحسن الندوي أنه (قد ظهر أن أمة أو جماعة ليس فيها روح الدعوة والتقدم والهجوم ، لاتحافظ على وجودها ، وعلى مبدئها وعقيدتها ، أكمل قراءة التدوينة

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على الرأي العام في القرآن الكريم .. قوة لم يفطن لها المسلمون مغلقة

المراجعات التصحيحية للجماعة المقاتلة الليبية

التجارب المريرة التي خاضتها الجماعات الإسلامية وهي تحاول صد الغارة عن الإسلام فتصيب وتخطئ ، هي مراجعات ثمينة لأنها انطلقت من معاناة وأثمان باهظة ، ويجب الاستفادة منها والاعتبار بها وتصحيح المسار بناء عليها، وهذه مقالة عن إحدى المراجعات كتبها العلامة الدكتور أحمد الريسوني حفظه الله ، وننشرها نقلاً عن موقعه بتصرف يسير.

…….. ما يعنيني الآن هو المراجعات الفكرية والفقهية والسياسية التي قام بها القياديون في الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، وتمت صياغتها في كتاب تزيد صفحاته على الأربعمائة صفحة، يحمل عنوان{دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس}

وقد عُرض الكتاب على مجموعة من العلماء من داخل ليبيا ومن خارجها، لأخذ آرائهم وملاحظاتهم العلمية بشأنه، وهم: العلامة المعروف الشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ سلمان العودة من السعودية، والشيخ محمد الشنقيطي من موريتانيا، وأحمد الريسوني من المغرب. بالإضافة إلى العلماء الليبيين السادة: د.الصادق الغرياني، ود. حمزة أبو فارس، ود.سليمان البيرة، ود. عقيل حسن عقيل، ود. محمد أحمد الشيخ.

هذه الدراسات التصحيحية، هي ثمرة نقاشات وقراءات ومراجعات طويلة، عكفت عليها قيادات الجماعة داخل السجون وخارجها، وتَم تحريرها بالقسم العسكري من سجن أبو سليم الشهير، الذي ينتظر الليبيون إفراغَه وإغلاقه قريبا إن شاء الله تعالى. وقد جاءت هذه الدراسة موقعة بأسماء ستة من المعتقلين الذين أشرفوا على إعدادها وتحريرها، وهم الأساتذة:

بالحاج سامي مصطفى الساعدي

عبد الحكيم الخويلدي

عبد الوهـاب محمد قايـد

مفتـاح المـبروك الذوادي

خالد محمـد الشـريف

مصـطفى الصيـد قنيفيـد

والحق أن مؤلفي هذه الدراسات التصحيحية قد غاصوا في كتب التفسير والفقه والأصول والمقاصد والتاريخ، فضلا عن تأملاتهم المعمقة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأسسوا على ذلك مراجعاتهم التصحيحية ومواقفهم الحالية. وهذه أهم البنود التي استقرت عليها بحوثهم ومراجعاتهم:

إن سؤال الناس عن عقائدهم أو التفتيش عنها بدعة محدثة، والواجب الأخذ بظواهر الناس ونكل سرائرهم إلى الله.
نحن ( دعاة لا قضاة )؛ واجبنا دعوة الناس للتمسك بتعاليم الإسلام لا الحكم عليهم , ويترك ذلك للمفتين والقضاة .
الجهاد والدعوة والحسبة وسائل لإقامة الدين , وهداية الناس هي الغاية من إرسال الرسل , فإذا تعارضت الوسائل مع الغاية لأي سبب من الأسباب تقدم الغاية على الوسائل .
الجهاد في سبيل الله ضد العدوان أو الاحتلال واجب شرعاً وعلى المسلمين التناصر في ذلك بقدر المستطاع .
الجهاد في سبيل الله له ضوابط وأخلاق نرى وجوب التمسك بها وحرمة انتهاكها , كحرمة قتل النساء والأطفال والشيوخ والرهبان والأُجراء والسفراء , وحرمة الغدر، ووجوب الوفاء بالعهود، والإحسان إلى الأسرى وغيرها .
لا يجوز الاقتتال بين المسلمين لأي أسباب سواء كانت، جهوية أو قبلية أو عصبية أو نحوها , مع وجوب المصالحة بين المسلمين .
نرى حرمة الخروج واستخدام السلاح من أجل التغيير والإصلاح أو دفع الظلم والفساد، لورود النهي الصريح بذلك , ولما يترتب عليه من سفك دماء المسلمين وغيرها من المفاسد .
الغلو في الدين من أسباب هلاك الأمم , وأن علاج أسبابه بالطرق الشرعية واجب على كل مسلم .
لا يجوز الإقدام على أي عمل من الأعمال إذا غلبت مفسدته على مصلحته، ويجب اعتبار مآلات الأمور والنظر إلى عواقبها .
لا يجوز التقول على الله بغير علم في أي مسألة من مسائل الشرع، وتتأكد هذه الحرمة إذا تعلق الأمر باستباحة الدماء والأموال .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية وقد يتعين في مواطن , ويجب التقيد بضوابطه وأحكامه. وكل ما أدى منه إلى تقابل الصفين وإشهار السلاح , فهو خاص بالسلطان .
نرى أن الحكم على المسلم بالكفر من أعظم الذنوب، فلا يجوز الإقدام عليه .
انظر (ص 415-416)

ومما يلفت الانتباه في هذه الدراسة أن مراجعاتها وتوجهاتها لا تقف عند الحالة الليبية والتجربة الليبية، بل جاءت متطلعة إلى تقديم خلاصاتها وثمرات تجربتها العلمية والعملية، إلى عموم الحركات الإسلامية، وخاصة منها التي تبنت النهج الجهادي المسلح لتغيير الأوضاع في البلدان الإسلامية.

يقول أصحاب الدراسة:

“كتبناها لكل مسلم غيور ، آلمه حال أمته المكلومة , وقد رأى جرأة الأمم عليها ، وسمع صراخ أبنائها ، وقد استبيحت أرضهم ، وسفكت دماؤهم ، وانتهكت حرماتهم ، في بلاد كثيرة من فلسطين إلى العراق إلى أفغانستان .

وكتبناها لكل مسلم يرى الفرق الشاسع بين ما يتلوه في كتاب ربه ، وما يعلمه من سير العظماء من أمته ، وبين ما يشاهده من صورة مزعجة لبعض أبناء المسلمين اليوم .

وكتبناها لكل شاب التزم بدينه ، وتمسك به ، وأراد نصرته ، والارتقاء به , ممن قد لا يحالفه السداد في إنزال هذه الرغبة في مكانها الصحيح ، أو في طريقها المثمر الذي يخدم أمته .

وكتبناها لكل طالب علم وداعية يحرص على هداية الخلق ، وبيان الحق ، وإرشاد العالمين ، وتعليم الجاهلين .

وكتبناها لكل مجاهد يحرص على رقي أمته ، فيقف في وجه المؤامرات الخارجية بقلمه أو لسانه أو ماله أو سلاحه أو دعائه .
وكتبناها لكل من ربطتنا به يوماً من الأيام ، علاقةٌ أخوية أو أدبية أو تنظيمية، فأَحَبَّ أن يطَّلع على خلاصة تجربتنا و زبدة قناعاتنا” (ص7)

“وهي تجـربة خلاصتــها :

أنَّ أبناء الصحوة سيكونون بخير وسداد إذا ما رجعوا إلى العلماء الثقات في أمورهم وأعمالهم، لاسيما فيما يترتب عليه نتائج عظيمة تتعلق بالمصالح العامة لبلدهم وأمتهم. وبقدر تزودهم بالعلم الشرعي وتبصرهم بالواقع، فإن اختياراتهم ستكون مسددة وموفقة.
وأنَّ طريق الارتقاء بالأمة طويل يحتاج إلى صبر ومصابرة ، وجهد ووقت ، لأنَّ الأمة الإسلامية لم تصل إلى ما وصلت إليه من تخلف وتأخر بين عشية وضحاها، بل كان ذلك نتيجة لتراكم عوامل كثيرة ، استمر الانحدار فيها لقرون طويلة ، فمثل هذا الخلل لا يمكن معالجته بحلول مستعجلة ولا أعمال حماسية، ولا تصرفات عاطفية…” – ص13
وتبدو أزمة العلم وغياب العلماء، والخللُ الكبير الناجم عن الفصام بين الشباب والعلماء، تبدو قضية محورية في مراجعات الإخوة الليبين وفي خلاصات تجربتهم. وهذا ما يتأكد في مواضع عدة من الكتاب، منها قولهم: “وكان لغياب العلماء ووسائلِ نشر العلم وقلةِ الموجهين، دورٌ كبيرٌ في عدم صواب الاختيار , كما كان لقلّة مجالات الدعوة بل وانعدامها في بعض الأحيان، بحيث لا يجد الإنسانُ سبيلاً متاحاً للعمل من خلاله لدين الله، كان لذلك كله دور كبير في تضييق دائرة الاختيار للعمل للدين .

والناظر في تلك الظروف وما أحاط بها من ملابسات ، لا يستغرب أن يكون ما يتولد عنها هو ما حدث في الواقع , أمَّا ماذا كان ينبغي أن يكون ، فهذا ما كُتبت أبواب هذه الدراسات الشرعية من أجله” – ص11

وهنا أود إلى أن أسجل أن إعراض كثير من التنظيمات الإسلامية الشبابية، ومن الشباب المتدينين عن العلماء، يرجع إلى عدة أسباب لا بد من معالجتها لاستعادة مكانة العلماء ودورهم وفاعليتهم في التوجيه والترشيد والتحصين.

– منها مسألة البعد عن الناس وعن الشباب. وقرب العلماء أو بعدهم قد يكون بانعزالهم وابتعادهم عن الشباب، وعدم مخالطتهم ومجالستهم ومذاكرتهم لهم. وينسى – العلماء ورثة الأنبياء – قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان/20]، وهو ما يفرض على العلماء أن إلى ينزلوا إلى أسواق الناس عامة، وإلى ميادين الشباب خاصة. فهذه سنة الأنبياء جميعا.

وقد يكون البعد بعدا فكريا، بحيث يغرق العلماء في عوالمهم واهتماماتهم العلمية والدنيوية، بعيدا عما يعيشه الشباب وما يعتمل في نفوسهم وعقولهم وحياتهم. فإذا تكلموا أو أفتوا أو ألفوا، ظهر أنهم في وادٍ والشباب في واد.

– ومنها مسألة المصداقية. فكثير من الشباب المتدينين لا يرون في عامة العلماء إلا علماء سلاطين وطلاب دنيا. يفقدون الثقة بصدقهم واسقلاليتهم ورساليتهم، فيُضربون عنهم صفحا، ويعمدون إلى البحث والتخريج السريع “للعلماء المجاهدين”، من بين طلبة الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والكمبيوتر … وفي أحيان قليلة من بين طلبة العلوم الشرعية، الذين لم يكملوا دراساتهم. وجميع هؤلاء يجدون أنفسهم فجأة يفتون ويفسرون ويؤصلون ويُنَظِّرون في أخطر قضايا الدين والسياسة

نقلاً عن موقع الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني:

http://www.raissouni.org/def.asp?codelangue=41&id_info=2941

كُتب في المناهج | التعليقات على المراجعات التصحيحية للجماعة المقاتلة الليبية مغلقة

“أن يكون المرء مسلماً اليوم” ..

موضوع العام السابع والعشرون …

مسلمو فرنسا يبحثون في ملتقاهم المتغيِّرات وتحديات المرحلة

باريس ـ يبحث مسلمو فرنسا في ملتقى ضخم تحضره شخصيات بارزة وعلماء ومفكرون من مشارب متعدِّدة، مستجدات واقعهم وما يمليه ذلك من مسؤوليات على عاتقهم انطلاقاً من انتمائهم الديني وحضورهم المجتمعي.

حيث يستعد اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، لإقامة الملتقى السنوي السابع والعشرين لمسلمي فرنسا، وهو الحدث الأكبر من نوعه على الصعيد الأوروبي، ويتوقع أن يحضره أكثر من 130 ألف شخص من شتى الأجيال من داخل فرنسا وخارجها.

ويلتئم الملتقى هذا العام، على مدى الأيام من الثاني وحتى الخامس من إبريل 2010، تحت شعار “أن يكون المرء مسلماً اليوم ـ الإيمان والشهادة والمسؤولية”، حيث يستضيف عشرات المفكرين والعلماء وقادة الرأي والإعلاميين، لتناول هذا الموضوع من شتى جوانبه.

ويُعقد الملتقى الضخم وسط حضور جماهيري وإعلامي ضخم، بمشاركة نخب من مجالات متعددة، في مدينة المعارض في لوبورجيه، شمال العاصمة الفرنسية باريس. وتتوزّع أعمال المؤتمر على سلسلة ندوات ومحاضرات وورش عمل ولقاءات حوارية تتوجّه إلى فئات عمرية شتى، وعلى فعاليات جماهيرية وفنيّة بمشاركة فرق بارزة ومشاهير الفن الإسلامي من فرنسا وأوروبا وأنحاء العالم. كما يشتمل الملتقى على معارض واسعة تضمّ أجنحة متنوِّعة في مجالات الثقافة والفن والتعليم والإعلام والرعاية الدينية والخدمات الاجتماعية وغيرها.

وتزداد أهمية انعقاد ملتقى مسلمي فرنسا هذا العام بالنظر لتزايد التحديات والقضايا التي تواجه الوجود المسلم في الواقع الأوروبي، بما في ذلك فرنسا التي تضمّ أكبر حضور مسلم على مستوى القارّة.

ويقول الدكتور فؤاد العلوي، رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، “لا شكّ أنّ المسلمين وهم يعيشون في واقع فرنسي وأوروبي وعالمي متجدد بحاجة إلى التأمّل في واقعهم، وإدراك التحديات المتزايدة التي تكتنفهم، ولذا اختير لملتقى هذا العام شعار: أن تكون مسلماً اليوم”.
ويضيف العلوي قوله “سيحمل انعقاد هذا الملتقى في عامه السابع والعشرين، رسالة متجددة، مفادها أنّ المسلمين مكوِّن من مكوِّنات واقع فرنسي وأوروبي متنوِّع، وأنهم واعون بمسؤولياتهم ومدركون لتحديات المرحلة الراهنة، كما أنّهم حريصون على المشاركة الفاعلة في صياغة الحاضر والمستقبل”.
ويأتي انعقاد ملتقى مسلمي فرنسا لهذا العام، متزامناً مع تصاعد الجدل في عموم القارّة الأوروبية، بشأن الحرية الدينية والهوية الثقافية وكيفية التعامل مع حمّى العداء للإسلام.

وشهد ملتقى مسلمي فرنسا، على مدى قرابة ثلاثة عقود من الانعقاد السنوي المنتظم، إقبالاً متنامياً من فئات الجمهور من شتى الأجيال، حتى سجّل في الأعوام الأخيرة حضور ما يصل إلى 140 ألف شخص، ليتحوّل إلى الحدث الأبرز من نوعه بالنسبة للمسلمين في أوروبا والغرب.

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على “أن يكون المرء مسلماً اليوم” .. مغلقة

أمثلة عن الضمانات في المجتمعات المسلمة

ظهرت في المجتمعات المسلمة أنواع كثيرة من الضمانات، وهذه أمثلة واضحة ومعبرة عنها:

أولاً: في عام الرمادة أصابت الناس في نجد والحجاز مجاعة دامت تسعة أشهر اسودت خلالها الأرض لانقطاع الأمطار… وقد بلغ عدد الذين تُمدهم الدولة بالطعام ستين ألفاً منهم من يتعشى على مائدة واحدة، وقد بلغوا عشَرة آلاف، ومنهم من يصله الطعام إلى داره” ([1]).

أكمل قراءة التدوينة

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على أمثلة عن الضمانات في المجتمعات المسلمة مغلقة

الإسلام والبيئة في أسبوع ثقافي هولاندي

للعام الخامس على التوالي، ينطلق الإثنين 15-3-2010 الأسبوع الثقافي الذي ينظمه الطلاب المسلمون في جامعة “رادباود-نايميخن” جنوب هولندا، ويستمر حتى التاسع عشر من نفس الشهر، ويشارك فيه طلاب غير مسلمين.

وبحسب الموقع الإلكتروني لـ”جمعية الطلاب المسلمين” بالجامعة، يحاضر خلال تلك الأيام أساتذة من جامعة رادباود، والجامعة الإسلامية في روتردام، وجامعة لايدن، وجامعة برمنجهام، وتركز هذه المحاضرات على موضوعات تتعلق بـ”السياسة والبيئة والأخلاقيات الطيبة من العالم الإسلامي”.

بيتر كوبنس (هولندي مسلم)، وأحد مؤسسي الجمعية، أكد على أهمية هذه الملتقيات الثقافية قائلا لـ”إسلام أون لاين.نت”: “إبراز دورنا كطلاب مسلمين في تنمية المجتمع، بالإضافة إلى سبل مشاركتنا مع الطلاب الآخرين غير المسلمين كي نعمل معاً كشركاء على تحسين جهود تنمية المجتمع في جميع الميادين، هما أهم أهداف هذا الأسبوع الذي ننظمه منذ 5 سنوات”.

وأضاف كوبنس -الذي أنهى دراسته الجامعية ويقوم حاليا بتحضير دراسات عليا- أن “هذه الملتقيات الثقافية السنوية، والتي يشارك فيها طلاب من غير المسلمين، تمثل فرصة لتفعيل الحوار مع الآخر، وتعريفهم بالإسلام بشكله الصحيح والشامل”.

وأوضح أننا “عبر هذه الملتقيات وتلك المحاضرات والحلقات النقاشية وورش العمل نناقش عددا من المسائل المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والبيئة، ونوضح فيها وجهة نظر الإسلام إزاءها”.

الحفاظ على البيئة

وعن الجديد هذا العام، لفت كوبنس إلى أنه “سيتم طرح قضية الحفاظ على البيئة وموقف الإسلام في ذلك؛ نظرا لأنها أضحت مسألة باتت تقلق غالبية دول العالم”.

وحول أهمية هذه الأنشطة الطلابية للطلاب المسلمين داخل الجامعات الهولندية، قال محمود الصيفي -الباحث في “فقه الأقليات والإسلام في الغرب” بنفس الجامعة، وأحد المحاضرين في فعاليات هذا الأسبوع-: إن “النشاط الطلابي في المرحلة الجامعية بشكل عام يعتبر أحد روافد المعرفة بجانب المناهج الدراسية، خاصة في عصر تأتي فيه القوى البشرية كأهم عوامل التنمية”.

وتابع: “ينطبق هذا الأمر بشكل أكبر على الطلاب في مجتمع الأقليات أو المسلمين في الغرب؛ إذ هذا المجال من أخصب المجالات وأكثرها حيوية للتفاعل وتلاقح الثقافات، وتبادل الأفكار، وتعزيز قيم الحوار؛ مما يسهم في إبراز الوجه الحضاري والإنساني للإسلام والمسلمين”.

غير المسلمين

وعن نظرة الأساتذة وطلاب الجامعات من غير المسلمين، إلى هذه الأنشطة، أكد الصيفي أن هذه الفعاليات تشهد “حضورا فاعلا من غير المسلمين، ومنهم من تكون له إسهامات إيجابية، ومن خلال تجربتي الشخصية في حضور أنشطة سابقة يعبر الكثير منهم عن إعجابهم بها، وتأثيرها الإيجابي في إزالة التصورات الخاطئة، كما أن الجامعة تدعم مثل هذه الفعاليات وتوفر الإمكانات اللازمة لتنفيذها”.

وأردف قائلا: “مثل هذه الفعاليات تقدم لغير المسلمين في المجتمع الجامعي رؤية مختلفة عن الصور النمطية السلبية والتي غالبا ما تفرزها المعالجة الإعلامية غير المنصفة، أو بعض الممارسات الخاطئة لمن ينتسبون للإسلام”.

يشار إلى أن هذه الجامعة تقع في مدينة نايميخن جنوب هولندا، وهي جامعة كاثوليكية، وفيها نسبة كبيرة من الطلاب المسلمين، كما أن بها قسما للغة العربية والدراسات الإسلامية.

ويقدر عدد الطلاب المسلمين في الجامعات الهولندية بنحو عشرات الآلاف، ويرجع عدم معرفة العدد بالتحديد؛ نظرا لأنه لا يسمح بالتمييز على أساس الدين بين المواطنين أو الطلاب.

ويشكل مسلمو هولندا مليون شخص تقريبًا من إجمالي 16 مليونا هم عدد سكان البلاد، ومعظم هؤلاء المسلمين من أصل تركي أو مغربي.

نقلاً عن إسلام أون لاين.

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على الإسلام والبيئة في أسبوع ثقافي هولاندي مغلقة

مقالة مهمة جداً لفهم السياسة الخارجية التركية

أحمد داود أوغلو” … وليس “كيسنجر تركيا”

د.إبراهيم البيومي غانم

مارس 2010

كنت قد وصفت وزير الخارجية التركية الجديد الدكتور أحمد داود أوغلو بأنه “كيسنجر السياسة التركية”، وشرحت هذا الوصف في محاضرة عامة ألقيتها عن “النموذج التركي” في 26 أغسطس 2008 بجامعة القاهرة ضمن محاضرات “برنامج الدراسات الحضارية وحوار الثقافات”، وتناقلت وسائل الإعلام هذا الوصف بسرعة لافتة.
وبعد بضعة أيام فقط من المحاضرة تلقيت اتصالا هاتفيا من أحد الأصدقاء في أنقرة استفسر مني فيها أولا عن معرفتي بالدكتور أحمد، وهل قرأت كتبه أو بعضا منها، ودهشت لهذه السرعة في المتابعة لما يقال عن تركيا ومسئوليها في الخارج، وخاصة في العالم العربي، وبصفة أكثر خصوصية في مصر، وعرفت من لهجة سائلي أنه ربما يكون عاتبا علي لأنني وصفت الدكتور أحمد بأنه مثل “كيسنجر”، وأن الأولى هو أن نصفه فقط باسمه وهو أنه “أحمد داود أوغلو”!.

شرحت لسائلي هدفي من وصفي للدكتور أحمد بأنه “كيسنجر” تركيا، وهو تقريبه من أذهان مستمعي في المحاضرة لا أكثر ولا أقل، وقلت له إنني أعرف الدكتور منذ سنة 1987 عندما تزاملنا مدة عام في الدراسات العليا بقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة؛ حيث حضر كـ”مستمع” للمحاضرات، وكي يطلع على أحوال مدرسة العلوم السياسية المصرية، ويجمع بعض عيون الكتب من سور الأزبكية الشهير بالقاهرة، وقد جمع منها قدرا معتبرا وعاد به إلى بلده.

تعمقت الصداقة بيننا، وقمت بترجمة كتابين من كتبه صدرا سنة 2006 عن مكتبة الشروق الدولية بالقاهرة، الأول بعنوان “الفلسفة والسياسة”، والثاني بعنوان “العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية”، وقبلهما ترجمت له دراسة مهمة بعنوان “انبعاث الفكر الإسلامي في تركيا: دراسة في عملية التحول من الفكر العلماني إلى الإسلام”، نشرتها صحيفة الشعب المصرية في عدديها الصادرين بتاريخ 26 يوليو و2 أغسطس 1988، ولكن كل ذلك لم يشفع لي في إزالة نبرة اللوم على تشبيهي له بكيسنجر

أوغلو.. ونظريات “النهايات”

ولهذا انتهزت أول فرصة علقت فيها على التعديل الوزاري الأخير في برنامج قناة الجزيرة “ما وراء الخبر” -مساء يوم 3/5/2009- لأصحح هذا الوصف، وخاصة أن مقدمة البرنامج استخدمته، وأكدت على أن وصفنا للدكتور أحمد داود بأنه مثل كيسنجر فيه ظلم له ومحاباة لكيسنجر؛ لأن الدكتور أحمد داود صاحب رؤية إستراتجية أصيلة تنسب إليه وحده دون غيره، وأن الصحيح فعلا هو أن نصفه باسمه “أحمد داود أوغلو”.

صحيح أن ثمة أوجه تشابه بين الرجلين، فكلاهما درس العلاقات الدولية وتخصص فيها، وكلاهما انخرط بشكل رسمي في الوساطات بين العرب والإسرائيليين ضمن جهود المفاوضات من أجل السلام، وكلاهما تولى منصبه وزيرا للخارجية وهو في الخمسين من عمره (كيسنجر سنة 1973 وهو من مواليد سنة 1923، وأحمد داود سنة 2009، وهو من مواليد سنة 1959)، لكن أوجه الشبه لا تبرر إلحاق أحدهما بالآخر، وجعل الأول (كيسنجر) هو المرجعية في التعرف على الثاني (أحمد داود)، ولدينا من الأدلة المعرفية والموضوعية ما يبرهن على خطأ تشبيهه بكيسنجر، مع إقرارنا بعبقرية كيسنجر، وأنه كان داهية من دواهي الزمن في تاريخ السياسة الخارجية والعلاقات الدولية في القرن العشرين الماضي.

الدليل الأول: أن هنري كيسنجر انطلق في دوره الأساسي في الصراع العربي الإسرائيلي خلال السبعينيات من ثوابت السياسة الأمريكية المتحيزة بفجاجة للجانب الإسرائيلي على حساب الحقوق العربية، وانصب جهده على ترويض الجانب العربي من أجل الاندماج في فلك الإستراتيجية الأمريكية عبر سياسة “الخطوة.. خطوة” التي اشتهر بها.

أما أحمد داود أوغلو، فدوره في الصراع العربي الإسرائيلي ينطلق من ثوابت “الرؤية الحضارية” التي يؤكد من خلالها على نظريتين لديه:

الأولى يقول فيها إن “الثقة بالذات الحضارية” مصدر قوة إضافية للدولة في علاقاتها الخارجية، وخاصة إذا اقترنت بتجاوز عقدة النقص، وبالتغلب على الشعور بالدونية تجاه الطرف الآخر، وهذا هو ما فعله خلال وساطته بين السوريين والإسرائيليين، وبين الفلسطينيين والإسرائيليين أيضا خلال الأعوام الماضية، وصبت في هذا الاتجاه دعوته لوفد حماس عقب فوزها في الانتخابات مطلع سنة 2006 لزيارة تركيا، في الوقت الذي بدأت فيه القوى الدولية محاصرة حماس ومقاطعتها، هذا هو جهد أحمد داود، أما على الطرف الآخر فقد كان جل جهد كيسنجر منصبا على قطع الطريق على أية إمكانية لاسترداد الثقة بالذات لدى الأطراف العربية عقب انتصار أكتوبر المجيد سنة 1973، بل والسعي لإفقاد ما تبقى من ثقة لدى هذه الأطراف العربية التي جلبها إلى حلبة المفاوضات مع الإسرائيليين عقب تلك الحرب مباشرة.

النظرية الثانية لدى الدكتور أحمد داود مفادها هو أنه: كي تكون ناجحا في إدارة العلاقات الدولية يتعين عليك مراعاة “التوازن” الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، وأنه لا يجوز المغامرة بمواجهة قوة الأمر الواقع دون استعداد كاف، كما لا يجوز التفريط في قوة الحق الثابت الأصيل، وأنه يمكن إنجاز الكثير في المسافة القائمة بين “قوة الأمر الواقع”، و”قوة الحق الأصيل” في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود.

هذاا هو لب تفكير أحمد داود أوغلو، أما كيسنجر فقد كان لب تفكيره، وجوهر رسائله للأطراف العربية هو أن التيئيس من إمكانية تغيير موازين القوى القائمة على أرض الواقع، والتهوين من قوة الحق الأصيل، إلى حد طمسه والتعفية على آثاره بغبار ما كان يسميه “الواقعية السياسية”، أو “البرجماتية”، وشتان بين هذا المنطق، ومنطق أحمد أوغلو.

الدليل الثاني: أن هنري كيسنجر يعتبر من الآباء المؤسسين لنظرية “صدام الحضارات” التي بلورها صمويل هنتينجتون، ونظرية “نهاية التاريخ” التي بلورها فرانسيس فوكوياما، ونظرية الفوضى الخلاقة والحروب الاستباقية التي تبنتها إدارة بوش الابن فعليًّا خلال السنوات الماضية وأذاقت العالم الأمرين من نتائجها، فيما أحمد داود يقف على النقيض من هذه النظريات.

لقد نبه كيسنجر قبل ثلاثين عاما؛ أي سنة 1979 إلى الفكرة الأساسية التي ارتكز عليها هنتينجتون في مقولته عن “صدام الحضارات”، وأكد أن الصراع في المستقبل سيكون بين الهويات الثقافية والدينية والحضارية، وليس بين الدول القومية بحدودها وسيادتها التي ارتسمت في العلاقات الدولية منذ معاهدة وستفاليا سنة 1648.

ويبيح مفهوم كيسنجر الجديد لسيادة الدولة أن تتدخل القوى الأكبر في شئون الدول الأضعف لإجبارها على تغيير مواقفها، أو حتى حكوماتها ولو باستخدام القوة العسكرية، في إطار ما عرفته إدارة المحافظين الجدد بزعامة جورج بوش الابن بـ”الحرب الاستباقية”، وتستند فلسفة الحرب الاستباقية على فكرة فوكوياما عن “نهاية التاريخ”، وتجد هذه الفكرة تأصيلها إلى نظرية “الواقعية” التي برع فيها كيسنجر، وأعاد من خلالها الاعتبار للمبدأ الروماني القديم الذي يقول “القوة تخلق الحق وتحميه”، ومن ثم أكد صاحب نظرية نهاية التاريخ على أن “استخدام القوة هو الحكم النهائي في العلاقة بين دول التاريخ، ودول ما بعد التاريخ؛ على الرغم من الدرجة المتزايدة من الاعتماد المتبادل في المجال الاقتصادي”.

وإلى أفكار كيسنجر وكتاباته ترجع أيضا نظرية “الفوضى الخلاقة” التي تبناها المحافظون الجدد في عهد بوش، وكان كيسنجر قد تبنى نظرية “التفكيك وإعادة البناء” باستبدال بعض الدول أو الكيانات القائمة بدويلات أصغر تتحارب مع بعضها؛ بهدف تسهيل تحقيق أهداف الأمن القومي الأمريكي.

وفي ضوء هذه الأفكار المركزية التي أسهم في وضعها كيسنجر نفهم بوضوح كيف تبرر السياسة الأمريكية فرض العولمة على العالم، ولو بالقوة، لمنع أي بديل حضاري آخر يبدو منه تهديد للنظام الذي انتهى إليه التاريخ بحسب نظرية فوكوياما؛ هذه النظرية التي تجد جذورها لدى كيسنجر ذاته، وكتابات كيسنجر مثل: (مفهوم السياسة الخارجية الأمريكية، والدبلوماسية من القرن 7 إلى القرن 17، وهل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية: نحو دبلوماسية للقرن 21، ..إلخ) لا تزال مرجعا أساسيا لتلك الأفكار التي تجد طريقها للتطبيق في السياسة الأمريكية بين الحين والآخر، ولا يزال هو شخصيا يحظى باحترام بالغ في أوساط صناع السياسة الأمريكية ومراكز أبحاث الأمن القومي فيها، وقد حصل من أحدها، وهو معهد واشنطن لشئون الشرق الأدنى في السادس من أكتوبر 2008 على جائزة رجل دولة من الطراز الأول.

أحمد داود أوغلو يقف على النقيض من كل تلك النظريات التي تنتمي إلى كيسنجر وحوارييه، وله مدرسته الخاصة ونظرياته الأصيلة في ميدان العلاقات الدولية، وقبل أن يضع نظرياته، انتقد بعمق أهم بعض نظريات كيسنجر وتلامذته، وركز انتقاداته على نظرية “صدام الحضارات”، و”نظرية نهاية التاريخ”، وانتقد في طريقه كل نظريات النهاية التي أنتجها الفكر الغربي خلال القرن الماضي “نهاية الدين، ونهاية الأيديولوجيا، ونهاية التاريخ” (انظر كتابه الذي ترجمناه إلى العربية بعنوان: العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية – مكتبة الشروق الدولية، 2006).

توصل الدكتور أحمد إلى أن النظرية الأولى التي تحاول أن تشرعن استخدام القوة لحماية مصالح القوى الكبرى وفق المبدأ الروماني السابق ذكره، وهو مبدأ مفرغ من المضمون الإنساني، ويرى أحمد داود أن المشكلة هي في “صدام المصالح” وليس فيما أسماه هنتينجتون “صدام الحضارات”، أما النظرية الثانية فهي تحاول -في رأيه- قطع الطريق على البدائل الحضارية التي تتبلور في مناطق مختلفة من العالم، وتؤذن بانتقال الهيمنة الحضارية من المحور الأطلسي إلى محاور أخرى لا تزال في مرحلة التشكل، يأتي في مقدمتها “المحور الباسيفيكي” حول الصين والهند واليابان، أو “المحور الحضاري الإسلامي” وفي القلب منه تركيا وإيران وباكستان ومصر.

الحضارة الغربية برمتها -في رأي أحمد داود- تمر بأزمة، وأزمتها تتلخص في عجزها عن توفير الأمان الوجودي والحرية؛ وهما هدفان أبديان للإنسان على مر التاريخ، وكل حضارة تفشل أو تتراجع عن تحقيقهما تصبح متوترة وانفعالية تجاه الآخرين، ويستدل مفكرنا على عجز الحضارة الغربية عن توفير “الأمان” و“الحرية” للإنسان برعونتها في التعامل مع بقية شعوب العالم، وعدوانيتها تجاه الآخر، وانتهاكها للتوازن الفطري بين القيم المادية والقيم الأخلاقية / الروحية، وحتى للتوازن البيئي إلى حد التسبب في خرق طبقة الأوزون، إضافة إلى أن نزعتها الطاغية نحو العولمة تهدد بإلغاء التعددية الحضارية، وفرض نمط واحد عن طريق مزيد من القسر والإكراه.

وفي ضوء ذلك سنفهم بشكل أفضل أبعاد أول تصريح للوزير أحمد داود عندما قال: “تركيا سوف تستشار، ويحترم رأيها في كل القضايا العالمية، من المناخ والاحتباس الحراري، إلى قضايا الشرق الأوسط”.

الدليل الثالث: أن للدكتور أحمد داود إسهاما أصيلا في صوغ نظريات العلاقات الدولية انطلاقا من “رؤية معرفية إسلامية للعالم”، وليس عالة على كيسنجر أو غيره من أساتذة العلاقات الدولية، حتى يصح أن نصفه منسوبا إلى غير ذات نفسه كأن نقول إنه “كيسنجر تركيا”، صحيح أنه استفاد بطريقة نقدية خلاقة من اطلاعه الواسع على أفكار ونظريات كيسنجر وغيره من فطاحل العلاقات الدولية (كان يستضيف منهم مثلا: جوهان جالتونج النرويجي صاحب النظرية الإمبريالية البنيوية في العلاقات الدولية، ليحاضر في مؤسسته العلمية في إستانبول، التي تحمل اسم “العلم صناعة الوقف!”).

أوغلو.. ثلاث نظريات متماسكة

للدكتور أحمد داود ثلاث نظريات أساسية تعبر عن رؤيته للعلاقات الدولية تعبيرا أصيلا في نسبته إلى أفكاره، وإدراكه لذاته الحضارية/الإسلامية، بحسب مصطلحاته هو في كتاباته، وهي: نظرية التحول الحضاري، ونظرية العمق الإستراتيجي، ونظرية العثمانية الجديدة.

1- نظرية “التحول الحضاري”:

طرح فيها أحمد داود رؤيته لمستقبل العلاقات الدولية، وفيها يبرهن على أن ما يجري في العالم منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ليس تعبيرا عن انتصار الرأسمالية/الليبرالية، ولا عن نهاية التاريخ، وإنما هو تعبير عن تحول حضاري واسع المدى، وبموجب هذا التحول ينزاح –تدريجيا- “المركز الحضاري الأطلسي/الأمريكي”، وتحاول القارة الأوروبية العجوز استرداده مرة أخرى من خلال “الاتحاد الأوروبي”، كما تحاول آسيا “المركز الباسيفيكي” بناء هذا المحور الجديد بقيادة الصين والهند واليابان، كما يحاول العالم الإسلامي من خلال حركات الإحياء الإسلامي أن يبني محورا حضاريا جديدا أيضا مرتكزا على تماسك رؤيته للعالم، وفي القلب من هذه الرؤية تقع قيمتا الحرية والأمان الوجودي بالمعنى الإنساني/الإسلامي.

يقول: “… فالحرية في المنظور الإسلامي هي تعبير عن نضج روحي يمكن الإنسان من أن يتحكم في أنانيته الذاتية، الحرية ليست موضوعا من موضوعات القوة بقدر ما هي موضوع للوعي بالذات ومعرفة النفس، وكذلك الأمن يكمن في شخصية الإنسان ووعيه الذاتي، ولا يأتيه من خارجه”.

ويرى أوغلو أن “النموذج الإسلامي” في رؤيته للعالم يضمن السلام مع البيئة بخلاف النموذج الغربي؛ لأن المسلم يدرك أن الكون هبة الله، وهو حق مشترك للجنس البشري، ولذا لابد من المحافظة على البيئة لأنها شرط جوهري لصلاحية الكون للحياة”. كذلك يؤكد على أن النموذج الإسلامي يعبر عن الأصالة والتعددية؛ فتصوره للتاريخ والزمن يؤكد على الطبيعة الدائرية وليست الخطية الأحادية كما الحضارة الغربية، ومن هنا أهمية التجديد وقدرة الحضارة الإسلامية على استعادة مكانتها، فالسيادة الحقيقية لا تنطلق من التفوق المادي وحده، وإنما من التفوق القيمي والروحي أيضا”.

في نظريته هذه، شرح د. أحمد داود العقبات التي تعترض نهضة المحور الحضاري الإسلامي، فنبه منذ منتصف التسعينيات إلى أن المحور الحضاري/الأمريكي سيسعى للاحتفاظ بتفوقه بشتى الوسائل الأخلاقية وغير الأخلاقية بما في ذلك أن يتلاعب بالأسس الداخلية للمراكز الحضارية البديلة له، وكشف ببراعة وثقة كبيرتين عن جذور أزمة الأفكار والمؤسسات التي تعاني منها الشعوب الإسلامية، وأرجعها إلى “انفصال النخب الفكرية العلمانية عن المرجعية الإسلامية، ومحاولة النخب الحاكمة والمسيطرة فرض ثقافة جديدة مطابقة للمفاهيم الغربية وإنجاز التنمية الاقتصادية وبناء القوة العسكرية لتحقيق موقع أفضل على الساحة الدولية، وفي نفس الوقت تسويغ السياسات الاحتكارية لهذه النخب في مختلف المجالات”. ولكنه أكد أيضا أن هذه النخب العلمانية تواجه مأزقا اليوم لفشلها في إنجاز أي من الأهداف الكبرى التي حددتها منذ بدايات القرن العشرين على الأقل، وأولها الفشل في تكوين ثقافة قومية مستقلة عن المرجعية الإسلامية للمجتمعات العربية والإسلامية رغم احتكار التغريبيين لأغلبية قنوات التنشئة الاجتماعية والثقافية بسيطرتهم على أجهزة الدولة، وثانيها الفشل في تحقيق التنمية الاقتصادية، وثالثها الفشل في تحقيق مكانة دولية متقدمة على مدرج هرمية القوة الدولية.

إذن: طبقا لنظرية “التحول الحضاري” لأحمد داود، فإن المرحلة الراهنة من تاريخ العلاقات الدولية تشهد منازعة بين أكثر من مركز أو محور حضاري باتجاه “نظام عالمي جديد”. وهو يؤكد حضور العالم الإسلامي في خضم هذه المنازعة، ويرسم تصورا من أربع مراحل قطع منها المحور الإسلامي ثلاثة ودخل في الرابعة، أولها مرحلة الخضوع للنزعة الاستعمارية، وثانيتها مرحلة تحدي الهوية بعد سقوط الخلافة العثمانية إلى قيام ثورات التحرر من الاستعمار، وثالثتها مرحلة نشأة دولة ما بعد الاستعمار وسيطرة النخب المتغربة عليها، ورابعتها يسميها “مرحلة تجدد الإدراك الذاتي الإسلامي” وتخلصه تدريجيا من عقدة الدونية التي سيطرت على الذهنية المسلمة إبان الحقبة الاستعمارية.

ويضرب داود مثالا على ذلك بخروج تركيا منذ منتصف الثمانينيات من سياسة الانكفاء على الذات، والعزلة عن محيطها الإستراتيجي الإسلامي، والقبول المتنامي لهذا التوجه في السياسة الداخلية التركية.

وعندما يصل إلى هذه النقطة نجده يمسك بأول خيط ينسج به نظريته الكبرى الثانية، وهي نظرية “العمق الإستراتيجي”، التي خصص لها كتابه الضخم، الذي أضحى معلما في الفكر الإستراتيجي للدكتور أحمد داود، واعتمد مرجعا أساسيا في الكليات العسكرية التركية، وأعيد طبعه أكثر من 17 مرة منذ صدور طبعته الأولى سنة 2001، وأخبرني قبل يومين من توليه وزارة الخارجية أن قناة الجزيرة القطرية حصلت على حقوق ترجمته من التركية وعلى وشك الصدور بالعربية لأول مرة.

2- نظرية “العمق الإستراتيجي”:

عبر أحمد داود عن هذه النظرية بكلمات موجزة في أول تصريح له عقب توليه الوزارة أول مايو الجاري بقوله: “إن تركيا لديها الآن رؤية سياسة خارجية قوية نحو الشرق الأوسط والبلقان ومنطقة القوقاز.. سنسعى لدور إقليمي أكبر، ولم نعد بلد رد فعل”. هذه الكلمات المقتضبة لها تفاصيل وافية في كتابه “عمق الإستراتيجية: المكانة الدولية لتركيا”، الذي أشرنا إليه، وخلاصتها تتمثل في إخراج تركيا من بلد “طرف”، أو “هامش” يقتصر دورها في كونها عضوا في محاور وعداوات، إلى بلد “مركز” على مقربة واحدة من الجميع، وفي الوقت نفسه إلى بلد ذي دور فاعل ومبادر في كل القضايا الإقليمية والدولية.

في إطار هذه النظرية يبدي أحمد داود حساسية عالية جدا تجاه الرؤى الغربية والأمريكية التي وضعت بلاده في مكانة هامشية، أو طرفية ضمن النظام العالمي، وخاصة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، يتحدث بثقة غير مفتعلة عن خطأ ما ذهب إليه “الكاتب هنتينجتون” من أن تركيا أطراف “دولة ممزقة توجد على أطراف الغرب من جهة وعلى أطراف الشرق من جهة أخرى، فهي تمثل أطراف أوروبا كما تمثل أطراف العالم الإسلامي”.

ويلقن أحمد داود هنتينجتون درسا قاسيا في علم الإستراتيجية والعلاقات الدولية، وهو يفند وصفه لبلده تركيا بأنها “دولة أطراف”، يقول: “إن تركيا دولة مركزية، والدليل على ذلك هو تواجد تركيا في مكان قريب من الجغرافيا التي تسمى “أفروآسيا”؛ أي إفريقيا وأوروبا وآسيا؛ فهي هنا ليست دولة أطراف، هي من الناحية الجغرافية دولة مركز وليست دولة أطراف، فتركيا ليست دولة أوروبية وحسب، بسبب موقعها المركزي، بل هي دولة آسيوية أيضا؛ وليست دولة آسيوية وحسب بل هي دولة أوروبية أيضا، وهي ليست دولة واقعة ضمن حوض البحر الأبيض المتوسط وحسب، بل هي واقعة في حوض البحر الأسود أيضا، كما توجد أجزاء من تركيا في البلقان والقوقاز والشرق الأوسط… فتركيا، والحالة هذه، تمتلك القدرة على التأثير والتأثر بالدول المحيطة بها، وإذا ما ألقينا نظرة تاريخية، نجد أن تركيا تقع وسط المكان الذي تشكل فيه تاريخ الحضارات الموجودة في المنطقة، وعندما نلقي نظرة إلى حضارة ما بين النهرين والحضارات المصرية واليونانية والإسلامية والرومانية والعثمانية، نجد أن تركيا ليست دولة أطراف، بل هي دولة توثر في عدة حضارات وتتأثر بها في الوقت نفسه؛ فهي دولة مركز من الناحيتين التاريخية والثقافية”.

ويكمل داود بالقول: “إذا ما ألقينا نظرة إلى خطوط تدفق الطاقة، نجد أن هذه الخطوط تتوه وتُضيع طريقها إذا ما حذفتم تركيا عن الخريطة، إذ أنه يمر من تركيا خطوط أنابيب النفط والغاز الطبيعي وخطوط نفط باكو تبليس وجيهان، وخطوط أنابيب كركوك يمورتالك، وخطوط أنابيب أخرى”.

العمق الإستراتيجي كما يتصوره أحمد داود ينطوي على أبعاد حضارية، وثقافية، وتاريخية، وجغرافية، ودينية، لا تشكل عبئا عليها كما يتصور البعض، وإنما تشكل في مجملها فرصة كي تقوم تركيا بدور فعال ليس فقط في النظام الإقليمي المحيط بها، وإنما في النظام العالمي أيضا.

يقول أيضا: “إذا ما وحّدنا فضيلة الشرق، أي فضيلة الحضارة الإسلامية مع عقلانية الغرب ومع خصوبة اقتصاد الشمال مع البحث عن العدالة في الجنوب (وأنا مؤمن بأن ذلك سيتحقق) نجد أن تركيا تمتلك المؤهلات التي تمكنها من أن تصبح دولة نموذجية للمعطيات الثقافية للعولمة وللأفروآسيوية، وتمتلك قوة تستطيع من خلالها التدفق نحو محيطها.. نحن لسنا دولة أطراف”، قال ذلك وهو يرد مرة أخرى على هنتينجتون.

وكأن هنتينجتون -المقرب من كيسنجر- قد لامس الكبرياء العثماني لدى أحمد داود أوغلو، فانبرى يعرفه أصول الحديث عن “تركيا” في السياسة العالمية، وعلى أساس “نظرية العمق الإستراتيجي”، وضع الدكتور أحمد داود عدة نظريات “أقل” اتساعا، وأكثر عملياتية في شئون السياسة الخارجية التركية، ومن أهمها نظريته التي تقول: “إن التفوق العسكري لا يعوض ضعف المرونة الدبلوماسية”، ونظرية أخرى تقول: “الضعف هو اعتبار جار أو خصم غير موجود”!!، وثالثة تقول: “في علاقاتنا الدولية لسنا مع أحدهم ضد الآخر”، ومن هذه النظريات، وأمثالها، أمسكنا بنظريته الثالثة الكبيرة “العثمانية الجديدة”، أو بالأدق “نظرية الثقة بالذات”.

3 – نظرية العثمانية الجديدة:

هذه النظرية (وإن لم يسمها أحمد داود بهذا الاسم في كتبه) هي الأكثر إثارة للجدل على المستوى الداخلي؛ لأنها تقع في صميم معركة بين الحداثة والتقليد، أو الأصالة والتغريب، أو “الإسلام والعلمانية”، وهي المعركة التي تخوضها تركيا على أكثر من صعيد منذ ما قبل تأسيس الجمهورية وإلغاء الخلافة سنة 1924.

يخلص أحمد من قراءته المتقصية للتاريخ العثماني على مدى أكثر من أربعة قرون، ولتاريخ الجمهورية الكمالية خلال العقود الثمانية الماضية من القرن العشرين، إلى أن تركيا تصرفت بأقل من مكانتها، وبأدنى من إمكانياتها في سياساتها الإقليمية والعالمية منذ تأسست الجمهورية.

وانضم في رؤيته هذه إلى حركة المراجعة التي قادها في منتصف الثمانينيات الرئيس تورجوت أوزال (وظهر مفهوم العثمانية الجديدة آنذاك لوصف سياسته التجديدية، وإفساحه المجال لنمو التيار الإسلامي بدرجة ملحوظة). ووجد أحمد داود -هو وغيره من تيار العثمانية الجديدة- أن السبب في تراجع تركيا خلال الحقبة الماضية يعود إلى سياسة “القطيعة” التي سعت لفصل ماضي تركيا العثمانية وعمقها الإستراتيجي عن حاضر الجمهورية الكمالية ومحيطها الإقليمي، والتي عمقت أيضا الانقسام بين “العلمانية”، و”الإسلامية”، وغلبت الأمن على الحرية، وأحدثت أزمة “هوية” في أوساط النخب التركية، وخاصة بعد أن تبين فشل العسكر في فرض هوية جديدة بالقوة على المجتمع من أعلى هرم السلطة التي أمسكوا بها.

والحل هو في تبني “عثمانية جديدة”، والعثمانية الجديدة لا تعني بعث السياسات التوسعية للدولة العثمانية، ولا العودة للماضي الغابر، وإنما قوامها ثلاثة مرتكزات، أولها: أن تتصالح تركيا مع ذاتها الحضارية الإسلامية بسلام، وتعتز بماضيها “العثماني” متعدد الثقافات والأعراق، وتوسع الحريات في الداخل، وتحفظ الأمن في الخارج، وثانيها: استبطان حس العظمة والكبرياء العثماني والثقة بالنفس عند التصرف في السياسة الخارجية، والثالث: الاستمرار في الانفتاح على الغرب، مع إقامة علاقات متوازنة مع الشرق الإسلامي.

“العثمانية الجديدة” تعني باختصار الاعتماد على القوة الناعمة لا الخشنة في السياسة الخارجية.. إنها تعني: “علمانية أقل تشددا في الداخل، ودبلوماسية نشطة في الخارج، وخاصة في المجال الحيوي لتركيا”. وهناك بالفعل جدل متواصل حول جدوى المعايير الكمالية في التعامل مع القضية الكردية؟! وكيف أن هذه المعايير عندما تسيطر على السياسة التركية تغدو قلقة، وانفعالية، وغير واثقة من نفسها، وهناك أيضا جدل آخر حول “العلمانية السلبية”، و”العلمانية الإيجابية”، ويقود هذا الجدلَ عددٌ من منظري حزب العدالة والتنمية، إلى جانب أحمد داود، ومنهم وزير الخارجية الأسبق يشار أكيش.

في كتابات أحمد داود أوغلو نجد بذور نظرية “العثمانية الجديدة”، ولكن دوائرها تتسع رويدا رويدا في أوساط النخبة التركية بأطيافها السياسية والفكرية، وربما تكون قد وصلت إلى النخبة العسكرية ممثلة في رئيس هيئة أركان القوات المسلحة إيلكر باشبوغ -وهو ليس مجرد قائد عسكري من طراز رفيع، وإنما مثقف واسع الاطلاع على الفلسفات والنظريات السياسية والأدبية العالمية- ففي الخطاب السنوي لرئيس الأركان الذي ألقاه باشبوغ يوم 14 أبريل 2009، عبر عن رؤية جديدة أكثر مرونة وانفتاحا تجاه الأكراد عندما تحدث عن “هوية تركيا”، و”شعب تركيا”، ولم يستخدم تعبير “الهوية التركية”، ولا “الشعب التركي”، وبذلك تكون العسكرية/الكمالية قد غادرت واحدة من ثوابتها في التركيز على القومية التركية في المقام الأول، ثم بعدها تأتي القوميات الأخرى: العربية، والكردية، والأرمينية، والألبانية. تحدث أيضا هذه المرة عن أن الجمهورية الحديثة تتحقق “بالديمقراطية”، وليس “بالعلمانية” كما درجت قيادات الجيش على ذلك في السابق، والأهم من ذلك كله أنه شدد في خطابه على احترام المؤسسة العسكرية للدين، واستدعى كلمات لأتاتورك قال فيها: “لا يمكن للأمم أن تستمر دون دين، ولا يمكن للجيش التركي إلا أن يحترم قيم شعبنا، بل إن أحد الألقاب الشائعة للجيش وسط مجتمعنا التركي هو أنه “مدرسة النبي محمد” صلى الله عليه وسلم.

في رأينا أن ما ورد في هذا الخطاب الأخير لرئيس هيئة الأركان هو بمثابة “ثورة صامتة” في إدراك المؤسسة العسكرية، وخاصة أنه جاء على لسان باشبوغ الذي يوصف بأنه من أقوى حراس العلمانية شكيمة في الجيش، وجاء أيضا متوافقا مع ذكرى مرور مائة سنة على وقوع أول انقلاب عسكري ضد أطاح بالسلطان عبد الحميد سنة 1909.

لا تزال ملامح “العثمانية الجديدة” تتشكل كأحد الفروع التي تنمو يوما بعد يوم على جذع شجرة “نظرية التحول الحضاري”، ونظرية “العمق الإستراتيجي”، وهما النظريتان العملاقتان اللتان وضعهما أحمد داود أوغلو قبل أكثر من عشر سنوات، وستظل مرتبطة باسمه، ويعرف بها، وتعرف به، كإسهام أصيل في حقل العلاقات الدولية والدراسات الإستراتيجية من خارج المركزية الأوربية/الأمريكية المهيمنة على هذا المجال منذ أكثر من قرن من الزمان.

ومن المرجح أن تكتسب نظريات أحمد داود قوة دفع كبيرة للأمام بعد تعيينه وزيرا للخارجية، وقد يشهد العالم في وقت ليس ببعيد بروزه كشخصية تقف في مصاف وزراء خارجية عظام مروا على فترات متباعدة في تاريخ العالم خلال القرنين الماضيين، ابتداء من الأمير كليمنصو فون ميترينخ مستشار النسما الذي خطط لمؤتمر فيينا 1815 ووضع أسس النظام الأمني الأوروبي الجديد بعد تراجع المد البونابرتي، مرورا بـ”بسمارك” المستشار الألماني ووزير خارجية بروسيا في عهد الملك فيلهلم الأول خلال السبعينيات من القرن التاسع عشر، وفؤاد باشا الصدر الأعظم ووزير خارجية السلطان العثماني عبد العزيز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكذلك جون فوستر دالاس وزير خارجية الرئيس الأمريكي إيزنهاور الذي قاد أمريكا (1953ـ1961)، وصولا إلى هنري كيسنجر الذي عمل مع عدة رؤساء أمريكيين، وكان وزيرا للخارجية في عهد الرئيسين نيكسون وفورد من 1973 إلى 1977… يقف أحمد داود أوغلو في مصاف أمثال هؤلاء، قامته بقامتهم، وكعبه في العلم يفوق كثيرين منهم، وليس من الإنصاف أن ننسبه لغير ذات نفسه… ليس هو “كيسنجر تركيا”، هو “أحمد داود أوغلو”.

أما نحن العرب، فأولى بنا أن نقرأ ما يكتبه هذا الرجل، وأن نغتنم فرصة وجوده في وزارة الخارجية وله “هوى عربي”، وأن نهتم أكثر بالنجوم الصاعدة في سماء السياسة التركية بفضل “فضيلة الديمقراطية” التي اكتشفت أحمد داود أوغلو، ومن قبله أردوغان، وعبد الله جول، وبولنت أرينج. وعيب أن يظل اهتمامنا محصورا في نجوم المسلسلات التركية مثل “نور”، و”سنوات الضياع”، و”قصة شتاء”، عيب كبير!!.

أستاذ العلوم السياسية ورئيس قسم الرأي العام بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية – مصر

تعقيب من إدارة الموقع : من الضروري فهم ما يجري في العالم ولا يعني ذلك التطابق

كُتب في المناهج | التعليقات على مقالة مهمة جداً لفهم السياسة الخارجية التركية مغلقة

الداعية وإدارة الذات … نفس لهوها التعب .. للأستاذ مصطفى كريم

(الجزء الأول)

في يوم من الأيام، فقد الشبل الرضيع أهله من الأسود، وظل هائمًا على وجهه، إلى أن مر به قطيع من الغنم، فسار الشبل معها وصاحَبَها، وأكل الأعشاب كما تأكل، وكان يرعى الكلأ كما ترعى، إلى أن شب وكبر، ونما وترعرع، لكنه لا يزال يمأمئ كما تمأمئ الغنم، ويأكل كما تأكل، ولم يلفت انتباهه تفوقه عليها قوة وشجاعة.

وفي ذات صباح، ذهب ليشرب من النهر، فرأى صورته فتعجب، إنها لا تشبه أباه الكبش، ولا أخاه الحمل، ولا أمه النعجة، فصادف فيلاً وسأله: من أنا؟ قال له: أنت أسد وسليل أسود، حينئذ زأر زئيرًا طارت لهوله قلوب الكباش، تلك التي كان يمأمئ معها قبل قليل، ما الذي حدث لهذا المخلوق؟ وما الذي طرأ عليه وما الذي تغير فيه؟ لا شيء سوى أنه اكتشف نفسه، وأبدى قدرته، وكشف الغطاء عن ذاته.

فأنت ـ أخي الداعية ـ سليل أسود الأمة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وحامي عرين هذا الدين العظيم، تشيد به نهضة لهذه الأمة، حتى تعود إلى مكانها الطبيعي كواسطة عقد الأمم، ولن يكون ذلك إلا برجال يتسلمون الراية من الآباء العظام، لتكمل بها المسير، فتكون فخرًا لأجدادك الأسود يا سليل الأسود.

على قدر أهل العزم: ولكن السفينة لم تصنع لكي تُزين البر، ولكن لكي تمخر عباب البحر، وحين تترك السفينة مكان صناعتها، وتخطو خطواتها في خضم الأمواج، تظهر قوتها، ودقة صناعتها.

وكذلك أنت ـ أخي الداعية ـ فبعد أن امتلكت قلبًا يطل على أفكاره، عرف كيف يدرك ذاته، وكيف يرسم رؤيته في جوانب الحياة المختلفة، الدعوية والمادية والاجتماعية وكذلك الجوانب التطويرية والمهارية، فأنت بذلك قد صنعت السفينة، ولكن أن تمخر عباب الدعوة إلى الله وتشق أمواجها فلابد من نفس أصبح اللهو تعبها، وبذل الجهد في مرضاة الله ونشر دينه لذتها، فيصير البذل بالنسبة لها أعظم متع الدنيا.

درب الأسود: وها نحن ننتقي لك ـ أخي الداعية ـ من درب أسود هذه الأمة نماذج لنفوس أدركت عظم أمانة هذا الدين، فصارت الوقت والجهد عملة ينفقونها في سوق رائجة، سوق الدعوة إلى الله، فترتد لهم في الدنيا سعادة وهناءً، وتتدخر لهم في الآخرة ـ بتوفيق الله ـ حسنات تثقل الميزان.

الشبل الرجل: فهذا علي بن أبي طالب، ذلك الشبل الرجل ينام في سرير النبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة، يُعرض نفسه وحياته للخطر، ولكنها لذة البذل في سبيل الله عز وجل ونصرة دينه، ليخرج الرسول صلى الله عليه وسلم آمنا سالمًا؛ فينشر دعوة الحق في أرجاء الأرض.

 

ولشقائق الرجال نصيب: وتأبي شقائق الرجال إلا أن يضربن بسهم وافر في التضحية، فتخط أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما سطورًا مضيئة من شجاعة نادرة، فها هي تحمل الطعام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه في غار ثور يوم الهجرة، وتعرض نفسها لخطر الوقوع في يد الكفر التي لن ترحم صغر سنها ولا كونها امرأة.

شاب في الثمانين: وإليك سيرة شاب في الثمانين من عمره، فهو شيخ بعدد سنين حياته، ولكن روحه الباذلة في سبيل الله شابة إلى أبعد الحدود، إنه يوسف بن تاشفين الذي قاد وهو في ذلك العمر جيشًا جرارًا لإنقاذ الخلافة الإسلامية في الأندلس بعد أن أرسل أُمراؤها رسالة استغاثة واحدة، قالوا فيها:

(ونحن أهل هذه الأندلس ليس لأحد منا طاقة على نصـرة جاره ولا أخيه، ولو شاءوا لفعلوا إلا أن الهواء والماء منعهم من ذلك، وقد ساءت الأحوال، وانقطعت الآمال، وأنت أيَّدك الله سيد حِميَر، ومليكها الأكبر، وأميرها وزعيمها، نزعت بهمتي إليك واستنصرت بالله ثم بك، واستغثت بحرمكم لتجوز بجهاد هذا العدو الكافر وتحيون شريعة الإسلام وتدينون على دين محمد صلى الله عليه وسلم، ولكم عند الله الثواب الكريم، على حـضرتكم السامية السلام ورحمة الله وبركاته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).

فكان عبور القفار لذة، وخوض البحار متعة، فما وهنت همته ولا كلَّت عزيمته.

ورقة في كتاب التضحية: وتأمل ـ أخي الداعية ـ في ذلك النموذج الفذ، أبى إلا أن يبذل في سبيل الله، إنه ورقة بن نوفل، ذلك الحنيفي الذي جاءه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه زوجه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها يوم أن نزلت رسالة الإسلام.

فماذا كان جواب ورقة: (يا ليتنى فيها جذعًا، يا ليتنى أكون حيًّا حين يخرجك قومك)، إنه يأسف أن لم يكن شابًا جذعًا ليبذل، ويصنع مجد الإسلام العظيم.

دموع ذهبية: وإليك جماعة مؤمنة، ساقتهم قلوبهم قبل أقدامهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم تبوك، ليجد لهم جياداً تنقلهم للجهاد في سبيل الله، فلم يجد عليه الصلاة والسلام لهم شيئًا يحملهم والسفر طويل والزاد قليل، فتفيض العيون بالدمع؛ لأن أنفسهم ستفتقد لذة البذل في سبيل الله.

فيُنبئنا الله بخبرهم في قرآن يتلى إلى يوم القيامة فيقول: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92].

أنها النفس التي لهوها التعب، وهذه هي الروح التي ينتصر بها الإسلام، كما يقول صاحب الظلال: (بمثل هذه الروح انتصر الإسلام، وبمثل هذه الروح عزَّت كلمته، فلننظر أين نحن من هؤلاء، ولننظر أين روحنا من تلك العصبة، ثم لنطلب النصر والعزة إن استشعرنا من أنفسنا بعض هذه المشاعر).

الفاروق يصف الطريق: ولكن ما هي معالم الطريق للحاق بهؤلاء؟ ومن أين تكون البداية؟

يأتي الفاروق رضي الله عنه ليصف لنا الطريق في موقف إيماني تربوي عظيم، يجمعه مع النبي صلى الله عليه، فبينما يسير عمر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم آخذًا بيده، تفيض مشاعر عمر رضي الله عنه ليهتف بها لسانه : (يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسـي)، فيأتي الرد من المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك).

ويطبق الصمت على المشهد للحظات، فلا يقطعه سوى كلمات صادقة من الفاروق رضي الله عنه، قائلاً: (فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي)، فيقول صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر) [رواه البخاري].

فما سر ذلك التحول، وكيف كان قرار عمر سريعًا؟ إنه التغيير النابع من داخل عمر رضي الله عنه، من باطنه وقلبه وأعماقه، لذا؛ لم يحتج إلى وقت طويل، ولا تفكير مديد؛ لأنه تربى على تلك القاعدة الربانية والسنة الإلهية: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11].

فالله عز وجل (لا يغير نعمة أو بؤسى، ولا يغير عزًا أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم، وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون. وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة؛ فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشـر؛ وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم).

فالسماء لا تمطر تلك النفسة الأبية، والروح المتقدة للبذل لهذا الدين، إنما هي الأوقات تبذل، والعرق يتصبب، والمال ينفق، والدمع يذرف، وقبل كل ذلك، يد ترتفع إلى الله ترجو توفيقه وسداده.

الحواجز الوهمية: ولكن لن يكون الطريق إلى تلك النفس سهلًا ممهدًا، فبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى، ولذا سيقف في طريقك ـ أخي الداعية ـ حواجز نفسية يسقط عندها البعض، ولكنها ستكون في حقك ـ إن شاء الله ـ حواجز وهمية، وفي الحلقة القادمة من تلك السلسلة “نفس لهوها التعب” سنعرف كيف نتخلص من عقبات السير في طريق البذل لدين الله عز وجل؟

نشيد النفس الأبية: وأثناء المسير في تلك السلسلة ، اجعل نشيدك هذه الأبيات الرائعة تشدو بها وتحدو:

هذا الرقيـق تـراه عـند الـروع في قـلب الأسـود

متـبـسماً والـدهـر غضبـان يـزمجـر بـالوعيـد

فـإذا رمـاه بالخـطـوب رمـاه بالعــزم الجـليـد

وإذا دعتـه الواجـبـات… فحـمـلتـه بـما يـئـود

وجـدتـه صــلباً أبـــياً لا يـخر ولا يــميـد

من المراجع :

1. قوة المبادرة، محمد أحمد العطار.

2. بواعث السعادة، د.خالد الدسوقي.

3. دولة المرابطين في المغرب والأندلس، د.سعدون عباس.

4. السيرة النبوية، ابن كثير.

بتصرف يسير

كُتب في المناهج | التعليقات على الداعية وإدارة الذات … نفس لهوها التعب .. للأستاذ مصطفى كريم مغلقة

هوارد زن يودع الحياة .. صانع متقدم لم نعرفه ..

هذه المعلومات النفيسة كان ينبغي أن تنشر قبل أربعة أشهر، ولكن لم تنشر وقتها بسبب توقف الموقع، وهي الآن تحت أنظار المهتمين مع الشكر الجزيل للأستاذ الفاضل أبي اسماعيل.

ريثما ينتهي الإخوة الأعداء من الجدل حول صحة ضربة الجزاء في مباراة مصر والجزائر البارحة وريثما يتنهي المعلقون السياسيون من المزايدة في كيل المديح والإطناب لخطاب أوباما أمام الكونغرس الأميركي حول حالة الإتحاد، سيمر خبر وفاة المؤرخ والكاتب المسرحي الأميركي هوارد زن دون يعيره أحد في عالمنا العربي الكئيب كثير اهتمام أو التفات، ذلك الرجل الثمانيني الذي غير وجه التاريخ الأميركي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.

لم يكن زن مؤرخاً وكاتباً مسرحياً فحسب ولكنه كان ناشطاً حقوقياً وثائراً اجتماعياً ومناضلاً إنسانياً ساهم مساهمة مؤثرة في حركة الحقوق المدنية في الستينات وكان أحد أبرز رموزها في المجال الأكاديمي. تبنى دائماً حقوق المظلومين والمستضعفين واصطف دون مواربة أو استحياء مع فئات المحرومين المهمشين ووظف كل ما امتلك من مؤهلات علمية ومواهب إبداعية للمناداة بالعدالة الاجتماعية ليكون الوطن مظلة للجميع لا تستأثر بها فئة قليلة منتفعة.

كتابه “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الأميركية” People’s History of the United States والذي بيع منه أكثر من مليوني نسخة بطبعاته المختلفة (وسيصدر منه طبعة منقحة في شهر يوليو القادم) أعاد كتابة التاريخ الأميركي من وجهة نظر الطبقات المسحوقة، من الهنود الحمر والعبيد والنساء والبيض الفقراء من غير طبقة ملاك الأراضي، التي كان عرقها ودماؤها ودموعها وعلى مدى 400 سنة وقوداً لمسيرة جحافل أصحاب المال والجاه والنفوذ والسلطان المظفرة نحو الهيمنة على العالم. واليوم لم تعد تلك الطبقات المسحوقة حكراً على أميركا ولكنها امتدت لتشمل شعوب العالم المسحوقة بما فيها شعوب منطقتنا العربية والإسلامية وما هايتي منا ببعيد.

ولمن يستمتع بتذوق الأدب باللغة الإنكليزية أقول إن الكتاب المذكور لا يؤرخ الأحداث عبر أسلوب أدبي جذاب رفيع فحسب ولكن يمكن أن يعتبر أيضاَ سفراً هاماً في تأريخ أدب المقاومة (الاجتماعية) الأميركي منذ أن وطئت أقدام المستعمر الأوروبي الأبيض أديم تلك البلاد. وأقول بلا تحفظ أني مدين لزن بقراءتي لكتابه هذا والتي زودتني بمنظور أكثر رحابة وعمقاً (في رأيي الشخصي) لتقويم أحداث الشأن الجاري في منطقتنا العربية والإسلامية والذي تلعب فيه الولايات المتحدة الأميركية في عصر العولمة دور البطولة على الدوام.

كان لزن نظرية لافتة في التدريس يلقنها لطلابه في الجامعات، أودعها في أحد كتبه واختزلها في عنوان ذلك الكتاب: لا يمكنك أن تكون حيادياً وأنت على قطار متحرك You can’t be neutral on a moving train وهو في نظريته تلك أقرب وألصق وأكثر ائتماناً على فكر مارتن لوثر كينغ القائل يوماً “حيواتنا تبدأ بالفناء يوم نصمت حيال الملمات” Our lives begin to end when we are silent about things that matter من ممن يدعي به وصلاً اليوم ويتوسل لذلك لون بشرة مشترك. مثل هذه المبادئ جديرة بالاحترام والتقدير والبث والنشر ونحن نعيش عصر حياد الأغلبية الصامتة الخانع، حياد النعاج إزاء جزاريها!

طبعاً لن يتوانى المشككون عن الطعن في سيرة زن بالقول أنه يساري متطرف أو اشتراكي النزعة. والرجل لا يخفي نزعته الاشتراكية ولايعتبر ذللك تهمة بل يشير إلى الاتحاد السوفييتي بأنه المثال العملي الرديء الذي أكسب الاشتراكية سمعتها السيئة وهو يتبنى أنموذجاً اشتراكيأ يدعو إلى العدالة الاجتماعية مشابه لما هو مطبق في بعض الدول الاسكندنافية ويرافع عن ذلك الأنموذج ببراعة بما أوتي من حجة وبرهان. ولا شك أن هناك الكثير مما أختلف معه به بما في ذلك اشتراكيته حيث لا أخفي أنا الآخر منهجي الإسلامي لا سيما عندما يتعلق الأمر بليبراليته الاجتماعية العارمة، ولكن تمسك الرجل بمبادئه وتمثلها في سلوكه وحياته والذود عنها والكفاح في سبيلها على حساب موارده وأمنه الشخصي هو ما يستحق الاحترام والتنويه. فلا يصرفنك تصنيف الخصوم عن الإنتاج الوافر المبدع الثمين للرجل فإن فعلت فإنك تفوت على نفسك فرصة هائلة للاستنارة والاستفادة.

بإمكانك قراءة نعي ضافٍ لزن عبر الرابط التالي

http://www.thenation.com/blogs/notion/522763/howard_zinn_the_historian_who_made_history?rel=emailNation

واستمع إلى المقطع الصوتي التالي الذي يقراً فيه هوارد زن شخصياً فقرة رائعة بديعة من كتابه “التاريخ الشعبي ..” لن تأخذ من وقتك أكثر من ثلاث دقائق.

http://www.npr.org/templates/player/mediaPlayer.html?action=1&t=1&islist=false&id=123068426&m=123067194

ثم اقرأ رأي زن بالسنة الأولى من حكم أوباما والذي نشره في موقع ذي نايشن قبل أسبوعين فقط من وفاته.

http://www.thenation.com/doc/20100201/forum/6#zinn

أخيراً، اصنع مع نفسك معروفاً وطالع كتاباً مما كتبه الرجل واحكم بنفسك، وكنت قد أسلفت لكم بعض الأمثلة والروابط (منها ما هو بالعربية) حول هذا الموضوع في مراسلات سابقة تجدونها في الأدنى للتذكير.

وبهذه المناسبة فقد عثرت مؤخراً على ترجمة لكتاب الدكتور هوارد زن المذكور في الأدنى “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الأمريكية 1492-” وهو من إصدارات المشروع القومي للترجمة التابع للمجلس الأعلى للثقافة في مصر وقد صدر في مجلدين ترجمة الدكتور شعبان مكاوي أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة حلوان

الجزء الأول (الرقم التسلسلي 736)

الجزء الثاني (الرقم التسلسلي 794)

كُتب في المناهج | التعليقات على هوارد زن يودع الحياة .. صانع متقدم لم نعرفه .. مغلقة