وظيفة الدين وحقيقته .. للأستاذ العلامة أحمد الريسوني

لا شك أن الأديان المنزلة ـ في جوهرها ، ومن أولها لآخرها ـ إنما هي دين واحد . فحديثي عن الدين بصفة عامة ، وعن الإسلام بصفة خاصة ، هو حديث عن شيئ واحد ، و إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران/19]
تحديد ( وظيفة الإسلام ) أو ( وظيفة الدين ) ، نقطة أساسية مركزية ، في كل مسعى لفهم الدين أو لاستنباط أحكامه ، أولمناقشة بعض قضاياه ، أو بعض القضايا المرتبطة به .خاصة بعد ظهور تضارب شديد ، يصل إلى حد التضاد والتنافي ، في هذه المسألة .
فهل الدين أفيون الشعوب؟ أم الدين محرر الشعوب؟ وهل الدين نور وهداية ؟ أم هو ظلام وخرافة؟ وهل الدين هوداء السياسة ومفسدها؟ أم هو دواؤها ومصلحها؟ وهل الدين معضلة أمنية ؟ أم هو أمن واطمئنان؟ وهل الدين هومُشعل الحروب ووقودها؟ أم هو مطفئها ومُسَكنها؟ وهل الدين ينشر المحبة والوئام ؟ أم ينشر الكراهية والخصام؟ وهل الدين نعمة وسعادة ؟ أم هو محنة وشقاوة؟ وهل الدين يحل مشاكل الإنسان ؟ أم ينتجها وهو جزء منها؟
والحقيقة أن كل واحدة من هذه الثنائيات المتناقضة ، يوجد من يعتقدها ويقول بها.
ولنصطلح على تصنيف هذه الأوصاف المتضادة واختصارها في وصفين جامعين ، هما : الوجه الإيجابي ، والوجه السلبي ، للدين.
وكذلك أسباب هذا الاختلاف والتضاد ، يمكن اختصارها وإرجاعها إلى سببين
السبب الأول : هو الإيمان أو عدم الإيمان بالدين . فالمؤمنون بالدين يقولون بالوجه الإيجابي ، وغيرهم يقولون بالوجه السلبي.ولذلك بلغ الوجه السلبي أسوأ درجاته عند الماركسية التي وصفت الدين بأقذع النعوت ، وأشهرها (الدين أفيون الشعوب).
السبب الثاني : هو مستند التصور للدين ووظيفته : هل هو الدين نفسه ، برسله وكتبه وتطبيقاته المرجعية النموذجية ؟ أم هو التدين الرديئ والممارسة التاريخية السيئة المسيئة؟
فمن عول على المستند الأول ، فهو لا شك واجدٌ وجوها مُشْرقة ومُشَرفة للدين والتدين ووظائفهما الإيجابية الكثيرة.ومن عول على المستند الثاني ، فهو واجدٌ وجوها كالحة مظلمة ، لتوظيف الدين وسوء استعماله ، في مختلف الأزمان والأوطان.
ولا شك أن الإنصاف يستوجب التعويل على الدين نفسه وعلى تطبيقاته الجيدة السليمة ، وعدمَ التعويل الانتقائي على الممارسات السلبية والتأويلات الظرفية ، التي سُطرت باسم الدين ، وهي في أحسن أحوالها اجتهادات تصيب وتخطئ .
فإذا اعتمدنا على الدين نفسه في تحديد وظيفته ومقاصده ، فإننا نجد الوجه الإيجابي ـ بجميع تجلياته المشار إليها قبل قليل ـ لائحا واضحا لاغبار عليه.
ـ تطالعنا أولاً سيَرُ الأنبياء ، والأدوار الفعلية التي قاموا بها في أزمانهم ، والآثار التي خلفوها بعد أزمانهم . إنهم المؤسسون للثقافات والممهدون للحضارات.وهم مصابيح الهداية والعدالة ، ورواد التربية والتزكية . وهم دعاة مكارم الأخلاق ، من محبة وتسامح وتراحم وتكافل.وهم المجاهدون ضد الجهل والظلم والفساد …
ـ وتطالعنا النصوص الصحيحة الصريحة ، التي تحدد رسالة الدين ووظيفته ، بما لا يقبل الالتباس أو التأويل ولا يحتاج إلى شرح أو تعليق.
ـ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه/123]
ـ كقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ  [الأنبياء/107]
ـ وقوله سبحانه  لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد/25]
ـ وبشيئ من التفصيل نجد ـ مثلا ـ قوله عز وجل:
 وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا
وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا  [الإسراء/23-37]
فهذه جملة من مبادئ الإسلام وتعاليمه وأولوياته ، لا يحق لأحد تجاهلها أو تجاوزها، وهو يريد تحديد رسالته وحقيقة وظيفته في هذه الحياة . بل هي المعيار والحَكَم على كل فكر إسلامي ومدى إسلاميته.

المصدر: http://www.raissouni.org/def.asp?codelangue=41&id_info=3017

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.