هوارد زن يودع الحياة .. صانع متقدم لم نعرفه ..

هذه المعلومات النفيسة كان ينبغي أن تنشر قبل أربعة أشهر، ولكن لم تنشر وقتها بسبب توقف الموقع، وهي الآن تحت أنظار المهتمين مع الشكر الجزيل للأستاذ الفاضل أبي اسماعيل.

ريثما ينتهي الإخوة الأعداء من الجدل حول صحة ضربة الجزاء في مباراة مصر والجزائر البارحة وريثما يتنهي المعلقون السياسيون من المزايدة في كيل المديح والإطناب لخطاب أوباما أمام الكونغرس الأميركي حول حالة الإتحاد، سيمر خبر وفاة المؤرخ والكاتب المسرحي الأميركي هوارد زن دون يعيره أحد في عالمنا العربي الكئيب كثير اهتمام أو التفات، ذلك الرجل الثمانيني الذي غير وجه التاريخ الأميركي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.

لم يكن زن مؤرخاً وكاتباً مسرحياً فحسب ولكنه كان ناشطاً حقوقياً وثائراً اجتماعياً ومناضلاً إنسانياً ساهم مساهمة مؤثرة في حركة الحقوق المدنية في الستينات وكان أحد أبرز رموزها في المجال الأكاديمي. تبنى دائماً حقوق المظلومين والمستضعفين واصطف دون مواربة أو استحياء مع فئات المحرومين المهمشين ووظف كل ما امتلك من مؤهلات علمية ومواهب إبداعية للمناداة بالعدالة الاجتماعية ليكون الوطن مظلة للجميع لا تستأثر بها فئة قليلة منتفعة.

كتابه “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الأميركية” People’s History of the United States والذي بيع منه أكثر من مليوني نسخة بطبعاته المختلفة (وسيصدر منه طبعة منقحة في شهر يوليو القادم) أعاد كتابة التاريخ الأميركي من وجهة نظر الطبقات المسحوقة، من الهنود الحمر والعبيد والنساء والبيض الفقراء من غير طبقة ملاك الأراضي، التي كان عرقها ودماؤها ودموعها وعلى مدى 400 سنة وقوداً لمسيرة جحافل أصحاب المال والجاه والنفوذ والسلطان المظفرة نحو الهيمنة على العالم. واليوم لم تعد تلك الطبقات المسحوقة حكراً على أميركا ولكنها امتدت لتشمل شعوب العالم المسحوقة بما فيها شعوب منطقتنا العربية والإسلامية وما هايتي منا ببعيد.

ولمن يستمتع بتذوق الأدب باللغة الإنكليزية أقول إن الكتاب المذكور لا يؤرخ الأحداث عبر أسلوب أدبي جذاب رفيع فحسب ولكن يمكن أن يعتبر أيضاَ سفراً هاماً في تأريخ أدب المقاومة (الاجتماعية) الأميركي منذ أن وطئت أقدام المستعمر الأوروبي الأبيض أديم تلك البلاد. وأقول بلا تحفظ أني مدين لزن بقراءتي لكتابه هذا والتي زودتني بمنظور أكثر رحابة وعمقاً (في رأيي الشخصي) لتقويم أحداث الشأن الجاري في منطقتنا العربية والإسلامية والذي تلعب فيه الولايات المتحدة الأميركية في عصر العولمة دور البطولة على الدوام.

كان لزن نظرية لافتة في التدريس يلقنها لطلابه في الجامعات، أودعها في أحد كتبه واختزلها في عنوان ذلك الكتاب: لا يمكنك أن تكون حيادياً وأنت على قطار متحرك You can’t be neutral on a moving train وهو في نظريته تلك أقرب وألصق وأكثر ائتماناً على فكر مارتن لوثر كينغ القائل يوماً “حيواتنا تبدأ بالفناء يوم نصمت حيال الملمات” Our lives begin to end when we are silent about things that matter من ممن يدعي به وصلاً اليوم ويتوسل لذلك لون بشرة مشترك. مثل هذه المبادئ جديرة بالاحترام والتقدير والبث والنشر ونحن نعيش عصر حياد الأغلبية الصامتة الخانع، حياد النعاج إزاء جزاريها!

طبعاً لن يتوانى المشككون عن الطعن في سيرة زن بالقول أنه يساري متطرف أو اشتراكي النزعة. والرجل لا يخفي نزعته الاشتراكية ولايعتبر ذللك تهمة بل يشير إلى الاتحاد السوفييتي بأنه المثال العملي الرديء الذي أكسب الاشتراكية سمعتها السيئة وهو يتبنى أنموذجاً اشتراكيأ يدعو إلى العدالة الاجتماعية مشابه لما هو مطبق في بعض الدول الاسكندنافية ويرافع عن ذلك الأنموذج ببراعة بما أوتي من حجة وبرهان. ولا شك أن هناك الكثير مما أختلف معه به بما في ذلك اشتراكيته حيث لا أخفي أنا الآخر منهجي الإسلامي لا سيما عندما يتعلق الأمر بليبراليته الاجتماعية العارمة، ولكن تمسك الرجل بمبادئه وتمثلها في سلوكه وحياته والذود عنها والكفاح في سبيلها على حساب موارده وأمنه الشخصي هو ما يستحق الاحترام والتنويه. فلا يصرفنك تصنيف الخصوم عن الإنتاج الوافر المبدع الثمين للرجل فإن فعلت فإنك تفوت على نفسك فرصة هائلة للاستنارة والاستفادة.

بإمكانك قراءة نعي ضافٍ لزن عبر الرابط التالي

http://www.thenation.com/blogs/notion/522763/howard_zinn_the_historian_who_made_history?rel=emailNation

واستمع إلى المقطع الصوتي التالي الذي يقراً فيه هوارد زن شخصياً فقرة رائعة بديعة من كتابه “التاريخ الشعبي ..” لن تأخذ من وقتك أكثر من ثلاث دقائق.

http://www.npr.org/templates/player/mediaPlayer.html?action=1&t=1&islist=false&id=123068426&m=123067194

ثم اقرأ رأي زن بالسنة الأولى من حكم أوباما والذي نشره في موقع ذي نايشن قبل أسبوعين فقط من وفاته.

http://www.thenation.com/doc/20100201/forum/6#zinn

أخيراً، اصنع مع نفسك معروفاً وطالع كتاباً مما كتبه الرجل واحكم بنفسك، وكنت قد أسلفت لكم بعض الأمثلة والروابط (منها ما هو بالعربية) حول هذا الموضوع في مراسلات سابقة تجدونها في الأدنى للتذكير.

وبهذه المناسبة فقد عثرت مؤخراً على ترجمة لكتاب الدكتور هوارد زن المذكور في الأدنى “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الأمريكية 1492-” وهو من إصدارات المشروع القومي للترجمة التابع للمجلس الأعلى للثقافة في مصر وقد صدر في مجلدين ترجمة الدكتور شعبان مكاوي أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة حلوان

الجزء الأول (الرقم التسلسلي 736)

الجزء الثاني (الرقم التسلسلي 794)

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.