أمثلة عن الضمانات في المجتمعات المسلمة

ظهرت في المجتمعات المسلمة أنواع كثيرة من الضمانات، وهذه أمثلة واضحة ومعبرة عنها:

أولاً: في عام الرمادة أصابت الناس في نجد والحجاز مجاعة دامت تسعة أشهر اسودت خلالها الأرض لانقطاع الأمطار… وقد بلغ عدد الذين تُمدهم الدولة بالطعام ستين ألفاً منهم من يتعشى على مائدة واحدة، وقد بلغوا عشَرة آلاف، ومنهم من يصله الطعام إلى داره” ([1]).


ثانياً: أنشأ الملك المنصور سيف الدين قلاوون المستشفى المنصوري الكبير في مصر عام 683 هـ /1284م، وكان آية من آيات الدنيا في التنظيم والترتيب:

جعل الدخول إليه والانتفاع منه مباحاً لجميع الناس من ذكر وأنثى وحر وعبد وملك ورعية، وجعل لمن يخرج منه من المرضى عند برئه كسوة، ومن مات جُهِّزَ وكُفِّنَ ودُفِن.

وعين فيه الأطباء من مختلف فروع الطب، كما وظف له الفراشين والخَدمة لخدمة المرضى، وإصلاح أماكنهم وتنظيفها وغسل ثيابهم وخدمتهم في الحمام، بحيث كان لكل مريض شخصان يقومان بخدمته، وجعل لكل مريض سريراً وفرشاً كاملاً.

وأفرد لكل طائفة من المرضى أماكن تختص بهم، ورتب فيه مكاناً يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء دروس الطب على الطلبة.

ومن أروع ما فيه أن الاستفادة منه ليست مقصورة على من يقيم فيه من المرضى، بل رتب لمن يطلب وهو في منزله ما يحتاج إليه من الأشربة والأغذية والأدوية.

وأدى هذا المستشفى عمله الإنساني الجليل حتى أخبرَ بعض أطباء العيون الذين عملوا فيه أنه كان يعالج فيه كل يوم من المرضى الداخلين إليه والناقهين الخارجين أربعة آلاف نفس، ولا يخرج منه كل من يبرأ من مرض حتى يعطى كسوة للباسه، ودراهم لنفقاته حتى لا يضطر للالتجاء إلى العمل الشاق فور خروجه.

ومن أروع ما فيه أيضاً النص في وقفيته على أن يقدم طعام كل مريض بزبدية خاصة به من غير أن يستعملها مريض آخر، ووجوب تغطيتها وإيصالها إلى المريض بهذا الشكل..

ومن أروع ما فيه أيضاً أن المؤرقين فيه من المرضى كانوا يعزلون في قاعة منفردة يشنفون فيها آذانهم بسماع ألحان الموسيقى الشجية، أو يتسلون باستماع القصص يلقيها عليهم القصاص، وكان الناقهون منهم تمثل أمامهم الروايات المضحكة، ومشاهد من الرقص البلدي (الذي يتعارفه أهل القرى)، وكان المؤذنون في المسجد الملاصق له يؤذنون في السحر قبل ميعاد الفجر بساعتين، وينشدون الأناشيد بأصوات ندية ([2]) تخفيفاً لآلام المرضى الذين يضجرهم السهر وطول الوقت ([3]).

ثالثاً: من الضمان الاجتماعي “ما كان لشراء أكفان الموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم … [و] هناك مؤسسات للقطاء واليتامى ولختانهم ورعايتهم، ومؤسسات للمقعدين والعميان والعجزة يعيشون فيها موفوري الكرامة لهم كل ما يحتاجون من سكن وغذاء ولباس وتعليم أيضاً.

وهناك مؤسسات لتحسين أوضاع المساجين ورفع مستواهم وتغذيتهم بالغذاء الواجب لصيانة صحتهم، ومؤسسات لإمداد العميان والمقعدين بمن يقودهم ويخدمهم، ومؤسسات لتزويج الشباب والفتيات العزاب ممن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور.

ومنها مؤسسات لإمداد الأمهات بالحليب والسكر … وقد كان من مبراتِ صلاح الدين أنه جعل في أحد أبواب القلعة [قلعة دمشق] ميزاباً يسيل منه الحليب ([4])، وميزاباً آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي إليه الأمهات يومين في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر…” ([5])

رابعاً: مما ذكره العلامة عبد القادر بدران في ترجمة محمود بن زنكي، المعروف بنور الدين الشهيد، أنه “توخى العدل في الأحكام والقضايا، وألان كتفه، وأظهر رأفته بالرعية، وبنى في أكثر مملكته دور العدل، وأحضر لها القضاة والفقهاء للفصل، وحضرها بنفسه في أكثر الأوقات” ([6])، “وكلما فتح الله عليه فتحاً، وزاده ولاية أسقط عن رعيته قسطاً، وزادهم رعاية حتى ارتفعت عنهم الظلامات والمكوس، واتضعت في جميع ممالكه الغرامات والنحوس، ودرت على رعاياه الأرزاق، ونفقت عندهم الأسواق، وحصل بينهم بيمينه الاتفاق، وزال ببركته العناء والشقاق” ([7]).

خامساً: لا يقوم الضمان الاجتماعي من دون الشعور بالأمن وتوفير الاطمئنان للناس، وفي المجتمع المسلم صارت لبعض الأمكنة العلمية حرمة عظيمة، ومن ذلك المدرسة العمرية ([8]).

“وكان للمدرسة حرمة ومكانة في نظر الناس والحكومة، فإذا دخلها لاجئ لا يجرؤ أحد على إخراجه منها، حتى ولا حاكم دمشق” ([9]).

كتبه : أحمد معاذ الخطيب الحسني

دمشق : ربيع الثاني 1431هـ/ نيسان 2010م

 

 


([1]) أكرم ضياء العمري، عصر الخلافة الراشدة، ص: 219

([2]) يسمى هذا المؤذن: مؤنس الغرباء أو مؤنس المرضى، وكان في مدينة فاس وقف للمؤذنين الذين يحيون الليل، وكل منهم يسبح الله نحو ساعة بصوته الرخيم.

انظر: شوقي أبو خليل، الحضارة العربية الإسلامية وموجز عن الحضارات السابقة، ص: 337.

([3]) مصطفى السباعي، من روائع حضارتنا، ص: 144ـ 145

([4]) كان يوجد في مدينة دمشق (بحي الصالحية، أعلى منطقة الجبة)  جرن حجري كبير، وكان بعض أهل الخير يقصدونه مساء فيملؤونه بالحليب، برسم الصدقة، لكي يأخذ منه كل فقير ومحتاج، وانظر: أحمد الإيبش، قتيبة الشهابي، معالم دمشق التاريخية، ص:121

([5]) مصطفى السباعي، من روائع حضارتنا، ص: 127

([6]) عبد القادر بدران، منادمة الأطلال، ص: 216

([7]) منادمة الأطلال، ص: 219

([8]) انظر في تاريخ المدرسة العمرية : محمد مطيع الحافظ، المدرسة العمرية بدمشق وفضائل مؤسسها أبي عمر محمد بن أحمد المقدسي الصالحي، دار الفكر المعاصر-بيروت/ دار الفكر-دمشق، 1402هـ/2000

([9]) محمد أحمد دهمان، في رحاب دمشق، دمشق، دار الفكر، 1402/1982

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.