المقاصد الشرعية .. والإمام الشاطبي

محاضرة للأستاذ الدكتور أحمد الريسوني

أولا: في البدء كان الشاطبي!
إذا كان الإمام الشاطبي خاتمة المتقدمين من علماء المقاصد، فمن غريب الأقدار أن يكون هو نفسه فاتحتهم في العصر الحديث!! إذ شكلت طباعة ونشر كتابه “الموافقات” بداية الاهتمام بمقاصد الشريعة في هذا العصر. فالفكر المقاصدي الحديث بدأ بالشاطبي، وبدأ بولادة جديدة – أو بانبعاث جديد – للشاطبي.
الإمام الشاطبي ألف كتابه في أواخر القرن الثامن. ولكن المجتمعات الإسلامية دخلت في هذا الوقت وما بعده في طور الفتور والضعف على جميع المستويات. ومنذ ذلك الحين استمر هذا التدهور، وفي المقابل استمر تقدم الدول الأوربية والغربية ونهوضها. واستمر معه ما نراه الآن ومازلنا نعيش تداعياته من سيطرة الدول الأوربية والغربية على معظم أرجاء العالم الإسلامي. وما زالت مهيمنة عليه إلى الآن.
وأما بيئة الشاطبي وهي الأندلس، فقد كانت في عهده قد دخلت في حالة احتضار وليس فقط في حالة تخلف. بدأت تتفتت، وبدأت اسبانيا والبرتغال يتقاسمانها شيئا فشيئاً. وكانت غرناطة موطن الشاطبي هي آخر ما سقط من الإمارات الإسلامية بالأندلس. وفي هذه الحالة لم يكن هناك إمكان لمواصلة عمل الشاطبي أو غيره من عظماء هذا القرن، كابن تيمية وابن القيم وابن خلدون، وقد كانوا جميعا يرمون إلى الإنقاذ ووقف الانحدار. ولكن، كَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا …
مات الشاطبي ودفن رحمه الله، فمات ودفن كتابه كذلك. ومرت بعد ذلك ستة قرون استمر فيها انحدار المسلمين وتقدمُ الأوروبيين…

وفي مطلع القرن الثالث عشر الهجري طبع كتاب “الموافقات”، أي قبل قرن وربع قرن من الآن. طبع في تونس أولى طبعاته سنة 1302 هـ. فكانت هذه هي الولادة الثانية للشاطبي وكتابه وفكره. وكانت هي البداية والانطلاقة للفكر المقاصدي الحديث والمعاصر.
ولما طبع الكتاب ذاع وانتشر بعد ذلك مشرقا ومغربا:
في المشرق تلقفه الشيخ محمد عبده، وكان قد زار تونس في هذا الوقت، فصار يحث على قراءة الكتاب ونشره . وكان من أثر ذلك قيام تلميذه الشيخ عبد الله دراز بنشر كتاب “الموافقات” في مصر، وقيام تلميذه الآخر رشيد رضا بنشر كتاب “الاعتصام “. ومن مصر انتشر الكتابان وشاع تداولهما في عدد من الأقطار العربية…
وفي تونس البلد الذي طبع فيها الكتاب أول مرة، كان الاحتفاء به واضحا، وأخذ منحى أكثر حيوية وأسرع تأثيرا كما سنرى بعد قليل.

وفي المغرب كان الأثر المباشر لطباعة هذا الكتاب ووصوله إلى المغرب، هو أن أحد علمائه أخذه، وبطريقته وطريقة عصره، قام بنظمه، وهو الشيخ ماء العينين محمد فاضل بن مامين. وسمى منظومته “موافق الموافقات”. ثم قام بشرح النظم في كتاب آخر سماه “المرافق على الموافق”. وطبع في حياته سنة 1324هـ بفاس. ثم مؤخرا طبع طبعة محققة. وقد ذكر الشيخ ابن مامين في نهاية الشرح ما دعاه لإخراج كتاب “الموافقات” منظوما ومشروحا، قال: «لأني وجدت هذا الكتاب لا سيما في بلادنا مهجورا بل كأنه لم يوجد، ولم يكن له ذاكر فلم يكن مذكورا، فرجوت الله أن يحييه بنا ويحيينا به ما بقيت الأنام».
وهذا الشرح لم يكن له في ذاته أثر كبير ومباشر، ولكنه لفت الأنظار إلى “الموافقات” ودفع العلماء وطلاب العلم إلى طلبه وقراءته…

ونعود إلى تونس لكي نصل إلى ابن عاشور، الإمام الرابع من أئمة المقاصد الأربعة.
كان التجاوب مع كتاب “الموافقات” كبيرا جدا عند علماء الزيتونة الذين احتفوا بالكتاب أيما احتفاء، فدرَسوه ودرَّسوه وأخذوا منه الشيء الكثير. ولذلك ظهرت في تونس كتابات عديدة في الثلاثينيات والعشرينيات من القرن الميلادي الماضي، ومن أشهر من كتبوا في المقاصد الشيخ عبد العزيز الثعالبي وعبد العزيز جعيط وسالم بوحاجب وابن أبي الضياف. فبدأ هؤلاء وغيرهم يتكلمون عن مقاصد الشريعة وحكمتها وأهدافها، ويدعون إلى إعادة النظر في الفقه الإسلامي، المتأخر منه خاصة، لتصحيح كثير مما فيه، ولتجاوز كثير مما فيه، ولأجل القدرة على الاستجابة لمتطلبات العصر والإجابة على الإشكالات والتحديات التي دخلت فيها الأمة. ففي هذه الأجواء جاء ابن عاشور.

ثانيا: ابن عاشور الإمام الرابع من أئمة المقاصد
الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ولد عام 1296هـ/ 1879م، وتولى خلال عمره المديد أعلى المناصب العلمية الإسلامية في تونس، في القضاء والإفتاء ومشيخة الجامعة الزيتونية رحمها الله تعالى وفرج عنها، وكان عضوا في مجمعي اللغة العربية بدمشق والقاهرة… وتوفي عام 1393 هـ /1973م.
وقبل أن أتحدث عن بعض إضافته في المقاصد، أذكر أنه نشأ في أجواء من الاهتمام والاحتفاء بكتاب الشاطبي والتأثر به، وأيضا في أجواء جهود اليقظة ومحاولات النهضة والتجديد، التي كانت تنتشر يومئذ في العالم الإسلامي. ففي هذه الحقبة التي نحن فيها ظهر علامة الهند الكبير شاه ولي الله الدهلوي الذي كان له اهتمام بليغ بالمقاصد وألف كتابه “حجة الله البالغة”. كما نجد في هذه الحقبة – قبل ابن عاشور ومعه وبعده – العديد من علماء الأزهر وغيره، ألفوا عدة مؤلفات في حكمة التشريع وتعليل أحكام الشريعة، منها: “أسرار الشريعة الإسلامية” لإبراهيم أبو علي، و”المسلك البديع في حكمة التشريع” لعبد الرحمن خلف، و”حكمة التشريع وفلسفته” لعلي الجرجاوي، و”الأسرار الإلهية والحكم التشريعية” لعبد لرحمن راضي.
ثم في وقت متأخر نسبيا بدأ في الإطار الجامعي الجديد تقديم بحوث جامعية لنيل شهادة العالمية التي عودلت فيما بعد بالدكتوراه، فنجد الشيخ محمد مصطفى شلبي بحثا قيما هو “تعليل الأحكام في الشريعة الإسلامية”، والدكتور مصطفى زيد يقدم رسالته عن “المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي “…
هذه الحركية التي سبقت ورافقت ظهور الشيخ ابن عاشور لا شك أنها أفادته ويسرت له جوا عاما من الاهتمام بمقاصد الشريعة والتطلع إلى فائدتها وثمرتها، في إنعاش العلوم الإسلامية وتجديدها وتقويتها.

فإذا كان الشاطبي يمثل حصيلة من سبقوه في القرون المتقدمة، فابن عاشور يمثل حصيلة هذه التفاعلات مع “الموافقات” ومع التحديات والتطلعات ونزعات التجديد والبحث عن مخارج للوضعية الإسلامية.
وأول ما ظهر من اهتمامه بالمقاصد كان في كتابه الفريد، ولو أنه كتاب صغير، هو كتاب “أليس الصبح بقريب”. يدرس فيه قضية واحدة هي مناهج التعليم في المؤسسات الإسلامية، أو مناهج التعليم الموروثة والمتبعة يومئذ عند المسلمين، كما في الأزهر والزيتونة والقرويين. وقد كانت هذه القضية يومئذ – كما هي اليوم – محل صراع وجدال…
في هذا السياق وفي هذا الكتيب تناول أول ما تناول قضية المقاصد. فقد انتقد الطريقة المتبعة في عرض الفقه الإسلامي، الذي أصبح يقدم بدون مقاصد، أي بدون تعليله وبيان أبعاده ومراميه، فأصبح منهج تدريسه يقتصر على الأشكال والرسوم، ولا ينفذ إلى معرفة مقاصد الشريعة في تلك الأحكام. وقال: أشأم ما نجم عن ذلك شيوع مسألة الحيل في فتاوى الفقهاء؛ لأن الأحكام أصبحت تؤخذ بصورها وليس بروحها ومقصودها، فشاعت فكرة التحايل وشاع أن المفتي يستطيع أن يفتيك بما تريد، وأيا كانت فتواه يستطيع أن يجد لها تخريجا، وشاع إفتاء الخاصة بما لا يفتى به العامة، هذا كله ناجم عن غياب المقاصد. وهذا الكتاب كان مبكرا، ربما ألفه في العشرينيات من القرن العشرين.

بعد ذلك ألف كتابا آخر ظهر فيه اهتمامه المقاصدي بشكل أقوى، وهو كتاب صغير أيضا، وجاء أيضا استجابة لمعركة كانت قائمة وهي مسألة الوقف والحملات المعادية التي كانت موجهة إليه من السلطات الاستعمارية، في عدد من البلدان الإسلامية… فكتب ابن عاشور كتابه هذا دفاعا عن الوقف الإسلامي وأهميته ومقاصده. ومن فصول الكتاب “مقاصد الشريعة في تصريف الأموال”. ومن فصول هذا الكتاب “هل الوقف مصلحة أو مفسدة؟”
وهنا يمكن أن نضع أيدينا على أول كلام على المقاصد الخاصة، والمقاصد الخاصة ذكرتها سابقا. فهي ليست مقاصد عامة كلية، وليست مقاصد أحكام جزئية، بل هي مقاصد الشارع في نطاق تشريعي معين. فهي فوق المقاصد الجزئية وأوسع منها، ودون المقاصد الكلية وأضيق نطاقا منها. وهذا هو الصنف الذي خصص له القسم الثالث من كتابه “كتاب مقاصد الشريعة”.
وله بحث بعنوان “أثر الدعوة الإسلامية في الحرية والمساواة”، وهو الموضوع الذي عاد فتناوله في كتابيه “أصول النظام الاجتماعي في الإسلام” و”مقاصد الشريعة الإسلامية” .

كتابه هذا الأخير “مقاصد الشريعة الإسلامية”، وهو الأهم في موضوعنا. جاء ثمرة لقيامه بعمل آخر كان رائدا أيضا، وهو قيامه بتدريس كتاب “الموافقات” في الجامعة الزيتونية. فابنُ عاشور هو أول من درَّس كتاب “الموافقات”، وأول من درَّس مقاصد الشريعة في الجامعة. وهذا التدريس الذي استمر عدة سنوات، أفضى به إلى أن تكون له إضافات واستدراكات وتتمات لعمل الشاطبي. ولذلك فابن عاشور إذا كان هو الإمام الرابع، فهو أيضا الشاطبي الثاني، فهو مكمل لعمل الشاطبي، كما صرح بذلك.

كتاب “مقاصد الشريعة ” ألفه في أواخر الثلاثينيات من القرن الميلادي الماضي. وطبع وظهر في أول الأربعينيات. هذا الكتاب كما ذكر هو نفسه يواصل فيه ما بدأه الشاطبي. ولكنه قال كلمة حقيقية وصادقة، قال: أنا لا أعيد الشاطبي ولا ألخص الشاطبي، بل هو يواصل ويتمم ويضيف..
أول شيء تميز به ابن عاشور هو أنه لأول مرة أجرى مقارنة بين وظيفة علم أصول الفقه ووظيفة الدراسات المقاصدية، أو “علم مقاصد الشريعة”: ما المشترك وما المختلف؟ وهل هما – ولا بد – علم واحد أم يمكن – أو يلزم – الفصل بينهما واسقلال كل منهما بوظيفته؟
فأما المتقدمون، فبعضهم تناول المقاصد في كتب السياسة الشرعية، وبعضهم في كتب الفقه، وبعضهم في أصول الفقه، وبعضهم في كتب التصوف والتربية، وبعضهم في علم الكلام، وبعضهم في تفاسيرهم…
الشاطبي وإن أدرج الكلام عن المقاصد ضمن كتاب أصولي، إلا أنه كاد أن يفصله، حين جعله كتابا خاصا، له مقدمته وخاتمته.
ولكن ابن عاشور جاء رأسا إلى مقاصد الشريعة، وألف فيها كتابا مستقلا سماه باسمها . ثم نظرا للتداخل بين علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، احتاج ابن عاشور في بداية الكتاب الجديد، أن يبين الفرق بين موضوع علم أصول الفقه، وموضوع هذا الكتاب، ويبن أن لهذا الكتاب ولهذا العلم الذي يؤسسه، وظيفة مختلفة عن وظيفة علم أصول الفقه. فعلم أصول الفقه قواعد لغوية وقياسية وعقلية، لتفسير النصوص الشرعية والاستنباط منها، وهي قواعد أكثرها ظني مختلف فيه… وهذا العلم – علم مقاصد الشريعة – يتتبع المقاصد العامة للشريعة والكليات القطعية فيها، ليجعل منها مرجعا حاكما وموحدا للفكر الإسلامي وللفقه الإسلامي. وهي الوظيفة التي قصر فيها وانصرف عنها الأصوليون، كما يرى ابن عاشور.

سؤال: الإمام الشاطبي في كتابه “الموافقات” استدل بأدلة كثيرة على قطعية القواعد الأصولية، وكلام فضيلتك عن الشيخ ابن عاشور عليهما رحمة الله، جزم أن القواعد الأصولية ظنية، والمعلوم أن علم أصول الفقه فيه كليات وجزئيات، كليات عامة تندرج تحتها هذه الجزئيات، فما التوفيق بين كلام الشاطبي والأصوليين عموما وكلام الطاهر بن عاشور؟
جواب: هذه قضية مهمة جدا، وفيها كثير من سوء الفهم عند عدد من العلماء؛ قضية أصول الفقه قطعية أو ظنية. وأول من أثارها هو الجويني في البرهان، فنص فيه على أن أصول الفقه قطعية، ثم أجاب على بعض الإيرادات التي قد ترد عليه، مثل: كيف تقول أصول الفقه قطعية، ومباحث أخبار الآحاد والأقيسة والدلالات أكثرها ظني، وهي لا تُلفَى إلا في علم أصول الفقه؟
فأجاب: حسْبُ الأصوليِّ منها ما كان قطعيا، هذه وظيفة الأصولي وهذا حظ الأصولي، بمعنى ما ليس قطعيا ليس من صميم ما يقصده بقطعية الأصول، وليس من صميم القضايا الأصولية. بمعنى أن المسائل الظنية ليست مما يعنيه بقطعية الأصول، وإنما هي تطبيقات وتفريعات عرضية دخلت في أصول الفقه لضرورة التمثيل والتوضيح…

بعد ذلك نوقشت هذه المسألة عند من جاؤوا بعد الجويني؛ فناقشها المازري في شرحه على البرهان، والمازري تونسي في القرن السادس له شرح قيم على البرهان. ثم جاء شارح آخر للبرهان – وهو الأبياري، المالكي المصري – فأعاد النقاش. ثم جاء الشاطبي فقرر ما سمعناه في السؤال، وقوله مثل قول الجويني، إلا أنه توسع في البيان والاستدلال. قال: “أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية”، هذه عبارة الشاطبي، ثم أتـى بالأدلة على ذلك.
والإشكال الذي يقع، وهو سبب الاختلاف وسبب السؤال الذي سمعناه، هو أن كثيرا ممن تلقوا هذه العبارة اختلط عليهم الأمر بين “أصول الفقه”، و”علم أصول الفقه”. أصول الفقه هي أسس الفقه ومصادره وقواعده التشريعية الكبرى، فهذه هي”الأصول”، وهي لا بد أن تكون قطعية، وما لم يكن قطعيا، فه ليس أصلا من الأصول.

أما “علم أصول الفقه”، كما هو متعارف عليه في مؤلفاته، فلم يقل أحد إن كل مسائله وقواعده قطعية. بل القطعي منها محدود، وهو الذي يعنيه الجويني والشاطبي، ويسميانه”أصول الفقه”، أو بتعبير الشاطبي “أصول الفقه في الدين”. فهذه الأصول من حيث هي أصول لفقه الدين، عادة ما تكون قطعية متفقا عليها، فإذا دخلنا في فروعها وتوابعها وقواعدها، سنجد في ذلك القطعي والظني.

مثلا: “سد الذرائع”: إذا ذهبنا إلى النقاشات الأصولية سنجد: قال بها المالكية، وأنكرها الشافعية، وأشد إنكارا لها الظاهرية…، مما يوهم أن سد الذرائع مسألة أصولية ظنية مختلف فيها. ولكن حسب الشاطبي: هذه مسألة قطعية، وهذا أصل متفق على أصله. وإنما يأتي الاختلاف حينما نبدأ الدخول في التفاصيل: متى نسد الذرائع ومتى لا نسدها؟ متى نفتحها ومتى لا نفتحها؟ وشروط ذلك وحساباته؟ الغالب والأغلب، والقليل والنادر…؟؟ فهنا ترد الاختلافات في تطبيق القاعدة، أما أصل القاعدة فموجود في القرآن وفي السنة، وعند جميع المذاهب ما عدا الظاهرية، فالقاعدة قطعية. إذأً فهي تصلح أن تكون أصلا من أصول الدين، وأصلا من أصول التفقه في الدين.
وهكذا اعتبار المقاصد أصلا من أصول الفقه، واعتبار المصلحة أصلا من أصول الفقه، واعتبار المآلات أصلا قطعيا من أصول الفقه، وكذلك القياس – بغض النظر عن التفاصيل – أصل قطعي من أصول الفقه، واعتبار العادات والأعراف أصل قطعي من أصول الفقه…
ولكنْ كلُّ هذه الأصول القطعية، إذا بدأنا نفصل فيها، فسنصل إلى ما ليس بقطعي. فإذاً الذين تحدثوا عن قطعية أصول الفقه يقصدون مثل هذه الأصول في أصولها، والذين يقولون أصول الفقه مليء بالخلافات والظنيات، فإنما يقصدون مجمل ما في علم أصول الفقه من مباحث ونقاشات… قد نأتي إلى أي مسألة قطعية في الدين أو في القرآن الكريم، فنجد أصلها قطعيا مجمعا عليه، فإذا دخلنا في التفاصيل والتدقيقات، يتمايل الناس ذات اليمين وذات الشمال، ويتقدم بعض ويتأخر بعض… فحتى القرآن الكريم، الذي يعرفه الجميع ويتفق حوله الجميع، وهو الأصل الأول، إذا دخلنا في التعريف الأصولي- (الفلسفي المنطقي) – للقرآن الكريم، فسنجد في ذلك اختلافا كثيرا…، وليس شيئٌ من تلك التعريفات وشروحها أصلا من أصول الفقه.
فبهذا المعنى الأخير تكلم من تكلم عن وجود الظنية والاختلاف في أصول الفقه، ومنهم – للأسف- الشيخ ابن عاشور، بينما الجويني والشاطبي يقصدان المعنى الأول.

ونعود إلى الإضافات المقاصدية التي تميز بها ابن عاشور:
أ- من ذلك أنه تابع وأكمل موضوعا فتحه الشاطبي، وهو طرق إثبات المقاصد.
الشاطبي جعلها في آخر كتاب المقاصد، ولكن ابن عاشور جعلها في بداية كتابه. المهم أنه يأتي بعد الشاطبي في تناول هذه القضية الكبيرة والخطيرة. ويكفي من أهميتها أنها تفتح الباب للعلماء، وتغلقه على الأدعياء: تفتح الباب للعلماء، لكونها تحدد وتمهد لهم مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة. وتغلق الباب على الآخرين لأنهم متطفلون متخرصون، فإذا تحددت الطرق العلمية لمعرفة المقاصد، ظهر زيف من يخالفها ويتنكبها ويتقول على الشريعة ومقاصدها.
ولابن عاشور في هذا الباب إضافات مهمة، وخاصة في تطبيق استقراء الوقائع في السنة وعمل الصحابة، لإثبات مقاصد الشرع من مجموعة من الأحكام.
– وابن عاشور كالشاطبي، نص على أن المجتهد لا يمكنه الاستغناء عن المقاصد، في أي وجه من وجوه الاجتهاد. وقداستعرض مَحالَّ اجتهاد المجتهدين في أدلة الشريعة، فجعلها خمسة مَحال، أَختصِرها فيما يلي:

1- فهم نصوصها وألفاظها بحسب ما تقتضيه قواعد اللغة واصطلاحات الشرع فيها.
2- مقارنة المعنى المستنبَط، مع غيره من أدلة الشريعة وأحكامها، للتحقق من التوافق بينه وبينها، فيؤخذ به حينئذ بلا إشكال، أو يظهر نوعُ تعارض، فيُعمَل على التوفيق أو الترجيح…
3- قياس ما لا حكم له في الشرع، على نظيره المنصوص على حكمه، بعد التعرف على علته.
4- الحكم فيما يجِدُّ من حوادث غير منصوص على حكمها، وليس لها في الشرع نظير تقاس عليه.
5- النظر فيما لم تظهر حكمة الشرع فيه، وتصنيفه ضمن الأحكام التعبدية غير المعللة، أو اكتشاف علته ومقصوده، لإلحاقه بالأحكام المعقولة المعللة .
ثم قال «فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها »، بمعنى أن المقاصد لازمة للفقيه في جميع المناحي والوجوه الاجتهادية.

ب- كذلك تحدث ابن عاشور في موضوع المصالح والمفاسد ولخص وأعاد ما سبق عند ابن عبد السلام والقرافي والشاطبي. ولكن أيضا كانت له إضافات في هذا الباب، أهمها عنايته الفائقة بمصالح الأمة والمقاصد الجماعية والمقاصد العامة.
فبينما نجد العلماء السابقين على ابن عاشور كالغزالي والشاطبي وغيرهما، حين يعرفون – مثلا – الضروريات، يعرفونها بالقياس إلى الفرد وفي حق الفرد. ولذلك نحن حين نتدارس موضوع الضروريات يتبادر إلى أذهاننا الأمور التي يكون الفرد في اضطرار إليها ولا يستغني عنها، وإذا فقدها كان عرضة للهلاك أو لما يشبه للهلاك…
ابن عاشور طيلة كتابه، كلما صنف أو عرف شيئا من المقاصد والمصالح والمفاسد، كان اعتبار الأمة ماثلا ومعيارا معتمدا.
فحتى حينما أراد تعريف التحسينيات التي هي ألصق شيء بالأفراد وأذواقهم، عرفها بأنها هي المصالح التي تكون بها الأمة ذات منظر وبهجة، تنجذب إليها الأمم والشعوب الأخرى وتحترمها، وتهفو إليها نفوس الناس…
مثال آخر: الشاطبي يقول: المقصد من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد له اضطرارا.

يأتي ابن عاشور فيقول: المقصد العام للشريعة هو حفظ نظام الأمة وبقاء قوتها وهيبتها…
هذا صحيح وهذا صحيح، ولكن هذا من زاوية وهذا من زاوية. ولكن لا شك أن التركيز على زاوية الأمة وعلى حظ الأمة، وعلى مقاصد الشريعة على مستوى الأمة…،هو الأعلى والأولى، وهو الذي يحتاج أن يأخذ مكانته اللائقة المستحقة.
سؤال: هل عناية فضيلة الشيخ ابن عاشور بالأمة ومصالحها يعني أنه لم يعتن بالمصالح الفردية؟
جواب: لا أبدا، هو فقط يريد أن يصحح ويوازن ويعدل الكفة؛ لأن مصالح الأفراد أخذت كامل العناية والرعاية من الفقهاء والأصوليين والمقاصديين، بخلاف الأمة ومصالحها ومقاصدها، فهي ضامرة عند عامة علمائنا المتقدمين. هذا مع العلم أن المصالح الفردية لا تفضي بالضرورة إلى تحقيق مصالح الأمة إلا بشكل محدود، ولكن مصالح الأمة تفضي بالضرورة إلى مصالح الأفراد، فهي داخلة فيها.
ولكن حتى الحديث عن مصالح الأفراد وارد عنده في عدة مناسبات، ومنها على سبيل المثال ما تناوله في مقاصد الأموال، ومقاصد العقود المنعقدة على الأبدان، ومقاصد القضاء… وكل هذا في أواخر الكتاب.

ثالثا: علال الفاسي على خطى ابن عاشور
بعد ابن عاشور، ومعاصرة معه أيضا، ألف العالم والزعيم المغربي علال الفاسي كتابا مماثلا سماه “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”.
علال الفاسي هو أحد العلماء الزعماء المجاهدين، قاوم وكافح لأجل استقلال المغرب. وبعد الاستقلال جاهد لأجل حفظ الهوية العربية الإسلامية للمغرب. وكتب كتابه الجريئ” دفاع عن الشريعة”. واستمر في رئاسته لحزب الاستقلال إلى وفاته سنة 1974م. كما شارك في المؤسسات الحكومية والبرلمانية…
وعمل أستاذا جامعيا بالرباط وفاس. وهذا هو الذي قاده إلى تأليف الكتاب، فقد كان يُدَرِّس عدة مواد شرعية في كلية الحقوق وفي كلية الشريعة بجامعة القرويين، وفي دار الحديث الحسنية. وكان يركز في هذه المحاضرات على مقاصد الشريعة. ثم حول تلك المحاضرات إلى كتاب أصدره سنة 1965م بالعنوان الذي ذكرت “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”. وهناك قدر غير قليل من المباحث المشتركة بين علال الفاسي وابن عاشور، كالفطرة والحرية والكرامة والتركيز على مصالح الأمة والمجتمع. ولكن ما يميز علال الفاسي هو كونه درس الفكر الغربي وخاصة الفكر القانوني والحقوقي وشيئا من الفلسفة. لذلك كتابه يقارن مع التشريعات الرومانية والغربية الأوروبية الحديثة. ويحيل على قضايا فلسفية وحقوقية…
ومن آرائه المقاصدية: أن مقاصد الشريعة ليست مجرد مرجع تشريعي ثانوي، أو مرجع خارجي، يُرجع إليه ويُستأنس به، إلى جانب مصادر التشريع الأصلية، بل هي من صميم تلك المصادر، وهي العنصرالمحوري الثابت فيها وفي خلودها. يقول رحمه الله: «مقاصد الشريعة هي المرجع الأبدي لاستقاء ما يتوقف عليه التشريع والقضاء في الفقه الإسلامي، وأنها ليست مصدرا خارجيا عن الشرع الإسلامي، ولكنها من صميمه، وهي ليست غامضة غموض القانون الطبيعي، الذي لا يعرف له حد ولا مورد… ».

ومن جوامع كَلِمِهِ في هذا الباب قوله: «والشريعة أحكام تنطوي على مقاصد، ومقاصد تنطوي على أحكام »، وهذا معناه أن المقاصد تؤخذ من الأحكام، وأن الأحكام تؤخذ من المقاصد. وهذا أحسن تصوير وأوجز تقرير، لعلاقة المقاصد بالاجتهاد والاستنباط. ننظر في الأحكام فنستنبط منها المقاصد، وننظر في المقاصد فنستنبط منها الأحكام…

أسئلة:
الراغب الأصفهاني وابن رجب
سؤال: الراغب الإصفهاني، هل له شيئ في مجال المقاصد؟
جواب: طبعا الراغب الإصفهاني يستحق أن يذكر، خاصة بكتابه “الذريعة إلى مكارم الشريعة”، وكتابه الآخر “تفصيل النشأتين وتفصيل السعادتين”، وهو شبيه بأبي الحسن العامري الذي تحدثت عنه من قبل، وخاصة في المسحة الفلسفية والنفَس الفلسفي. ولكن الذين ذكرتهم كانوا هم الأكثر تآليفا وعناية. والمقام لا يتسع للاستقصاء والإكثار.
سؤال: ابن رجب الحنبلي في كتابه القواعد كان له شيء؟
جواب: بصراحة العلماء الكبار كلهم لهم شيء، بل أشياء. ولكن تم التركيز على من لهم عناية خاصة وبارزة ومتميزة. وليس ابن رجب من هذا الصنف.

الظاهرية والمقاصد
سؤال: حبذا لو نبذة مختصرة عن الظاهرية وكيف تعاملت مع مقاصد الشريعة لا سيما ابن حزم في كتاب “المحلى”.
جواب: الكتاب الذي يمكن أن نعتمد عليه لمعرفة أصول الظاهرية ومنهجهم، هو كتاب “الإحكام في أصول الأحكام”، لأن هذا الكتاب كتاب تنظير وتأصيل، و”المحلى” كتاب فقه تطبيقي.
وأنا أرجو أن لا يفهم مني انتقاص أي عالم، وافقته أو خالفته، فجميع العلماء أجلهم وأحبهم واستفدت منهم، وأعترف بجوانب الفضل عندهم. لكني باعتباري أشتغل بالمقاصد، أكثر من يقابلني من الجهة الأخرى هم الظاهرية وخاصة ابن حزم.
وابن حزم عالم كبير وجليل بكل معنى الكلمة، ولكن نحن نناقش قضايا العلم والمنهج العلمي.
ابن حزم وضع عدة أبواب ضمن كتاب “الإحكام في أصول الأحكام” لإبطال القياس، والعلل، والاحتياط، وسد الذرائع، والاستحسان، والاستنباط،…فهل يتصور ممن أبطل- بزعمه – كل هذا أن يكون له تعامل مع مقاصد الشريعة سوى الإبطال أيضا؟ القياس والتعليل في نظر ابن حزم إنما هو دين إبليس وطريقه. المصلحة وكون الشريعة جاءت بجلب المصالح، سماها القضية الملعونة.

لقد أبطل وأغلق كل الأبواب المفضية إلى معرفة مقاصد الشريعة والعمل بالمقاصد، فمن أين يدخل عليها ويصل إليها؟!
ولقد وصل الحال بالفقه الظاهري أن يفهم من قوله عليه السلام «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه » أن هذا النهي خاص بالبول، ولا يدخل فيه الغائط. وأيضا لو بال أحد في ماء راكد لم يجز له هو أن يتوضأ منه، ولكن يجوز ذلك لغيره، لأنه غير داخل في النهي. ولو بال أحد في إناء ثم صبه في ماء أو بال خارج الماء ثم جرى البول إلى الماء الراكد، فهذا يجوز أن يتوضأ هو منه، لأنه لم يبل فيه بل في غيره…!!
سؤال: أحسن الله إليكم هل يمكن في معرض الإجابة على ابن حزم في استدلاله بقياس إبليس وقصة آدم، أن هذا في القياس الذي نتفق فيه مع الظاهرية أنه ممنوع، وهو القياس مقابل النص، الآن جاءهم نص فأبطل النص بالقياس، وهو من القياس الممنوع الذي نتفق معهم أنه ممنوع، وأما القياس الذي ليس فيه نص، بل يكون محل نظر فهذا الذي هو موطن الخلاف.
جواب: نعم هذا يُرد به على ابن حزم وعلى كل نفاة القياس. ومما رُدَّ به على ابن حزم أن القياس كلمة تطلق على أشكال عديدة منه. والعلماء يقسمونه إلى قياس صحيح وقياس فاسد، وابن القيم وابن تيمية ممن أفاضوا في بيان الفروق بين القياسات الصحيحة والقياسات الفاسدة. وللشريف التلمساني -شيخ الشاطبي- كتيب صغير سماه “مثارات الغلط”. فمن مثارات الغلط أن يستعمل القياس استعمالا غير صحيح، والاستعمال غير الصحيح يرِدُ على جميع الأدلة، ما من دليل صحيح إلا وله استعمال خطأ عند من قصروا أو جاروا أو ذهبت بهم الأهواء، أو لأي سبب من الأسباب. وابن تيمية يقول ونفس العبارة كررها ابن القيم: لا يَعرف التمييزَ بين القياس الصحيح والقياس الفاسد إلا من عرف مقاصد الشريعة؛ لأن القياس الصحيح ينبني على مقاصد الشارع؛ ولأن أول سؤال ينبغي أن يرد في القياس، هو: هل هذه التعدية للحكم مقصودة أو غير مقصودة للشارع؟ إذا ظهر لنا أنها مقصودة للشارع، وأن الحكم ليس قاصرا وليس خاصا بالمحل المسمى في النص، نمضي في القياس، وإلا فلا.
وباختصار فقياس إبليس من القياس الفاسد عندنا، فلا يقول به أحد.

قياس إبليس أولاً: هو قياس مع النص، ولا قياس مع النص؛ لأن القياس يؤتى به في غياب النص.
وثانيا: القياس مع النص قد يكون غير مناهض للنص وغير مبطل لمقتضى النص، ومع ذلك فهو مرفوض، ولكن حينما يكون مناهضا للنص، وأُتِيَ به لنقض النص، فهذا أسوأ وأسوأ، ولا يقول به عاقل ولا عالم، ولا شافعي ولا مالكي ولا حنفي. القياس الذي استعمله إبليس ليس فقط قياسا مع النص، بل قياس لنقض النص، النص يقول افعل وقياسه يقول لا تفعل.
وثالثا: هذا الذي فعله إبليس، قد حكم الله تعالى في شأنه. فحتى لو كنا نتشكك هل هو صحيح أم غير صحيح، الله تعالى رتب عليه اللعنة والطرد… فهو قياس ليس مما نحن فيه بوجه من الوجوه.
على كل حال هذه بعض الردود على ابن حزم، ومع ذلك كما قلت: نجله ونحبه لإيمانه وغيرته وحسن قصده. ولكن هناك اختلال منهجي لا يمكن قبوله ولا السكوت عنه.

رابعا: عبد الله بن بية: بين الأصول والمقاصد
نعود إلى سياقنا وموضوعنا لهذا اليوم، وهو: المقاصد في هذا العصر. وكنت تحدثت عن ابن عاشور وعن علال الفاسي…وغير بعيد عنهما أنتقل إلى أستاذنا الشيخ عبد الله بن بية، فهو من العلماء المهتمين بمقاصد الشريعة في هذا العصر، تنظيرا وتطبيقا. فها قد وصلنا إلى المعاصرين الأحياء.
ومن هذا الباب هناك نكتة وقعت بالمغرب، وهي أن أحد الأساتذة كان يدرِّس بعض المواد الشرعية، وجاءه المفتش، وكان الكتاب المقرر الذي يعتمده الأستاذ من تصنيف المفتش نفسه، والأستاذ لا يدري. فكان يشرح ويقول للتلاميذ من حين لآخر: قال المصنف رحمه الله. في النهاية جاءه المفتش وقال له: أنت تقول عن المصنف رحمه الله، وأنا هو المصنف، فقال الأستاذ مندهشا: سبحان الله! وهل هناك مصنف باقٍ على قيد الحياة!!
كان يظن أن المصنفين كلهم من الأموات. فلا تظنوا أنتم أن المصنفين في المقاصد كلهم من القدماء ومن الأموات.
الشيخ عبد الله بن بية، له مكانة ورسوخ واجتهاد. فلذلك اخترته لتقديمه لكم، وإلا فالذين يكتبون اليوم في المقاصد عشرات وعشرات، ولكني أتحدث عمن لهم مكانة وعطاء ورسوخ.
الشيخ الفقيه ابن بية صدر له كتاب في المقاصد قبل نحو سنتين. وأصله محاضرة ألقاها بمكة المكرمة، ثم وسعها وجعلها كتابا اسمه “علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه”.
المسألة الأساس لهذا الكتاب هي المعبر عنها في عنوانه. وقد سبق أن عرضنا لها فيما سبق. ولها مكان يأتي في اليوم الأخير من هذه الدورة إن شاء الله عز وجل.
وللشيخ حفظه الله آراء وإضافات واستدراكات وتطبيقات، في جميع مباحث الكتاب، غير أن الجديد الكامل في نظري هو مبحثه الرابع الذي سماه “الاستنجاد بالمقاصد واستثمارها “.
وقد بدأه بتأكيد ما ذهب إليه الشاطبي من قبل، فذكر أن «أول استثمار لها -أي للمقاصد- هو ترشيح المستثمر لها، الذي هو المجتهد، ليكون مجتهدا موصوفا بهذا الوصف. فلا بد من اتصافـه بـمعرفة المقاصد..
ثم عرض رأي ابن عاشور الذي ذكرته سابقا، ثم قال :«ولبيان ما دندن حوله أبو المقاصد أبو إسحاق الشاطبي، والعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، رحمهما الله تعالى، نقول: إنه يُستنجَد بالمقاصد في أكثر من عشرين منحى من مسائل الأصول… ».
والحقيقة أنه قد أوصلها إلى ثلاثين وجها، هي كلها تقريبا عبارة عن قواعد أصولية، لغوية واستدلالية، تَمَّ تطعيمها وتسديد العمل بها، باستحضارالفكرة المقاصدية والنظر المقاصدي في إعمالها. ويمكن اعتبارها عملا نموذجيا لصياغة مقاصدية لعلم أصول الفقه.
وبعد أن استعرض الشيخ الجليل هذه المناحي الثلاثين للاستنجاد بالمقاصد، قال حفظه الله: «وهذه المناحي التي تسجَّـل لأول مرة، لو أردنا نشرها ـ كما تنشر بعد الطية الكتبُ ـ لكانت جزءا كبيرا، لكن مقصودنا من هذا هوالإشارة إلى أن المقاصد هي أصول الفقه بعينها، وهذه المناحي والمدارك أمثلة للوشائج الحميمة والتداخل والتواصل. ولو أمعنا النظر وأعملنا الفكر لأضفنا إليها غيرها. فأقول لطالب العلم: انحُ هذا النحو… ».
ومما يتميز به الشيخ ابن بية، نشاطه وإنتاجه الإفتائي، في مختلف قضايا العصر، وهو ما يتيح له تطبيق رؤيته المقاصدية. وبحوثه المقدمة في مختلف المجامع الفقهية، هي خير ما أحيل عليه.

خامسا: جمال الدين عطية وتفعيل المقاصد
أنتقل إلى نموذج آخر من المعاصرين الأحياء، ممن لهم جهود مقدرة ومفيدة في مجالنا… وهو الدكتور جمال الدين عطية. وقد صدر له منذ سنوات كتاب سماه “نحو تفعيل مقاصد الشريعة “. وفيه آراء وإضافات على هذا الطريق…
قسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: خصصه لما سماه قضايا محورية، وهي قضايا كُتب فيها الكثير، لكنه يلخصها ويبدي ما له من آراء وإضافات فيها، مثل قضية الضروريات الخمس وترتيبها، وحصرها أوالزيادة عليها..، ومثل طرق الكشف عن مقاصد الشريعة حيث ناقش بصفة خاصة دور العقل والفطرة في الاهتداء إلى مقاصد الشريعة والدلالة عليها…
الفصل الثاني: خصصه لإعادة ترتيب مجمل مقاصد الشريعة. نحن ذكرنا من قبل تقسيمات وترتيبات للعلماء: الكليات والجزئيات، العامة والخاصة، المقاصد العالية، كما سماها ابن عاشور. كما ذكرنا تقسيم الشاطبي المقاصد إلى مقاصد الشارع ومقاصد المكلفين…

جمال عطية تناول هذه المسألة ليقترح نمطا جديدا لتقسيم المقاصد، يتيح الفرصة كما يرى لإبراز جوانب أخرى من مقاصد الشريعة. فقسمها إلى ستة أنواع مرتبة فيما يلي:
1- مقاصد الخلق،
2- مقاصد الشريعة العالية،
3- مقاصد الشريعة الكلية،
4- مقاصد الشريعة الخاصة،
5- مقاصد الشريعة الجزئية،
6- مقاصد المكلفين.
وأما المجالات والدوائر المعنية بمقاصد الشريعة، فقد سبق أن المتقدمين ركزوا على المجال الفردي والدوائر الفردية ؛ فالمقاصد عندهم تقاس وتعرف وتقسم وترتب بالنظر إلى احتياجات الفرد ومصالحه وما هو مطلوبه أو مطلوب منه.
جاء ابن عاشور فأعطى اعتبارا أكبر لإبراز المقاصد بالنسبة لعموم الأمة. فهذا مجال وذاك مجال: الفرد والجماعة. وهكذا جرت التقسيمات بحسب نطاق المقاصد ومجالها إلى: العامة والخاصة، الأمة والفرد، فروض الكفاية وفروض الأعيان. فالفروض العينية خطاب فردي، ومقاصدها فردية. والفروض الكفائية خطاب جماعي ومقاصدها جماعية عامة. فانحصر الخطاب بين الفرد والجماعة.

الدكتور جمال الدين عطية يرى أن نتناول المقاصد متدرجة بحسب مجالات ودوائر أربع، تستوعب المقاصد العامة والخاصة والجزئية، وتقدم بديلا عن تقسيم الضروريات إلى الخمس المعروفة، لأنها تندرج وتتوزع على المجالات الأربعة المقترحة.
المجال الأول: هو مجال الفرد، وهذا لا إشكال فيه ولا جديد فيه. والمقاصد التي أدخلها فيه هي حفظ النفس والعقل والتدين – وليس الدين – والعرض والمال. فهذه هي الاحتياجات الفردية والمقاصد الفردية، أو التي تبرز على مستوى الأفراد أكثر مما تبرز على أي مستوى آخر.

المجال الثاني: هو مجال الأسرة؛ من الفرد إلى الأسرة. في مجال الأسرة سجل وتناول المقاصد الآتية:
– المقصد الأول تنظيم العلاقة بين الجنسين في مجال الأسرة، وهذا يبدو مستوحى من عند ابن عاشور في المقاصد الخاصة بالعائلة. فالشريعة لها مقاصدها في تنظيم العلاقة بين الجنسين. وهو أمر صحيح؛ فالعلاقة بين الجنسين تحتل مساحة كبيرة وأهمية كبيرة، في الأحكام الشرعية وفي الحياة البشرية، قد تكون أكبر مما هو الشأن بالنسبة لتنظيم مجموع علاقات الجنس البشري. علاقة الرجل والمرأة، الرجال والنساء، لها أهمية كبيرة وآثار بليغة في الحياة، وفي بناء المجتمعات. ولها تبعا لذلك أهمية كبيرة في الشريعة ومقاصدها.
– ثم مقصد حفظ النسل، فهو مقصد شرعي يتحقق أولا على مستوى الأسرة.
– ثم مقصد تحقيق السكن والرحمة.
– ومقصد حفظ النسب.
– ومقصد حفظ التدين في الأسرة، أي على مستوى الأسرة وليس الفرد.
– ثم التنظيم المؤسسي والمالي لشؤون الأسرة.

المجال الثالث: هو مجال الأمة؛ من الفرد إلى الأسرة إلى الأمة.
على مستوى الأمة سجل المقاصد الشرعية التالية:
أولا: التنظيم المؤسسي لشؤون الأمة، أي: الشؤون العامة للأمة تصبح منظمة وداخل مؤسسات.
ثانيا: مقصد الأمن.
ثالثا مقصد العدل.
ثم مقصد حفظ الدين والخلق.
ثم التعاون والتضامن والتكافل.
ثم نشر العلم وحفظ عقول الأمة. لاحظوا التفريق بين حفظ العقل للأفراد، وهو مقصد فردي، والآن حفظ العقل للأمة.
ثم في الأخير جعل عمارة الأرض وحفظ ثروة الأمة. أي من مقاصد الشريعة على صعيد الأمة: حفظ ثروتها وعمارة الأرض التي يقيم بها المسلمون.

المجال الرابع، أو الدائرة الرابعة: على مستوى البشرية أو الإنسانية، أي للشريعة مقاصد على المستوى البشري الأعم. من ذلك:
التعارف والتعاون والتكامل بين البشر وبين الأمم والشعوب.
ومن ذلك تحقيق خلافة الإنسان في الأرض.
ثم تحقيق السلام العالمي القائم على العدل.
ثم نشر دعوة الإسلام، أي على صعيد البشرية كلها.
هذه أهم الأفكار الجديدة عند الدكتور جمال الدين عطية في الفصلين الأول والثاني.

الفصل الثالث: وهو الذي يعكس عنوان الكتاب ويترجم رسالته “نحو تفعيل مقاصد الشريعة”. وهو يرمي ويدعو إلى جعل مقاصد الشريعة حاضرة ومؤثرة ومتبعة في مجالات جديدة، وفي مجالات واسعة، وبصفة خاصة في المجالات التي لا يسعها لا الفقه ولا أصول الفقه، بصورتيهما السائدة. ومن تلك المجالات: – أسلمة العلوم الإنسانية والاجتماعية والكونية، أي تأسيسها وتوجيهها وفق مقاصد الشريعة.
– ومنها الترقية المنهجية للعقلية الإسلامية، أو تكوين العقلية المقاصدية…

سادسا: سوء استعمال المقاصد

نصل إلى المسألة المتبقية، وهي أن المقاصد في هذا العصر قد تستعمل استعمالا سيئا. ولكن نحن قبل قليل كنا نتحدث أن القياس قد يستعمل استعمالا سيئا، واستعمل بعض الجهال والمغرضين القرآن استعمالا سيئا، حتى قال الشاطبي: استدل أهل التثليث بالقرآن، فقالوا: الله تعالى يقول:) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (، فمعناه أنه ثلاثة؛ لأن أقل الجمع ثلاثة، وهكذا القرآن يتحدث مرارا بصيغة الجماعة، إذاً هذا دليل على أن الأمر يتعلق بثلاثة وليس بإلـه واحد…!! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
إذن سوء الاستعمال هذا لا يبطل شيئا، حُرفت الكتب، وحرفت الأحكام، وحرفت المبادئ الجميلة. وباسم العدل والتحرير، جرى الآن احتلال العراق، ولأجل العدالة والديمقراطية والحرية… إلى آخر القائمة الطويلة من المبادئ الجميلة، ولكنها كلها استعملت بالنقيض. فسوء الاستعمال موجود للمقاصد، وموجود لغير المقاصد.
وهناك ناس يملؤون فتاواهم وبياناتهم وخطبهم بالآيات والأحاديث وأقوال السلف والخلف، والنتيجة ضلال وانحراف وتحريف.
وقديما – وليس اليوم – قال نجم الدين الطوفي، المعاصر لابن تيمية والمنتسب إلى مذهبه، قال: إذا تعارض النص مع المصلحة قدمنا المصلحة، لأن المصلحة هي مقصود الشرع، والنصوص كالوسيلة لتحقيق المقصود، فنقدم المقصد على الوسيلة… وسأعود إلى هذا في محاضرة قادمة إن شاء الله عز وجل.
اليوم شاع استعمال المقاصد بشكل سيء جدا من بعض العلمانيين، ومن بعض المؤمنين من ضعفاء الثقافة الشرعية، ممن غلبت عليهم الثقافة الغربية.
والعلمانيون المستغلون للمقاصد، والمتلاعبون بالمقاصد لإبطال الشريعة، يسيطرون الآن بصفة رسمية على مقاليد الدولة في بلدين إسلاميين، هما وتركيا وتونس. الدولة التركية ليست هي حزب العدالة والتنمية وحكومته وبرلمانه. الدولة التركية هي الجيش، والقضاء، والإعلام، والتعليم. وهذه المؤسسات كلها ما زالت في قبضة العلمانيين. أما في تونس فالأمر أسوأ، لأنهم وحدهم يصولون ويجولون في كل مرافق الدولة ومؤسساتها…
عندي الآن نموذج من تونس، شخص يدعى نور الدين بوثوري، له كتاب سماه “مقاصد الشريعة- التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد وقصور الاجتهاد”، ونشرته دار الطليعة، وهي دار نشر متخصصة في نشر الإلحاد والماركسية ومحاربة الإسلام.
نور الدين بوثوري هذا يتحدث عن التجديد المقاصدي في فقه الشيخ ابن عاشور، ويصل في النهاية إلى انتقاده، لكون مجهوداته في مقاصد الشريعة لم تأت بجديد، يقول: «فانحصر عمله في استبدال المقصد بالعلة، من دون أن يفضي ذلك إلى تقرير أحكام استنادا إلى المقاصد، تكون مخالفة للأحكام المقامة على علل الفقهاء. فالحلال ظل حلالا، والحرام حراما. وهكذا في سائر الأحكام. ويبدو أن ابن عاشور قد نزع هذا المنزع لمجرد إثبات أهلية المقاصد للبت في ما يعرض للناس من قضايا، من دون مناقضة الأحكام الشرعية المتوارثة ».
ثم يتقدم هو لينجز ما لم يجده عند ابن عاشور فيقول متحدثا باسم المسلمين المعاصرين: «المسلم اليوم لم يعد يستسيغ الكثير منها – يقصد الأحكام الشرعية – كتعدد الزوجات، والجَلد، والرجم… أو كما في العدة التي تلزم فيها المرأة المطلقة بأن تعتد ثلاثة قروء، والأرملة بأن تتربص أربعة أشهر وعشرا. والمقصد الأساسي من هذا الاحتياط إنما هو التثبت من حصول الحمل أو من عدمه، والحال أن وسائل الكشف تمكننا من معرفة ذلك يقينا، خلال نصف أقصر العدتين. بل تمكننا، في صورة ثبوت الحمل، من معرفة جنس الجنين بعيد العلوق. ولذلك ارتفعت عديد الأصوات تنادي بضرورة الاجتهاد في الأحكام النصية نفسها ».
وهكذا يبدو جليا صريحا أن الهدف من المقاصد ومن الاجتهاد والتجديد عند هؤلاء هو الإلغاء “الشرعي” للشريعة، وهو ألا يبقى الحلال حلالا ولا الحرام حراما. المطلوب هو إضفاء الشرعية الفقهية والأصولية، على الإلغاء الفعلي الذي نفذوه، ولكنه لم يشفِ غليلهم، ولم يبعد عنهم شبح الأحكام الشرعية.
على كل حال، فمثل هذه الأفكار وهذه المساعي، توجد اليوم في كل مكان. والحل ليس هو أن نخاف ونحتاط من المقاصد، ونهجرها ونغلق أبوابها، على الطريقة الحزمية، هذا غلط مزدوج…
الحل إنما هو في كلمتين: أن نملأ الفراغ، ونعطي القوس باريها. والله المستعان.

http://www.raissouni.org/def.asp?codelangue=41&id_info=2912

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.