رحلة التمدن الإسلامي

نص المحاضرة التي ألقاها رئيس جمعية التمدن الإسلامي أحمد معاذ الخطيب الحسني بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لـتأسيس الجمعية.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي سيدنا محمد وسائر رسل الله الكرام وآلهم وأصحابهم أجمعين
إخوتي الكرام … أخواتي الفاضلات … سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد : فيسر جمعية التمدن الإسلامي أن تفتتح موسمها الثقافي بمناسبة ذكرى تأسيسها الخامسة والسبعين بهذه المحاضرة عن رحلة التمدن الإسلامي ، وتتشرف بحضوركم جزاكم الله خيراً.

إن رحلة التمدن الإسلامي رحلة شاقة ابتدأت أوائلها عندما سقطت البلاد بيد المحتل الفرنسي في الرابع والعشرين من تموز عام ألف وتسعمائة وعشرين .. ثم سبب انهيار الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة الإسلامية في السابع والعشرين من رجب عام ألف وثلاثمائة وأربعة وعشرين هجرية الموافق للثالث من آذار عام ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين ميلادية .. قلقاً شديداً … وأحدث زلزالاً مدوياً …
كان انهيار الدولة العثمانية إيذاناً بمرحلة جديدة لا بد من التصدي لها ، كما أن الاحتلال الأوربي أيقظ العالم العربي والإسلامي إلى حقيقة الواقع الذي يعيشه ،( فالمشروع الغربي كان يحمل حاجاتٍ وطموحات رأسمالية توسعية ، ويحمل أيضاً أداة هذا التوسع: الإرساليات ، التعليم ، الثقافة الغربية ، الجيش ،السلعة المصنعة والرساميل ؛ فهو مشروع رأسمالي … توسعي ، و ذو صفة هجومية)[1].
تفاعلت كل العوامل في نفوس بعض الشباب المخلصين فانبثقت جمعية التمدن الإسلامي وحصلت على الاعتراف الرسمي بتاريخ 29 من ذي الحجة عام ألف وثلاثمائة وخمسين هجرية الموافق للخامس من آيار عام ألف وتسعمائة واثنين وثلاثين ميلادية ، ويقول الأستاذ أحمد مظهر العظمة: (حينما أسست جمعية التمدن الإسلامي في عام 1350هـ/1932م كانت قدما الأجنبي الدخيل على أرض الوطن ، وكانت عاداته وتوجيهاته تعمل عملها في عقول أبنائه وقلوبهم ومشاعرهم كما عملت من قبل ُ في بلاد سيطر عليها ؛ حتى حلت اللغة الفرنسية محل العربية على اللسان والأقلام ، وأصبح المسلم غير الواعي يفكر بلغة الدخيل ويتجه اتجاهه ، وكان من الواجب حيال ذلك أن تنهض جماعات بواجب الدعوة إلى تمدننا الأصيل بعقائده[2] وعباداته ولغته ومكارمه وتشريعه مع الأخذ بكل جديد نافع يرحب به الإسلام من حضارة الغرب ، ولاسيما الصناعة والعلم ، والتحذير من إلحاده وعلمانيته وفساده وما إلى ذلك مما يؤدي إلى انحلال الأمة وانحدارها في مزالق الذل والضياع.
وقامت جمعية التمدن الإسلامي ، وكانت دعوتها إلى الإسلام الصافي الذي بين الحقوق والواجبات ، وأثاب وعاقب بعدل وحكمة بعيداً عن الجور والبدع والأوهام ….
لقد أسست جمعية التمدن الإسلامي لتحذر الناس الإلحاد وأمثال هذه الضلالات والمنكرات وتأخذ بأيديهم إلى الإسلام المشرق ، دين الهداية والمدنية والسعادة والتسامح الحق والحضارة المثلى ، وساعدها على ذلك إصدار مجلتها عام 1354هـ/1935م ، إذ كانت ولا تزال لسان حالها في دعوتها الإصلاحية الشاملة بمعناها الإسلامي العام”[3].
إذاً فلقد كان رجال التمدن بعيدي الغور وأدركوا أن تضعضع الكيان الإسلامي و قدوم المحتل شيء لا يقاوم بالانفعالات والعواطف وعندما يأتي المحتل فإنه يأتي ومعه حضارة وثقافة وتشريعات وآداب وفنون وفلسفة وكل ذلك لا بد من المقابلة له بما هو أعمق منه وبما يفوقة تأثيراً.
يقول العلامة الدكتور عبد الكريم اليافي في كتابه: الدين والإحياء الروحي الصفحة السادسة عشرة : “لقد تبلور جزء من المشاعر الدينية في سورية أول الأمر في جمعية التمدن الإسلامي التي تأسست عام 1932 ألف وتسعمائة واثنين وثلاثين وعكفت على إصدار مجلتها الشهرية ومنشوراتها المتعددة والقيام ببعض المحاضرات العامة ولكنها كلها تدور حول الإسلام والحياة الاجتماعية.
لم يكن نظر التمدن الإسلامي إلى الحضارة الغربية نظر القبول أو العداء بل نظر الواقع والإنصاف والمقابلة ، ويقول الأستاذ العظمة في ذلك: (وحضارة الغرب منها الصالح ، وهو إسلامي بالفطرة أو النسب ، ومنها المضل الذي لايُسمع معه حداء قافلتنا المنبعث من أعماق ماض رشيد مجيد …. فدعوة هذه المجلة إذاً ، إنسانية عامة إذ الإسلام صلاح عالمي ، لا ضرر فيه ولا ضرار ، والخلق كلهم بنظره عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ، وأكرمهم عند الله أتقاهم ، فلا غنى للعالم عن الإسلام كما لا غنى له عن الشمس)[4].
كان منهج الجمعية ولا يزال منهج اتباع الدليل من الكتاب والسنة مع إدراك عميق لمقاصد الشريعة، وانفتاح وتعاون مع كافة التيارات الإسلامية، دون انغلاق ولا تعصب ولا تكفير، مع اهتمام بالغ بأحوال الأمة و سد ثغراتها على كل صعيد، وإدراك عميق لرسالة الإسلام وعالميته ومدنيته.
إن رقي فكر التمدن لم يأت من فراغ فقد كان مؤسسو الجمعية الأوائل من العلماء وبقي دائماً للعلماء الدور الأول فيها ، وأول رئيس للجمعية هو الشيخ حمدي السفرجلاني الأسطواني وأول مجلس إدارة تألف من السادة: عبد الفتاح الإمام، عبد الرحمن الخاني، أحمد مظهر العظمة، عبد الحكيم المنير،أحمد حلمي العلاف، عبد الحميد كريم.
ضمت الجمعية (وخلال الأزمان المختلفة) دائماً بعض كبار علماء ومفكري الشام ومنهم على سبيل المثال: القاضي الشيخ حسن الشطي، الطبيب اللغوي محمد جميل الخاني (نقيب أطباء سورية)، العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار ، العالم والمفكر والأديب أحمد مظهر العظمة ، العالم المفسر عبد الفتاح الإمام ، العالم الحقوقي محمد علي ظبيان، العلامة المؤرخ محمد أحمد دهمان ، العلامة المحقق محمد سعيد الباني، العلامة الأستاذ عز الدين علم الدين التنوخي، العلامة الأستاذ سعيد الأفغاني ، الفقيه العلامة مصطفى الزرقا، العلامة الطبيب البارع حمدي الخياط ، العالم المفكر المجاهد محمد بن كمال الخطيب …خطيب الأموي سيدي الوالد محمد أبو الفرج الخطيب وآخرون رحمهم الله جميعاً . [انظر في حديث الصور لوحة تضم بعض مؤسسي الجمعية].
كان هدف الجمعية منذ البداية واضحاً للمؤسسين، وأخذ بداية صيغة المحافظة على الآداب الإسلامية، ونشر الفضيلة والأخلاق وبث المعارف … ثم أخذ صيغته النهائية فحددت الجمعية غايتها بأنها : تبيان الإسلام تبياناً صحيحاً شاملاً لجميع نواحي دعوته وثقافته ومكارمه وعدالته وحضارته، والعمل على تحقيق ذلك. وتتذرع الجمعية بالوسائل المشروعة ومنها:
‌أ- النشر في مجلتها وسواها من الصحف.
‌ب- النشر في منشورات خاصة.
‌ج- المؤلفات وطباعتها وإذاعتها والترجمة والتعريب.
‌د- الخطب والدروس والمحاضرات والمدارس والأندية،
‌ه- المساعي الرسمية والشعبية،
‌و- التعاون والبر المستطاعان على أنواعهما والمساعدة في بناء المساجد،
‌ز- الإسعاف والمعالجة للفقراء المرضى.

– هناك إجحاف حقيقي بحق الجمعية من القريب والبعيد … ولنبدأ من القريب فالعديد ممن ترجم للعلامة البيطار لم يذكر أية كلمة تشير إلى فعاليته في التمدن وأنه كان نائب الرئيس فيها وكذلك مايتعلق بالمؤرخ محمد أحمد دهمان، والعلامة الأفغاني وجميل سلطان وعشرات غيرهم … بل إن أحداً لم يذكر أن جزءاً من نشاط الشيخ علي الطنطاوي إنما كان بإشراف ورعاية التمدن وأنه مع شيخه الأهم العلامة البيطار كانا يمشيان باسم الجمعية ويحملان فكرها ويلقيان الدروس باسمها …
أما الغريب فيكفي ما وقع فيه المستشرق الألماني يوهانس رايسنر في كتابه عن الحركات الإسلامية في سورية حيث صنف الأستاذ العظمة ضمن خط معين وهو الرجل الذي لم ينتم إلى أية جماعة غير التمدن وإن كان على صلة متينة جداً بكل التيارات الإسلامية من حوله… وربما توهم رايسنر أن صلات العظمة الواسعة قد جعلته عضواً في هذه الجماعة أو تلك … وذكر رايسنر أيضاً أن محمد جميل الخاني يبدو أنه “العضو الوحيد في جمعية التمدن الإسلامي الذي أتم دراسته في أوربا إذ درس الطب في جامعة السوربون (فرنسا)”[5] ورغم أن الدراسة في أوربة لا تزيد رجال التمدن مدنية ولا تضيف إلى مكانتهم شيئاً إلا أن الأوهام ينبغي دفعها ففي الجزء الثالث من السنة الخامسة عام ألف وثلاثمائة وثمانية وخمسين هجرية جاء مايلي: “عاد الأستاذ الحقوقي (عضو الجمعية) ووكيل المجلة في باريز السيد عزة طرابلسي بعد عام قضاه في الدراسة الحقوقية لنيل شهادة الدكتوراة”. كما أن الدكتور جميل سلطان قد درس أيضاً في أوربة .. وكذلك العديد ممن لايتسع المجال لذكرهم .
كما يقول رايسنر أن المهندس عمر عدنان الشلق من مؤسسي الجمعية ، وهو العضو الوحيد الذي تخرج من كلية، ومارس مهنة هندسية من بين أعضاء منهم عدد لابأس به من الأطباء” بينما جاء في ترجمة عبد الغني القادري في دورية (من هو) أنه كان منتمياً إلى جمعية التمدن الإسلامي، و”نال شهادة الهندسة من مدرسة الطرق والجسور للحكومة الفرنسية في باريس”[6].
عانت الجمعية حقيقة من التهميش وغمط الحق ولم تعط لا هي ولا رجالها حقهم … وفي استقصاء سريع لأسباب ذلك من خلال مقابلات شفهية مع بعض الدعاة القدماء انحصرت أهم الاسباب فيما يلي:
تواضع رجال التمدن وعدم بحثهم عن الشهرة .. (رأي العديد من الدعاة) ..
كل منهم كان يحمل الهموم الكثيرة ويقوم بالأعمال العديدة مما لم يمكنهم من إنشاء كيان خاص للتمدن (الأستاذ اللبابيدي).
سبق رجال التمدن عصرهم فلم يدرك الكثيرون قيمة ماكانوا يدعون إليه (الدكتور عبد الكريم اليافي).
حاصرتهم أسوار الحزبية في الطريق .. (الأستاذ عمر عبيد حسنة)..

يلفت النظر الوضع العلمي لرجال التمدن ثم مكانتهم الاجتماعية والبيئة التي انحدروا منها ، وهذا برأيي سبب الثراء المدهش في فكر الجمعية ، وبعد نظرها ، وصلاتها الدافئة مع كافة الاتجاهات الإسلامية التي حولتها ، ثم قدرتها على التواصل وفهم كافة أطراف المجتمع بل الاستفادة من الأنماط الثقافية المغايرة ، رغم أنها لم تبلور نفسها في جماعة ، بل بقيت حتى اليوم جمعية ، تنطلق بفكر قوي يلم تحته شتات الكثيرين ، وفيما يلي تراجم بعض رجال الجمعية مع الاعتذار عن ذكر الكثيرين ممن لا يمكن حصر مآثرهم هنا. :
1- محمد حمدي الإسطواني (السفرجلاني)[7] : (1304-1382هـ/1886-1962م) ولد بدمشق وأخذ عن علمائها وخصوصاً مفتي الشام عطا الكسم، واهتم بالمخطوطات وعمل بتجارة الكتب، وكان من المناهضين لسياسة التتريك، وأحد رافعي العلم العربي على السراي بعد انسحاب الأتراك، ثم عين عضواً في اللجنة الوطنية العليا للحفاظ على استقلال البلاد، والتي صارت توجه المقاومة ضد الفرنسيين، وتمد المجاهدين بالمال والسلاح، وخرج إلى الأردن ففلسطين وراء الملك فيصل الأول ومعه الشيخ كامل القصاب والشاعر خير الدين الزركلي، وبعد اضطرابات في دمشق اعتقل ومعه نقيب الأشراف الشيخ سعيد الحمزاوي، ولمدة ستة أشهر في قلعة دمشق، والمترجم من مؤسسي جمعية الهداية الإسلامية.
كان الإسطواني من أهم مؤسسي جمعية التمدن الإسلامي، وأول رئيس لها، وباسمه صدرت الرخصة الرسمية[8].
2- محمد جميل الخاني: محمد جميل بن محي الدين الخاني : (1310-1371هـ/1892-1951م) تولى رئاسة الجمعية لغاية[9] شعبان 1354 ، وهو عالم وباحث ومفكر ومؤلف ونقيب لأطباء سورية
وكان من أهم رواد التعريب في كلية الطب بجامعة دمشق[10] ، ستة اشخاص منهم اثنان من أعضاء الجمعية الأساسيين هما: الدكتور أحمد حمدي الخياط ، والدكتور محمد جميل الخاني .
1- محمد حسن الشطي : (1297- 1382هـ= 1879-1962م)[11] :
تلقى العلوم الابتدائية في المدارس الأهلية والعسكرية ، وأخذ عن شقيقيه: الشيخ عمر والشيخ مراد وعمه الشيخ أحمد ، وحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ عبد الله الحموي ، والشيخ أبي الصفا المالكي ، ودرس علوم العربية على مفتي الشام الشيخ عطا الله الكسم ، والشيخ محمد عبده العربيلي ، وحضر دروس الشيخ بدر الدين الحسني ، والشيخ بكري العطار ، وأخذ الخط عن الخطاط مصطفى السباعي ، والخطاط رسا.
بدأ كاتباً ثم رئيساً للكتاب في محكمة دمشق ثم دوما ، ثم قاضياً في النبك ثم دوما ، ثم دمشق.
سيدي الوالد الشيخ محمد أبو الفرج الخطيب الحسني: خطيب جامع بني أمية الكبير لأكثر من أربعين عاماً ومن مؤسسي العديد من الهيئات الإسلامية ، لازم بعض كبار العلماء، تخرج من الأزهر وعمل في الحقل الإسلامي من كافة أبوابه، وهو عضو مؤسس لجمعية التمدن في طورها الثاني في أوائل الخمسينات، ومن طرائف التاريخ أنه نال كمرشح مستقل في انتخابات كانون الأول 1961م عدداً من الأصوات بلغ (11275)[12] صوتاً بينما نال صلاح الدين البيطار (11381) صوتاً مع أن وراءه حزباً بكامله ، ويكفي في ترجمته أنه صاحب العمامة التي لم تلوث بالنفاق، وقد كان له دور شديد الأهمية في الحفاظ على الجمعية مما هدد كيانها في فترة الثمانينات العاصفة.
محمد ظهير الكزبري[13] : محمد ظهير الدين بن محمد رمزي المنير الشهير بالكزبري الحسيني، ولد عام 1910م ، ينحدر من أعرق أسر العلم في الشام .
الأمين العام لوزارة الأوقاف ، شغل وظائف رئاسة التفتيش في الأوقاف ، وأمين سر المجلس الإسلامي الأعلى، وعضو لجنة الأوقاف العليا ،ومديراً لأوقاف حلب، وعضو مجلس تأديب موظفي الدولة، وعضواً مفوضاً في شركة نجيب باقي التجارية المساهمة، ورئيساً لمجلس إدارة جمعية التمدن الإسلامي.
استفاد وتلقى العلم عن العديد من العلماء ، وأبرزهم : عبد القادر المبارك وسليم الجندي ، وعبد الرحمن سلام (أمين الفتوى في بيروت).
عرف بالاستقامة الشديدة ونظافة اليد واللطف البالغ، وله فضل عظيم في المحافظة على جمعية التمدن الإسلامي خلال ظروف الثمانينات العاصفة، وقد كان تمكنه القانوني، وطول باله من أهم الأسباب التي مكنته من درء الأذى عن الجمعية. واختير بعد استقالته رئيساً فخرياً للجمعية مدى الحياة …
أما أهم رجلين على الإطلاق في التمدن فهما العلامة الأديب أحمد مظهر العظمة ومحمد بن كمال الخطيب الحسني . [انظر ترجمتهما في الموقع : أعلام – راحلون].
وأجدني عاجزاً عن إيفاء الرجلين حقهما … ولعلنا نخصص محاضرة كاملة عن كل منهما بل عن كل رجل من رجال التمدن الذين عملوا بصمت وبذلوا أعمارهم بل بذل بعضهم قوت أولاده ونور عينيه ليستمر التمدن الإسلامي وأقول باختصار أن الأستاذ العظمة ينحدر من أعرق الأسر التركمانية وقد ولد عام ألف وتسعمائة وتسعة وحفظ القرآن الكريم ولازم العلماء ثم درس الفلسفة وتخرج من الجامعة دارساً الحقوق والآداب عام 1935 م وتمكن من الأدب الفرنسي.
دعا إلى تأسيس جمعية التمدن الإسلامي بدمشق عام 1350هـ ـ 1932م، وألقى باسمها عام 1351هجري أولى محاضراته في قاعة المجمع العلمي العربي بمناسبة ذكرى المولد النبوي، وبقي أميناً لسرها حتى توفي آخر رؤسائها العالم القاضي الجليل الشيخ محمد حسن الشطي عام 1383 هـ ـ 1962م فانتخب الأستاذ العظمة رئيساً لها، وقد كان ينهض في الحالتين بمعظم أعمالها، ومنها رئاسة تحرير مجلتها التي تطوع لها منذ اصدارها في ربيع الأول من عام 1354هـ ـ نيسان 1935م حتى وفاته.

كتب الأستاذ في التفسير والسنة والعقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق والتشريع والتربية والحضارة والمدنية والعلم والثقافة والمجتمع والتراجم والخطابة. ودرس في حلب وبغداد.
عرف عنه اللطف الشديد والتهذيب البالغ الذي لم يكن يدانيه فيه أحد وقد اختير وزيراً أكثر من مرة وآخر موقع تولاه هو رئاسة الهيئة العامة لتفتيش الدولة .وقد أفنى حياته وبقي رغم (مرض باركنسون الذي أصابه) وقد تجاوز السبعين من عمره يتابع كل صغيرة وكبيرة في الجمعية ويحرص أن تبقى ضمن الخط النظيف الذي خطته في الأمة ، ويقبض بيده المرتجفة على القلم ليكتب فصولاً رائعة من الوفاء والثبات.
أما الرجل الثاني فهو الداعية المجاهد أحمد بن كمال الخطيب الحسني والذي فقد بصره في سنوات عمره الأخيرة لعظيم ما أجهد فيه نفسه من نصرة الإسلام ومدنيته ،
تجرع اليتم باستشهاد والده ونشأ عصامياً وشق طريقه الصعب في الحياة حتى تخرج من كلية الحقوق بجامعة دمشق ، وقد انخرط الأستاذ في نشاطات كثيرة وطنية وإسلامية ، أما أهم خط أثَّر في حياة الأستاذ رحمه الله فهو بلا ريب خط جمعية التمدن الإسلامي ، وهو أحد أقدم رجالها وأمين سرها ثم مديراً مجلتها ، وأفنى شبابه فيها وكانت الجمعية همه وحياته وسعادته ورغم الطريق الطويل المليء بالمصاعب والمحن .
ظهرت نجابة الأستاذ خطيباً وكاتباً ومفكراً منذ بواكير شبابه ، ويذكر الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته أنه قد اقترح تأليف لجنة تقيم الحق وتجمع بين التيارات الإسلامية وانتخبت اللجنة من ثلاثة وهم الأستاذ محمد كمال الخطيب، والشيخ ياسين عرفة، والشيخ علي الطنطاوي).
لم يترك الأستاذ نوعاً من العمل الخيري والاجتماعي لم يقتحمه فكان من مؤسسي ميتم سيد قريش، ومن مؤسسي جمعية رعاية المكفوفين، كما شارك في الإدارة والتأسيس والتدريس في العديد من المدارس وخصوصاً مايهتم منها بمكافحة الأمية، واختير مديراً للتعليم الخاص في وقد تأثر بشكل كبير بقريبه الأستاذ محب الدين الخطيب وطريقته في الحركة والتفكير.
ألف الأستاذ العديد من الكتب والمئات من المقالات وآلاف الخطب وكان للحياة الصعبة والمجهدة التي عاشها والسجون التي فتحت له أثر شديد على جسده النحيل ، ففقد بصره نهائياً قبل وفاته بثمانية أعوام وهو صابر محتسب.وغمط حقه حياً وميتاً ( توفي في 18 ربيع الثاني عام 1421هـ الموافق 20 تموز 2000م).
حياة رجال التمدن رحلة طويلة من المحن والجهاد والبذل الذي لايعرف الحدود لهذا الدين العظيم وكثيرون لم يعرفوا ماقدمه رجال التمدن لهذا الدين ومدنيته ولكنهم مضوا أوفياء أنقياء وبقوا منارات عظيمة في درب الإسلام ومدنيته.
أهم الأنشطة الدعوية والخيرية التي قامت بها الجمعية
لقد قامت الجمعية بالكثير من الأنشطة وأهمها:
1- المحاضرات: وكانت تعقدها في المجمع العلمي العربي، وقد ألقت هناك عشرات المحاضرات وكان من أجملها المحاضرات التي كانت بمناسبة ذكرى ولادة النبي الهادي عليه الصلاة والسلام ، أوالمحاضرات التعريفية ببعض العلماء الراحلين كالشيخ أحمد النويلاتي شيخ القراء الشيخ عبد الله المنجد والمفسر عبد الله العلمي وغيرهم ممن بقيت تراجمهم محفوظة بفضل دعاة التمدن ورجاله والتي قدموها للناس ثم أودعوها سطور مجلتهم. وتضم ثنايا مجلته بعض أروع الأشعار والكلمات وأذكر مثالاً عن ذلك قصيدة جميلة ألقاها الأديب عبد السلام الجزائري عنوانها : “سأظل الحياة باسمك صداحاً”[14] ، وهي من قصائد حفلة التمدن الإسلامي بمناسبة المولد النبوي الشريف وقد جاء فيها :
أي ذكرى أهجتها أي ذكرى[15]

فاستهلت على شفاهي شعرا

أنت ألهمتني النشيدَ وأوحيـ

ـتَ لي اللحن يعربياً أغـرا

أنت أرعشت أنمُلي فوق أوتا

ري فسالت على رَبابي سحرا

خفق القلب عند ذكراك يهفو

وعلت في فمي التسابيح تَترى

وجناحي المَهيـض واهٍ مُعَنىَّ

وعلى مخلبي دمــائي حُمرا

رغم دنيا الأذى وغدر زماني

عِشت حراً وسوف أُدفن حرا

أمةٌ أخجلَ الزمان كَراهـا

واعتراها الهوانُ طوراً فطورا

ذَكِّري قومي الغفاة زمانـا

ذكريهم قد تنفع اليومَ ذكرى

وأغاني الجراح أشجى أغانٍ

هدهدتها الآلام عصراً فعصرا

فإذا ما أسكبتُ دمعي لحناً

يوم ميلادكَ الوضيء فعُـذرا

هي ذكراكَ قد أثارت شجوني

هي ذكراكَ يالها اليوم ذكرى

2-الخطب والحفلات: وقد ملأ رجال التمدن فراغاً هائلاً بمحاضراتهم المدوية ووالتي كان على رأسها العلامة البيطار والأستاذان العظمة والخطيب ، إضافة إلى الشيخ علي الطنطاوي والتنوخي والأفغاني وغيرهم …وقد استضافت الجمعية يوماً مولانا أبي الحسن الندوي ليلقي محاضرة لديها وقد أشار إلى ذلك في كتبه …
3- الدروس العامة في مركزها، أو في مساجد دمشق: حيث توزع علماء الجمعية بين المساجد مما كان له أكبر الأثر في طرح فهم واع متمدن للإسلام. وجاء في عدد رمضان لعام ألف وثلاثمائة وأربعة وستون هجرية مايلي:”يلقى باسم جمعية التمدن الإسلامي كل يوم درس بعد العصر في جامع الأحمدية (في سوق الحميدية) وكل ليلة بعد العشاء في جامع المرابط (في المهاجرين)، وتلقى خطبة بعد صلاة الجمعة في جامع عيسى باشا (الدرويشية) فنحث الجمهور على سماع هذه الدروس التوجيهية العظيمة النفع والفائدة”[16]
4- مجلة التمدن الإسلامي: صدر أول أعداد المجلة عام ألف وتسعمائة وخمسة وثلاثين واستمرت إلى عام ألف وتسعمائة واثنين وثمانين قبل أن تفرض ظروف قاهرة تجمدها في عام ألف وتسعمائة وثلاثة وثمانين وقد كتب فيها كبار علماء العالم الإسلامي ومفكريه مما لايمكن استيفاؤه الآن وفقط نذكر على سبيل المثال أسماء العلماء الأساتذة : أحمد مظهر العظمة، محمد بن كمال الخطيب، محمد أحمد دهمان، محمد بهجة البيطار ، ، سعيد الأفغاني ، عز الدين التنوخي ، مصطفى الزرقا، ، سليم الجندي ، محمد كرد علي ، محمد جميل سلطان، أبو الحسن الندوي ، أبو الأعلى المودودي ، علي الطنطاوي ، مصطفى السباعي ، محمد سعيد العرفي ، محمد الغزالي ، ناصر الدين الألباني ، وهبي سليمان الغاوجي ، سعيد رمضان البوطي ، صالح فرفور .. عمر رضا كحالة، عبد الرحمن الخاني، محمد الخضر حسين، محمود شيث خطاب،..صلاح الدين المنجد
وكثيرون آخرون رحمهم الله جميعاً.
يقول شيخ الجامع الأزهر : محمد الخضر حسين ، عندما زار دمشق خلال آخر ربيع الآخر 1356هـ/أوائل تموز 1937م (وأنشئت منذ سنين أيضاً جمعية التمدن الإسلامي ، وحضرات أعضاء جمعيتنا يطلعون على مجلتها (التمدن الإسلامي) ، ويقرأون ماينشر في هذه المجلة من المباحث الدينية والاجتماعية والتاريخية المفيدة ، ومن حضرات أعضائها القائمين بشؤونها الأستاذ حسن الشطي ، والأستاذ الشيخ بهجة البيطار ، والأستاذ الشيخ علي ظبيان ، والأستاذ أحمد العظمة ، ولهذه الجمعية أيضاً فضل كبير في تقويم سياسة الحكومة متى انحرفت عن سبيل الحق)[17].
5- المطبوعات: لقد بلغ عدد العناوين التي طبعتها الجمعية قريباً من مائة عنوان ، من أوائلها كتاب: تاريخ البيمارستانات في الإسلام وألفه الدكتور أحمد عيسى وأهداه للتمدن وقد قدم له الأستاذ سعيد الأفغاني عضو الجمعية، ومن روائع ماطبعته الجمعية كتاب: حضارتنا للأستاذ العظمة وقد طبع عام ألف وتسعمائة وستة وأربعين، وهو أعمق وأدق بكثير وأسبق من كتاب : من روائع حضارتنا الذي ألفه العلامة الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله. وحرصاً من الجمعية على نقاء الاعتقاد وخلو عقول المسلمين من الخرافات فقد طبعت كتاباً عنوانه: مولد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ألفه الأستاذ خير الدين وانلي بإشراف الجمعية وتوجيه الأستاذ محمود مهدي الاستانبولي وملأه بأخبار صفاته وشمائله وما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام ليكون ذكرى صالحة للمؤمن يقتدي فيها بنبيه في كل حين، وقد أضاف إليه الأشعار الجميلة التي سارت بذكرها الركبان، ومنها النشيد الشهير: حطموا ظلم الليالي واسبقوا ركب المعالي
والذي انتشر في سائر العالم الإسلامي، وقد قدم للكتاب ثلة من أهل العلم تمثل أوسع طيف إسلامي، فقرظ الكتاب العلامة أبو الخير الميداني والدكتور أبي اليسر عابدين، والشيخ محمد جميل الشطي، والشيخ أحمد كفتارو والشيخ حسن حبنكة رحمهم الله.
أما الكتيب الأخير الذي نشير إليه فهو كتاب صغير عنوانه : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كلمات بأقلام نخبة من الباحثين والأدباء المسيحيين المنصفين … وقد ذكر الأديب المهجري إلياس قنصل في رسالة خاصة إلى الأستاذ العظمة أنه يعتزم ترجمة أجزاء منه إلى اللغة ألإسبانية.
6-الفتاوى: شارك علماء الجمعية في تقديم آلاف الفتاوى التي تتحرى العقيدة الصافية والدين السمح وتجمع بين ثبات الإسلام ومرونته وأسماء علماء الجمعية ممن رحل إلى الله وممن بقي نفعنا الله بهم شاهدة على مدرستهم وفقههم وما قدموه للأمة من خير.
7- المكتبة: قامت الجمعية باقتناء مكتبة تحوي أمهات المراجع، وجعلتها في خدمة الباحثين والطلاب، “فغدا في المكتبة أكثر من ألف وستمائة كتاب، عدا الكتب المدرسية، والمجلات والصحف العديدة، وكانت المكتبة منهلاً عذباً لبعض الأساتذة والطلاب، وكان من هؤلاء من يرشدون إلى المصادر، ويوجهون في البحوث”[18]، وقد أتحف الكثير من العلماء والمؤلفين المكتبة بنسخ من كتبهم مقرونة بالإهداء[19]، وهناك كتب عليها تواقيع من أهداها تدل على ماكان للجمعية من مكانة بين العلماء والدعاة[20]. ويا للأسف فإن بعض الناس استغل فترة ضعف مرت بها الجمعية منذ أكثر من حوالي عشرين عاماً فسرق بعض ما فيها وضمه إلى مكتبته وكأنه ظن أن الحقوق تضيع عند غيبة أصحابها.
وكانت الجمعية قد صنعت لمشتركي المكتبة بطاقات خاصة، وأوقات محددة لضمان الفائدة.
8-القضايا العامة: لايكاد يوجد قضية عامة لم تشارك الجمعية بحملها بشكل إيجابي، ولقد كانت أول المنبهين إلى خطر السرطان الصهيوني في المنطقة، وشاركت في الضغط على الحكومة الإيطالية لإطلاق سراح بعض المجاهدين وتم الأمر، كما قادت الجمعيات الإسلامية للمطالبة بحق تقرير المصير لكشمير، وغدا الأستاذ العظمة الناطق باسم جمعية العلماء في الخمسينات خلال الحملة الشعبية لفضح الممارسات الاستعمارية الفرنسية وتحرير الشعب الجزائري.
9- المدارس: لا حظ رجال التمدن أن الثقافة الدخيلة من أخطر ما يصيب الأمة فأنشئوا مدرسة التمدن الإسلامي الثانوية وكانت من أرقى المدارس في وقتها، والذي لفت نظري فيها ليس فقط النخبة العلمية التي استلمت التدريس فيها ، بل وجود دروس لتعلم الرسم والموسيقى والرياضة في مدرسة تابعة لجمعية إسلامية يقوم على إدارتها كبار العلماء ، وضمن منهج سليم ليبقى حملة الإسلام على دراية بجماليات الحياة مما تلاحظ انحساره عند الكثيرين ممن يتكلمون عن أمور لم يعرفوها ولم يتذوقوها، وكما قال أحد العلماء يوماً : إن الفنون المنحرفة لايمكن أن تقابل بالصراخ والعويل على المنابر بل لا بد من فنون نظيفة تقوم مقامها.
سبق للجمعية أن أشرفت على عدة مدارس مجانية لمحو الأمية مساهمة من الجمعية في زيادة الوعي والمدنية وإخراج الناس من الجهل، ومن أبرزها مدرسة شكري القوتلي في القدم وكان المرحوم الأستاذ محمد بن كمال الخطيب الرجل الفعال جداً في الموضوع.
10- إعانة الطلاب: أشرفت الجمعية على (الرابطة الأخوية لمساعدة فقراء الطلبة) كما تعلم الكثيرون إما في مدارس الجمعية أو المدارس التي أشرفت عليها الجمعية، ومن كبار العلماء الذين تخرجوا من مدرسة التمدن العلامة الدكتور أديب الصالح .
11-أعمال البر والإحسان: وهي أوسع من أن يحصر الكلام عنها اليوم وشملت فقراء الطلاب ، والمساعدة في بناء المساكن . وتقديم الأدوية والطبابة واللباس والطعام … ومن أطرفها أن دعاة الجمعية كانوا يزورون المساجين في قلعة دمشق فيعلمونهم ويقدمون لهم المساعدة المالية الممكنة.
12- المساهمة في بناء المساجد: حيث شرعت ببناء مسجد في حي الأكراد، بمساعدة شباب من ذوي الغيرة، ومن أهم المساجد التي ساهمت الجمعية في بنائها وضمن الإطار القانوني والموافقات الرسمية مسجد (بلال) .
13- تعريف الغربيين بالإسلام: حيث”عرفت بالإسلام كثيراً من الجماعات والأفراد الغربيين في أوربا وأمريكا بتوزيعها رسالة للأستاذ محمود مهدي سبق أن طبعتها باللغة الإنكليزية للتعريف بالإسلام”[21].
ولفهم الروح الدعوية التي تحملها الجمعية نذكر ماكتبه الأستاذ أحمد مظهر العظمة [22] عن قصة داعية لم يشتهر اسمه بين الناس، ولكن لن يمحى في ديوان العاملين فعله ، وهو الشيخ سعيد القواف والذي كان يعظ حلقة في جامع بني أمية الكبير بدمشق عندما مرت به مجموعة من السائحين الأميركيين[23] فدعاهم إلى الجلوس حوله ، وأخذ يحدثهم عن محبة النبي r للناس كلهم ، ودعوته إلى سلامة الإنسانية كلها ، وأخلاقه r إلى أن قالوا: إنا نؤمن بمحمد ونعترف بعظمته! وغادروه شاكرين ، ثم ترك أحدهم له رسالة جاء فيها : “…. ونرجو أن لاتكون أصبت بسوء بعد مفارقتنا إياك ، إذ ظهر لنا أن حسن الشعور الذي أظهرته نحونا لم يرق لهم [بعض من كانوا في المسجد] ، ولقد امتلأت قلوبنا سروراً عندما رأيناك شديد الغيرة تستمد حديثك من الله تعالى.
كنت أود جداً أن أكتب جميع ماذكرته لنا كي أتلوه على طلاب مدرسة أتولى إدارتها ، فيها أربعة عشر ألف طالب ، وسأقرر لهم ما أذكره مما تفضلت به علينا لكي يخرج من قلوبهم ما أدخل فيها من ضغن على الإسلام بسبب سوء التفاهم ، وإني مستعد لتقديم كل خدمة تطلبها مني … وذلك للغرض العظيم الذي أنت قائم لأجله وهو محبة الناس أجمع.
وعقب الأستاذ العظمة بعبارات منها: … لقد أمسينا في عيشنا الغفول حين أصبحنا لا نشعرأننا جنود سلام نعمل لله وحده ، فمتى نعود جنوداً فلا نبقى عبيداً للنفس والهوى والدخيل”[24].
ومازال بعض أعضاء الجمعية على أتم استعداد لعون كل ضيف وباحث ممن يقصدون الجمعية يبحثون في فكرها عن مدنية الإسلام وصفائه.
إن البشرية تئن حقيقة وتتألم وهي بحاجة لمن يمد لها يد الرحمة فلقد طحنها المفسدون في الأرض ومحوا كرامتها ولابد من منقذ ، فمن تراه يكون غير المؤمنين المصلحين الرحماء.
14- إحياء اللغة العربية: كان للجمعية في أميركة الجنوبية وحدها أكثر من ثلاثمائة مشترك في فترة الخمسينات، وسبب هذا الإقبال مرده إلى ماكانت تقدمه التمدن من زاد للمهاجرين يربطهم ببلادهم ولغتهم إن لم يكن بعقيدتهم ودينهم، حتى إن الأديب المهجري الكبير إلياس قنصل أرسل رسالة بتاريخ 29/9/1975م يطلب فيها إرسال نسخ من كتاب : (النبي محمد r، كلمات بأقلام نخبة من الباحثين والأدباء المسيحيين المنصفين) والذي نشرته الجمعية عام 1964م، مردفاً: “وأغتنم السانحة لأسجل عميق إعجابي بما قمتم به وتقومون من جهود موفقة جبارة لرفع شأن العروبة، وأسأل الله أن يديمكم سنداً لها وتفضلوا بقبول فائق احترامي .. [25]”، وقد قامت الجمعية بإرسال بعض الكتب هدية إليه.
15- النشرات الإصلاحية: ومنها نشرات لتثقيف الحجاج كان توزع في الديار المقدسة ونشرات عن ضرر القمار والربا وغيرها … كما صدرت نشرات بالاتفاق مع الجمعيات الإسلامية الأخرى لمعالجة بعض القضايا المهمة.
16- الاهتمام بالشكاوى الاجتماعية: حيث كان أعضاء الجمعية ولا يزال العديد منهم مفاتيح للخير يقتطعون من أوقاتهم من أجل حل الخصومات وإصلاح ذات البين وإعادة الناس إلى الألفة والسكينة والتراحم.
17- الرعاية الطبية: أسست الجمعية مستوصفاً لها عام ألف وتسعمائة وتسعة وخمسين وبقي مستمراً في العمل حتى اليوم ، ونقدر بأنه قد انتفع به مايقارب النصف مليون مريض إلى الآن وبأجور رمزية جداً .. ولدينا اليوم أربع طبيبات يغطين الأمراض الداخلية والنسائية والقلبية والأطفال ، والمعاينة العادية مقدارها فقط ثلاثون ل. س. إضافة إلى المساعدات المادية للفقراء المرضى.
18- العناية بالطفل المسلم: أصدرت الجمعية سلاسل للأطفال باسم: المسلم الصغير ألحقت ببعض أعداد مجلتها، وأصدرت مكتبة الطفل (من سلسلة عظماء الإسلام) وقد خرج منها أكثر من عشرة أعداد ، كما أنها أصدرت بالاتفاق مع أحد الكتاب حكايات حارثة والتي كانت مجلة إسلامية غير مسبوقة للأطفال وصدر منها بضعة أعداد..

خصائص العمل الدعوي والفكري لدى جمعية التمدن الإسلامي: كانت جمعية التمدن المحضن الفكري، والتربة التي أخصبت وتفاعلت مع كافة الأطياف الإسلامية، وتعاملت مع الجميع بروح شديدة الانفتاح، وحاولت أن تلتقي مع كل طرف من خلال مايحمل من إيجابيات لا من خلال مايحفه من السلبيات، وكانت تشجع كل قلم وفي مجلتها نشرت سلسة الأحاديث الضعيفة للمحدث الألباني رحمه الله، وفي مجلتها كتب العلامة البوطي أول مقالة له وكانت بعنوان أمام المرآة. وعلى مائدتها تلاقي الجميع ونشرت الجمعية للجميع مؤمنة بحرية الفكر وضرورة التلاقي وأن ماينفع الناس يمكث في الأرض .
حرصت جمعية التمدن طوال حياتها على العمل العام ، والتزمت بالقانون ولو أجحف بمصالحها ولم يكن فكر التمدن يوماً فكراً تنظيمياً لجماعة ما بل بقي فكراً يستمد من الأمة ويرجع إليها، ونأت الجمعية بنفسها عن الصراعات الحزبية والسياسية ولم يكن لها توجه صدامي أو عنفي أو تكفيري لا في بداياتها ولا في استمراريتها وبقيت دعوتها قائمة على الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.

جمعية التمدن حملت فكراً سبق وقتها:
هناك أمور تلفت النظر من إدراك رجال التمدن ثوابت الإسلام وواقع الناس وعالمية الرسالة فكانوا أسبق من غيرهم إلى التعامل الإيجابي في العديد من الأمور التي لا يزال جزء من الجسم الديني عاجزاً عن تبين وجه الصواب فيها أو منكمشاً في حيرة لا يدرك السبيل الصحيح فيها.
فمن سوابق الجمعية إدراكها لوازم المواجهة الحضارية وأن مدنية الغرب ليس حلها بالسلاح بل بمدنية راقية تبقي أصلح ماعند الغربيين وتضيف إليهم ركائز الإيمان.
ومن سوابق الجمعية إدراك دور المرأة فأسست لجنة نسائية منذ عامها الأول وتلك سابقة في وسط عم الجهل فيه وكانت تعقد جلساته في منزل عضو الجمعية الدكتور سعيد السيوطي..
ويقول العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار تعقيباً على قوله تعالى : (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض .. )[26] : (وصف الله تعالى بهذه الآية المؤمنين والمؤمنات بالولاية ، وفرض عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأعطى حق هذه الولاية بشطريها : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ للرجال والنساء على السواء ، ويدخل في هذا إنكارهم على الخلفاء والملوك ورؤساء الجمهوريات والحكومات ، فالذين هجروا هذه الفريضة هم خارجون عن هؤلاء المؤمنين المنعوتين بهذا الوصف)[27] (وللمرأة الحق كل الحق بأمر الرجل بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وسلامة بيتها من جراثيم الفساد التي يحاول الرجل الشرير أن يلقح بها عياله وأطفاله … فعلى النساء أن يحذرن كل الحذر ، وأن يعلمن حق المرأة في إنكار المنكر…)[28].
وهذا كلام خطير لا يتحمله كثير من الرجال والمتدينين اليوم فما بالك به قبل ثلاثة أرباع قرن من الزمان..
أما المؤرخ العلامة محمد أحمد دهمان فيذكر في مقال له بعنوان : المرأة المسلمة : (إن مما يبهج النفوس ، ويثير العواطف أن نرى المرأة المسلمة آخذة بأسباب الرقي والحضارة ، مصافحة بيمناها القلم ، وباليسرى القرطاس ، تدبج المقالات الرائعة ، والأبحاث القيمة والمقالات المفيدة ، لقد كانت المرأة في عصور الإسلام الذهبية مثالاً للكمال الإنساني ، والترقي الحقيقي ، والعلم الصحيح ، إذ كانت المرأة المسلمة شريكة للرجل في بناء النهضة الإسلامية والتمدن الإسلامي والحضارة الإسلامية ، فقد قامت بواجبها في كل نهضة إسلامية نافعة)[29].
من سوابق التمدن أيضاً انتباهها إلى أنه مامن حضارة إلا ولها فلسفة في الفن والآداب، فعمل رجال التمدن على صياغة منهج إسلامي سليم وجعلوا لتلاميذهم دروساً في الرياضة والرسم والموسيقا … ويقول الأستاذ العظمة: إن للفن أثراً كثيراً في حياة الأمم وحضارتها فهو المرآة التي تنعكس فيها صفات الأمة …وهو موقظ لشعور الأمة الماجدة بتصوير أمجادها في كل نواحي الخير والجمال ، بكل مافي هذه الجملة من معنى ، فليت أنصار الفن التصويري يعنون بالنواحي الموقظة الفنية بدل عناية بعضهم بنواح ذات تأثير دنيئة المقاصد لا تناسب رفعة الفن)[30].
من سوابق التمدن الإسلامي إدراكهم العميق أن شعوب الأرض هي شيء غير أنظمته صلحت أوفسدت فبحثوا في أعماق الفقه والتشريع وبينما كان المناخ العلمي العام لا يذكر للناس في العلاقة مع الأمم والشعوب غير الحرب أو الجزية أو القتال ، كان رجال التمدن يذكرون مايلي: “يظن بعضهم أن الإسلام أو الجزية أو الحرب هي ماينبغي عرضه على الأعداء دون غيرها. مع أنه يجوز شرعاً مصالحتهم على شروط أخرى تكون لصالح المسلمين. فالأمر في ذلك موكول لرأي الإمام القائد”[31].
وعندما ألقى العلامة فارس الخوري كلمة حول الموضوع تعقبته مجلة التمدن فقالت: “لقد ظن العلامة فارس الخوري كما ظن كثير غيره بأن قائد المسلمين ليس له إلا عرض هذه المطالب الثلاثة على المحاربين: الإسلام أو الجزية أو القتال! مع أنه غير مقيد بها دائماً”[32].
ورغم ماكان العالم الإسلامي يعانيه ويعانيه حتى الآن من حرب واعتداء فإن ذلك لا يجوز أن يحرف الإسلام عن رسالته ولا يجوز للمسلمين أن يشربوا أخلاق خصومهم الحربية ،وقد جاء في مجلة التمدن تعليقاً على قوله تعالى: ((فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً))[33] وعند الحديث عن : نشاط الإسلام الحربي ، جاء تحت عنوان :جهادنا وقتالهم :”يظهر لنا من مجموع آيات الكتاب الكريمة الواردة في القتال ، ومن عمل النبي[r] نفسه في سننه ، ومن السيرة ، ومن تاريخ حروبه ، أن الإسلام لا يبيح حرب الاعتداء ، ولا يحل الحرب لعرض الحياة الدنيا …”[34].
من سوابق الجمعية إدراكها ماتفعله الطائفية البغيضة فكانت تحرص على ماتعتقد أنه الحق وحملت دائماً لواء الدليل الصحيح ، والحرص على الكتاب والسنة وفق منهج علماء أهل الشام الذي يجمع بين النص والمقصد ويبتعد عن البدع والخرافات، مع الحرص الشديد على المخالف ومن ذلك :
” زار دمشق للمرة الثانية السيد علي نجل سمو آغا خان ، فتفقد الاسماعيليين المرتبطين من الوجهة المذهبية بوالده ، وتبرع بإنشاء مدارس ، كما تبرع لبعض المؤسسات الخيرية ، والله سبحانه يجزي المحسنين خير الجزاء”[35] ، “فقد قال فيما قاله أن بعض جماعته ابتعدوا عن التعاليم الإسلامية وأنه سيعمل على حملهم على اتباع تلك التعاليم …. وآغا خان اشتهر بأنه من آل بيت النبوة ، فهو إذن أولى الناس بالعودة إلى ماجاء به محمد بن عبد الله r ، وهو أولى الناس بأن يجعل اللغة العربية، التي هي لغة الإسلام الرسمية ، ولغة القرآن الكريم ، ولغة محمد r اللغة الرسمية لجماعته وآل بيته ، وهو أولى الناس بأن يدافع عما أعلن الإسلام تقديسه ….. [وإن] آغا خان حريص على التضامن الإسلامي وعلى إعادة الخلافة الإسلامية ، وهذا مايحملني على أن أتوجه إلى سموه وإلى سمو نجله بأن يعملا لهذا التضامن …. وقد لمس المسلمون أن القطيعة لاتفيد الإسلام والمسلمين شيئاً …. أما الجهاد الأكبر فهو اتحاد مذهبي يعود المسلمون فيه إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه ، ويتناسون الفرقة والتعصب الذميم ، وينسون ما وقع في العصور الأولى من حروب ومشاحنات مذهبية لم يفد منها إلا أعداء الإسلام …”[36]
من سوابق الإدراك لعالمية الإسلام ورسالته وواقع الناس وحاجتهم إلى الهداية ما ورد على غلاف الجزئين 14-15 من السنة الرابعة عشرة : تقدم إدارة مجلة التمدن الإسلامي بفخر هذا البحث العلمي الفلسفي الرائع لأمين سرها الأستاذ الحقوقي محمود مهدي الاستانبولي ، وقد جاء فيه بعد التقصي أن العلماء والفلاسفة مهما تاهوا فإنهم في النهاية لايمكن لهم الانفكاك من الاعتراف بالخالق العظيم.. وأنه “ليس في الكون إلحاد مطلقاً “[37] [أي لايوجد إلحاد قطعي بل ضلال وحيرة وأوهام].
ويقول الأستاذ إحسان سامي حقي: (ومهما اختلفت الأسماء وتشعبت المسالك ، وابتعدت أو اقتربت المناهج ، فالحقيقة التي لا مناص للجميع منها أنهم يدورون حول الإسلام يتلمسون بعض أصوله ، فيقرعون بابه ولا يدخلونه حسداً وغروراً)[38] ونختم كلامنا بما قاله العلامة العظمة: (وبدهي أن دعوتنا هذه ترمي إلى حق وسلام …. وهي واضحة كأنها النهار …. وأسلوبنا مُنار بالإيمان ، مؤيد بالتجربة آخذ بالعلم ، مستند إلى العقل ، مراع للمصلحة ، مزدان بالآداب)[39].

التمدن الإسلامي اليوم : من خلال ماذكرناه فإنني أعتقد أن فكر التمدن اليوم أعظم أهمية مما مضى ودوره يبرز بأهمية أكبر والحاجة إليه أعظم ونأمل أن يقدم المسلمون إلى العالم كله الإسلام نظاماً صالحاً ومدنية قائمة على الإيمان.
دمشق / 17 جمادى الأولى 1428هـ الموافق 2 حزيران 2007م

عقيدة وعمل (عقيدة جمعية التمدن الإسلامي)

أعتقد أن الأمر كله لله تعالى، وأن سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم رسله للناس كافة، وأن القرآن الكريم – آخر كتب الله – وضامن لسعادة الدنيا والآخرة، وكل ما فيه من عالم الشهادة والغيب: كالملائكة والآخرة والجنة والنار… حق لا ريب فيه. وأتعهد بأن أتلو يومياً ما تيسر من القرآن الكريم، وأن أتمسك بالسنة المطهرة، وأن أدرس السيرة النبوية وتاريخ الصحابة الكرام، وأتفقه ما استطعت في الدين.
وأتعهد بأن أكون مستقيماً أؤدي العبادات وأبتعد عن المنكرات، فاضلاً أتحلى بالأخلاق الكريمة وأتخلى عن الأخلاق الذميمة وأتحرى العادات الإسلامية ما استطعت، وأوثر المحبة والود على التحاكم والتقاضي، فلا ألجأ إلى القضاء إلا مضطراً. واعتز بشعائر الإسلام ولغته العربية، وأتعلم وأعمل على بث العلوم والمعارف النافعة في طبقات الأمة.
أعتقد أن المسلم مطالب بالعمل والتكسب المشروع، وأن في ماله حقاً للسائل والمحروم. وأتعهد بأن أعمال لكسب وسائل عيشي، واقتصد لمستقبلي، وأؤدي زكاة مالي وأجعل جزءاً منه لأعمال الخير، وأشجع كل مشروع اقتصادي إسلامي نافع، وأرجح منتجات بلادي وبني ديني ووطني، وأنبذ الربا في أشكاله جميعاً، واستغني عن الكماليات ما أمكنني.
وأعتقد أن المسلم مسؤول عن أسرته، وأن من واجبه أن يحافظ على صحتها وعقائدها وأخلاقها. وأتعهد بأن أعمل بذلك جهدي وأن أبث أحكام الإسلام في أفراد أسرتي، ولا أدخل أبنائي أية مدرسة لا تحفظ عقائدهم وأخلاقهم، وأقاطع كل الصحف والنشرات والكتب والهيئات والفرق والأندية التي تناوئ أحكام الإسلام.
أعتقد أن من واجب المسلم العمل على إحياء مجد الإسلام بإنهاض شعوبه وإعادة تشريعه، وأن راية الإسلام يجب أن تسود البشر، وأن من قصد كل مسلم تربية العالم على قواعد الإسلام.
وأتعهد بأن أجاهد في سبيل أداء هذه الرسالة ما حييت،وأضحي في سبيلها ما استطعت. أعتقد أن المسلمين جميعاً أمة واحدة تربطها العقدية الإسلامية، وإن الإسلام يأمر أبناؤه بالإحسان إلى الناس.
وأتعهد بأن أبذل جهدي لإزالة الجفاء وتوثيق رابطة الإخاء بين جميع المسلمين. أعتقد أن السر في تأخر المسلمين ابتعادهم عن دينهم، وأن أساس الإصلاح العودة إلى تطبيق الإسلام تطبيقاً صحيحاً، وأن ذلك ممكن لو عمل له المسلمين عمله، وأن سعي جمعية التمدن الإسلامي، وما كان على شاكلتها – ومناصرة المصلحين منها ومن سواها المناصرة المرجوة؛ لما يحقق هذه الغاية الرفيعة الغالية.
وأتعهد بالثبات على دعوة الحق كدعوتها، والإخلاص لكل عمل من أعمالها الإسلامية، وأن أظل مناصراً لها ما دامت مخلصة لله
تعالى في عملها.

[1] – وجيه كوثراني ، بلاد الشام في مطلع القرن العشرين (قراءة في الوثائق) ، بيروت ، معهد الإنماء العربي ، 1980، 163.
[2] – بعقائده: درج قلم ، والأصوب أن نقول: بعقيدته ؛ إذ للمسلم عقيدة واحدة.
[3] – بيان إداري بتاريخ : 1/11/1395هـ الموافق 5/11/1975م وهو مطبوع على الآلة الكاتبة وتوجد مسودته الأصلية بخط الأستاذ أحمد مظهر العظمة رحمه الله ،
[4] – العدد الأول ، السنة الثالثة، 1356ربيع الأول ، هـ/1937م ، ص3-4.
[5] – رايسنر ، 121.
[6] – مكتب الدراسات السورية والعربية، من هو في سورية (1951)، دمشق، مطبعة العلوم والآداب، آب 1951، 593.
وقد جاء في الكتاب أنه من مواليد 1897، وهو مهندس صيانة الأبنية في الأشغال العامة للمنطقة الجنوبية.
[7] – محمد مطيع الحافظ-نزار أباظة، تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري، دمشق، دار الفكر، 1412هـ/1991م، 3(المستدرك)، 314 -316.
[8] – انظر الوثيقة :
[9] – مجلة التمدن الإسلامي ، دمشق ، السنة الأولى ، العدد السادس ، شعبان 1354 ، الغلاف الأخير ،
[10] – محمد عدنان سومان (عميد كلية الطب في جامعة دمشق) ، جامعة القاهرة ، محاضرة مع شرائح ضوئية ، 2003. الشريحة 5.
[11] – محمد مطيع الحافظ- نزار أباظة ، تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع الهجري ، ج2 ، 763.
[12] – خالد العظم ، مذكرات خالد العظم ، ط3 ، بيروت ، الدار المتحدة للنشر ، 2003م ، 3 ، 220. ويعتقد أن هناك محاولات تزوير اعترض عليها بعض المرشحين منعت من فوز الشخصيات المذكورة.
[13] – من ترجمة خطية بقلم المترجم له وجهها إلى ابن عمه الدكتور عبد الملك الكزبري-رابطة آل الكزبري، بعنوان : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى، وهي موقعة بخط المترجم له بتاريخ: 29 شوال 1417هـ/8 آذار 1997م، وتتألف من عشر صفحات.
[14] – مجلد 14- جزء1-2-3 ، ص 24.
[15] – من قصيدة ألقاها الأديب عبد السلام الجزائري بعنوان: سأظل باسمك الحياة صداحاً في حفل أقامته جمعية التمدن الإسلامي بدمشق ، ونشرته مجلة التمدن في عدد جمادى الأولى 1367هـ/نيسان 1948م.
[16] – التمدن الإسلامي، 11، 13، رمضان المبارك 1364هـ، 183.
[17] – الخضر حسين ، محمد ، جمعه وحققه علي الرضا التونسي ، الرحلات ، دم ، المطبعة التعاونية ، 1396هـ/1976م ، 123.
[18] – نشرة بعنوان: أعمال ومتبرعون لجمعية التمدن الإسلامي، 1376هـ، 4-5.
[19] – منها على سبيل المثال:
[20] – من أهمها:
[21] – نشرة :أعمال ومتبرعونن 1376هـ،6.
[22] – أحمد مظهر العظمة (1911-1982م) ، عالم ومحام ومدرس وشاعر وخطيب ؛ من كبار المفكرين والمربين الإسلاميين في بلاد الشام ، أحد مؤسسي جمعية التمدن الإسلامي وأمين سرها خمسين عاماً ، كان صاحب أخلاق رفيعة ، ولى الوزارة في سورية أوائل الستينات ، ورئاسة هيئة تفتيش الدولة ، وله مؤلفات كثيرة ، وانظر لذلك :
– أحمد العلاونة ، ذيل الأعلام ، جدة ، دار المنارة ، 1418هـ/1998م ، 34.
[23] – حدثت هذه القصة قبل مايقارب سبعين عاماً!
[24] – أحمد مظهر العظمة ، “شيخ يسمع أميركا صوت السلام الإسلامي” ، مجلة التمدن الإسلامي ، دمشق ، 3 ، (3 ، جمادى الأولى 1356هـ) ، 65-66، وقد سقنا الموضوع بتصرف يسير.
[25] – كتبت الوثيقة على الآلة الكاتبة ووقعها الأستاذ قنصل وكتب عنوانه بخطه، وتحته خط الأستاذ العظمة للكتب التي أرسلت إلى قنصل.
[26] – سورة التوبة ، الآية 73.
[27] – العدد الأول ، السنة الثالثة، 1356ربيع الأول ، هـ/1937م ، ص5.
[28] – العدد الأول ، السنة الثالثة، 1356ربيع الأول ، هـ/1937م ، ص6.
[29] – العدد الأول ، السنة الثالثة، 1356ربيع الأول ، هـ/1937م ، ص 10.
[30] – س 10 ، ج1 ، ربيع أول 1363/آذار 1944 ، ص15-16.
[31] – محمود مهدي ، نشاط الإسلام الحربي س 14- ص 169.
[32] – أبي عصام : محمد خير الجعفري؟ ، نشاط الإسلام عند نصارى العرب ،14/207
[33] – المجلد 4 -89
[34] – عبد الرحمن عزام ، ص190 سنة 14 ، جهادنا وقتالهم.
[35] – مجلد 14 – ص96. جزء 6-7 ، رجب 1367هـ /آيار 1948م.
[36] – 14-ص 97.
[37] – محمود مهدي الاستانبولي ، أنا مؤمن بالله ، لماذا؟ ج 14-15 س 14 شوال 1367/آب 1948. ص 238.
[38] – حقي ، إحسان سامي (الإسلام دين البشرية الخالد ) ، مجلة التمدن الإسلامي ، دمشق ، السنة الثالثة ، العدد الأول ، ربيع الأول 1356هـ/ 1937م ، ص 12.
[39] – س10 ع 1 ، ص 3.

كُتب في من كنوز التمدن الإسلامي, منائر | التعليقات على رحلة التمدن الإسلامي مغلقة

الملك العاري والنساج المحتال – 2007-06-01

في ذاكرتي من أيام المرحلة الابتدائية قصة من أمتع وأفيد ما قرأت، وهي قصة (الملك العاري والنساج المحتال) .. والتي تتحدث عن ملك ساذج، وجد نساج محتال طريقاً إليه وأقنعه بأن يصنع له ثياباً نفيسة (وبالطبع مكلفة جداً) و ذات ميزة عظيمة وهي أن الأغبياء وحدهم لا يرونها!
صدق الملك قليل الخبرة كلام النساج وفي اليوم الموعود اجتمع أركان الدولة في القصر العظيم، بعدما أُمر الشعب المسكين بالاحتشاد لإظهار الفرحة بالثياب العظيمة لمولانا الملك!
أمام الجميع وفي القصر بدأ النساج المحتال بخلع ثياب الملك قطعة قطعة وإلباسه بدلاً عنها ذلك القماش المزعوم، وبدأ تهريج الحاشية: ماشاء الله يامولاي، شيء عظيم.. ثياب رائعة … ولم يصدق كبير الحكماء عينيه فقد بدأ الملك يتحول إلى رجل عارٍ ، ولكنه (كما هي عادة المنافقين) خشي أن يقول الحق.
الملك نفسه بدأ يشك بنفسه فهاهي ثيابه تخلع عنه قطعة وراء أخرى ولا بديل عنها! ولكن الملك قال في نفسه بين حشود المنافقين: هل من المعقول أن الكل يراها! وأنا .. فقط .. أنا الذي لا يراها! هل يعني ذلك أنني الغبي الوحيد هنا! ثم التفت فجأة نحو كبير حكمائه قائلاً بزهو الأغبياء: مارأيك ياكبير الحكماء؟ ولم يكن ذلك الكبير يرى إلا العري القبيح ولكنه شهق قائلاً: مولاي ماهذه الثياب المدهشة بالفعل إنها شيء لا يصدق، والتفت برأسه نحو النساج المحتال قائلاً بضيق مكتوم: إن النساج الذي صنع هذه الثياب الباهرة لجد ماهر ومتقن!
النساج المحتال رد على كلام كبير الحكماء بانحناءة رأس ماكرة! وتعالت صيحات الإعجاب … الكل أقسم أنه لم ير مثل تلك الثياب من قبل، والكل جزم بأن الملك موفق جداً في اختيار نساجه المبدع، والكل أصر أن تلك الثياب لائقة جداً جداً بالملك ..
حياة النفاق جعلت كل أفراد البلاط يسكتون، و لأن تلك الثياب البديعة وحدهم الأغبياء لا يرونها وخشية أن يتهم واحدهم بالغباء رضي الجميع بأن يباع الملك دون ثمن ..
وأخيراً أصبح الملك عارياً حتى من ورقة التوت التي تغطي عورته … فقد ألبسه النساج بدل كل قطعة خلعها عنه قطعة أخرى بديعة الصنع ،ووحدهم الأغبياء لا يرونها!! وصار الملك يوزع ابتساماته البلهاء بين الحضور … وهم يبادلونه الحماس .. حتى أن رئيس صناديق المملكة قد تأثر لدرجة البكاء وهو يتحسس طرف العباءة المزيفة التي يرتديها الملك صارخاً بانفعال شديد: شيء لا يصدق .. لا يصدق أبداً يا مولاي … أهنئكم على هذا الذوق الرفيع..
نظرات الافتتان والتقدير بُذلت من الحاشية دون حساب وصيحات الإعجاب بدت مثل سيل هادر انتقل زخمه إلى القطيع الموجود خارج القصر الذي كان ينتظر على أحر من الجمر طلة الملك البهية مرتدياً ثيابه الذكية (كشافة الأغبياء) والتي أصبحت حديث كل لسان..
وأخيراُ فتح باب القصر وأطل الملك بعريه الكامل لتحييه الجماهير .. فقط ثوان من الذهول اعترت القطيع الكبير ثم ما لبثت أن تبدلت إلى نشوة عارمة عندما صاح أحد المرتزقة .. فليحيا مولانا الملك بثيابه العظيمة… ورددت الجماهير المحتشدة: فليحيا الملك .. وثيابه العظيمة …
ومثل البرق سرت الصيحات: أوه … شيء رائع شيء عظيم … جميل مدهش .. فتان … لا يصدق … بل إن التأثر بلغ بالبعض إلى حد الإغماء … بينما قام الباقون بالدبك بكل قوة تعبيراً عن الامتنان والشكر الدفين الذي يكنه القطيع الكبير في أعماق فؤاده لمولانا الملك ..
كل فرد من الحاشية أو الرعية، بل الملك نفسه أخذ يتساءل: ماهذا الحظ التعيس .. حتى أكون أنا وحدي الغبي الذي لا يرى تلك الثياب المدهشة .. وهز الملك رأسه بحيرة بالغة .. وكاد يبكي لكنه تجلد وعاد يتبادل التحيات مع شعبه … ويلوح لهم بقبضته: نعم .. أيها القطيع الرائع … حتى آخر قطعة ثياب ..
العربة المكشوفة سارت بين الجماهير المكتظة … والكل يصفق ويدبك ويرقص … وفجأة حصل مالم يكن في الحسبان …

كان هناك طفل في العاشرة ينتقل مع القطيع وقد شاهد الموكب من أوله … وبدأت الحيرة والشك يتسللان إليه، ولكنه جمع كل قوته ليصعد على عمود عال، ثم استجمع كل شجاعته ليصرخ بصوت اخترق كل ضجيج الراقصين والدبّاكين : أيها الكذابون … إن الملك لا يرتدي أية ثياب!! إن الملك عار … الملك عار ..
ومثل سريان النار في الهشيم دبت الصيحة في القطيع … وكأن بقايا العقل القديم الذي كان فيه قد استيقظ ففر الناس هائمين على وجوههم … وحتى الحاشية المذعورة أصابها الذهول ففرمعظمها وكل فرد منها فتح فمه حتى النهاية وفي عينيه بريق دهشة ممتزجة برهبة الحقيقة المرة ..
بعض الماكرين وقفوا قريباً من عربة الملك وهم يقهقهون وقد أمسكوا خواصرهم من شدة الضحك .. وأحدهم ضرب يده على جبهته وهو يكاد يتمزق من المفارقة العجيبة ..
لم يجد الملك شيئاً يستر به عورته … وحدهم بعض الأتقياء غضوا من أبصارهم احتراماً للملك بينما كان بعض أفراد الحاشية الخبيثة يحملقون بشراهة …

الملك العاري ليس شخصاً في الدول الممحوقة بل ظاهرة .. ومنذ فرعون الأول بدأ العري يدب إلى الملوك وكل منهم يظن أنه قادر على البقاء في ثيابه محترماً موقراً …
لم يفكر أحد ولم يخطربباله أن ماكانت تفعله الحاشية بالمواطنين من تعذيب وتعرية جسدية أو نفسية سوف تفعله بدناءة أكبر مع الملك نفسه …

شاه إيران .. رجل أميركة في المنطقة وضابط الإيقاع … عندما حانت نهايته اشترك الجميع في تعريته والأسبق كانوا هم أسياده الذين أرادوه أن يبقى عارياً حتى من قبر صغير يستر فيه جسمه الفاني فرفضوا أن يدخل أراضيهم، حتى حن عليه أحد رفقاء دربه فمن عليه بمترين من التراب يستران عورته .
هيلا سيلاسي .. وتشاوشيسكو … وصدام … ومن كان قبلهم ومن سيأتي بعدهم حقيقة هم مساكين .. هم وأمثالهم دائماً ينحتون في الشعوب .. وكان الشعب ينحت لهم النهاية كما يريد هو .. يد القمع وكم الأفواه لم تسمح له أن يقول مايريد، ففعل مثلما يريدون، وفي هستيريا جماعية كان يدبك ويرقص ويزمجر باللافتات في وجه الأعداء .. لكنه كان يسن أسنانه كي ينهش من ظلموه .. وقد رأى الناس على الشاشات حاكم العراق قبل هجوم القوات الأميركية وهو يمسك شيئاً معدنياً مستديراً يزعم أنه صاعق قنبلة ذرية … وهجم الأعداء أخيراً … فبقي أكثر الشعب الذي كان يدبك واقفاً يتفرج بل ويشمت … ومن باعه ليسوا أبداً أولئك البؤساء الذين غصت بهم السجون وعاشوا وشربوا الذل حتى آخر قطرة … فدائماً من أعماقهم تنبعث الغيرة والشهامة والكرامة .. ولكن الباعة هم المقربون .. وفي مقدمهم ابن عمه … قائد الحرس الجمهوري العظيم!

ليس في الأمر دعابة، ولم يعد عري الحاكم اليوم مجرد ثياب تنتزع منه بالحيلة، أو مجرد أمر معنوي، لأن أكثر الحكام العرب والمسلمين ليست لهم ثياب أصلاً، وهم ولدوا عراة من كل شرعية، ولن يجدوا شيئاً يلبسونه فكل ثيابهم صنعها نساجون محتالون، وحاشية منافقة، وقد فرضوا أنفسهم فرضاً والشعوب تصفق وتدبك! أما في الأعماق … فسل التاريخ القريب يذهلك مافيه.

لست أبالي كثيراً بأصحاب المصالح الدنيوية، فطبيعة الاحتيال الدنيوي تملي عليهم النفاق الدائم، وربما يساكنهم الرعب المبين من الحكام وأزلامهم، ولكني مذهول حقاً ممن يلبسون العمائم البيضاء الطاهرة فتستحيل على رؤوسهم قطعاً من الفحم الأسود، وأنا أعتقد لو أن بعضهم عاند الحاكم لا حباً في العناد بل إصراراً على مصلحة الأمة والدولة والشعب والحاكم لنجا الجميع من مآزق لا تظهر آثارها إلا بعدما يكون الوقت قد فات لإصلاحها.

زعم أحدهم زوراً يوماً أن الملك فاروق ينحدر من السلالة النبوية الطاهرة … ومضى فاروق وبقي صاحب العمامة الكذوب عبرة لأهل الاحتيال والنفاق.
وقام أحدهم معقباً على كلمة أحد الحكام فقال : لقد اهتز عرش الرحمن لكلمة الرئيس القائد …. وسكت الجميع بين منافق أو غبي أو جبان، وكأن الإسلام سوف يموت إن مضى واحدهم للقاء الله سعيداً شهيداً… ومكر الجالسون جميعاً بالرئيس المغرور، ثم دارت الأيام وأعدم السيد الرئيس القائد … بحبل ملفوف حول عنقه وفي مكان لا يليق إلا بعصابات الإجرام والأشقياء، وبقي بعض من غشوه ينتشرون في الأرض هنا وهناك يبحثون عن صيد آخر يفترسونه ويبيعونه المكر والنفاق.

وحصلت مرة مواجهات مسلحة بين جماعة إسلامية وإحدى الحكومات فلم يكن دور بعض العلماء حل الإشكالات ولا تعطيف قلوب الحكام على التائهين من الشباب، ولا رد الشباب إلى الصواب، بل كانوا أسبق من الحكام في التنكيل فلم يعطوا أبناء الإسلام حتى صفة البغي ، بل أعلنوا أن حد الحرابة هو الذي يجب أن يطبق على الشباب المسلم، وغمسوا أيديهم في دماء الأمة بما لم تنغمس به يد حاكم ولا فرعون.
ربما يجد الحكام مبررات لهم إن اتخذوا الحزم (الذي ترضاه الشريعة ويبيحه القانون ويليق بكرامة ابن آدم ) في بعض المواطن فقد تضيع دولة بكاملها من وراء التهاون في بعض الأمور، ولكن الذي لا يفهم أن ينبري بعض أصحاب العمائم فيكونوا ملكيين أكثر من الملك، ويقدموا من المبررات مالا تحلم به دولة ولاحاكم، ويكون عملهم هو التهريج والكذب وكتمان الحق، أما حقوق الإنسان وعدالة القانون وإيقاف النهب والسلب للأموال العامة ومنع الرشوة والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ورد المظالم وإلغاء سيطرة الحزب الواحد فقد تعافوا من ذلك تماماً وتركوا ذلك لغيرهم، وقد كانوا الأجدر في الريادة فيه.
لقد قام أحدهم مرة (وعمامته بحاجة إلى جمل صغير ليحملها) فقال : إن الله قد حبس الأنبياء فيونس صار في بطن الحوت، ويوسف في الجب!! فإذا اعتقلت الدولة بعض المواطنين فماهي المشكلة!
ويتناقل الناس أن أحدهم قال مخاطباً أحد الحكام: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله … ) وبحثت في كل التفاسير التي وصلت إليها يدي لأجد شبهة تدفع ما هو قريب من الكفر بهذه الجراءة على الله فلم أجد، إذ أن الآية خاصة بالنبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز أن تقال لعمر بن الخطاب ولا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأرضاهما.

لا ألوم الحاكم الذي يمتلئ بالغرور إن سمع أشباه ذلك الكلام، فهو بشر والنفس أمارة بالسوء، ولكني ألوم تلك العمائم التي تتزلف بالليل والنهار وتبيع الحاكم والمحكوم، وهي تماماً أسوأ جزء من الحاشية الفاسدة، لأن الحاكم مهما انحرف، ومهما كانت حاشيته فاسدة، فإنه في أعماق قلبه يميل إلى سماع رأي أهل العلم والدين، وتطمئن نفسه إن وجد في كلام بعض أهل العلم له سنداً، فإن كان بعضهم هم النساجون المحتالون، فاقرأ على الدولة والأمة والحاكم والمحكوم كلهم السلام!

لم يعد أي حاكم اليوم معبراً عن نفسه، بل إن أي تصرف ينعكس بشكل إيجابي أو سلبي على كل الناس، وانظر إلى رعونة صدام ، فقد رضي أن يدمر العراق تدميراً، ولم يرض أن يتنازل عن الحكم للأمة، أو يؤسس لحكم جماعي يتآلف به الناس، بل بقي يكابر ويغتر بمن يدبكون ويصرخون ويرقصون، وظل يتحدث عن النشامى .. والماجدات … وحاشيته تزين له النصر والقوة والتمكن، وحب الشعب اللاهب له، وسوس الفساد والظلم ينخر في الأمة … وهو يدري أو لا يدري .. وربما لو تقدم بين يديه جمع من العلماء يذكرونه (مهما غضب) ويصرون على رجعته مهما ابتعد (ولو سجنهم .. وحتى لو أعدمهم) … إذاً لو فروا لا على العراق، بل على أمة الإسلام شراً مستطيراً، ولحموا وحدة أهل العراق، ودين وكرامة واستقلال أهل العراق، بل بلاد المسلمين كلها. ومهما كانت ضريبة الحرية غالية فإن ضريبة الذل أفدح بكثير ..

للإمام الغزالي لفتات عظيمة ومنها قوله أن الإنسان بحاجة إلى عدو مشاحن أكثر من حاجته إلى صديق مداهن .. وذلك لأن المشاحن يعين على إصلاح النفس، والمداهن يزكيها كل لحظة، بل ويمنع من رؤية عيوبها فيزداد الخلل وتتسع الثغرات.

كلنا يجب أن يكون ذلك الطفل الذي يصرخ .. وربما كانت صرخاته هي منفذ النجاة الوحيد، وعلينا أن لانموه الأمور أو نغير من حقائقها، وحرصاً على أن لا يكون هناك نساج محتال، فلنرفع أصواتنا متكلمين عن الحق، غير آبهين بالباطل، ولتأخذ الأسماء حقائقها ، ولنقل للمنافق أنه ينافق، وللمزاود أنه مزاود . ولنحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله إلينا، ومن ضياع الحق على أيدينا …

يجب أن نكون مع ذلك الصبي الشجاع ولا نسمح للحاشية المنافقة بتعرية أحد، حاكماً كان أم محكوماً، فالعري اليوم هو كشف للغطاء السياسي والدولي عن الدولة، وتخريب للاستقرار ونحت في تماسك الأمة، وإيقاد لمشكلات نحن في غنى عنها، والبعض لا يهمه كل ذلك مقابل مكاسب هزيلة ، ومن يتسلقون اليوم على أكتاف الأمة، ويبيعون دينها بثمن بخس دراهم معدودات كي تتم تزكيتهم في توزيعات المناصب القادمة، هم أكثر الناس بيعاً للبلاد والعباد، ولا دين لمن لا أمانة له، ومن يعلم أن الإسلام دين التوحيد وأن جماليات الإيمان وخصوصيات الفن الإسلامي تمنع من وضع صور لأحد على جدران المساجد ثم بعد ذلك يعلقونها فهم يبيعون الدين للحكام ويبيعون الحكام للناس، ويبيعون الناس والأمة للشيطان.

قال تعالى:
– (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون). سورة البقرة- 79.
– (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) سورة البقرة – 159.. صدق الله العظيم

كتبه : أحمد معاذ الخطيب الحسني
16 جمادى الأولى 1428هـ/ 1 حزيران 2007

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على الملك العاري والنساج المحتال – 2007-06-01 مغلقة

أمك … وأبوك …

ضاق صدر يحيى أصغر أفراد أسرته من إلحاح أمه التي تجاوزت الثانية والثمانين من العمر فقد كانت تسأل عن كل أمر عدة مرات ، وفي أحد الأيام وبينما هما يتناولان الطعام ، وإذا بصوت غريب يصدر قرب النافذة المفتوحة فقالت الأم : ماهذا الصوت ؟
قال يحيى : إنه صوت غراب!
قالت الأم: لم أفهم! ماذا قلت؟
إنه غراب يا أمي! قلت لك إنه غراب!
لم أسمعك جيداً! ماهذا الصوت؟
كاد يحيى ينفجر وهو يقول بضيق: كم مرة سأضطر للجواب! إنه غراب .. غراااااب …
بصعوبة أشارت الأم بيدها إلى مصنف قديم في خزانة الكتب .. وطلبت من ابنها أن يعطيها إياه! فأحضره بضجر وخصوصاً أن الغبار يعلوه! قائلاً: هل هو من مصنفات المرحوم أبي …
تجولت أصابع الأم المرتعشة بين الأوراق … إلى أن استقرت عند صفحة ما فأخذت تتأملها من خلال نظارتها السميكة … ثم قالت بصوت خافت: إقرأ …. يا بني …
نظر يحيى إلى المصنف فوجد كتابة قديمة تعلوه وتذكر أنه يضم أحلى الذكريات، إن عمر هذا المصنف يقارب عمر يحيى أي أربعين عاماً تقريباً.
بدأ الابن يقرأ : اليوم أكمل ابننا يحيى سنته الرابعة وها هو يمرح ويركض في الحديقة هنا وهناك وبينما كنا نحتفل به حصل أمر غريب إذ حام غراب في طرف الحديقة وصار يصدر بعض الأصوات…. فسألني ابني ما هذا الصوت؟ فقلت له إنه غراب فعاد وسألني نفس السؤال ثلاث عشرة مرة ثم انتقل إلى أبيه فسأله نفس السؤال خمس عشرة مرة .. وكلما قلنا له إنه صوت غراب عاد فكرر السؤال وكأنه لم يسألنا من قبل … وكنا نحضنه ونقبله وسرورنا لا يوصف ..
لقد كنا سعداء جداً في ذلك اليوم وتمت سعادتنا بتلك الأسئلة التي صار يحيى يصر على إعادتها … إنها مسؤوليتنا أن نجيب على كل سؤال يطرحه أولادنا ولو كرروه مئات المرات …
ارتجف يحيى من رأسه إلى قدميه ونظر إلى أمه فلم ير وجهها الذي غطته بيديها …
لم يستطع أن يتكلم فقد خنقته دموعه .. ولم ير أمامه إلا لوحة كبيرة كتب عليها قول الله تعالى: ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ َتَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَن عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ّ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) صدق الله العظيم

كُتب في تذكرة, منائر | التعليقات على أمك … وأبوك … مغلقة

ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟

قام بعض الإخوة الأفاضل بتلخيص كتاب مولانا أبو الحسن علي الحسني الندوي :ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ومازالت تلك المعاني بحاجة إلى التأمل والإضافة والتعميق، وحبذا لو تدارس الإخوة المهتمون هذا الملخص فيما بينهم وأضافوا إليه ماتشهده البشرية من تطورات تشي بحاجتها إلى منهج جديد يقودها بعد أن تعبت واستنزفت من المناهج العكرة التي لم تجلب لها إلى الشقاء.

الباب الأول
العصر الجاهلي

الفصل الأول
الإنسانية في الاحتضار

كان القرن السادس والسابع (لميلاد المسيح) من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف ، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون ، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي ، وكأنَّ الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه ،وفقد قوة التمييز بين الخير والشر ، وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن ، وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة ، ولاذوا إلى الأديرة والكنائس ، ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا . وإن الإنسانية لا تشقى بتحول الحكم والسلطان من فرد إلى فرد آخر من جنسه ، أو من جماعة إلى جماعة أخرى مثلها في الجور والاستبداد وحكم الإنسان للإنسان ، بل بالعكس تقتضي ذلك سنة الكون .
بل إن كثيراً من هؤلاء السلاطين والأمم كانوا منبع الفساد والمرض في جسم المجتمع البشري فكان لا بد من عملية جراحية ، وكان قطع هذا الجزء السقيم وإبعاده من الجسم السليم مظهراً كبيراً لربوبية رب العالمين ورحمته { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، ولكن لم يكن انحطاط المسلمين وزوال دولتهم انحطاط شعب أو عنصر أو قومية ولكنه انحطاط رسالة هي للمجتمع البشري كالروح .
فهل كان انحطاط المسلمين واعتزالهم في الواقع مما يأسف له الإنسان ، وبعد قرون مضت على الحادث ؟
وهل خسر العالم حقاً- وهو غني بالأمم والشعوب- بانحطاط هذه الأمة شيئاً ؟ وفيم كانت خسارته ؟
وماذا آل إليه أمر الدنيا ، وماذا صارت إليه الأمم بعدما تولت قيادها الأمم الأوروبية حتى خلفت المسلمين في النفوذ العالمي ، وأسست دولة واسعة على أنقاض الدولة الإسلامية ؟ وما أثر هذا التحول العظيم في قيادة الأمم وزعامة العالم في الدين والأخلاق والسياسة والحياة العامة وفي مصير الإنسانية ؟
وكيف يكون الحال لو نهض العالم الإسلامي من كبوته وصحا من غفوته ، وتملك زمام الحياة ؟
ذلك كله ما نحاول الإجابة عنه في الصفحات الآتية ! …

أبو الحسن علي الحسني الندوي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟

لم يكن انحطاط المسلمين أولاً ، حادثاً من نوع ما وقع وتكرر في التاريخ من انحطاط الشعوب والأمم ، ولكن هذا الحادث كان غريباً لا مثيل له في التاريخ . مع أن في التاريخ مثلاً وأمثلة لكل حادث غريب .
نظرة في الأديان والأمم :
أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين ، حتى فقدت روحها وشكلها ، وأصبحت مهود الحضارة والسياسة مسرح الفوضى لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة.
المسيحية في القرن السادس المسيحي :
لم تكن المسيحية في يوم من الأيام من التفصيل والوضوح بحيث تقوم عليه حضارة ، ولكن كان فيها أثارة من تعليم المسيح ، وعليها مسحة من دين التوحيد البسيط ، فجاء بولس فطمس نورها ، وقضى قسطنطين على البقية الباقية ، حتى أصبحت النصرانية مزيجاً من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية والرهبانية ، مكونة من معتقدات وتقاليد لا تغذي الروح ، ولا تمد العقل ولا تشعل العاطفة ، بل أصبحت تحول بين الإنسان والعلم والفكر ، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية .
الحرب الأهلية الدينية في الدول الرومية :
ثم ثارت حول الديانة وفي صميمها مجادلات كلامية، وسفسطة من الجدل العقيم شغلت فكر الأمة ، واستهلكت ذكاءها ، وتحولت في كثير من الأحيان حروباً دامية وقتلاً وتدميراً . وحاول الإمبراطور هرقل (610-641) بعد انتصاره على الفرس سنة 638 جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها ، وأراد التوفيق ، وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك وصار المذهب المنوثيلي مذهباً رسمياً للدولة ، ولكن القبط نابذوه العداء وتبرؤوا من هذه البدعة ، وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة ، ووقع اضطهاد فظيع على يد قيرس في مصر واستمر عشر سنين ، وقع خلالها ما تقشعر منه الجلود.
الانحلال الاجتماعي والقلق الاقتصادي :
بلغ الانحلال الاجتماعي غايته في الدولة الرومية والشرقية ، وعلى كثرة مصائب الرعية ازدادت الإتاوات . حتى أصبح أهل البلاد يتذمرون من الحكومات . وقد هلك عام 532 في الاضطراب ثلاثون ألف شخص في العاصمة(13) . وعلى شدة الحاجة إلى الاقتصاد في الحياة أسرف الناس فيه. وأصبح الهمّ الوحيد اكتساب المال من أي وجه ، ثم إنفاقه في إرضاء الشهوات . وذابت أسس الفضيلة . وانهارت دعائم الأخلاق .
مصر في عصر الدولة الرومية ديانة واقتصاداً : كانت مصر في القرن السابع من أشقى بلاد الله بالنصرانية، وبالدولة الرومية معاً ، أما الأولى فلم تستفد منها إلا خلافات ومناظرات في طبيعة المسيح ، وأما الأخرى فلم تلق منها إلا اضطهاداً دينياً فظيعاً واستبداداً سياسياً شنيعاً ، فألهاها ذلك عن كل وطر من أوطار الحياة.
هذا ، وقد اتخذها الروم شاة حلوباً يريدون أن يستنزفوا مواردها . وهكذا اجتمع لمصر من الاضطهاد الديني ، والاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي ما شغلها بنفسها ، وكدر عليها صفو حياتها ، وألهاها عن كل مكرمة .
الحبشة : أما جارتها الحبشة فكانت على المذهب (المونوفيسي) كذلك ، ولم تكن في الدين بذات روح ، ولا في الدنيا بذات طموح .
الأمم الأوروبية الشمالية الغربية : أما الأمم الأوروبية المتوغلة في الشمال والغرب فكانت تتسكع في ظلام الجهل المطبق ، والأمية الفاشية ، والحروب الدامية ، وكانت بمعزل عن جادة قافلة الحضارة الإنسانية ، ولم تكن بذات رسالة في الدين ، ولا بذات راية في السياسة .
اليهود : وكانت هي أغنى أمم الأرض مادة في الدين ، وأقربها فهماً لمصطلحاته ومعانيه ، ولكن لم يكونوا عاملاً من عوامل الحضارة والسياسة أو الدين يؤثر في غيرهم ، وقد أورثهم تاريخهم الخاص وما تفردوا به بين أمم الأرض من العبودية الطويلة والاضطهاد الفظيع والكبرياء القومية ، والإدلال بالنسب ، والجشع وشهوة المال وتعاطي الربا.
بين اليهود والمسيحيين : وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم إلى المسيحيين ، وبغض المسيحيين إليهم وشوه سمعتهم .
إيران والحركات الهدامة فيها : أما فارس التي شاطرت الروم في حكم العالم المتمدن فكانت الحقل القديم لنشاط كبار الهدامين الذين عرفهم العالم ، كان أساس الأخلاق متزعزعاً مضطرباً منذ عهد عريق في القدم .
تقديس الأكاسرة : وكانت الأكاسرة ملوك فارس يدَّعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي .
التفاوت بين الطبقات : وكذلك اعتقادهم في البيوتات الروحية والأشراف من قومهم ، فيرونهم فوق العامة في طينتهم وفوق مستوى الناس في عقولهم ونفوسهم .
تمجيد القومية الفارسية : يرون أن لها فضلاً على سائر الأجناس والأمم.
عبادة النار وتأثيرها في الحياة : كانوا في الزمن القديم يعبدون الله ويسجدون له ، ثم جعلوا يمجدون الشمس والقمر وأجرام السماء ، ثم تدرج الناس إلى عبادة النار.
وهكذا حُرِمت الأمة الفارسية في حياتها ديناً عميقاً يكون تربية للنفس ، وتهذيباً للخلق، وقامعاً للشهوات ، وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين اللادينيين في الأخلاق والأعمال .
الصين ديانات :
وكانت تسود الصين في هذا القرن ثلاث ديانات . ديانة ” لا وتسو” وديانة “كونفوشيوس” والبوذية ، أما الأولى فقد كان أتباعها متقشفين زاهدين ، لا يتزوجون ، أما “كونفوشيوس” فقد كان يعني بالعمليات أكثر من النظريات ، ولكن انحصرت تعاليمه في شؤون هذه الدنيا.
البوذية-تطوراتها وانحطاطها : فقدت البوذية بساطتها وحماستها ، وابتلعتها البرهمية الثائرة الموتورة فتحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت. وتنصب تماثيل بوذا حيث حلت .
إذن فلم تكن عند الصينيين رسالة دينية للعالم يحلون بها مشاكله ، وكانوا في أقصى شرق العالم المتمدن محتفظين بتراثهم الديني والعلمي، لا يزيدون في ثروتهم ولا في ثروة غيرهم.
أمم آسيا الوسطى :
أما الأمم الأخرى في آسيا الوسطى وفي الشرق ، كالمغول والترك واليابانيين ، فقد كانت بين بوذية فاسدة ، ووثنية همجية .
الهند : ديانة ، واجتماعاً ، وأخلاقاً .
أما الهند فقد اتفق على أن أحط أدوارها ديانة وخلقاً واجتماعاً ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي ، وامتازت عن جاراتها في ظواهر وخلال يمكن أن نلخصها في ثلاث: (1)كثرة المعبودات والآلهة كثرة فاحشة. (2) الشهوة الجنسية الجامحة . (3) التفاوت الطبقي والمجحف والامتياز الاجتماعي الجائر .
مركز المرأة في المجتمع الهندي : وقد نزلت النساء في هذا المجتمع منزلة الإماء(65) ، وكان الرجل قد يخسر امرأته في القمار ، وكان في بعض الأحيان للمرأة عدة أزواج(66).
العرب : خصائصهم ومواهبهم :
أما العرب فقد امتازوا بين أمم العالم وشعوبه في العصر الجاهلي بأخلاق ومواهب تفردوا بها . ولكن ابتلوا بانحطاط ديني ووثنية سخيفة وأدواء خلقية واجتماعية جعلت منهم أمة منحطة الأخلاق فاسدة المجتمع حاوية لأسوأ خصائص الحياة الجاهلية وبعيدة عن محاسن الأديان .
وثنية الجاهلية : كان الشرك هو دين العرب العام والعقيدة السائدة ، ومع أنهم كانوا يؤمنون بوجود الله إلا أن عقولهم لم تسع فكرة الوحدانية ، فبحثوا لهم عن وسطاء توسلوا بهم إلى الله وأشركوهم في الدعاء . ثم ترقوا في الشرك فاتخذوا من دون الله آلهة .
أصنام العرب في الجاهلية : وهكذا انغمست الأمة في الوثنية بأبشع أشكالها ، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص ، بل كان لكل بيت صنم خصوصي .
الآلهة عند العرب : وكان للعرب آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب .
اليهودية والنصرانية في بلاد العرب : وانتشرت اليهودية والنصرانية في بلاد العرب ، ولم تستفد منها العرب كثيراً من المعاني الدينية ، وكانتا نسختين منهما في الشام وبلاد الروم.
الرسالة والإيمان بالبعث : تصور العرب للنبي صورة خيالية ، وتمثلوه في ذات قدسية .
الأدواء الخلقية والاجتماعية : كانت فيهم أدواء وأمراض متأصلة ، وأسبابها فاشية ، فكان شرب الخمر واسع الشيوع . وكان القمار من مفاخر الحياة الجاهلية . وانتشر الربا والزنى .
المرأة في المجتمع الجاهلي : كانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن ، تؤكل حقوقها وتُبْتز أموالها وتُحرم إرثها وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه(88) وتورث كما يورث المتاع أو الدابة(89). وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد .
العصبية القبلية والدموية في العرب : كانت العصبية القبلية والدموية شديدة ، وكان أساسها جاهلياً تمثله الجملة المأثورة عن العرب : ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )) فكانوا يتناصرون ظالمين أو مظلومين . وكانت في المجتمع العربي طبقات وبيوت ترى لنفسها فضلاً على غيرها ، وكان الحرب والغزو مما طبعت عليه طبيعتهم العربية ، وألهمتهم إياه معيشتهم البدوية .
ظهر الفساد في البر والبحر : وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج ، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء .
لمعات في الظلام: كان النور الضعيف الذي يتراءى في هذا الظلام من بعض الأديرة والكنائس أشبه بالحباحب الذي يضيء في ليلة شديدة الظلام فلا يخترق الظلام ، ولا ينير السبيل .

الفصل الثاني

النظام السياسي والمالي في العصر الجاهلي

الملكية المطلقة : كان العصر الجاهلي مسرحاً للحكم الجائر المستبد والملكية المطلقة .
الحكم الروماني في مصر والشام : كانت الولايات الرومية والفارسية غير مرتاحة في حكم الأجانب، وكانت الأحوال السياسية والاقتصادية مضطربة حتى في مراكز الدولة وعواصمها .
نظام الجباية والخراج في إيران : لم يكن النظام المالي والسياسة المالية في إيران عادلة مستقرة بل كانت جائرة مضطربة في كثير من الأحوال .
كنوز الملوك ومدخراتهم : ولم يكن ما ينفق على أهل البلاد في إيران من مالية الدولة شيئاً كثيراً . وقد اعتاد ملوك إيران أن يكتنزوا النقود ويدخروا الطرف والأشياء الغالية(112) .
الفصل الشاسع بين طبقات المجتمع : كان الغنى لأفراد معدودين والفقر لمعظم الأهلين .
الفلاحون في إيران : أثقلت الضرائب المتنوعة المتجددة كاهل الجمهور حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم أو دخلوا الأديرة فراراً من الضرائب والخدمة العسكرية لأمة لا يحبونها أو لغرض لا يتحمسون له وفشت في الناس البطالة والجنايات وطرق غير شرعية للكسب .
الاضطهاد والاستبداد : واضطهد اليوم في الشام والعراق واليعقوبيون في مصر اضطهاداً كبيراً واستبد الحكام استبداداً شديداً وعاثوا في البلاد والدماء والأموال والأعراض .
المدنية المصطنعة والحياة المترفة : استحوذت على الناس في الدولتين- الفارسية والرومية- حياة الترف والبذخ وطغى عليهم بحر المدينة المصطنعة والحياة المزورة وغرقوا فيه إلى أذقانهم . وكان الأمراء والأغنياء وأفراد الطبقة الوسطى على آثار الملوك يحاولون أن يقلدوهم ، وارتفع مستوى الحياة وتعقدت المدنية وصار الواحد ينفق على نفسه ما يشبع قرية أو يكسو قبيلة .
الزيادة الباهظة في الضرائب : كانت نتيجة هذا البذخ والترف الطبيعية الزيادة الباهظة في الضرائب وسن القوانين الجديدة لابتزاز الأموال من طبقات الفلاحين والصناع والتجار وأهل الحرف حتى وصلت إلى حد الإرهاق وأثقلت كاهل الأهلين وانقضت ظهرهم .
شقاء الجمهور : وهكذا أصبح أهل البلاد في كلتا المملكتين طبقتين متميزتين تمام التمييز : طبقة الملوك والأمراء وطبقة الفلاحين والصناع .
بين غنى مطغ وفقر منس : وهكذا ضاعت رسالة الأنبياء ، والأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية في العالم المتمدن المعمور بين غنى مطغ وفقر منس ، وأصبح الغني في شغل بنعيمه وترفه ، وأصبح الفلاح في شغل كذلك لهمومه وأحزانه وتكاليف حياته .

******************************

الباب الثاني
من الجاهلية إلى الإسلام
الفصل الأول
منهج الأنبياء في الإصلاح والتغيير

العالم الذي واجهه محمد صلى الله عليه وسلم : بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد. نظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته، رأى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم.
نواحي الحياة الفاسدة : إن نفسية الإنسان إذا زاغت لا يؤثر فيها إصلاح عيب من عيوبها حتى يغير اتجاهها من الشر إلى الخير وإذا أراد أي رجل من عامة رجال الإصلاح معالجة عيب واحد لظل طول عمره يعالجه، لذلك لا بد من اقتلاع جرثومة الفساد من النفس البشرية.
لم يكن الرسول رجلاً إقليمياً أو زعيماً وطنياً : وكان مجال العمل في بلاد العرب فسيحاً إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً إقليمياً وسار في قومه سيرة القادة والزعماء الوطنيين.
لم يبعث لينسخ باطلا بباطل : ولكنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يبعث لينسخ باطلاً بباطل ، وإنما أرسل إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً .
قفل الطبيعة البشرية ومفتاحها : أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت الدعوة والإصلاح من بابه ، ووضع على قفل الطبيعة البشرية مفتاحه .

الفصل الثاني
رحلة المسلم من الجاهلية إلى الإسلام

دفاع الجاهلية عن نفسها : أدرك المجتمع الجاهلي عندما قرع أسماعهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم أن دعوته سهم مسدَّد إلى كبد الجاهلية ونعي لها ، فقامت قيامة الجاهلية .
في سبيل الدين الجديد : مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة حجة يدعو إلى الله وحده والإيمان برسالته واليوم الآخر في كل صراحة، لا يكنى ولا يلين، فتقدم فتية من قريش همهم الآخرة وبغيتهم الجنة، فكانت رحلة طويلة شاقة، وما كان من قريش إلا ما توقعوه، فما زادهم كل هذا إلا ثقة وتجلداً .
التربية الدينية : هذا والرسول صلى الله عليه وسلم يغذِّي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب. و الرسول يقول لهم : { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم ، حتى إذا تعدت قريش في الطغيان أذن الله لرسوله ولأصحابه بالهجرة .
في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم : والتقى أهل مكة بأهل يثرب ، لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد ، فكانت هذه الجماعة الوليدة نواة للأمة الإسلامية التي أخرجت للناس .
انحلت العقدة الكبرى : ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يربيهم تربية دقيقة عميقة وانحلت العقدة الكبرى- عقدة الشرك والكفر- فانحلت العقد كلها . واستخلفهم الرسول صلى الله عليه وسلم في عمله ولحق بالرفيق الأعلى قرير العين من أمته ورسالته .
أغرب انقلاب وقع في تاريخ البشر : كان هذا الانقلاب أغرب ما في تاريخ البشر ، فقد كان غريباً في سرعته و عمقه وسعته وشموله . وكان غريباً في وضوحه وقربه إلى الفهم .
تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول : كان الناس يعيشون حياة جاهلية، لا يثيب الطائع بجائزة ولا يعذب العاصي بعقوبة . كان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية . فانتقل الذين أسلموا إلى معرفة عميقة واضحة ذات سلطان وسيطرة، فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلاباً عجيباً .
وخز الضمير : وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس ومحاسبتها والإنصاف منها .
الثبات أمام المطامع والشهوات : وكان الإيمان حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته ، يملك نفسه أمام المطامع والشهوات .
الأنفة وكبر النفس و الاستهانة بالزخارف والمظاهر الجوفاء : كما أنه رفع رأسهم عالياً وأقام صفحة عنقهم فلن تُحنى لغير الله. وهانت وجوه الخلق وزخارف الدنيا ومظاهر العظمة.
الشجاعة النادرة والاستهانة بالحياة : ولقد بعث الإيمان بالآخرة في قلوب المسلمين شجاعة خارقة وحنيناً غريباً إلى الجنة واستهانة نادرة بالحياة .
من الأنانية إلى العبودية : وكانوا قبل الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك فأصبحوا الآن وقد تنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم .
المحكمات والبينات في الإلهيات : وقد كان الأنبياء عليهم السلام أخبروا الناس عن ذات الله وعن بداية هذا العالم ومصيره ، وكذلك منحوهم مبادئ ثابتة ولكن الناس لم يستجيبوا.

الفصل الثالث
المجتمع الإسلامي

طاقة زهر : إن هذا الإيمان أقام عوج الحياة، ورد كل فرد في المجتمع البشري إلى موضعه ، لا يقصر عنه ولا يتعداه وأصبحت الهيئة البشرية طاقة زهر لا شوك فيها .
ليس منا من دعا إلى عصبية :واقتلع صلى الله عليه وسلم جذور الجاهلية وجراثيمها:(ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية(151)).
كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته :أصبحت الطبقات والأجناس في المجتمع الإسلامي متعاونة لا يبغى بعضها على بعض ، وأصبح كل واحد في المجتمع راعياً ومسئولاً عن رعيته .
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق : وأصبح المسلمون أعواناً على الحق ، أمرهم شورى بينهم ، يطيعون الخليفة ما أطاع الله فيهم .
حلول الرسول محل الروح والنفس من المجتمع : وكان المجتمع البشري قد فقد نشاطه في الحياة فانطفأت جمرة القلوب وبردت العواطف وكانت العاطفة القوية تلك التي يسميها الناس (الحب) تائهة. في هذا المجتمع قام محمد صلى الله عليه وسلم فحل عقاله وفك إساره ثم حل منه محل الروح والنفس وشغل منه مكان القلب والعين . ووقع من خوارق الحب والتفاني في سبيل طاعته وإيثاره على النفس والأهل والمال والولد ما لم يحدث قبله ولن يحدث بعده .
نوادر الحب والتفاني وعجائب الانقياد والطاعة : ولم يزل الحب والتفاني والانقياد والطاعة من جنود ” الحب ” المتطوعة ، فلما أحبه القوم بكل قلوبهم أطاعوه بكل قواهم .

الفصل الرابع
كيف حول الرسول خامات الجاهلية إلى عجائب الإنسانية

بهذا الإيمان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنسانية المحتضرة حياة جديدة . عمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف أحد غناءها فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة وبعث فيها الروح الجديدة ، ثم وضع كل واحد في محله فكأنما خلق له .
كتلة بشرية متزنة : ثم لا يلبث العالم المتمدن أن يرى من هذه المواد الخام المبعثرة كتلة لم يشاهد التاريخ البشري أحسن منها اتزاناً ، كتلة فيها الكفاية في كل ناحية من نواحي الإنسانية ، كتلة هي في غنى عن العالم ، وليس العالم في غنى عنها ، وضعت مدنيتها وأسست حكومتها وليس لها عهد بها ، وكانت بفضل التربية الدينية والدعوة الإسلامية مادة لا تنقطع ومعيناً لا ينضب .

*************************************

الباب الثالث
العصر الإسلامي

الفصل الأول
عهد القيادة الإسلامية

الأئمة المسلمون وخصائصهم : ظهر المسلمون وتزعموا العالم وعزلوا الأمم المريضة ، وساروا بالإنسانية سيراً حثيثاً متزناً عادلاً ، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم .
1ً: أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم.
2ً: أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس .
3ً: أنهم لم يكونوا خدمة جنس ، ورسل شعب أو وطن ، يسعون لرفاهيته وحده.
4ً: أن الإنسان جسم وروح،وهو قلب وعقل وعواطف وجوارح،لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رُقياً متزناً عادلاً حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نمواً متناسباً لائقاً بها، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بيد الذين يؤمنون بالروح والمادة و يمتاز أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا جامعين بين الديانة والأخلاق والقوة والسياسة
دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة : وكذلك كان ، فلم نعرف دوراً من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور ، دور الخلافة الراشدة.
تأثير الإمامة الإسلامية في الحياة العامة : إن هذا الرعيل من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم كان خليقاً بأن يسعد النوع الإنساني في ظله وتحت حكمه ، فإنهم كانوا خير القائمين على مصالحها حارسين لها.ويعيدون هذا العالم مملكة لله استحلفهم فيها .
المدنية الإسلامية وتأثيرها في الاتجاه البشري : كان ظهور المدنية الإسلامية بروحها ومظاهرها وقيام الدولة الإسلامية بشكلها ونظامها في القرن الأول لهجرة محمد صلى الله عليه وسلم فصلاً جديداً في تاريخ الأديان والأخلاق ، وظاهرة جديدة في عالم السياسة والاجتماع ، انقلب به تيار المدنية ، واتجهت به الدنيا اتجاهاً جديداً ، لم تعهده من قبل ، عهدها به دعوة دينية روحية فإذا هو يصبح نجاة وسعادة وروحاً ومادة وحياة وقوة ومدنية واجتماعاً وحكومة وسياسة . فأصبح الناس لا يجدون عائقاً عن الإسلام ، وكان تأثير هذا الانقلاب عظيماً جليلاً ، فكان الطريق إلى الله من قبل شاقاً عسيراً محفوفاً بالأخطار ، فأصبح الآن سهلاً يسيراً ، وكان يصعب على الإنسان أن يطيع الله ، فصعب عليه في الوسط الإسلامي أن يعصي الله . جاء الإسلام بالتوحيد ونعى على الوثنية والشرك ، فهان الشرك منذ ذلك اليوم في عيون أهله وصغر ، وصار أهله يخجلون منه ويتبرؤون منه ولا يقرون به . وترى كذلك تأثير للعقلية الإسلامية والشريعة الإسلامية في أخلاق الأمم اجتماعها وتشريعها .
ولا يستطيع دين من الأديان ومدنية من المدنيات تعيش في العالم المتمدن المعمور أن تدعي أنها لم تتأثر بالإسلام والمسلمين في قليل ولا كثير .
فلو جرت الأمور هكذا لكان للعالم الإنساني تاريخ غير التاريخ الذي نقرؤه حافلاً بالزلازل والنكبات ناطقاً بطول بلاء الإنسانية ومحنها ، لكان له تاريخ مجيد جميل يغتبط به كل إنسان ويقر عيناً ، ولكن جرت الأقدار بغير ذلك ، وبدأ الانحطاط في المسلمين أنفسهم .

الفصل الثاني
الانحطاط في الحياة الإسلامية

الحد الفاصل بين العصرين : هو الخط التاريخي الفاصل بين الخلافة الراشدة والملوكية العربية .
نظرة في أسباب نهضة الإسلام : كان زمام القيادة بيد الرجال الذين يمثلون الإسلام بحق ، فكانوا أئمة يصلّون بالناس ، وقضاة يفصلون قضاياهم ، ويحكمون بينهم بالعدل والعلم، وأمنةً لأموال المسلمين وخزنتهم .
شروط الزعامة الإسلامية :
1- الجهاد : أما الجهاد فهو بذل الوسع وغاية الجهد لنيل أكبر مطلوب .
2- الاجتهاد :من يرأس المسلمين قادراً على القضاء الصحيح في النوازل التي تعرض في حياة المسلمين وفي العالم وفي الأمم التي يحكمها .
انتقال الإمامة من الأكفاء إلى غير الأكفاء : تولى هذا المنصب رجال لم يكونوا له أكفاء .
تحريفات الحياة الإسلامية : 1- فصل الدين عن السياسة : أصبح الدين مقصوص الجناح مكتوف الأيدي ، وأصبحت السياسة مطلقة اليد حرة التصرف .
2- النزعات الجاهلية في رجال الحكومة .
3- سوء تمثيلهم للإسلام .
4- قلة الاحتفال بالعلوم العملية المفيدة : إن العلماء المفكرين منهم لم يعتنوا بالعلوم الطبيعية والعلوم العملية المثمرة اعتناءهم بعلوم ما بعد الطبيعة والفلسفة الإلهية التي تلقوها من اليونان .
5- الضلالات والبدع .
6- إنكار الدين على المسلمين وإهابته بهم : ولا يغربن عن البال أن الدين لم يزل طول هذه المدة حياً محفوظاً من التحريف والتبديل ، مهيباً بالمسلمين ناعياً عليهم انحرافهم عن طريقه .
حسن بلاء العالم الإسلامي في القرن السادس : في القرن السادس الهجري بدأت الغزوات الصليبي تتحدى الإسلام والمسلمين كلهم ، فمنَّ الله على العالم الإسلامي بقادة كبار حفظ الله بهم شرف الإسلام وعزته وهم عماد الدين أتابك زنكي (م 541هـ) وولده العظيم الملك العادل نور الدين محمود زنكي (م 569هـ) والملك الناصر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر ، الذين هزموا الصليبيين وأجلوهم عن القدس والشام[*].
فقر القيادة في العالم الإسلامي بعد صلاح الدين : مات صلاح الدين بعدما قضى مهمته ، وتراجع سيل الصليبيين ، رجعوا ليستعدوا للصليبية الجديدة في القرن التاسع عشر المسيحي ، ولم يرزق العالم الإسلامي بعد ذلك قائداً مخلصاً للإسلام مثل صلاح الدين، وعم الانحطاط في العالم الإسلامي واستفحل مع الأيام .
نتائج القرون المنحلة : وظلت خلية الإسلام تعمل في أدوار الانحطاط أيضاً ، وكان المسلمون- رغم انحرافهم عن سيرتهم الأولى- أقرب إلى طريق الأنبياء وأطوع لله من الأمم الجاهلية المعاصرة لهم .
انهيار صرح القوة الإسلامية : ولم تزل تضعف هذه القوة وتهن بدون أن يشعر بذلك الأجانب حتى إذا خضِّدت شوكة المسلمين في القرن السابع زال ذلك الشبح المخيف وسقط المجدار(192) ، فعاثت الطيور والوحش في الحقل ، وتجاسر الناس على المسلمين وبلادهم .

الفصل الثالث
دور القيادة العثمانية

العثمانيون على مسرح التاريخ : ظهر الترك العثمانيون على مسرح التاريخ ، وفتح محمد الثاني القسطنطينية فتجدد رجاء الإسلام وانبعث الأمل في نفوس المسلمين .
مزايا الشعب التركي :
1ً- شعب ناهض متحمس فيه روح الجهاد ، وكان سليماً من الأدواء .
2ً- توفر القوة الحربية التي يقدر بها على بسط سيطرة الإسلام المادية والروحية .
3ً- كانوا في أحسن مركز للقيادة العالمية .
انحطاط الأتراك في الأخلاق وجمودهم في العلم وصناعة الحرب : أخذ الترك في الانحطاط ودب إليهم داء الأمم من قبلهم فوقف الترك وتقدم الزمان .
الجمود العلمي:لم يعنوا باكتساب العلوم الحديثة بل منعوا الأفكار الجديدة أن تدخل منطقتهم
الانحطاط الفكري والعلمي العام: كان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه مصاباً بالجدب العلمي ، وشبه شلل فكري .
معاصرو العثمانيين في الشرق : عاصرت الدولة العثمانية الدولة المغولية والدولة الصفوية ، وكانت راقية متحضرة ولكنها شغلت بنزعتها الشيعية وبالهجوم على الدولة العثمانية مرة والدفاع عن نفسها مرة أخرى .
نهضة أوربا الجاهلية وسيرها الحثيث في علوم الطبيعة والصناعات: استيقظت أوربا في القرن السادس عشر من هجعتها وهبت تتدارك زمان الغفلة وتعدو إلى غايتها عدواً .
تخلف المسلمين في مرافق الحياة وصناعة الحرب: لم يضيع المسلمون ساعات وأياماً بل ضيعوا أحقاباً وأجيالاً انتهزت فيها الشعوب الأوربية كل دقيقة وثانية ، وسارت سيراً حثيثاً في كل ميدان من ميادين الحياة وقطعت في أعوام مسافة قرون .

*************************************

الباب الرابع
العصر الأوربي

الفصل الأول
أوربا المادية

طبيعة الحضارة الغربية وتاريخها : الحضارة الغربية ليست حديثة بل هي سليلة الحضارة اليونانية و الرومية ، إذاً يحسن بنا أن نتعرف بهما ، لنكون على بصيرة في انتقاد الحضارة الغربية والحكم عليها في القرن العشرين.
خصائص الحضارة الإغريقية : اليونان أمة موهوبة ، من أنجب أمم العالم ، فإذا نظرنا فيها نظرة تحليل وانتقاد وبحثنا عن طبيعتها وجدنا من المزايا التي تمتاز بها عن المدنيات الأخرى :
(1) الإيمان بالمحسوس وقلة التقدير لما لا يقع تحت الحس .
(2) قلة الدين والخشوع .
(3) شدة الاعتداد بالحياة والاهتمام الزائد بمنافعها ولذائذها .
(4) النزعة الوطنية .
ويمكن أن نحصر هذه المظاهر المتشتتة في كلمة مفردة هي (( المادية )) فكانت الحضارة اليونانية شعارها (( المادية )) .
خصائص الحضارة الرومية و الانحطاط الخلقي في الجمهورية الرومية : خلف اليونان الروم وفاقوهم في القوة والتنظيم ولكن لم يلحقوا بهم في العلم والفلسفة وانتقلت النفسية اليونانية إلى الروم ، وسال بالروم سيل الانحطاط الخلقي .
تنصر الروم : كان ذلك بجلوس قسطنطين الذي اعتنق النصرانية على سرير الأباطرة سنة 305م فانتصرت فيه النصرانية على الوثنية ونالت فجأة ما لم تكن تحلم به .
خسارة النصرانية في دولتها : ولكن انتصر النصارى في ساحة القتال وانهزموا في معترك الأديان ، ربحوا ملكاً عظيماً وخسروا ديناً جليلاً، لأن الوثنية الرومية مسخت دين المسيح ومسخه أهله .
الرهبانية العاتية و عجائب الرهبان : ابتدعت هذه النصرانية رهبانية لعلها كانت شراً على الإنسانية والمدنية من بهيمية رومة الوثنية . ظل تعذيب الجسم مثلاً كاملاً في الدين والأخلاق إلى قرنين ، وكان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال ويهربونهم إلى الأديار .
تأثير الرهبانية في أخلاق الأوربيين و عجزها عن تعديل المادية الجامحة :
كان نتيجة ذلك أن خلال الفتوة والمروءة التي كانت تعد فضائل،استحالت عيوباً ورذائل ولا يتوهم أحد أن هذه الرهبانية الغالية قد عدلت من شره المادية الرومية ، فإن الذي يوجد الاعتدال ويخفض المادية هو النظام الروحي الديني الذي يوافق الفطرة الإنسانية الصحيحة .
الفساد في المراكز الدينية و تنافس البابوية والإمبراطورية :
تسرب الضعف والانحراف في المراكز الدينية حتى صارت تزاحم المراكز الدنيوية وربما تسبقها في فساد الأخلاق والدعارة والفجور . وبدأ النزاع والمنافسة بين البابوية والإمبراطورية في القرن الحادي عشر . واستغل رجال الدين السلطان الذي يملكونه لأنفسهم .
جناية رجال الدين على الكتب الدينية و اضطهاد الكنيسة للعلم : من أعظم أخطاء رجال الدين في أوربا أنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة ، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس . وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوربا ، فخرج العلماء بنظرياتهم التي تنافي ما ورد في الكتب الدينية ، فقامت قيامة الكنيسة
ثورة رجال التجديد : هنالك ثار المجددون المتنورون وعيل صبرهم ، وأصبحوا حرباً لرجال الدين وممثلي الكنيسة والمحافظين على القديم .
تقصير الثائرين وعدم تثبتهم : لم يكن عند الثائرين من الصبر ما يميزون به بين الدين ورجاله المحتكرين لزعامته ولم يكن عندهم من صدق الطلب ما يحملهم على النظر في الدين الإسلامي الذي يخلصهم من هذه الأزمة بسبب السدود التي أقامتها الحروب الصليبية .
اتجاه الغرب إلى المادية و افتضاحها في الدور الأخير : انصرف اتجاه الغرب تدريجياً إلى المادية بكل معانيها . ولكن رجال النهضة الأوربية ظلوا قروناً يجمعون بين النظر المادي الجاحد ، والطقوس الدينية المسيحية ، حتى افتضحوا في الأخير وصعب الجمع بينهما بسرعة سير الحضارة المادية ، وتخلف الدين والتقاليد .
جنود المادية ودعاتها : ونهض الكتاب والمؤلفون والأدباء والمعلمون والاجتماعيون والسياسيون في كل ناحية من نواحي أوربا ينفخون صور المادية ، وينفثون بأقلامهم سمومها في عقل الجمهور وقلبه .
نسخة صادقة من الحضارة اليونانية : أصبحت الحياة في أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين نسخة من الحياة في يونان وروما . فمما لاشك فيه أن دين أوربا اليوم هو المادية لا النصرانية . وإن هؤلاء – بإمعانهم في المادية والتمسك بالأسباب الظاهرة والتعلل بها واستغنائهم عن الله – قد وصلوا من القسوة والغفلة فلا تكاد تشعر في خطب الزعماء والوزراء في أوربا برقة قلب وانكساره وإخبات إلى الله في أدهى ساعات الحرب وأمرِّها .
الغايات المادية للحركات الروحية العلمية :
إن الحركة الروحية التي شغلت الناس كثيراً في أوربا في الزمن الأخير إنما روحها المادية ،
التصوف المادي الغربي ووحدة الوجود الاقتصادي : وقد بلغ النظر المادي والفكر المادي في أوربا درجة الاستغراق فيه والفناء ونسيان ما سوى القيم المادية .[†]
نظرية دارون وتأثيرها في الأفكار والحضارة : ساعدهم في وجهة نظرهم هذه النظرية التي ظهرت في القرن التاسع عشر عن ارتقاء الإنسان ، وكانت هذه النظرية اتجاهاً جديداً لم يسبق في المسائل البشرية وما يتعلق بها ، تجعل الإنسان يعتقد أن هذا الكون سائر بغير عناية إلهية[‡] ، وبغير أن تتداخل فيه قوة غير الطبيعة ، كان هذا ديناً جديداً يهدم الدين القديم من الأساس ويحل محله . ولكن جمهور الناس تلقوا هذه النظرية بالقبول – رغم ما فيها من ضعف ونقص من الوجهة العلمية – وكأن الأذهان كانت متهيئة لمثل هذه النظرية ، وكأن الناس وجدوا فيها منافساً للدين ورجاله . وكان تأثير هذه النظرية بعيداً عميقاً في الأفكار والحضارة والأدب والسياسة تراه وتلمسه في أخلاق الناس ، وفي نزعات الرجوع إلى الفطرة وإلى العهد الذي كان الإنسان يعيش فيه على الفطرة عارياً حراً .
من جنايات المادية : وكان من نتائج هذه المادية الجارفة ، والتربية اللادينية أن أصحاب المراكز الكبيرة ، ورجال السياسة والمسئولية يرتكبون في بعض الأحيان جنايات لا يتنـزل إليها أكبر الآثمين . وذلك لمصلحة سياسية وهمية لبلادهم وأمتهم أو لجاه شخصي أو ربح مالي

الفصل الثاني
الجنسية والوطنية في أوربا

انكسار الكنيسة اللاتينية سبب قوة العصبية والقومية والوطنية :
الوطنية والقومية من خصائص الطبع الأوربي ، ولكن النصرانية قهرت هذه الطبيعة ، لأنها لا يزال عليها مسحة من تعليم المسيح ، فجمعت الأمم الأوربية تحت لواء الدين وجعلت من العالم النصراني عشيرة واحدةِ ، ولكن لما قام لوثر بحركته الدينية الإصلاحية الشهيرة ضد الكنيسة اللاتينية ، انهزمت الكنيسة اللاتينية،وكان نتيجة ذلك رجحان كفة الوطنية والجنسية.
طوائف العصبية الجنسية في أوربا : كان نتيجة انحلال النظام الديني وانتعاش النعرة القومية أن أصبحت أوربا معسكراً واحداً ضد الشرق كله ، وخطت خطّاً فاصلا بين الغرب والشرق والجنس الآري وبين ما عداه من أجناس البشر وأن الأول خلق ليسود ويحكم ، والثاني ليخضع ويدين . وكان نتيجة هذه النفسية الجنسية والعصبية ضد كل ما جاء من الخارج ، أن صار بعض الشعوب الأوروبية ينظر إلى الدين المسيحي وإلى المسيح كطارئ ونزيل .
عدوى الجنسية في الأقطار الإسلامية : هذه العدوى الجنسية سرت إلى بعض الأقطار الإسلامية التي كان يجب أن تكون زعيمة لدعوة الإسلام العالمية ، فترى في الترك النزعة الطورانية فاعتقد بعض المفكرين في تركيا الفتاة أن الإسلام دين طارئ غريب لا يصلح للترك. ومما لا شك فيه أن هذه النزعة قد وجدت في الترك وكذلك في الإيرانيين في الزمن الأخير.
الديانة القومية الأوربية وأركانها : ثم أصبحت الشعوب والدول في أوربا ، عوالم مستقلة لا ترى العالم خارج الخطوط التي خطتها الطبيعة أو خطتها بيدها ، ولا تختلف شعوب أوربا الحاضرة ودولها في هذه الديانة القومية إلا في الصراحة والنفاق .
الحل الإسلامي لمعضلة الحرب والمناقشات الشعوبية :
إن هذا الحل الذي قدمه الأستاذ (( جود )) لمشكلة الأمم حل عادل وتوجيه معقول ، فلا تنصرف عداوة الشعوب والأمم بعضها لبعض حتى يكون لها عدو من غيرها تشترك في عداوته وتتعاون في الحرب معه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وقد قسم الإسلام العالم البشري إلى قسمين ، أولياء الله وأولياء الشيطان ، ولم يشرع حرباً ولا جهاداً إلا ضد أنصار الباطل وأولياء الشيطان أينما كانوا ومن كانوا .
مطامح الدول الكبيرة :
أما الدولة الكبيرة فترى من واجب قوميتها أن تبسط سيطرتها على أكبر رقعة من الأرض وليس لها غاية أخلاقية وتمرة أدبية غير ما تسميه (( المجد القومي والشرف القومي )) .
منافسة الشعوب في المستعمرات والأسواق :
وقد سبقت إلى هذا الاستعمار والامتلاك أمم وتخلفت أخرى ، ثم نهضت الأخيرة تنافسها وتطالب بأسهامها وتبحث لها عن مستعمرات وغالباً ما تنشب بينهما الحروب لذلك.

الفصل الثالث
أوربا إلى الانتحار

عصر الاكتشاف والاختراع :
مهما بالغ المبالغون في إطراء الصناعات والمخترعات في أوربا ، وبرغم إعجابنا بها ، ينبغي ألا ننسى أن هذه المخترعات ليست غايات في نفسها ، بل هي وسائط ووسائل لغاية أخرى .
الغاية من الصناعات والمخترعات ، وموقف الإسلام منها : الغاية هي التغلب على العقبات في سير الحياة والانتفاع بقوى الطبيعة المودعة في هذا الكون واستخدامها لمقاصد صحيحة من غير علو في الأرض ولا فساد . إن موقف الإسلام في ذلك بيِّن واضح ، فالإنسان خليفة الله في الأرض قد سخر الله العالم لأغراضه الصحيحة فالمسلم ينتفع بكل ما خلق الله من قوة في الجهاد في سبيل الله ، ونشر دينه ، وفيما أباح الله ورغبة فيه من تجارة مشروعة وكسب حلال ، فالمصنوعات الجمادية خاضعة لإرادة الإنسان فهو الذي يجعلها باستعماله لها خيراً أو شراً .
عدم تعادل القوة والأخلاق في أوربا : إن الأوربيين قد فقدوا تعادل القوة والأخلاق والتوازن بين العلم والدين منذ قرون ، فلم تزل القوة والعلم في أوربا بعد النهضة الجديدة ينموان على حساب الدين والأخلاق .
قوة الآلهة ، وعقل الأطفال : يقول الأستاذ (( جود )) الإنجليزي : (( إن العلوم الطبيعية قد منحتنا القوة الجديرة بالآلهة ، ولكننا نستعملها بعقل الأطفال والوحوش(232) )) .
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم : أصبحت هذه المخترعات وضررها أكبر من نفعها .
أوربا في الانتحار : والحاصل أن الغربيين لما فقدوا الرغبة في الخير والصلاح ، لم تزدهم العلوم والمخترعات إلا ضرراً .
القنبلة الذرية وفظائعها: أذاع رئيس بلدة (هيروشيما) في 1949م أن الذين هلكوا في السادس من آب 1945م من اليابانيين يقارب عددهم مائتي ألف وأربعين ألفاً .
والذي خبث لا يخرج إلا نكدا :
وقد تضعضع أساس المدنية الأوربية ، كما ذكرنا بتفصيل ، ولم يزل بناؤه متزعزعاً ، ولم تزده الأيام ولم يزده الارتفاع إلا زيغاً واختلالاً، وفسدت بذرتها ، فلم تصلح شجرتها ولم تطلب ثمرتها {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً }.

الفصل الرابع
رزايا الإنسانية المعنوية
في عهد الاستعمار الأوربي

إن الذي يهمنا رزيئة العالم الإنساني وخطب المجتمع البشري في الروح والأخلاق والنفس في عهد النفوذ الأوربي العام .
بطلان الحاسة الدينية : ورث الشرقي أبًا عن جد أسئلة تدور حول غاية هذا العالم وهل بعده حياة ، وشغلت خاطره طيلة قرون . ولم يزل في الناس عدا حواسهم الخمس حاسة سادسة نسميها بالحاسة الدينية ، وإن أشد العقبات التي واجهها الأنبياء والدعاة ، هم أولئك الذين حرموا الحاسة الدينية . ولاشك أن هذه الأسئلة كانت موضوع دراسة العلماء والمفكرين في فجر النهضة الأوربية الجديدة ، ولكن كلما قطعت المدنية الأوربية شوطًا تخلفت هذه المباحث والأسئلة شوطًا ، ولم يكن ذلك عن إيمان واقتناع بحل صحيح . كلا ! لم يكن ذلك إلا لأن هذه الأسئلة قد فقدت أهميتها وأخلت مكانها لأسئلة مادية أهم في أعين أبناء القرنين التاسع عشر والعشرين منها .
إن داء هذا العصر الذي لا ينجح فيه الدواء ولا يؤثر فيه العلاج هو الاستغناء التام عن الدين.
زوال العاطفة الدينية : لما طغى بحر المادية في العالم الإسلامي في العهد الأخير ، كون رجال الدين جزراً صغيرة في بحر المادية المحيط ، يلجأ إليها الفارون إلى الله والمتبرمون من الحياة المادية ، وكنت ترى في العالم الإسلامي حركة مستمرة إلى هذه الجزر .واستمر هذا الإقبال على الدين إلى أول عهد الاستعمار الأوربي . ثم سرى الشك في الأوساط الدينية بتأثير المحيط والتعاليم الإفرنجية وضعفت الثقة بالله ، فأصبح الآباء يضنون بأولادهم على الدين ، وهكذا انقرض هذا الجيل ، ولفظ هذا العهد الروحي نفسهُ الأخير ، وتلاه عهد المادة .
طغيان المادية والمعدة : تضخمت معدة الحرص في الإنسان حتى صارت لا يشبعها مقدار من المال ، وأصبح الإنسان نهما يلتهم الدنيا التهاماً ، ويستنزف موارده حلالاً وحراماً . وهذا المجتمع لا تزال مقاييسه للشرف تتغير ومعاييره للإنسانية تتبدل وتتحول ومطالبه تتنوع ، حتى يضيق الإنسان بها ذرعاً ويلجأ إلى طرق غير شريفة لتحصيل المال وإلى كدح وكد في الحياة .
ارتفعت قيمة المال في عيون الناس ارتفاعاً لم تبلغه في الزمن السابق ، وبلغ من الأهمية والمكانة مبلغاً لم يبلغه – على ما نعرفه – في دور من أدوار التاريخ المدون .
التدهور في الأخلاق والمجتمع : احتل الأجانب الشرق الإسلامي وقد أصاب المجتمع الشرقي الإسلامي انحطاط في الأخلاق والاجتماع ، وسبقت إليه أدواء خلقية واجتماعية كانت أهم أسباب انهيار الدول الإسلامية وانهزام الأمم الشرقية . ولكن مع ذلك لم يزل المجتمع الشرقي الإسلامي – على علاته – محتفظاً ببعض المبادئ الخلقية السامية والخصائص الاجتماعية الفاضلة التي لا يوجد لها مثيل في الأمم ، وقد نضج واكتمل فن الأخلاق عند الشرقيين ووصل من الدقة والتفصيل ذروة لا يصل إليها ذهن العصر ، ولا يتصورها الغربي إلا في الشعر والأدب . ولكن مع مرور الزمن بدأ كل ذلك بالتدهور وأخذ الانحطاط مجراه وتسرب إلى المجتمع الشرقي فكر المصلحة والمادية الغربية. فالذهن الغربي والمنطق العصري أصبحا عاجزين عن الاهتداء إلى منفعة غير محسوسة ، وأصبح العقل الأوربي محامياً عن المادية لا يحكم على الأخلاق بالحسن والصحة إلا بمقدار جلبها للمنافع المادية ، وأصبحت الأخلاق التي لا وزن لها في ميزان المادة ، ينتقص كل يوم سلطانها على القلوب والعقول . ولا يهم المجتمع الآن كيف يعامل الولد والده أو الزوجة زوجها إذا كان هؤلاء الأفراد لا يزالون في الدائرة المدنية وما دام لا يحدث هذا اضطراباً في المجتمع فلا بأس إذا كان هنالك عقوق من ولد أو دعارة من امرأة أو فسق من رجل أو خيانة من زوجة .

*************************************

الباب الخامس
قيادة الإسلام للعالم

الفصل الأول
نهضة العالم الإسلامي

 اتجاه العالم بأسره إلى الجاهلية : لأسباب تاريخية عقلية ، طبيعية قاسرة ، تحولت أوربا النصرانية جاهلية مادية ، وأصبحت لا تؤمن في الحياة الشخصية إلا باللذة والمنفعة المادية ، وفي الحياة السياسية إلا بالقوة والغلبة ، وفي الحياة الاجتماعية إلا بالوطنية المعتدية والجنسية الغاشمة

استيلاء الفلسفة الأوربية على العالم : ليس على وجه الأرض اليوم أمة أو جماعة تخالف الأمم الغربية في عقائدها ونظرياتها .
الشعوب والدول الآسيوية : أما الشعوب والدول الآسيوية فهي في طريقها إلى الغاية التي وصلت إليها شعوب أوربا ، إلا أنها لا ترضى أن يتولى أمرها النزلاء الأجانب . وكلما سنحت لهذه الأمم فرصة الاستقلال تجلت أخلاقها ومبادئها وظهرت سيرتها الجاهلية في صورتها الطبيعية الحقيقية . ثم إن هذه الأمم أفلست إفلاساً شائناً في الدين والأخلاق ، وقد أشربت في قلوبها حب المال والمادة .
الحل الوحيد للأزمة العالمية : والحل الوحيد هو تحول القيادة العالمية وانتقال دفة الحياة من اليد الأثيمة الخرقاء التي أساءت استعمالها إلى يد أخرى بريئة حاذقة .
العالم الإسلامي على أثر أوربا : من الغريب أن المسلمين قد أصبحوا حلفاء للجاهلية الأوربية وجنوداً متطوعين لها . فترى المادية الغربية في البلاد الإسلامية في كثير من مظاهرها وآثارها .
المسلمون على علاتهم موئل الإنسانية وأمة المستقبل :
ولكن المسلمون هم الأمة الوحيدة على وجه الأرض ، التي تعد خصيم الأمم الغربية وغريمتها ومنافستها في قيادة الأمم ، والتي يعزم عليها دينها أن تراقب سير العالم وتحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها ، وأن تقودها إلى الفضيلة والتقوى ، وإلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، وتحول بينها وبين جهنم بما استطاعت من القوة ، والتي يحرّم عليها دينها ويأبى وضعها وفطرتها أن تتحول أمة جاهلية . هذه هي الأمة التي يكن أن تعود في حين من الأحيان خطراً على النظام الجاهلي الذي بسطته أوروبا في الشرق والغرب وأن تحبط مساعيها
رسالة العالم الإسلامي : لا ينهض العالم الإسلامي إلا برسالته التي وكلها إليه مؤسسه صلى الله عليه وسلم والإيمان بها والاستماتة في سبيلها ، وهي رسالة قوية واضحة مشرقة ، لم يعرف العالم رسالة أعدل منها . وهي الرسالة نفسها التي حملها المسلمون في فتوحهم الأولى . وقد ظهر فضل هذه الرسالة وسهل فهمها في هذا العصر أكثر من كل عصر ، فقد افتضحت الجاهلية وبدت سوآتها للناس واشتد تذمر الناس منها .
الاستعداد الروحي : ولكن العالم الإسلامي لا يؤدي رسالته بالمظاهر التي جادت بها أوربا على العالم ، إنما يؤدي رسالته بالروح والقوة المعنوية التي تزداد أوربا كل يوم إفلاساً فيها . فالمهم غرس الإيمان في قلوب المسلمين وإشعال العاطفة الدينية ، ونشر الدعوة إلى الله ورسوله
الاستعداد الصناعي والحربي : ولكن مهمة العالم الإسلامي لا تنتهي هنا ، فعليه بالمقدرة ، والاستعداد التام في العلوم والصناعة والتجارة وفن الحرب ، وأن يستغني عن الغرب في كل مرفق من مرافق الحياة ، أما ما دام العالم الإسلامي خاضعاً للغرب فلا يستطيع أبداً أن يواجه الغرب فضلاً عن أن يناهضه.
تبوء الزعامة في العالم والتحقيق : وقد تنازل العالم الإسلامي – بما فيه العالم العربي – منذ زمن طويل عن مكانته في القيادة العلمية والتوجيه ، والاستقلال الفكري ، وأصبح عيالاً على الغرب متطفلاً على مائدته .
التنظيم العلمي الجديد : ولابد للعالم الإسلامي من تنظيم العلم الجديد بما يوافق روحه ورسالته . فإذا أراد العالم الإسلامي أن يستأنف حياته ، وإذا كان يطمح إلى القيادة ، فلا بد إذن من الاستقلال التعليمي ، بل لابد من الزعامة العلمية وما هي بالأمر الهين .
بالاستعداد الروحي والاستعداد الصناعي والحربي والاستقلال التعليمي ينهض العالم الإسلامي ، ويؤدي رسالته وينقذ العالم من الانهيار الذي يهدده .

الفصل الثاني
زعامة العالم العربي

أهمية العالم العربي : إن العالم العربي له أهمية كبيرة في خريطة العالم السياسية . وهذا جعل العالم العربي محط أنظار الغربيين ، وكان رد فعله أن نشأ فيه شعور عميق بالقومية العربية .
محمد رسول الله روح العالم العربي : المسلم ينظر إلى العالم العربي بغير العين التي ينظر بها الأوربي والوطني العربي ، إنه ينظر إليه كمعهد الإسلام ومشرق نوره ومعقل الإنسانية ، وموضع القيادة العالمية ، ويرى أن العالم العربي استمد أهميته من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه روحه ، فإذا انفصل عن هذا زالت أهميته. فالإيمان هو قوة العالم العربي.
تضحية شباب العرب قنطرة إلى سعادة البشرية : بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغت شقاوة الإنسانية غاية ما وراءها غاية ، وكانت قضية الإنسانية أعظم من أن يقوم لها أفراد متنعمون لا يتعرضون لخطر ولا لخسارة ولا محنة ، إنما تحتاج هذه القضية إلى أناس يضحون بإمكانياتهم ومستقبلهم في سبل خدمة الإنسانية وأداء رسالتهم المقدسة ، إنه لا بقاء للإنسانية ولا قيام لدعوة كريمة بغير هؤلاء المجاهدين ، وبشقائهم في الدنيا – كما يعتقد كثير من معاصريهم – تنعم الإنسانية وتسعد الأمم . لذلك اختار الله العرب لأنهم كانوا الوحيدين المستعدين للتضحية عند البعثة.
وهكذا كان شأن العرب والذين احتضنوا هذه الدعوة منهم فقد كان نصيبهم من متاعب الجهاد وخسائر النفوس والأموال أعظم من نصيب أي أمة في العالم لأن سعادة البشرية إنما كانت تتوقف على ما يقدمونه من تضحية وما يتحملون من خسائر ونكبات.
وقد وقف العالم في القرن السادس المسيحي على مفترق الطرق إما أن يتقدم العرب ويعرضوا كل ما يعز عليهم للخطر فيسعد العالم وتستقيم البشرية ، وإما أن يؤثروا شهواتهم فيبقى العالم في حمأ الضلالة والشقاء ، وقد أراد الله بالإنسانية خيراً وتشجع العرب – بما نفخ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم من روح الإيمان – فقدموا أنفسهم فداء للإنسانية .
وقد استدار الزمان كهيئته يوم بعث الرسول ووقف العالم على مفترق الطرق مرة ثانية إما أن يتقدم العرب – وهم أمة الرسول وعشيرته – إلى الميدان ويغامروا بنفوسهم ويخاطروا فيما هم فيه فينهض العالم من غثاره وتتبدل الأرض غير الأرض وإما أن يستمروا فيما هم فيه من طمع وطموح ، فيبقى العالم في هذا المستنقع الذي يتردى فيه منذ قرون . إنه لثمن قليل جداً لسلعة غالية جداً .
العناية بالفروسية والحياة العسكرية : من الحقائق المؤلمة أن الشعوب العربية فقدت كثيراً من خصائصها العسكرية ، فالمهم لرجال التعليم وقادة الشعوب العربية أن يربوا الشبيبة العربية على الفروسية والحياة العسكرية ، وعلى البساطة في المعيشة وخشونة العيش والجلادة وتحمل المشاق والمتاعب ، والصبر على المكروه !. وأن يحاربوا بكل قوتهم ما يضعف روح الرجولة .
محاربة التبذير والفرق الهائل بين الغني والصعلوك :
وقد اعتاد العرب حياة الترف والإسراف . وبجانب هذا الترف جوع وفقر فاضح ، يراه الناظر في عواصم البلاد العربية فتدمع العين ويحزن القلب ، وما دامت التخمة والجوع يزخران في مدينة واحدة ، فالباب مفتوح على مصراعيه للشيوعية والثورات والاضطراب .
التخلص من أنواع الأثرة :أتى على العالم العربي عهد في التاريخ كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد ، هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة ، وكانت الأمة كلها تعيش عيش الصعاليك .
إن هذا العهد غير قابل للبقاء ، إنه لا مجال في الإسلام لأي نوع من أنواع الأثرة ، لأنها يجمع أنواعها ستنتهي وإن الإنسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاماً شديداً .
إيجاد الوعي في الأمة : إن أخوف ما يخاف على أمة ويعرضها لخطر هو فقدان الوعي في هذه الأمة ، إن الشعوب الإسلامية والبلاد العربية ضعيفة الوعي أو فاقدة الوعي وإن الأمم الأوربية – برغم عيوبها الكثيرة – قوية الوعي ، فمن أعظم ما تخدم به الأمة هو إيجاد الوعي في طبقاتها
استقلال البلاد العربية في تجارتها وماليتها :
وكذلك لابد للعالم العربي – كالعالم الإسلامي – من الاستقلال في تجارته وماليته وصناعته وتعليمه ، إن العالم العربي لا يستطيع أن يحارب الغرب وهو مدين له في ماله .
تقدم مصر في ميدان التجارة والصناعة والعلم :
ولابد هنا من الاعتراف بأن مصر قد أثبتت كفايتها واستعدادها الكبير في ميدان العلم والصناعة ، وتربية الرجال ، ونشر الثقافة ، ونقل العلوم العصرية إلى اللغة العربية .
رجاء العالم الإسلامي من العالم العربي : والعالم العربي بمواهبه وخصائصه وحسن موقعه وأهميته السياسية يحسن الاضطلاع برسالة الإسلام ، ويستطع أن يتقلد زعامة العالم الإسلامي
إلى قمة القبلة العلمية :
ما أعظم التطور الذي حدث في تاريخ العرب على إثر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وما أعظم النعمة التي أسبغها الله على العرب . نقلهم من جزيرتهم التي يتناحرون فيها إلى العالم الفسيح الذي يقودونه بناصيته . لقد قام العالم الكبيرة على أساس العقيدة الواحدة ، والإيمان العميق والصلة الروحية القوية ، هذه هي القيادة العالمية التي هيأتها البعثة المحمدية ، وهي القيادة التي يجب أن يحرص عليها العرب أشد الحرص ، إن الطريق إلى هذه القيادة ممهدة ميسورة للعرب ، وهي الطريق التي جربوها في عهدهم الأول (( الإخلاص للدعوة الإسلامية واحتضانها والتفاني في سبيلها وتفضيل منهج الحياة الإسلامي على جميع مناهج الحياة )) .

**************************************

 (13) Encyclopeadia Britanica .See Justin

(65) اقرأ استهلال قصة مها بهارات ( الملحمة الهندية الكبرى ) .
(66) R . C . Dutt 331 .
(88) سورة البقرة ، آية 232 .
(89) النساء آية 19 .
(112) إيران في عهد الساسانيين ص 162.
(151) رواه أبو داود .
[*] لمعلومات مفصلة حول هذه المرحلة وكيفية نهضة ذلك الجيل انظر كتاب: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس. د. ماجد عرسان الكيلاني.
(192) المجدار : ما ينصب في الزرع لطرد الطير والوحش .
[†] للاستفاضة في موضوع الفلسفة الماركسية ووحدة الوجود الاقتصادي انظر كتاب الفردوس المستعار للطبيب المفكر الأستاذ أحمد خيري العمري.
[‡] هذا هو السبب الأساسي لمعارضة النظرية الدارونية لمقتضى الدين لأنها تنفي وجود خالق مسيِّر لهذا الكون.
(232) Guide to Modern Wickedness . p . 261.

كُتب في كتب, منائر | التعليقات على ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ مغلقة

تفعيل مقاصد الشريعة في العمل الدعوي (الشيخ الدكتور أحمد السعدي)

إنني أظن أنَّ أهمَّ موضوعٍ ينبغي أن يتصدَّى له علماء الدعوة اليوم هو علاقة مقاصد الشريعة بالدعوة إلى الله عزَّ وجل
ذلك أنَّ علم المقاصد ـ إن صحَّ جعله علماً مستقلاً ـ تطوَّر على أيدي علماء كبار من محققي الأصوليين كالعز بن عبد السلام والقرافي وابن رجب والشاطبي إلى ابن عاشور وعلال الفاسي . . . وقد بقي هذا العلم ـ أو الاتجاه العلمي ـ ينحو منحى التعميم حيث حُصِرَت المقاصدُ في الغايات الكبرى للرسالات السماوية جمعاء بحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال ، مرتبةً على ثلاث مراتب هي الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وقد تحصَّل من جهود المتقدمين سلَّم للأولويات يتألف من خمس عشرة درجة هي الغايات الخمس مضروبةً بمراتبها، فيقدَّم مثلاً ما كان ضرورياً للدين على ما كان حاجياً ، ويقدم ما يكون حاجياً للدين على ما يكون كذلك للنفس وهكذا . . .
غير أنَّ هذا التنظير العام بقي محلِّقاً في العموميات ، وهذا بدهي حسب نظرة المتقدِّمين ؛ لأنَّ مرادهم بالمقاصد الغايات الكبرى . على أنَّ الذي يريده المسلم العادي ، والذي يتوجه إليه الدعاة والعلماء في وعظهم وخطبهم بل وبيانهم لمعالم الحلال والحرام هو المستوى الأخص ـ إن صحَّ التعبير ـ . وقد تنبه العلماء المعاصرون لهذا [1] ، ومن ثمَّ حاولوا أن ينظروا للمقاصد من جهة علاقتها بالجزئيات وذلك سعياً منهم لتفعيل هذه المقاصد في حياة الناس ، فصاروا يتحدثون عن مقاصد العبادات ومقاصد المعاملات ، ومقاصد العقوبات . . . بل راحوا يتحدثون عن مقاصد الطهارة ومقاصد الزكاة ومقاصد حد السرقة . . . ، أي أنَّهم عادوا بعلم المقاصد إلى جزئيَّات الأحكام ، والغاية من ذلك ربْطُ الأحكام بعللها والتشريعات بحكمها والفتاوى بأسبابها ومؤيداتها من العقل والنقل من جانب ، وتفويت الفرصة على مَنْ يريد العبث والإفساد مستغلَّاً عموم المقاصد ، من جانب آخر ، وتحويلُ المقاصد عبر ربط الجزئيات بها إلى مناهج مؤثِّرة في سلوك الناس.
ولو أنَّا نظرنا في هذه الغايات الثلاث لوجدنا أنَّ عمل الدعاة أحوجُ ما يكون للضبط بمقاصده الشرعية ؛ لأنَّ الدعوة هي التي تصوغ المسلم في شخصيته وسلوكه ، والعامة تَبَعٌ للعلماء ، لذا فتقويم عمل الدعاة سبيل لتقويم سلوك الأمة جمعاء من كان منهم من المسلمين أو من دخل في دين الإسلام حديثاً ، وأبسط مثال على ذلك أنَّ كثيراً ممن يسلم على أيدي الدعاة يصطبغ بصبغتهم الفكرية والسلوكية صوفيين أو سلفيين أو غير ذلك … ، و من ثَمَّ فعمل الداعية ( لا سيما في عصرنا الذي تأكَّد فيه وجوب الدعوة وجوباً عاماً من ناحية ، وصار للدعاة فيه مكانة حرَّكت في الشارع الإسلامي التعلُّقَ بالدعاة حتى في لباسهم ربما من ناحية أخرى ) أحوجُ ما يكون للضبط بالمقاصد الشرعية المقصودة منه . وإنني أعتقد أنه بردِّ مناهج الدعوة إلى بيانٍ وتفصيلٍ مقاصدي تتَّضِح معالم الطريق الدعوي و تتضاءل مساحات الخلاف و تتخلَّص الدعوة من بعض شوائبها وسلبياتها .
ولست أريد في مقال صغير أن أتحدَّث بتفصيلٍ وافٍ عن كيفية تفعيل مقاصد الشرع في جهود الدعاة ؛ لأنني أظنُّ أن ذلك يحتاج إلى مقامٍ آخر ، وحسبي أن أنبِّه على عملٍ يحرك همَّة أولي الأمر للنظر فيه ، ويثير بعض النقاط التي تحتاج إلى جهود مخلصة لفصل الخلاف فيها .
وبناءً على ما تقدَّم فإني أودُّ الحديث عن بعض القضايا المهمَّة في هذا الباب ، موجزاً لأهم ما أراه واجبَ البيان هنا ، مشيراً لبعض مناحي الاختلاف في هذه النقاط ، تاركاً التفاصيل وما يكون من قبيل إتمام صورة البحثِ وتكامل أركانه إلى بحث أو كتاب ، أو باحث وكاتب يجلو الصورة بكمالها .غير أني سأقدِّم مسألة مهمَّة جدَّاً لبيان أنَّ الفصل في هذه القضايا ليس بالأمر السهل ؛ لأنَّه يحتاج لاجتهاد علميٍّ رصين ، عمدته فهم مقاصد الشرع العامَّة و معرفة كيفيَّة تنزيلها على الحوادث و الجزئيَّات الخاصَّة .

العلم بالمقاصد شرط في المجتهد :

إنَّ النظر في الكلِّيَّات ، وربطَ ذلك بالجزئيَّات مهمَّة اجتهاديَّة ، أي أنَّها تحتاج إلى ملكات و أدوات لا يحصِّلها إلا نخبة من الناس ، وعلى رأس هذه الأدوات العلم بالمقاصد كما يرى الإمام الشاطبي رحمه الله حيث يقول : ” الاجتهاد إن تعلَّق بالاستنباط من النصوص فلا بد من اشتراط العلم بالعربية ، وإن تعلَّق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردةً عن اقتضاء النصوص لها، أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص ، فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية ، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلاً خاصة “([2]) ، و يقول في موضع آخر : ” إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين، أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها. أما الأول: فقد مرَّ في كتاب المقاصد أنَّ الشريعة مبنية على اعتبار المصالح ، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك ، لا من حيث إدراك المكلف… واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب، فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فَهِمَ عن الشارع فيه قصدَه في كل مسألة من مسائل الشريعة ، وفي كل باب من أبوابها ، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزُّلِهِ منزلةَ الخليفةِ للنبي صلى الله عليه وسلَّم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله . وأما الثاني: فهو كالخادم للأول، فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولاً ومن هنا كان خادماً للأول ، وفي استنباط الأحكام ثانياً…” ([3]) ، فكأنه يجعل القدرة على الاستنباط فرع فهم المقاصد وبالتالي فلا شرط سوى معرفة المقاصد ، أمَّا القدرة على الاستنباط فهو وسيلة ولكن ” لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط ، فلذلك جعل شرطاً ثانياً ” . ([4])
ثُمَّ إنَّ النظر المقاصديَّ في اعتقادي ليس أمراً يتعلَّق بطبيعة الإنسان و تفكيره وأسلوب تربيته ، بحيث يمكن أن نجد عالماً لا يعتبر المقاصد ألبتة ، و آخر يعتبرها أبداً ، بل لا يكون العالم عالماً ما لم يكن له نظرٌ مقاصدي ، وهذا معنى اشتراطه في كلِّ مجتهد ، لكنَّ أسلوب التفكير مع البيئة و التربية ، كلُّ ذلك يساهم في تحديد مدى إعمال المقاصد والاعتماد عليها في النَّظر العلمي ، ولا بأس أن أناقش سريعاً ما ذهب إليه بعض العلماء المعاصرين من أنَّ شرطَ العلم بالمقاصد شرط صحة لا شرط ملكة([5]) ، أي أنه يمكن أن يكون العالم مجتهداً وإن لم يعرف المقاصد أو لم يعترف بها، حيث استدل على ما ذهب إليه بدليلين:
الدليل الأول : الحديث المشهور الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وفيه يقول: ” قال النبي صلى الله عليه و سلَّم لنا لما رجع من الأحزاب : ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) ، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، لم يُرِدْ منَّا ذلك ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلَّم فلم يعنف واحداً منهم “([6]) .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلَّم لم يَلُم أولئك الذي خالفوا ما يقتضيه ظاهر اللفظ دون إعمال المقصد ، فالذين لم يصلوا فاتتهم صلاة العصر، ومع ذلك لم يستجيبوا لما يظهر أنه المقصد من توجيهه صلى الله عليه و سلَّم وهو الإسراع دون تفويت الصلاة .
الدليل الثاني: أنَّ الظاهرية وبعض الشيعة والمعتزلة ينكرون تعليل الأحكام والقياس، وهم مع هذا مجتهدون على الصحيح ، وهذا دليل على أنَّ الإنسان يمكن أن يبلغ مرتبة الاجتهاد وإن لم يراع المقاصد ، لكن اجتهاده يغلب عليه الخطأ وإن كان صاحبه معذوراً بل مأجوراً.
وليس هذان الدليلان بِرادَّيْنِ ما تقدَّم من رأي الشاطبي الذي تعضده النصوص واالأصول والمؤيدات الشرعيَّة المختلفة ، كما أنَّ دلالتهما على قبول اجتهاد من لم يفهم المقاصد لا تسلَّم ، وذلك للأمور التالية:
1- إذا نفينا العلم بمقاصد الشريعة عن أصحاب رسول الله وهم الذين شاهدوا التنزيل وعاينوا أحواله وأقواله صلى الله عليه و سلَّم ، وتميَّزوا بفطرة سليمة ، وفهمٍ عميق ناجم عن طبيعة البيئة والمكان ، فمن يمكن أن نصفه بمعرفة المقاصد؟‍ وهل استدللنا على وجوب العلم بالأصول بغير مسلكهم في تعاملهم مع النصوص؟ لو كان صحيحاً أن في مجتهدي الصحابة من لا يعرف المقاصد ولا يراعي العلل والحكم لمَا كان معنى لاشتراط العلم بها لا لصحة الاجتهاد ولا لإيقاعه أو ملكته.
2- أساس الخلاف بين الصحابة في الصلاة في الطريق ناجم عن تعارض دليلين: الأول : أمر الله ورسوله بمراعاة وقت الصلاة، والثاني أمره صلى الله عليه وسلَّم بالصلاة في بني قريظة، ولكلٍّ وجهة نظرٍ في الترجيح ، وكلاهما مطبِّق لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في عموم أو خصوص.
3- إذا سلمنا أن مقصده صلى الله عليه و سلَّم من الأمر بالصلاة في بني قريظة هو الإسراع إليهم ، فلماذا نحكم بتحقيق هذا المقصد من الذين لم يسرعوا ، وبعدم تحقيقه من الذين أجَّلوا الصلاة لأجل الإسراع ؟ أمَّا إذا كان المقصد الحثُّ على الإسراع ، فهذا تختلف الأنظار في فهمه وتوجيهه ، والتزام النصوص عند الاحتمال أسلم إذا وجد الشك ، فإذا انتفى الشكُّ جاز العمل بمقتضى المقصد. وغاية ما في الحديث أنَّ من التزموا أمرَ رسول الله صلى الله عليه و سلَّم بالصلاة في بني قريظة شكُّوا في أن يكون مقصده هو الحث ، وهذا الشكُّ هو الذي دفعهم للأخذ بالأمر على ظاهره ، إلا أنهم لم يفهموا مقاصد الشرع ولم يعرفوا أهدافه العامة.
4- معرفة علَّة حكمٍ ما تتعلَّق بالقياس ، و إنَّما الحديث في وجوب معرفة مقصد كل مسألة عن طريق ربط ذلك بالمقاصد العامة ، وليس في الحديث أنَّ الصحابة الذين لم يصلُّوا في الطريق لم يفهموا المقاصد العامة للشرع ، فالدليل في غير موضع النزاع .
5- أما من لا يرى التعليل للنصوص فليس حجة في أنَّ المجتهد لا يشترط فيه علم المقاصد ، ذلك أنَّ نفاة القياس لا يجهلون مقاصد الشرع العامَّة ، فابن حزم مثلاً لم ينكر القياس إلا بعد معرفته ، والناظر في فتاوى ابن حزم رحمه الله يراه عالماً بمقاصد الشرع فاهماً لأهدافه العامة ، فإذا لم يطبق ذلك في مسائل فهذا خطأ الاجتهاد لا اختلال الشرط ، ونفيه رحمه الله للتعليل أوقعه كما قال العلماء في طامات ، ولكن تطبيقاته دالة على أنَّه إن لم يقل بالقياس في الجزئيات فهو معتبر لها من حيث جملة الشريعة ، ولهذا تفصيل ليس هذا مكان الإسهاب فيه، غير أنه وبالنتيجة كما أن ابن حزم رحمه الله ومن وافقه لا يصدُّون عن اشتراط العلم بالقياس فكذا الأمر هنا ، بل ههنا آكد .

النقطة الأولى ـ الدعوة إلى الله مقصد أم وسيلة :

هناك طرق وضعها الأصوليون لتحديد المقاصد ، ومع هذا التحديد لم يخلُ الأمر من اختلاف في التطبيق ، ولذا يبقى تحديد المقصد أمراً يحتمل البحث والتردد ، إلا أنَّ المهم هنا التنبيه على ضرورة حسم هذه المسألة ، ذلك أنَّ المقصد أهم من الوسيلة ، ولا يعني هذا أنَّ الغاية تسوِّغ الوسيلة ، لكن يعني أنَّه عند الترجيح للتعارض يقدَّم المقصد ، وعلى سبيل المثال : لو شعر داعية أن خلوته بامرأة يدعوها إلى الله ضرورية ( ضمن ضوابط وتحرير نية بلا شك ) فهل الدعوة كونها مقصداً يتعلَّق بالدين مقدَّمة على منع الخلوة كونها وسيلة قد تفضي لخرم مقصد يتعلَّق بالعرض ، والأمثلة على هذا كثيرة يمكن أن تخرَّج على أساس تحديد مكانة الدعوة في المقاصد الشرعية .
ولا شكَّ أنَّ الأمر قد يكون مقصداً لما هودونه في المرتبة ، ووسيلة لما هو فوقه ، أي أنَّ كون الشيء وسيلة لا يناقض كونه مقصداً من جانب آخر ، بالإضافة لذلك قد يكتسي الأمر ثوب المقصد للاهتمام الشديد من الشارع به ، و إن كان في الأصل وسيلة ، ويمكن أن تكون الدعوة من هذا ، أو ذاك ، أو من كليهما .

النقطة الثانية ـ هل الهداية مقصد شرعي ؟

يمكن أن يتعجَّل كلُّ فريقٍ الإجابةَ ، ذلك أنَّ الهداية بمعنى إيصال المدعو إلى طريق الحقِّ أمرٌ جعله الله عزَّ وجل بيده ، قال تعالى : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } [ البقرة : 272] ، وقال سبحانه : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }[ القصص : 56] ، والآيات في هذا كثيرة معروفة . وللفريق الآخر أن يقول : إن لم تكن الهداية غايةً فلِمَ البيان ؟ هل يعمل المسلم في الدعوة لتوسيع علاقاته الاجتماعية ؟ ! !
ظاهر أنَّ المقصود من الدعوة هداية الناس ، لكن مَنْ أعرض فعليه وزره ، أما أنَّ الهداية بيد الله فهذا شأن كل حركة أو سكون في هذا الكون ، إنَّ مقصِدَ من يفتح متجره في الصباح إنَّما هو الرزق ، وكل مسلم يعتقد أنَّ رزقه بيد الله ، وبالتالي فالهداية مقصد الداعية في دعوته ، والسعي لتحقيقها بين الناس مقصد شرعيٌّ مقدَّم على الجهاد الذي هو سنام الإسلام ، بل إنَّ الجهاد ماشُرِع إلا ليكون وسيلة من وسائل الهداية ، وهو وسيلة دون الدعوة بلا شك ، وانظر إلى قول الخطيب الشربيني من كبار علماء الشافعيَّة ، في كتاب هو عمدة في المذهب ، وفي عبارة تزن الكتاب من الذهب ، : ” وجوب الجهاد وجوب الوسائل لا المقاصد ، إذ المقصود بالقتال إنما هو الهداية ، وما سواها من الشهادة ، و أمَّا قتل الكفار فليس بمقصود ، حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد “[7] .
وبناء على الاختلاف بين الرأيين تبرز عدة مسائل كثيراً ما يتداول الدعاة بحثها ، فالفريق الأول يرى أنَّنا لسنا معنيين بهداية الآخرين ، و إنما واجبنا بيان الدين لهم عبر دعوة تقدِّم الإسلام تامَّاً غير منقوص ، أعجب الأمرُ المدعوِّين أم لم يعجبهم ، في حين يردد الفريق الآخر مع ابن تيميَّة : ” التائب من الذنوب و المتعلِّم و المسترشد ، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ، و يذكر له جميع العلم ، فإنَّه لا يطيق ذلك ، و إذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال ، و إذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم أو الأمير أن يوجبه جميعه ابتداء ، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان ، كما عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عما عفا عنه إلى وقت بيانه ، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات ؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل ، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط ” [8].
وثَمَّ مواقفُ من السيرة النبوية قد يستدلُّ كلُّ فريق لموقفه بها ، وعلى العالم أن يحرِّر محلَّ النزاع ويربط ذلك بالمقاصد ليتبين الحقَّ في المسألة . فمن هذه المواقف ما ذكره ابن إسحاق في السيرة من أنَّه لما قدم وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا عنده طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم اللات ثلاث سنوات لا يهدمها فأبى ، فما زالوا يسألونه سنة سنة حتى سألوه شهراً واحداً فأبى أن يدعها إلى أي أجل ، وإنما كانوا يخافون ثورة الناس والسفهاء والذراري عند هدمها قبل أن يستقر الإسلام في نفوسهم ، غير أنَّ سياسة النبي صلى الله عليه وسلم الدعوية أبت الإمهال مهما كانت العواقب[9] .
وعلى الجانب الآخر لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يعود بالكعبة إلى ما كانت عليه زمن إبراهيم عليه السلام ـ كما في البخاري وغيره ـ امتنع ممَّا أراد فعله خشيةَ افتتان قومه وقال لعائشة رضي الله عنها : ” لولا أنَّ قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها … “[10] . ويظهر فريق ثالث يستدل بموقف آخر ليوفق بين الأدلة فيذهب إلى أنَّ أحكام الإسلام على نوعين : نوع لا يكون الإسلام دونه كالصلاة ، وفي خبر وفد ثقيف المتقدِّم ، قال صلى الله عليه وسلم : ” لا خير في دين لا صلاة فيه ” ، ونوع من الفروع التي يمكن للداعية والأمير أن يؤخرها لأنها ليست جوهرية في الدين ، وفي حديث أبي داوود عن وهب قال : سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت ، قال : اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد ، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا ) [11].
النقطة الثالثة ـ المداهنة والمجاملة وسيلةً لاستمالة الناس :

أنكر سبحانه على الدعاة مداهنة المدعوين ، بل أنكر كل الإنكار الإعراضَ عن الضعفة رجاء إيمان العظماء ، أوالانشغال بالعمل الدعوي الخارجي ـ كما يمكن أن يفسر ذلك بعض الناس ـ عن بيان الشرع وتثبيت المؤمنين ، كما يفعله كثير من الدعاة اليوم ، قال تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {28} وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } الآية [ الكهف : 28 ـ 29 ] ، وقال جل من قائل : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ }[ القلم : 9] ، فالمداهنة مرفوضة ، والإعراض عن طالبي الحق لهداية أقوامٍ يُظنُّ أنَّ لهم أثراً أكبر في حياة الناس مسألة قد يخالطها قصد الدنيا ” تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ” . وقد سافرت إلى الصين مرة ووقفت على حاجة الناس هناك للدعوة والإرشاد والنصح والبيان ، بل ما أسماه بعض الفضلاء إحياء أمة من أمم الإسلام ، ودخلت مسجداً أحاطني القائمون عليه بكثير من الاهتمام ، ولما سألت عن السرِّ قالوا : ” لا يزور هذا المسجد إلا غير المسلمين ” ، قلت في نفسي ـ وظني في الناس الإخلاص والصدق ـ لِمَ يُيَمِّم كثيرٌ من الدعاة شطر الغرب تاركين الشرق وهو بهم أحق . ولقائل أن يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرم العظماء وربما جامل بعضهم ليثبِّته على الإسلام ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها : ” أنَّ رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه و سلَّم فلما رآه قال بئس أخو العشيرة ، وبئس ابن العشيرة ، فلمَّا جلس تطلَّق النبي صلى الله عليه و سلَّم في وجهه و انبسط إليه “[12] .
ولا شكَّ أنَّ التقريق بين مدعوٍّ و آخر ، وبين المداهنة الممنوعة و المجاملة المحمودة ، تفريقٌ يحتاج إلى دقَّة و تروٍّ ، و إن كان الأول قريب ممَّا يسميه الأصوليون تحقيق المناط ـ وهو ليس خاصاً بالمجتهدين ـ ، في حين أنَّ الثاني من قبيل ما يسمُّونه تنقيح المناط[13] .
وتحرير المسألة لا يكفي فيه توجيه عارض ، بل لابدَّ من النظر في مقاصد الشرع ، وأساليب تعامله مع الخلق زمن النبوة ، ليوضع بذلك منهج يسير عليه الدعاة ، يكون مرجعاً في الخلاف ونبراساً يضيء طريق الدعوة إلى الله .

النقطة الرابعة ـ الدعوة والفتوى :

الناس في هذا فريقان أيضاً ، وهروباً من الخلاف جنح بعض الدعاة إلى التخلي عن وظيفة الإفتاء قائلين إنَّ منهجنا دعوي فلا نتعرض لفتيا ولا نخاصم في الفروع . وهذا ـ في اعتقادي ـ لا يتفق ومقاصد الشرع ، فالله عزَّ وجل يقول : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة : 122] فجعل الله الفقه والإنذار مقصدين بدليلٍ من أقوى أدلة التعليل ( اللام ) ، وقرنَهما في بيان الوظيفة التي أوجبها الله على الدعاة مجيزاً بل موجباً تخلفهم عن الجهاد لأجلها ، ذلك أنَّ الهداية مقصدٌ مقدَّم على الجهاد القتالي كما تقدَّم بيانه .
ثمَّ إنَّ العلماء يقولون إنَّ موضوع الدعوة هو دين الإسلام ، و ما دين الإسلام إلا مجموعة من الأحكام ، تلك الأحكام التي تترجمها الفتيا .
وأما الفريقان فقائل يقول يؤخَّر البيان عند الحاجة ، وقائل يرى وجوب بيان الحكم عند السؤال عنه ولو شعر أنَّ المدعوَّ قد ينفر منه . و ينبني على ذلك موضوع لطالما كان مجالاً لنقاشٍ طويل بين الدعاة ، هل تختلف وظيفة المفتي عن وظيفة الداعية ، و كيف ؟ وما حدود ذلك ؟ أسئلة تنتظر إجاباتها ، وبيان الصواب يرجع إلى ربطٍ محكم ودراسةٍ مؤصَّلة ، تربط أحكام الدعوة بمقاصد الشريعة ، لتفعِّل هذه المقاصد في المجال الدعوي ، وهي دراسة واجبة اليوم أكثر من أي وقت مضى ، والله الميسر وهو يهدي السبيل .
أحمد محمد سعيد السعدي
7 / 5 / 2007 م

[1] هذا لا يعني أنَّ المتقدِّمين لم يعيروا ذلك أيَّ اهتمام ؛ فالحكيم الترمذي ألَّف في المقاصد الشرعيَّة الجزئيَّة ـ وهو أقدم من الجويني و تلميذه الغزالي فضلاً عن الشاطبي ومن بعده ـ ، غير أنَّ ما كتبه المتقدِّمون كان أقرب إلى الحِكَمِ العامَّة منه إلى المقاصد المنضبطة .
([2])- الموافقات للشاطبي، كتاب الاجتهاد، المسألة الخامسة، المجلد الثاني 4/117.
([3])- الموافقات للشاطبي، كتاب الاجتهاد، المسألة الثانية، 4/76-77.
([4])- الاعتصام للشاطبي، الباب العاشر، النوع الثاني 2/339.
([5])- الاجتهاد، د. القرضاوي، ص 46.
([6])- رواه البخاري في صلاة الخوف، باب: صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماء، رقم 904, ونحوه عند مسلم في الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو…، رقم 1770.
[7] مغني المحتاج للخطيب الشربيني ، كتاب السير ، 4 / 277 ( طبعة دار المعرفة ) .
[8] ينظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية ، ت عبد الرحمن بن محمد ، 20 / 60 .
[9] ينظر : فقه السيرة ، د. البوطي ، ص 460 ( الطبعة العاشرة ) .
[10] لفظه عند البخاري : لولا قومك حديثٌ عهدهم بكفر … ، كتاب العلم ، باب من ترك بعض الاختيار …. ، 126 ، واللفظ المثبت لمسلم في الحج ، باب نقض الكعبة و بناؤها ، 1333 .
[11] رواه أبو داود ، الخراج و الإمارة والفيء ، ما جاء في خبر الطائف ، 3025 .
[12] البخاري ، الأدب ، لم يكن النبي فاحشاً و لا متفحِّشاً ، 5685 .
[13] يقصد بتحقيق المناط : النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور الفرعيَّة التي يراد قياسها على الأصل ، ينظر : الوجيز ، الزحيلي ، ص 82 ، و ظاهر أنَّ النظر في مناسبة المدعو أو قابليَّته للاستفادة من الدعوة من هذا القبيل ، و هذا النوع يعتمد على الذكاء و الفطرة المناسبة عند الداعي ، و لا علاقة مباشرة بينه و بين ملكة الاجتهاد . أمَّا تنقيح المناط فهو تعيين العلة من بين الأوصاف التي ربطها الشارع بالحكم ، ينظر : المرجع السابق ، و تحديد المداهنة يعتمد على تحديد علة النهي عنها ، وهو بلا شك من طريق تنقيح المناط ، وهذا يعتمد على ملكة الاجتهاد .

ملاحظة من إدارة الموقع: نبارك لأخينا الفاضل حصوله على شهادة الدكتوراة في الشريعة الإسلامية (وهو أكبر منها بحمد الله) ونسأل الله أن يجعله مفتاحاً لكل خير وينفع به.

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على تفعيل مقاصد الشريعة في العمل الدعوي (الشيخ الدكتور أحمد السعدي) مغلقة

اكتشاف جمالية الإسلام – 2007-05-02

“لايمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالاً أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لابد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره، وأعماله، ومساعيه … فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نزوعاً نحو الإحسان في العمل، وتوخياً للكريم من العادات”[1].
عندما يُغَيَّب الهدى عن عباد الله ، وتصبح حتى رفرفات الأرواح التواقة إلى السداد والهدى أسيرة الظُلمة، فإن كل أثر صالح سوف يحيي موات أمة ويبعث العزائم بعد طول ضياع وسُبات.
ومن ألزم اللوازم إعادة إحياء العناصر الجمالية في تفكير المسلمين، فأكثرهم يستهلك وبسرعة مذهلة، معظم الرصيد الجمالي للأمة عبر نزوع بعضهم إلى الفكر الدموي، أو الخشبي، أو النفاقي، أو الرضى بالذوبان، وبعضهم يعيش الإسلام شكلاً سلوكياً متوحشاً لم ينزع منه حس الجمال فقط، بل نزعت منه كل وشائج الرحمة والإنسانية.
حُدثت عن داعية! قدم ديارنا من بلاد بعيدة، لكنه بري الطباع همجي التفكير كان يبحث عن طبيب مسلم لعلاج زوجته المريضة، فلما أخبره بعض الإخوة بوجود طبيبة حاذقة، رفض الذهاب إليها، وأصر على أن عمل المرأة حرام، ولن يعين هو على معصية!.
ومنتسب آخر إلى الدعوة يحس الإنسان من كلامه ومنطقه أنه يحمل فكراً أقرب إلى التوحش منه إلى المدنية، تزوج من فتاة صالحة فكان يصفعها على خدها فتنقلب من يمين الغرفة إلى يسراها، لعنف اللطمة التي تلقتها.
وآخرون يحملون فكراً تكفيرياً مغرقاً في البدائية (يزعمون الانتساب إلى أهل السنة والجماعة) ذبحوا من الجماعات السنية في العراق مالم يقتله الشيعة ولا الأميركان، وقتلوا بفتاوى أئمة لا تزيد أعمارهم عن العشرين خيرة الدعاة بل والمجاهدين، وانطبق عليهم حقاً ماقاله أحد العلماء يوماً من أن البعض يلتحق بعصابة إسلامية لأنه لم يجد عصابة قطاع طرق يلتحق بها.
وهناك أصحاب عمائم لم يؤثر عنهم ذكر الحق مرة، وكأنهم عاهدوا الشيطان أن يكونوا لكل طاغوت سدنة ولكل فرعون أعوان، فما تسمع منهم إلا الثناء الممجوج والمديح المقزز، والتبرير المتهالك لكل ما يقوم به أولياء نعمتهم من الظالمين!
وقد شاهدت مسجداً جميلاً أبدعته يد مهندسين مهرة، ثم شوهته منارتان بدائيتان خرجتا به عن كل وقار معماري، وعاتبت مسؤولاً يعمل في الآثار، على ذلك القبح الذي أفسد جمال لا المسجد فقط! بل جمال المدينة كلها، وأهدر كل ذوق! فهز رأسه بأسى، وقال: إن الشيخ الذي يتحكم في المسجد رأى أن هاتين المنارتين وبهذا التصميم البدائي المتنافر هو أنسب مايمكن، ووضع كل ثقله في الموضوع فما استطاعت المحافظة ولا الأوقاف والآثار أن تتدخل في الموضوع!
وبحثت مرة عن كتيب لتعليم الأطفال الصلاة فوجدت كتيباً بطباعة رديئة، وصور الطفل وهو يتوضأ في مكان أشبه بمخيم للاجئين، وقد سترت بعض الحاجات بقطعة قماش لم تقدر على إخفاء كل عيوب المكان ففرت بعض الأغراض مطلة برأسها من جهة اليمين واليسار! معلنة أن انعدام الإحساس بالجمال هو الرائد والموجه.
أحب أن أقف قليلاً عند مهرجان للنشيد الإسلامي عقد في دمشق، لم يذكر فيه المقدم كلمة الإسلام ولا مرة واحدة مستخدماً كلمة (الإنشاد الديني) ولعل هناك حكمة رآها الأخ المقدم وخفيت على كل عباد الله، ثم افتتح المهرجان وكان أول المنشدين الأستاذ منذر السرميني (أبو الجود) فأبدع فيما أنشد، وحلق ثم حلق فنقل الحضور إلى عالم أخاذ ومزج الفكر بالعاطفة ومد جسر السلوك لينهل من صفاء الإيمان، وأنطق قلوبنا بالاعتذار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما ذكره من رفيع شمائله ثم عظيم تقصيرنا في حقه عليه الصلاة والسلام… فجزاه الله كل خير ..
ثم … بدأ الديسكو الإسلامي! (وأستغفر الله) .. ورأيت وسمعت مالم أره وأسمعه قط .. وقلت لعالم جالس بجانبي .. إنني ممن يتبع رأي العلامة القرضاوي والغزالي المعاصر والقديم وابن حزم في إباحة أنواع من الموسيقا … (وخصوصاً إذا كانت لغايات نبيلة ونظيفة) .. ولكن هذا الديسكو شيء لا أعتقد أنه مقبول في أي مذهب، ثم تركت الحفل وخرجت .. (وقيل لي أنه بعد عدة فقرات من الديسكو رجع الأمر إلى نصابه …).
عدت إلى منزلي وسألت نفسي: لماذا ينشغل أساتذتنا وعلماؤنا في المساجد والمعاهد الشرعية بتحريم أو تأكيد الكراهة الشديدة للموسيقا، ثم نرى أنفسنا حضوراً في ديسكو كامل تهون معه كثير من (الفيديو كليبات الفضائية) … وقد داعبت (وكلي حزن) أحد العلماء الحاضرين، وقلت له: هذه فتوى قاطعة في جواز حضور الديسكو .. وانظر إلى العمائم الموجودة! (من باب الأمانة فقد ذكر لي أن العديد منهم قد انسحب لاحقاً).
لم يكن الأمر موضوعاً فقهياً فقط، بل الأمر أخطر بكثير.. فهو ذوبان للهوية، واستدراج للنشوز في الفكر والتصور والأداء، واستنساخ مشوه لقيم فنية غريبة .. وأعلم أن عند البعض ملاحظات على أعمال الفنان المسلم الموهوب سامي يوسف، ولكنه باختصار استخدم الموسيقا ليوصل رسالة إسلامية، وأعتقد انه قد نجح في هذا نجاحاً لا يخفى، ولكن الديسكو (الإسلامي) المعاصر جعل الهمجية والتوحش الفني يركبان عنق الإسلام، ثم الهدف البعيد هو محو الجمالية الخاصة بكل حضارة وثقافة، وطمس خصوصية الفن، لتعميم النموذج الغربي المشوه، وللعلم فإن الطبقات المثقفة والمحبة للجمال لا تذهب إلى الديسكو في المجتمعات حتى الغربية، بل تتمع بالأعمال ذات البعد الجمالي الفلسفي .. من بحيرة البجع وحتى عزف البيانو ووصولاً إلى العزف المنفرد وموسيقا الحجرة.
استمع إلى الموسيقا الهندية فترى أن عليها بصمة وروح الثقافة الهندية مهما غرقت في الموسيقا الغربية، واستمع إلى نشيد (Si Ji) البوسني (وقد وضعناه في قسم دوحة النشيد في الموقع كنموذج فني للإطلاع)، والذي تنشده فرقة أوركسترا كاملة ستحس بالفرق بين من يوظف الموسيقا لخدمة الثقافة والهوية، وبين من يتاجر بكل شيء، وتغيب عنه آفاق الذوبان ومكر الزحف الثقافي الغريب.
الأمر أكبر من حكم فقهي محدود، بل هو جزء من محاكمات حضارية .. وأبعاد جمالية، وطريقة تفكير وانتماء.
عندما يحرم المسلم من الحس الجمالي فلا بد أنه قد ارتكب خطأ شنيعاً بحق الإسلام، ولا يعني الإحساس الجمالي الذوبان بكل مايطرح باسم الفن أو الجمال، وعلى المسلم أن يكون ذا إدراك وتذوق بحيث يقرأ الجمال في كل صعيد، وفي نفس الوقت ذا حس نقدي، يجعله يدرك المفارقات والتباينات والوظائف والخلفية لكل عمل، فيقبله أو يرفضه لا ليبوسة في طباعة أو جهل منه بالمدارس الجمالية، بل لوضوح الوظيفة الجمالية وخصوصيتها الإسلامية والشرعية، والتي لا يمنع من أن تتلاقى أو تفترق مع الأنماط المطروحة، ولكن تبقى لها رسالتها ودورها الخاص والمتميز.
“هناك على الخصوص صلة بين المبدأ الأخلاقي وذوق الجمال ، تكون في الواقع علاقة عضوية ذات أهمية اجتماعية كبيرة، إذ أنها تحدد طابع الثقافة كله، واتجاه الحضارة حينما تضع هذا الطابع الخاص على أسلوب الحياة في المجتمع، وعلى سلوك الأفراد فيه”[2] .
وقد كان أحد كبار الدعاة يصر على أن تزين كل اجتماع باقة من الورود تعيد التذكير بضرورة العنصر الجمالي، وأن ينعكس الإحساس به في كل موقف وقرار.
ويذكر عن إقبال أنه قال: “إن طريق معرفة الحق في المذاهب والفلسفات والأديان والثقافات والحضارات هو أن تنظر إلى نموذج الإنسان الذي أنتجه هذا الدين أو الثقافة”.
وبالتالي فإن كل تصرف يقوم به الفرد إنما يَثبُتُ به حق أو يرتفع به باطل … تماماً مثل المشاركة في الانتخابات فإن صوتاً واحداً قد يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً .. وقد يعين على طاعة أو معصية! وحقيقة الجمال أن تعرف متى تضع صوتك ومتى تحجبه ..
صعوبة إدراك الجمال أنه قيمة مطلقة ونسبية في نفس الوقت، وإدراك معادلاته لايأتي إلا من خلال علم ومشاهدة ومجاهدة وتذوق، وقد يهيم الخيال برجل فلا يتذوق موقف سعيد بن جبير رحمه الله في وجه الحجاج، مع أنه ذروة مشهودة من ذرى الجمال الإيماني البديع والأخاذ.
وقد تغيب عن العجول الأعماق الجمالية في موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يقول: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً … أو منهجيته العظيمة: رحم الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي .. وقد يخطر ببال الجبان أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحتى الجهاد في سبيل الله شيء لاينبغي أن يقوم به المعاصرون، ويطوي بذلك جمالية عظيمة حُفت بهذا الدين لا تظهر إلا على أيدي نبلاء الأمة، ومازال كثيرون يقرؤون حرفية الخطاب والموقف .. دون تمعن في مايحفه من جمالية ويقترن به من وظائف! وقد سمعت من المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري أنه كان عنده رجلان من الدعاة، وكانوا يستمعون إلى الأخبار ثم خرج برنامج للمصارعة الحرة، فقال المسيري لهما: هل تظنان أن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام كان سيسر بذلك؟ فقالا: لا! فقال: ولم؟ فقالا: لأنهما يلبسان سراويل قصيرة!!
إن كل التوحش الذي تنطوي عليه تلك الرياضة العنيفة لم يستدع منهما النظر إلى الموضوع كمنكر إنساني وحضاري وأخلاقي، ونظرا إلى أصغر جزئية في الموضوع …
ومصطفى العقاد ذلك المخرج الفذ لم يدرك الإسلاميون ماذا كان يصنع للأمة! بل أجهزوا عليه في انفجار أرعن … ولم يدركوا أنه بعمليه الرائعين: الرسالة (والذي لايزال غير مفهوم سبب منعه في بعض الدول العربية التي تزعم العلمانية!) وعمله الفذ الآخر:عمر المختار، قد مد بساط الإسلام إلى نفوس الملايين، وقد قرأت عن أخت بريطانية أسلمت والتزمت بالإسلام بعد رؤيتها لعرض الرسالة! [بالمناسبة النسخة العربية أضعف فنياً بكثير من النسخة الإنكليزية! فهل هناك تعاهد على أن يبقى كل شيء يصدر من قبل العرب محفوفاً بقلة الإتقان].
لقد بسط العقاد جمالية الإسلام وعناصر الثبات والقوة والسمو فيه بشكل مازال أغلبنا لايدرك عميق آثاره، وأظن أن المال الذي أنفق على بعض العمليات الرعناء، وفي التفجيرات التي آذت المسلمين في الأرض أكثر مما آذت غيرهم، لو أنفق ذلك المال على مثل مايفعل العقاد لأثمرت مداً للإسلام لا يمكن حسره عن نفوس البشر.
كل البؤس الذي تعيشه الأمة وكل المكر الذي يحيط بنا ليس سبباً بحال لأن ندمر حس الجمال فينا، ونحن عندما نتحرك في الأرض فإننا نزرع الجمال في كل مفصل ونهز بإيماننا أقسى القلوب، أما كان واحد الصحابة يستقبل الموت بركعتين، ولا يمنعه القدوم على الموت من أن يعلن عظمة الإيمان الذي يحمله، وسموه فوق الطغيان والأوثان والفراعين.
وذلك الداعية الذي حكم عليه بالإعدام، ولف حبل المشنقة على عنقه، فكان الحبل مهترئاً فلم يقو على حمل الداعية وانقطع، فابتسم الداعية للموت القادم وقال لجلاديه: ما أردأ الحبال التي تشنقوننا فيها، إنكم لا تتقنون شيئاً في الحياة، حتى في لف الحبال حول أعناقنا.
لقد أبى إحساسه بجمالية الإتقان أن يغادر الدنيا دون أن يسطر فيها فضيحة للظالمين، تري الناس كلهم هبوط أذواقهم وقلة إتقانهم وحرمانهم من نعمة الذوق والجمال.
إن حب الجمال في الحياة يفترض أن يعانق كل ذرة فينا، وعلينا أن نأخذ منه بالحظ الأوفى؛ فالمُشاهد أن أغلب الانحرافات تأتي ممن حرم نعمة تذوقه ، فهو قمة التناغم والتوافق والتألق والعطاء، و”إن الله جميل يحب الجمال”[3]، وعلى هذا فالإيمان هو ذروة الجمال، والكفر هو غاية القبح، وتذوق الجمال الإيماني مدعاة لكل بر ومعروف، وفي ديننا يعلمنا الرسول r أن “كل معروف صدقة”[4]، وهذا يمتد فيشمل حتى الحيوان البهيم فـ”بينما كلب يطيف بركية ، كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل ؛ فنزعت موقها فسقته ، فغُفِر لها به”[5].
يشير قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[6] إلى منهجية دعوية لابد من اعتمادها لصيانة البلاغ المبين وتقوم على تعليم المدعو القراءة من آيات الآفاق والأنفس ، وتذوق جمالية الخلق، وهو ماسوف يعطيه توازناً بين المناهج الثلاثة العقلية والعاطفية والحسية، ويؤدي إلى تواجد رصيد إيماني يمنع من الذوبان والتآكل.
“إن المعرفة تأتي من التفكير (ومن أدام الفكرة كان له بكل شيء عبرة) ، وحولنا الكثير من الآيات والنعم التي يجب أن نتدبرها ، فلنفكر بها ولنترك أرواحنا تنال حظها من غذائها ؛ وقد كنت يوماً مع بعض الإخوة في الغابة ، وكانت زقزقات الطيور ساحرة، وفجأة قال أحد الإخوة: إن الله تعالى يقول في القرآن الكريم: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[7] ؛ وإذا تابعنا الكلام فلن نستطيع سماع وفهم تسبيح باقي الكائنات! وبدأنا نصغي باهتمام ؛ لقد كان أمراً أخَّاذاً وبدأت أرواحنا تصغي وتتفاعل مع تلك اللغات العلوية المذهلة.
إنه ليس ضرورياً الذهاب إلى مكان بعيد من أجل التفكر والتعلم ؛ فإن الله تعالى يقول: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[8].
الآيات من حولنا كثيرة جداً ، يمكن أن نسمعها ونحسها ونراها؛ في ماء الجدول الرقراق، وفي تسبيحات الطيور؛ وفي ابتسامات الأطفال الرائعة؛ وعناق الأشجار الملتفة؛ في أجنحة الفراشات المرفرفة، وفي أعماق نفوسنا ؛ سنحس بعظمة الله ، وتشهد كل ذرة من كياننا أنه لا إله إلا الله.
إن ذلك التفكر سوف يؤدي إلى زيادة الإيمان، ولنقرأ معاً هذه الآيات التي حملت من الإيمانيات مالا تحيط بجميعه المعاني البشرية المحدودة: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(64))[9] .
من التفكر العميق والإيمان الصافي ستنبعث العبادة الصادقة ، والتي ستمد الإنسان بالمزيد من التفكر والإيمان”[10].
من جمال المنهج إدراك اختلاف طبائع المجتمعات البشرية وثقافاتها وعاداتها، والمنهج الجامع في العلاقة معها هو قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[11]، وفي كل مجتمع روابط ثقافية واجتماعية، يحافظ الأفراد والجماعات من خلالها على هوية خاصة .
ويلاحظ أنه “لم يأخذ أكثر فقهائنا عالمية الإسلام بعين الاعتبار -محددا منهاجياً- في تنظيرهم الفقهي لعلاقة المسلمين بغيرهم ، بل عبروا عن نوع من الانطواء على الذات لايتناسب مع خصائص الرسالة الخاتمة والأمة المخرجة الشاهدة، كما حدث نوع من التركيز على المحيط الجغرافي والاجتماعي بدرجة قد توحي إلى البعض بارتباط الإسلام بذلك المحيط الذي بلغه في فترة انتشاره الأولى”[12]. وفي بعض الأحيان تتصادم بعض تلك العادات والأبنية الثقافية والإجتماعية مع السلوكيات والتعاليم الشرعية ، والمشكلة أن الحلول المطروحة بعضها صدامي لدرجة أنه كفيل بإغلاق الأبواب في وجه الإسلام، ويحسن التعامل مع تلك الأوضاع الثقافية بالصبر والاستيعاب ماأمكن، مع غض النظر مؤقتاً عن بعضها، ريثما تستدرك اختلالات أعظم، ببنائها يصبح من الميسور تغيير سلبيات كثيرة.
يقول المفكر الأستاذ عبد الكريم بكار: “وحدثني أحد الدعاة في ماليزية ؛ أنه قرأ نحواً من مئتي كتاب حول الثقافة الصينية حتى يُكَوِّن خلفية تمكنه من دعوة الصينيين إلى الإسلام بنجاح”[13]، فكلما اتسعت المعرفة بني جمال المنهج والطريق بشكل أشد إحكاماً، والأمة التي يقول لها نبيها r : “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله”[14] عندما ضاع التذوق الجمالي عند بعض أبنائها خرج منها في الولايات المتحدة الأميركية طالب مسلم “هدد أنه إذا وجد امرأة في المسجد فسوف يلقيها في الشارع ، وأما هؤلاء النسوة الجدد فقد سئمن المحاولة للصلاة في المركز [الإسلامي] بعد أن سببت محاولتهن تلك نقاشاً وجدالاً عنيفين، وهكذا فقد امتنعن عن أداء الصلوات في المساجد ، وسرعان ماعادت الجالية إلى طبيعتها ، ولكن حسب علمي لم تبق ولا واحدة من أولئك النسوة على إسلامها اليوم”[15]!
إن بعض الدعاة لايفهمون ثقافة الأمم التي يريدون الدعوة فيها ولذلك يخفقون ، ويكفي توجيهاً في هذا المقام قوله r : “ياعائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أُخرج منه وألزقته بالأرض”[16].
في مقابل ذلك المثال النافر عن جماليات الدعوة وآفاقها نجد المثال التالي: ذكر الإمام عبد القادر القرشي في كتاب الجواهر المضية في تراجم الحنفية ؛ في ترجمة فاطمة بنت محمد بن أحمد السمرقندية، بنت الإمام السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء، وزوجة الإمام علاء الدين الكاساني صاحب بدائع الصنائع، أنها تفقهت بأبيها، “وأن الفتوى كانت تخرج من البيت وعليها خطها وخط أبيها ، ولما تزوجت بالكاساني صارت الفتوى تخرج من بيتها وعليها خطها وخط أبيها ، وخط زوجها ، وأن زوجها ربما كان يَهِمُ فترده إلى الصواب ، وتعرفه وجه الخطأ ، فيرجع إلى قولها.
وقال [القرشي] أيضاً : وقد بلغنا عن بلاد ماوراء النهر [شمال إيران الحالية، والتي كانت كلها على مذهب أهل السنة والجماعة] أنه في الغالب لاتخرج فتوى من بيت [عالم ] إلا وعليها خط صاحب البيت وابنته أو امرأته أو أخته”[17].
ولا يخفى التدهور الحاصل بين الفهم الشرعي الواسع، والفهم المعاصر الضيق الذي يكاد يستل من الإسلام عافيته بتخشبه وبدائيته وحرفيته.
من تأمل كلام الإمام الغزالي علم إلى أي حد وصل التعصب الذي غطى جمال الإسلام على كل صعيد، بحيث دعا رجلاً مثل الغزالي (وهو من أئمة الأشاعرة) إلى أن ينعى على كل متعصب طريقه: “فإن زعم [صاحبك] أن حد الكفر مايخالف مذهب الأشعري أومذهب المعتزلي أو مذهب الحنبلي ، أو غيرهم ؛ فاعلم أنه غِرٌ بليد ، قد قيده التقليد ، فهو أعمى من العميان ، فلا تضيع بإصلاحه الزمان …. ولعلك إن أنصفت علمت أن من جعل الحق وقفاً على واحد من النظار بعينه ، فهو إلى الكفر والتناقض أقرب ، أما الكفر فلأنه نزَّلَه منزلة المعصوم من الزلل الذي لايثبت الإيمان إلا بموافقته ، ولا يلزم الكفر إلا بمخالفته …. “[18].
لعل من أكبر الأزمات غياب البعد الأخلاقي والذي هو ثمرة لضعف الإحساس بجمال الإسلام بمعناه الواسع، فتؤدي آفات القلوب إلى نتائج لا تخطر على بال، فإن المتصدي لهداية الخلق ربما نسي نفسه ، وصار يظن أنه يداويهم وهو عليل ، وقد تتعسر الأمور فينسب تعسرها إلى فساد الناس ، وينسى أن يفتش عما في قلبه ، وربما ظن لآفات فيه أنه من أهل الطريق، وماشم بعدُ رائحتها، ومن أعظم العيوب أولئك الدعاة الذين تخلو حياتهم من الذكر والاستغفار والابتهال والتضرع والافتقار، فلا تحس معهم إلا بأنك تخاطب جذوع أشجار قد جف فيها ماء الحياة. وإن “العلم كالغيث ينزل من السماء ، حلوا صافيا ، فتشربه الأشجار بعروقها ، فتحوله على قدر طعومها، فيزداد المر مرارة والحلو حلاوة”[19].
ومن أعظم الآفات التكبر، وقد قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)[20] ، والتكبر ينقسم إلى باطن وظاهر: ” فالباطن هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح … وآفته عظيمة، وغائلته هائلة، وفيه يهلك الخواص من الخلق)[21]، “ومن اعتقد جزما ، أنه فوق أحد من عباد الله فقد أحبط بجهله جميع عمله”[22].
وقال تعالى في كتابه العظيم: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)[23]، قال “الحسن وقتادة: نيته”[24] ، ويؤكد الإمام الجيلاني على الإصلاح القلبي: “اشتغل بطهارة قلبك أولاً فإنه فريضة ثم تعرض للمعرفة . إذا ضيعت الأصل لايقبل منك الإشتغال بالفرع ؛ لاتنفع طهارة الجوارح مع نجاسة القلب. طهر جوارحك بالسنة وقلبك بالعمل بالقرآن؛ احفظ قلبك حتى تنحفظ جوارحك. كل إناء ينضح بما فيه”[25].
ومن لم يعلم أثر التكبر في الدعوة فلدينا مثال صريح ذكره الإمام السبكي: “فمن القبائح أن بلادنا ملأى من علماء الإسلام، ولا نرى فيها ذمياً دعاه إلى الإسلام مناظرة عالم من علمائنا، بل إنما يسلم من يسلم إما لأمر من الله تعالى، لامدخل لأحد فيه، أو لغرض دنيوي، ثم ليت من يسلم من هؤلاء يرى فقيهاً يمسكه ويحدثه ويعرفه دين الإسلام، لينشرح صدره لما دخل فيه؛ بل –والله- يتركونه هَمَلاً لايُدرى ماباطنه: هل هو كما يُظهر من الإسلام، أو كما كان عليه من الكفر؟ لأنهم لم يُروه من الآيات والبراهين مايشرح صدره”[26].
وقطع الإمام الغزالي شوطاً أوسع في تقدير الظرف الذي تعيشه الأمم من خلال غيابنا عن الساحة فقال: “وأنا أقول: إن الرحمة تشمل كثيراً من الأمم السالفة ، وإن كان أكثرهم يعرضون على النار، إما عرضة خفيفة حتى في لحظة أو ساعة، وإما في مدة حتى يطلق عليهم بعث النار، بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى؛ أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة …. “[27]، وكثير من أهل الأرض الآن لا يقلون جهلاً عن أسلافهم، بل إن الإعلام المعاصر زاد جهلهم بالإسلام، ومايقترفه المسلمون بحق دينهم من الإساءات والتقصير يزيد الأمم بعداً وضلالاً، بل كما يذكر الغزالي المعاصر أن عديدين منا أصبحوا وثائق إدانة للإسلام.
وللإمام ابن تيمية نص ذهبي يجب تدارسه بعمق من قبل الدعاة، وهو نص يحيط بمسألة التعليم والدعوة والهداية من جوانب عديدة تظهر جماليات الفقه، وسعة الشريعة، وسبيل الداعية والعالم حيث يقول رحمه الله: “التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد ، لايمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم ، فإنه لايطيق ذلك ، وإذا لم يُطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال ، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم أو الأمير أن يوجبه جميعه ابتداءً ، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لايمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان ، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه ، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات ، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل ، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط ، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل ؛ لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أوالتحريم ، فإن العجز مسقط للأمروالنهي وإن كان واجباً في الأصل ، والله أعلم”[28].
كل عمل نقوم به يثبت جمال الإيمان ويبعث الاعتقاد الحق، أو ينأى بالبشرية كلها عن الطريق، وصياغة بديع الزمان لذلك المفهوم جد صريحة: “إن سيئة واحدة إذا ألقاها واحد منا في ساحة هذا الوجود، يوشك أن تصبح بعد سنوات من الزمن جريمة لاتنسب إلى فرد معين ولاتنحصر في شخص، بل تنصبغ بها ملايين من النفوس الإسلامية، وستكشف لكم الأيام والأعوام القادمة عن أمثلة كثيرة لصدق هذه الحقيقة )[29]، والأصل في كل ذلك (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرو شراً يره)[30]. وليس لنا طريق سوى المنهج الذي أمر به الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[31]، وبه وحده نكمل نقص أهل الأرض من إيماننا ، ونهديهم الصراط المستقيم.

[1] – مالك بن نبي، شروط النهضة (مشكلات الحضارة)، ترجمة عمر كامل مسقاوي/عبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، 1399هـ/1979م، 91.
[2] – مالك بن نبي، شروط النهضة، مرجع سابق، 100-101.
[3] – يحيى بن شرف النووي ، شرح صحيح مسلم ، مرجع سابق ،كتاب الإيمان ، باب تحريم الكبر ، 172.
[4] – ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، مرجع سابق ، كتاب الأدب (78) ، باب كل معروف صدقة (33) ، الحديث (6021) ، 10 ، 462.
[5]- ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، المرجع نفسه ، كتاب أحاديث الأنبياء (60) ، باب (54) ، الحديث (3467) ، 6، 591.
[6] – فصلت ، 53.
[7] – الإسراء ، 44.
[8] – الذاريات ، 21.
[9] – النمل ، 60-64.
[10] – بتصرف من محاضرة حول: كيف يعيش المسلم في مجتمع غير مسلم ؛ ألقاها الكاتب في جامعة مدينة نايميخن Nijmegen الهولاندية بدعوة من إتحاد الطلبة المسلمين ؛ بتاريخ الخميس 21 نيسان 2005م.
[11] – الحجرات ، 13.
[12] – طه جابر العلواني ، المجلة العلمية للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث ، العددان الرابع والخامس ، حزيران 2004م/ربيع الثاني 1425هـ ، دبلن ، إيرلندا ، 56.
[13] – عبد الكريم بكار ، مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي (الجزء الثالث من سلسلة المسلمون بين التحدي والمواجهة) ، دمشق-بيروت/دار القلم- الدار الشامية ، 1420هـ/1999م ، 55.
[14] – ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، مرجع سابق ، كتاب الجمعة (11)، باب (13) ، الحديث (900) ، 2 ،444.
[15] – جيفري لانغ ، حتى الملائكة تسأل ، المرجع نفسه ، ص 299.
[16] – ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، مرجع سابق، كتاب الحج (25)، باب فضل مكة وبنيانها (42) ، (1586) ،3، 514.
[17] – صالح يوسف معتوق ، جهود المرأة في رواية الحديث (القرن الثامن الهجري) ، بيروت ، دار البشائر الإسلامية ، 1418هـ/1997م ، 10.
[18] – محمدالغزالي (أبو حامد) ، (505هـ/1111م) ، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ، حققه : محمود بيجو ، دمشق ، 1413هـ/ 1993م ، ص 19-23.
[19] – صالح أحمد الشامي ، المهذب من إحياء علوم الدين ، دمشق ، دار القلم / بيروت ، الدار الشامية ، 1413هـ/1993م ،2 ، 205.
[20] – الأعراف ، 146.
[21] – صالح أحمد الشامي ، المهذب من إحياء علوم الدين ، المرجع نفسه ، 202 ، 205- 206.
[22] – صالح أحمد الشامي ، المهذب من إحياء علوم الدين ، المرجع نفسه ، 2 ، 206.
[23] – الإسراء ، 84.
[24] – محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، ط2 ، القاهرة ، دار الكتب المصرية ، 1359هـ/1940م، 10 ، 322.
[25] – عبد القادر الجيلاني ، الفتح الرباني ، مرجع سابق ، 207.
[26] – عبد الوهاب ، تاج الدين السبكي (771هـ) ، معيد النعم ومبيد النقم ، حققه وضبطه : محمد علي النجار ، أبو زيد شلبي ، محمد أبو العيون ، القاهرة ، الناشر: جماعة الأزهر للنشر والتأليف ، دار الكتاب العربي ، (1367هـ/1948م) ، ص 76.
[27] – محمد الغزالي ، أبي حامد ، فيصل التفرقة ، مرجع سابق ، 84.
[28] – أحمد بن تيمية ، مجموع الفتاوى ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ، الرباط ، المكتب التعليمي السعودي بالمغرب ، دت ، 20 ، 60.
[29] – سعيد النورسي (بديع الزمان) ، الخطبة الشامية (سلسلة رسائل النور) ، ترجمة محمد سعيد رمضان البوطي ، دم ، دن ،
دت، 21. [وقد ألقى النورسي خطبته الشهيرة أثناء زيارته لدمشق عام 1911م]
[30] – الزلزلة ، 7-8.
[31] – سورة الأنبياء ، 107.

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على اكتشاف جمالية الإسلام – 2007-05-02 مغلقة

مقتطفات من غياث الأمم للجويني – 4

فصل
في الأواني

685 – الدباغُ مختلف فيه على ما يذكره نقلةُ المذاهب ، وفيه أخبارٌ متعارضة ، وأصحها وأظهرها يتضمن أن الدباغ يفيدُ طهارة جلودِ الميتات بعد الحكم بنجاستها بالموت .

686 – ولكن لو نسيت المذاهب والأصح منها ، فالذي يقتضيه الأصل أن ما نجسه الموت لا يطهر بنَشْف فضول وتطييب رائحة ، والدباغ الآن عند القائل به في حكم رخصة غير معقولة المعنى ، وهو مختلفٌ فيه ، فإذا درس السبيلُ الموصلُ إليه ، فالمكلفون يتعبدون بلزوم موجَب الأصل . وهذا يطرد في جميع الرخص على ما سيأتي القول فيه مشروحاً .
687 – وأما الشعور والأوبار والعظام مما اختُلِفَ في نجاستها ، فإذا انحسم مسلكُ نقل المذاهب فيها ، والأدلةِ على الصحيح منها التحق القولُ منها بما يشك في نجاسته ، وقد تقدم أن كلَّ ما يشك في نجاسته فكم الأصل الأخذُ بطهارته .

فصل
في الأحداث الموجبة للوضوء والغسل

688 – موجِباتُ الوضوءِ والغسلِ محدودةٌ ، والذي لا ينقُضُ الوضوءَ والغسلَ لا نهاية له ، كما سبق نظيرُه في النجاسات .
وموجَبُ ما ذكرناه في زمان دروس التفاصيل أمران :
أحدهما – أن كلَّ ما أشكل على أهل هذا الزمان كونُه حدثاً ، فلهم أن يأخذوا باستصحاب الطهارة مع طريانه ، بناءً على القاعدة في أن من استيقن الطهارة ، وشك في الحدث ، لم يقض بانتقاض الطهارة المستيقنة أوَّلا بسبب طريان الحدث .
فهذا أحد ما أردناه.
689 – والثاني أن بني الزمان لو تذكروا أن مسألةً في الأحداث فيها خلاف ، ولم يذكر أحدٌ مذهب إمامه الذي يعتقد قدوتَه وأسوتَه ، فيجوز الأخذ باستبقاء الطهارة جرياً على القاعدة الممهدة .

فصل
في الغسل والوضوء

690 – أصل طهارة الحدث غيرُ معقولة المعنى ، وكذلك آلتُها ومحلها ، وانقسامُها إلى المغسول والممسوح ، فليس لها في الشرع قاعدة معنوية نعتمِدها ، وإنما مرجعها إلى التوقيف .
691 – وقد اشتملت آيةُ الوضوء على بيانٍ بالغٍ فيه ، فليتخذها أهلُ الزمان مرجعَهم ، فهي أصلُ الباب ، وسيتلى القرآن إلى فجر القيامة ، ثم الذي يقتضي الزمانُ الخالي من الفقهاءِ وناقلي المذاهب أن النية لا تجب على المتوضئِ ، إذ ليس لها ذكرٌ في الكتاب ، ولم يُنقل الوضوء نقلَ القُرب التي شرعت مقصودةً للتقرب إلى الله تعالى ، بل نُقلت نقلَ الذرائع والمقدِّمات التي يقصدُ بها غيرُها ، فليس في نقله المطلَقِ على الاستفاضة والتواتر إشعارٌ بالنية ، وليس في كتاب الله ما يتضمنها .
692 – وكذلك القول في التيمم ، فإن قيل : التيمم هو القصدُ فهلاّ أشعر لفظُه بالنية ؟ . فقلنا : هو بمعنى القصد ، ولكنه مربوط بالصعيد فيجب ، من مقتضاه القصدُ إلى التراب .
فهذا حكم النية في الزمان العاري عن ذكر الأدلة على اشتراط النية .
693 – ويجب على أهل الزمان بحكم الآية غسلُ ما ينطلق عليه اسم الوجه ، وليس في الآية ما يوجب غسلَ المرفقين فإنه قال : إلى المرافق ، فلئن لم يقتض إلى تحديداً وموجَبُه إخراج الحد عن المحدود ، فإنها لا تقتضي جمعاً وضماً ، أَيضاً ، فليس فيها إقتضاءُ غسلِ المِرفقين كما ذهب إليه زُفَر .
694 – وكلُّ ما لا يعقل معناه ، وأصلُه التوقيف ، فالرجوع فيه إلى لفظ الشارع ، فما اقتضى اللفظ وجوبَه التُزِم ، وما لا يقتضي اللفظ وجوبَه ، فلا وجوب فيه ، لأن التكاليف إنما تثبت إذا تحقق ورود أمرٍ إلى المكلَّف ، فإن قيل : هلاَّ وجب الأخذُ بالأَحوط ؟ قلنا : لم يتأَسس في قواعد الشرع أن ما شُكَّ في وجوبه وجب الأخذُ بوجوبه . نعم ما ذكره السائل مأخذ الاحتياط المندوب إليه في الشريعة .
695 – فأما غسلُ الرجلين ، فأَخذُه من فحوى الخطاب مُعْوِصٌ مع اختلاف القرّاء في قوله تعالى : (وأرجلكم) بالكسر والنصب . ولكنّ القولَ في هذه المرتبةِ مبنيٌّ على بقاءِ القواعد الكلية في الادِّكار ، ودروسِ تفاصيل المذاهب ، ونقل غسلُ الرجلين عن الرسول وصحبه متواترٌ ، ونسبة المصير إلى المسح إلى الشيعة مستفيضٌ ، ومثل هذا لا يُتصور اندراسه مع توفُّر الدواعي على نقل القواعد .
فإن فُرضَ زوالُ القواعد عن الذكر ، وقع الكلام في المرتبة الرابعة ، على ما سيأتي مشروحاً . إن شاءَ الله تعالى .
696 – فالذي تحصّل من هذا الباب أنه يُتَّبَعُ ما بقى من الادِّكار ، ويُسْتَمْسَكُ بآيةِ الوضوء ، وما لم يُعلم وجوبُه ، ولم يُشعر به كتابُ الله ، فهو محطوط عن أَهل الزمان ، فإن التكليفَ لا يتوجه إلا مع العلم بتوجهه .
697 – فإِن قيل : أليس غلبات الظنون مناطُ معظم الأحكام ؟ فهلا قلتم ما غلب على ظنِّ المسترشد – في خلوِّ الزمان عن الفقهاء – وجوبُه ، وجب عليه الأخذُ بوجوبه ؟ .
قلنا : هذه قولُ من يقنعُ بظواهر الأشياءِ ، ولا يبغي التوصلَ إلى الحقائق ، فليعلم المنتهي إلى هذا الموضع أنا نعلم وجوبَ العمل بموجَب خبر الواحد ، والقياسِ في مرتبته على شرطه ، ويستحيلُ مقتضى العقول أن يفيدَ ظنٌّ علماً ، ووجوبُ العمل بموجب الخبر الذي نقله متعرضون للخطأ معلوم ، والخبر في نفسه مظنون ، وكذلك القول في القياس .
698 – فالعلمُ بوجوب العمل غيرُ مترتبٍ على عين الخبر والقياسِ ، ولكن قام الدليل القاطعُ على وجوب العملِ عند ثبوت الخبر والقياس ، فالذي اقتضى العلمُ بالعمل الدليل الدال على العمل بهما ، كما يستقصَى في فن الأصول .
فالخبرُ والقياس يعمل عندهما ، ويُعلم ذلك بالدليل المقتضي وجوبَ العمل عند ثبوتهما .
699 – فإذا لم يَعلم المكلفُ في الزمان العريّ عن جملة التفاصيل مُوجِباً ، فكيف يعلمُ وجوباً ؟ وظنه الذي لا مستند له من تحقيق ما انتصبَ في الشرع عَلَماً انتصابَ ظنون المجتهدين في أساليب الأقيسة ، ومعظم أصناف الظنون مُطَّرَحةٌ ، لا احتفال بها .
700 – فقد تقرَّرَ ما حاولناه لكل فطن ، ووضح أن تعذّرَ الوصولِ إلى العلم بما كان واجباً في العصور المشتملة على العلماء ، ينزلُ منزلةَ تعذرِ وقوعِ بعضِ الأعمال بالعجز عنه .

فصل
في التيمم وما معناه

701 – التيممُ رخصةٌ لا تحتملُ معنىً مستدركاً ، وإنما المتبعُ فيها مواردُ التوقيف ، فما ظهر في العصر من التيمم على تحقيق وثبَت اتُّبع . وما لم يظهر مقتضيه لم تثبت الرخصةُ بظنون العوامّ ، وهذا يطرد في الرخص كلِّها .
وقد قدمنا الآن أن ظن العامِّي لا يباَلى به فيما يجول في مثله قياسُ العالِم المجتهدِ ، والأقيسةُ من المجتهدين لا جريانَ لها في معظم أبواب الرخص ، فكيف تثبتُ الرخص بظنونٍ لا أصل لها ؟

702 – والذي يجبُ الاعتناءُ به في هذا الفصل أن المكَّلَف إذا فعل عند إعوازِ الماء ما علمه ، وقد وضح أَنه لا يجب عليه ما لم يعلم وجوبَه ، فإذا صلى على حسب العمل والإِمكان ، ولم يكن محيطاً بأن هذه الصلاة في تفصيل المذاهب مما تُقضَى عند زوال الأعذار أم لا ، فالذي يقتضي الأَصلُ الكلّيُّ أنه لا يجب القضاءُ ، لأَنه أدّى ما كُلّف ، وقام بما تمكّن منه .
703– وقد صار إلى ذلك طوائف من العلماء في تفصيل المذاهب منهم المُزَني . ويعزى ذلك إلى الشافعي رضي الله عنه ، وهو خارجٌ على حكم القاعدةِ المعتبرة في خلوِّ العصرِ عن العلماءِ بالتفاصيل ، فإن القضاء لا يوجبه الأَمرُ بالأَداءِ ، إذ الأَمرُ بالأداءِ لا يُشعر إلا به ، وإذا لم يتفق امتثالُه في الوقت المضروب له ، كان موجَبُ الأمر مقتضياً فواتَ المأمور به ، وليس في صيغته التعرضُ للقضاءِ ، وهذا معنى قول المحققين : لا يجب القضاءُ إلا بأمر مجدد ، فإذا أدى المكلف ما استمكن منه ، ولم يعلم أمراً بالقضاءِ ، ولم يُشعر به الأصل ، فإيجاب القضاءِ من غير علمٍ به ، لا وجه له لما سبق تقريره .
704 – ومما نذكره متصلا بذلك أنه لو فتر الزمانُ وشغر ، كما فرضناه ، وقام المكلفون على مبلغ علمهم بما عرفوه ، ثم قيض الله تعالى ناشئةً من العلماءِ ، وأحيا بهم ما دَثَر من العلوم ، فالذي أراه أنهم لا يوجبون القضاءَ على الذين أقاموا في زمان الفترة ما تمكنوا منه ، فإن مما تمهد في الشريعة أن من تطرق الخللُ إلى صلاته بسبب عذرٍ نادرٍ دائم كالمستحاضة ، فإن الاستحاضة تندر ، وإذا وقعت دامت وامتدت في الغالب ، فلو شُفيت لم يلزمها قضاءُ الصلوات التي أقامتها مع استمرار الاستحاضة .
وتقدير خلو الدهر عن حملة الشريعة اجتهاداً ونقلاً نار في التصوير والوقوع جداً . ولو فرض والعياذ بالله ، كان تقدير عود العلماءِ أبدعَ من كل بديع ، فليُلحق ذلك بالنادر الدائم .
فهذا منتهى غرضنا في هذا الفن .
705 – ولا حاجة إلى ذكر المسح على الخفين ، فإنه من قبيل الرخص ، وقد قدمنا في الرخص كلها أصلاً ممهداً ، فليُتّبع في جميعها ذلك الأصل .

فصل
في الحيض

706 – الحيض حالةٌ تبتلى بها بناتُ آدم من حيث الفطرة والجبلّة ، ابتلاءً معتاداً على تكرر الأدوار ، وما كان كذلك ، فالدواعي تتوفر على نقل الأصول التي تمس الحاجة فيه إليها . هذا حكم اطراد الاعتياد ، فلا يجوز أن يخلوَ الزمان عن العلم بأقل الحيض وأكثره ، ما دام الناس مهتمين بإقامة الصلوات .
فإن فُرض انطماسُ أصول الشريعة واستمرار الفترة على الكليّات والجزئيات ، فاستقصاءُ ذلك يقع في المرتبة الرابعة . فإذاً لا يكاد يخفى عن تصوير بقاء أصول الشريعة أن المرأة إذا رأَت عشرة أيام دماً ، وطهرت عشرين يوماً مثلاً أنها تترك الصومَ والصلاة ، ويجتنبها زوجُها ، كما دلَّ عليه قوله تعالى : (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن) .
وهذه القواعد لا تنسى ما ذكِرت وظائفُ الصلوات .
707 – فإذا زاد الدم على العشرة ، فهذا موقع خلاف العلماءِ .
فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحيض قد يبلغ خمسة عشر يوماً ، وأكثر الحيض عند طوائفَ عشرةُ أيام .
فإذا زاد الحيضُ على العشرة ، وقد فُرِض دروسُ التفاصيل ، فقد يخفى كونُه حيضاً على أهل الزمان .
ومما يُقضَى ببقائه في الادّكار أن المرأة مأمورةٌ بالصلاة في إطباق الاستحاضة عليها ، فهذا ما لا يكاد ينسى مع ذكر الأُصول قطعاً .
فالدم الزائدُ على العشر مثلاً ، يتردد في ظن أهل الزمان بين أن يكون حيضاً وبين أن يكون استحاضةً ، وهذا الآن فنٌّ بديع ، فليتأَمله الموفق ، مستعيناً بالله عزت قدرته .

708 – فأقول : قد يظن الظان أن المرأة إذا شكّت في أن ما تراه حيض أم لا ؟ فليست على علم بوجوب الصلاة عليها . وقد ذكرنا أن الوجوبَ لا يُعلم دون العلم بالموجِب ، فقد يُنتج هذا أن الصلاة لا تجب مع الشك .
709 – ولكن يعارضُ هذا أصلٌ آخر لم يتقدم مثلُه ، وهو أن أمرَ الله تعالى بالصلاة والصيام مستمرٌّ على النساءِ لا يسقطه عنهن إلا يقينُ الحيض . والاستحاضة لا تنافي الأمرَ بالصلاة ، فالأمر إذاً بالصلاة مستيقنٌ على الجملة ، وسقوطُه مشكوك فيه ، وحكُم الأُصول يقتضي أَن من استيقن على الجملة وجوباً ، ثم يعارضُ ظناه في سقوط ، أخذ باستمرار الوجوب ، ولم يكن لظنه حكمٌ في سقوطه الوجوب الثابت .
وعلى هذا بنى علماءُ الشريعة مسائلَ الحيض المختلطةَ بالاستحاضة عند الإِشكال على الاحتياط .
710 – والذي يعضد ويؤكد ما ذكرناه في حق الزمان العاري عن العلم بالتفاصيل أن الزائد على المقدار المعلوم ليس له ضبط يُنتهى إليه ، ويوقَف عنده ، وقد تحقق أن دمَ الاستحاضة لا ينافي وجوبَ الصلاة ، فلو تعد المرأَةُ مبلغ اليقين فأَين تقف ؟ ومتى تعود إلى إقامة الصلاة ؟ فهذا ظاهر ، وليست أنفي مع ظهور هذا أن يخطرَ لعاقلٍ في الزمان الخالي أَن الصلواتِ تجبُ واحدةً واحدة على اعتقاب وظائف الأوقات ، وليست في حكم ما علم وجوبُه ناجزاً في الحال ، وشُك في سقوطه ، فالصلواتُ التي تدخل مواقيتُها في الحادي عشر مشكوكٌ فيه . وقد يعارض اعتقاد الوجوب اعتقادُ تحريم الإِقدام على الصلوات ، فإِن إقامة الصلاة واجبةٌ على الطاهرة ، محرمة على الحائض .
711 – والذي قدمتُه من أن الأصل وجوبُ الصلاة من مسالك الظنون والترجيحات التي يتمسك بها المجتهدون . وظنونُ العوام لا مُعَّول عليها ، وسبيلُ العلم منحسمٌ قطعاً ، وليس في الزمان مقلَّدٌ ولا ناقلٌ عن مقلِّد . فما الوجه إذا ً ؟ وإنما قدمنا وجوهَ الكلام تنبيهاً على تقابل الظنون ، وتحقيقاً لاختصاص هذه السبل بذوي الاجتهاد .
فإذا تقرر ذلك ، فأقول :
712 – الجمعُ بين تحريم إقامة الصلوات ، وإيجاب أدائها محال ، والعلم لا يتطرق في حق هذا الشخص إلى درك التحريم ، ولا إلى درك الوجوب ، ولا مرجع يلوذ به ، ولا حكمَ لظنه وترجحه ، فالوجهُ القطعُ بسقوط التكليف عنه في هذا الفنِّ ، والتحاقُه في هذا الحكمِ على الخصوص بمن لا تكليفَ عليه .
فإن فرضت صورة الصلات ، لم يكن لها حكمُ الوجوبِ ولا الإِجزاءِ ، ولا التحريمِ ، إذْ شرطُ التكليف إمكانُ توصُّلِ المكلفِ إلى درك ما كُلِّفَ ، وهذا غيرُ ممكن في الصورة التي ذكرناها . وإنما يستحيل تكليفُ المجنونِ من جهة أنه يستحيل منه فهمُ الخطابِ ودركُ معناه ، وهذا المعنى محققٌ في هذا الحكم الخاص ، في حق هذا الشخص المخصوص . وإن كان التكليفُ مرتبطاً به في غيره من الأحكام .
ولو استحاضت المرأة ، والتبس حيضها باستحاضتها ، فأحكام المستحاضة من أَغمضِ ما خاض فيه العلماءُ .
713 – ومقدار غرضنا من ذلك أنه مهما غمض عليها أنها في حيضٍ أو استحاضة ، وقد خلا الزمانُ عن موثوقٍ به في تفصيل المستحاضات ، وقد علِمتْ من أَصل الشرع أن الحيضَ ينافي وجوبَ الصلاة ، ويحرِّم إقامتها فيه بخلاف الاستحاضة ، فيتصدى لها تحريمُ الصلاة وإيجابُها في كل وقت ، فيسقط التكليفُ عنها ـ في خلو الزمان ـ في الصلاة جملةً ما اطرد اللبسُ عليها .
وهذا لا يغوص على سره إلا مرتاضٌ في فنون العلوم .
714 – وهذا المجموع يحوي أموراً يشترك في استفادتها المبتدئون والمنتهون وأموراً يختص باستدراكها أخصُّ الخواص .
715 – وقد يظن المنتهي إلى هذا الفصل أن سقوطَ التكليفِ فيما ذكرته يختص بخلو الزمان عن العلماء بالتفاصيل ، ولا يتصور مثلُه في زمن توفر العلماء المستقلين بحمل الشريعة .
وأنا أُصور سقوط التكليف مع اشتمال الزمان على العلماء ، في صورة يحارُ الفطنُ اللبيبُ فيها ، فأقول :

716 – لو فُرض بيتٌ مشحونٌ بالمرضى المدنَفِين وكان رجلُ يخطو على سطح البيت من غير اعتداءٍ ولا ظلمٍ ، فانهار السقفُ ، وخرّ ذلك الرجل على مريضٍ ، وعلم أنه لو مكثَ عليه لمات ، ولو تحول عنه لم يجد بُدَّاً من توطّئ مريضٍ آخر ، ولو اتفق ذلك ، لمات من ينتقلُ إليه ، وليس في استطاعته التقصِّي عما هو فيه من غير إهلاك نفس محرمة ، ولا سبيل إلى أمره بالمكث ، ولا إلى أمره بالانتقال ، وأمرُه بالزوال عمَّا ابتلي به من غير تسبب إلى قتلٍ تكليفُ ما لا يطاق ، وذلك محالٌ عندنا .
717 – فإذاً هذه الصورة وإن اتفق وقوعُها ، فليس لله فيها حكٌم ، ولا طَلِبَةٌ على صاحب الواقعة بمُكثٍ ، ولا انتقال ، ولا يطلقُ القول بأَنه يتخير بين المكث والزوال . فإن الخِيَرة من أحكام الشريعة .
718 – والذي اعتاص قضيةً في هذه الصورة التي ذكرناها سبيلُه على الخصوص فيما دُفع إليه ، كسبيل بهيمةٍ لا يتطرق إليها خطاب .
719 – وقد يتفق لآحاد الناس في بقاءِ تفاصيل الشريعة في الادكار حالةٌ يقرِّبُ مأخذُ القول فيها ما ذكرناه في دروس الفروع .
فإذا علمت المرأةُ أنه يحرم إقامةُ الصلاة في زمان الحيض ، ثم ابتليت بالاستحاضة ، وصارت لا تميز بين الحيض والاستحاضة ، في بقعةٍ خالية من العلماء ، ويتصدى لها وجوبُ الصلاة وتحريمُها كما قدمنا تصويَر ذلك ، فإنها تتوقف ، ولا تُمضي أمراً إلى أن تخبر ، وتسأَلَ من يعلم .
720 – فقد تمهد بما ذكرناه أصلٌ عظيم ، سينعطف كلامٌ كثير في هذه المرتبة عليه ، وهو يتهذب بسؤالٍ وجواب عنه .
فإن قيل ألسنا نعلم الآن تقابَل الأمرين في حق المستحاضة الناسيةِ المتحيرةِ ، ونغلِّبُ الأمرَ بالصلاة ، فنأمُرها بإِقامة جميع الصلاة ، فهلا غلَّبِت المرأةُ في زمان الفترة وجوبَ الصلاة على تحريم إقامتها في وقت الفترة ؟
721 – قلنا : قد ثبت في تفاصيل الشريعة عند حملتها أن وجوب الصلاة أغلبُ من النظر إلى تحريم إقامتها ، ونحن فرضنا خلوَّ الزمان عن العلم بالتفاصيل ، واستواءَ الأمر في الوجوب والتحريم في اعتقاد المرأة ، فإن كان بقي في الزمان العلمُ بأن الصلاة لا يسقُط وجوبُها إلا بيقينٍ ، فهذا يتبع الأصلَ بموجبه .
722 – فإن قيل إذا كنتم تُجرون أحكام هذه المرتبة على بقاء أصول الشريعة ، ومن الأصول أن المستحاضةَ لا تترك الصلاةَ دهرها ، فلم فرضتم ذهابَ هذا الأصل عن الأذهان ، وقد أجمع العلماء أن المستحاضة المتحيّرةَ لا تترك الصلاةَ ؟ قلنا : الاطلاعُ على هذا الأصل من غوامض الفقه ، وليس كل مجمعٍ عليه من الأُصول التي عنيناها ، فإن أهل الدهر لو أحاطوا بجميع مواقع الإجماع ، هان عليهم إلحاقُ الفروع بها ، فالأصولُ التي قدرنا بقاءَها كلياتٌ مسترسلةٌ ، لا تعلق لها بالغوامض.
فهذا تمام ما أردنا أن نوضحه من هذه المعاني .
والله ولي التأييد والتوفيق ، بمَنِّه ولطفه .

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على مقتطفات من غياث الأمم للجويني – 4 مغلقة

المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية – 3

الفصل الثالث

السكان المسلمون

تاريخ دخول الإسلام إلى أمريكا هناك من يرى أن المسلمين وصلوا إلى أمريكا قبل أن يكتشفها (كولومبوس) بعدة قرون (انظر: الكتاني، 1396 هـ الداري،1403هـ Ansari,1996? Numan1992 Rashad,1991 ويستدلون على ذلك بعدد من المؤشرات منها أن سبعة من الشبان أطلق عليهم المغامرون السبعة، غادروا أسبانيا غربأ عندما كان المسلمون يحكمونها، ولم يعودوا، وسمي أحد شوارع (لشبونة) عاصمة البرتغال باسمهم، ولا يزال ذلك الشارع يحمل اسم (المغامرون السبعة) إلى اليوم. ومنها وجود بعض الكلمات العربية في لهجات بعض قبائل الهنود الحمر. كما أنه وجد قبيلة من بين قبائل الهنود الحمر اسمها (عرباهو) يعتقد أن أصولها عربية، ويوجد شارع في مدينة (بولدر) وكلية في مدينة (دينفر) في ولاية (كولورادو) باسم تلك القبيلة. كما وجد تشابه بين الفن المعماري في البلاد العربية والفن المعماري لدى بعض السكان في أمريكا الوسطى، مثل الأهرامات والمحاريب. وتذكر بعض كتب التاريخ أن وفدا ذكر لأحد الملوك المسلمين على الساحل الغربي لأفريقيا أن هناك في الجانب الغربي من الأطلسي، والذي كان يسمى بحر الظلمات، مناطق غنية بثرواتها الطبيعية، وبجمال طبيعتها، فما كان من ذلك الملك إلا أن جهز أسطولاً كبيرا وقاده بنفسه واتجه غربأ مع عدد كبير من الناس، ويقال أنه وصل إلى أمريكا الوسطى، وكون مملكة هناك من ذوي البشرة الغامقة، وعندما وصل كولومبوس كان معه ملاح عربي، واستطاع ذلك الملاح أن يتفاهم بالعربية مع السكان المحليين، وعندما سأله كولومبوس عن لغتهم ذكر له انهم يتكلمون العربية، فما كان من كولومبوس إلا أن أعمل السيف فيهم وعمل على إبادتهم، حتى لا يقال إن هناك من سبقه لاكتشاف أمريكا. ويذكر مصطفى وايت وهو من المسلمين السود النشطين في العمل الإسلامي ويقيم في مدينة (بولدر) في مقابلة للباحث معه أن هناك رسالة دكتوراه ستقدم إلى إحدى الجامعات الكندية حول هذا الموضوع، وأن من ضمن الأدلة التي قدمها الدارس بعض النقود الإسلامية التي وجدت في بعض الحفريات.

مسلمو ما قبل الحرب الأهلية :
جاءت حركة الرقيق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بأعداد كثيرة من مسلمي غرب إفريقيا، وفي الغالب أن ما لا يقل عن خمس المستعبدين الذين اخذوا إلى أمريكا قبل الحرب الأهلية كانوا من المسلمين، وفي هذا السياق يقول ويليامز: ( وجاءت تجارة الرقيق بالكثير من المسلمين من غرب القارة الأفريقية إلى أمريكا. إلا أن الظروف الرهيبة التي عاشوها وارتفاع معدل الوفيات بينهم وتشتت عائلاتــهم والاضطهاد الوحشي الذي تعرضوا له جعـــل بقاءهم في إطار جــماعة إســــلامية مستحيلا. ومع ذلك كانت لبعض الأفراد الغلبة على الاضطهاد والتعذيب. إذ أن أحدهم كتب القرآن الكريم الذي كان يحفظه عن ظهر قلب ونشر ترجمة له بالإنجليزية في فيلادلفيا عام 1853 وبعد عشر سنين كان هذا المصحف المترجم الكتاب الوحيد الذي نجا من حريق جامعة ألاباما في أثناء الحرب الأهلية الأمريكية) (ويليامز، 1994: 14.
وحول مسلمي ما قبل الحرب الأهلية حرر (أوستن، Austin) كتاباً مرجعياً يقع في أكثر من سبعمائة صفحة، من الحجم الكبير وبخط دقيق جدا، قال في بدايته: (إن تجربة هؤلاء الرجال توضح أكثر من قرن من المتاجرة بحياة الأفريقيين وعملهم. ويقدم هؤلاء الرجال إضاءات عن الأثر العميق للإسلام في غرب إفريقيا. وكان من أوائل من وصل إلى أمريكا يارو محمود وأيوب بن سليمان والأمين جي وقد وصلوا بين عام 1730 و 1740 م، ووصل خمسة فيما بعد في القرن نفسه وهم عبدالرحمن، محمد كابا، بلالي، صالح بلالي، وبنيامين كوتشرين، ووصل أربعة خلال عقد 1800 م وهم عمر بن سعيد، كيب، أبو بكر، ورابع لم يعرف اسمه، وجاء اثنان إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن نالا حريتهما في أماكن أخرى وكان ذلك في حوالي عام 1850م وهما محمد باقيوقا، ومحمد على بن سعيد ( Austin,1984:9).

ويواصل (أوستن Austin) حديثه فيقول: (أيوب وجي جاءا من أراضي السنغال الداخلية، وكانا يتاجران مع غامبيا عندما اختطفا من قبل (الماندينقو، Mandingoes وعمر كان كذلك تاجرا في أراضي السنغال الداخلية.. وعبدالرحمن كان طالب علم في (تمبكتو) في أعلى النيجر، وقبض عليه بخدعة على سواحل المحيط الأطلسي وبيع لتجار الرقيق.. صالح بلالي كان عمره أربعة عشر عاماً عندما اختطف وحمل في سفينة مع بضائع أخرى،.. أما باقيوقا ومحمد على فلهما قصة تختلف، باقيوقا انضم إلى قافلة من موطنه في شمال (بنين) إلى أرض التجارة (سلاقا Salaga) في (غانا) وكانت تشهد بعض الحروب، ولكنه عاد إلى بلدته واستقر فيها، إلا أنه أعطي مادة مخدره وأخذ بعدها إلى الساحل ليباع لسفينة لتجارة العبيد متجهة إلى البرازيل. أما محمد على فقد نقل بين قارات ثلاث، حيث اختطف وهو بقرب بحيرة في تشاد وبيع لتجار كانوا يعبرون الصحراء، أرسل عن طريق البحر إلى الإسكندرية، ومنها أخذ إلى مكة، ومن ثم أرسل إلى تركيا وبيع إلى اثنين من الروس وتم أخذه إلى (بترسبرغ) (ص: 9-10).

وعن معارفهم ومهاراتهم يقول (اوستن): (كان أكثر هؤلاء متعلمين أو طلبة علم، ولهم خبرة في الحياة والسفر والاحتكاك بالآخرين، وكان بعضهم إلى جانب ذلك جنوداً محاربين شاركوا في المعارك والقتال، بعضهم تلقى تدريباً في مهن وحرف معينة، ومن ذلك أن (جي) كان مترجماً، و (كوتشرين) كان طبيباً، و (بلالي) كان يدرس القانون، ويبدو أن هؤلاء جميعاً جاؤا من أسر عريقة ومحترمة، وكانوا يعدون فيما يبدو لأدوار قيادية في مجتمعاتهم… وبعضهم تعلم العربية في إفريقيا، فأيوب كتب القرآن ثلاث مرات من الذاكرة، وكتب رسائل إلى أصدقائه بالعربية تم العثور على بعضها، وساعد في الترجمة عند السيد (هانز سلوين Hans Sloane) مؤسس المتحف البريطاني، وعبدالرحمن كتب مقطوعات صغيرة لبعض الأعيان في الولايات المتحدة الأمريكية، ووصلت إحدى رسائله إلى المغرب، وكانت فيما بعد من أسباب تحريره) (ص: 10 و 16 .

ولقد ظهرت تلك المهارات وبرزت حتى أثناء وجودهم في العالم الجديد، وتحت ظروف صارمة وقاسية جدا، ( ولأنهم متعلمون ولديهم بعض المهارات ولخبرتهم السابقة فقد عملوا في أعمال شبه إدارية وشبه قيادية ثبت من خلالها كفاءاتهم وقدراتهم، فعبدالرحمن مثلا شارك مع الجيش البريطاني قائداً لمجموعة من الرجال، أما كيب وعمر وربما بلالي فقد عملوا مراقبين في المدارس. وبلالي وصالح بلالي أصبحا مشهورين بمجهودهما أثناء حرب 1812 م. وقد اقترح الأول على المسيحيين تسليح المسلمين على الجزيرة وقال بأنه يمكن الاعتماد عليهم، إلا أن المسيحيين لم يطيعوه، ربما خوفاً من أن يستخدم ذلك ضدهم (Ibid.,15).

وعن معاناتهم في العالم الجديد، وما لاقوه من عنت وضيق يواصل (أوستن Austin) حديثه فيقول: ( ولقد تسبب أسرهم في انقطاعهم عن ممارسة مهامهم وأحلامهم ولقاء عائلاتهم إلى الأبد، باستثناء (أيوب) و (جي) حيث عادا إلى إفريقيا بعد مرور عقد من الزمن على أخذهما. ويبدوا أنهم أرسلوا للعمل في الحقول بعد وصولهم إلى أمريكا، ثلاثة كانوا في ولاية (ميريلاند، Maryland) وهم أيوب، وجي، ويارو محمد. أما بلالي وصالح بلالي فقد جيء بهما إلى (جورجيا، Georgia) من جزر البهاما، وعبدالرحمن كان في (الميسيسيبي) وعمر في ( جنوب كارولاينا S.Carolina ) ثم جرى بيعه لشخص من (شمال كارولايناN.Carolina ) ولقد حاولوا الهروب مرارا، فأيوب وعمر قبض عليهما وأودعا السجن، وأعيد أيوب بعد أن وعد بعمل خفيف نظرا لأنه كان متعلماً يحفظ القرآن، ويجيد العربية قراءة وكتابة، وعمر كذلك قدمت له وعود بمعاملة طيبة، وتحريره إذا استطاع أن يفتدي نفسه. أما عبدالرحمن فقد اختفى مدة من الزمن ثم قرر العودة إلى مالكه باختياره هو ولأسباب لم يوضحها في مذكراته) (ص: 12 .

ولم يستسلم أولئك المسلمون الأكفاء الذين اخذوا بالقوة إلى العالم الجديد للوضع القائم، فقد استمرت محاولاتهم لتحرير أنفسهم والعودة إلى إفريقيا، أو البقاء هناك ولكن بحرية، فمحمود بعد أن افتدى نفسه، نجح في أن يمتلك قطعة أرض ويصبح من الملاك الصغار في (جورج تاون، Georgetown) وعمر أقنع سيده بأنه غير سليم صحياً فأراحه من كثير من الأعمال، وذهب محمد علي إلى (ديترويت) وعمل في إحدى المدارس، وأثناء الحرب الأهلية عمل في مؤسسة طبية، وبعد الحرب تزوج وشارك في تعمير (كارولاينا الجنوبية). ورغم إعطائه أعمالاً خفيفة والسماح له بالتفاعل مع الطبقة المثقفة، فإن أيوب بن سليمان أصر على الاستمرار في محاولات العودة إلى إفريقيا وإلى أسرته (Ibid,15).

وافتدى أبو بكر نفسه في عام 1835 م وانضم إلى معرض متجه إلى (تمبكتو) تحت إشراف البريطانيين، ويبدوا أنه وصل إلى هناك ثم انقطعت أخباره، وحرر عبدالرحمن نفسه بعد أربعين سنة وهو في السادسة والستين من عمره، وفي عام 1828 م بهر السود والبيض من (سنسناتي) إلى (بوسطن) إلى (واشنطن) العاصمة بكرامته وإصراره على جمع المال ليفتدي به بقية أفراد عائلته في (المسيسيبي). وعاد هو وزوجته إلى (لايبيريا) ومات قبل أن يتمكن من العودة إلى مسقط رأسه، وبعد سنه استطاع ثمانية من أفراد عائلته اللحاق بزوجته مستعينين بالمال الذي جمعه (Ibid,16).

وفي الكتاب تفصيلات كثيره عن هولاء وغيرهم من المسلمين الذين وصلوا إلى أمريكا فيما قبل الحرب الأهلية، وكان كثير منهم على درجة من العلم والمكانة الاجتماعية، فأيوب بن سليمان كان أميرا في قومه، وكان حافظاً للقرآن، واستطاع كتابته من الذاكرة عندما وصل إلى أمريكا، كما وجد في الكتاب بعض الصور لأوراق كتبت بالعربية، ومعظمها كان لآيات أو سور قصيرة من القرآن الكريم.

ولعل رواية (الجذور) للكاتب الأمريكي الأسود (ألكس هيلي) من اكبر وأشهر المؤشرات على ما عاناه المستعبدون السود في أمريكا، وهي رواية تاريخية، جمع فيها المؤلف كل ما يستطيع عن أجداده، وسافر إلى إفريقيا في سبيل ذلك، وكان جده الأعلى (كونتا كونتي) بطل الرواية مسلماً، وقد تم اصطياده مع أعداد كبيرة من السود في غرب إفريقيا، وتم شحنهم على إحدى السفن، وقيد بعضهم بالسلاسل، ومات عدد منهم في الطريق، وكان يتم إلقاء من يموت في المحيط لتكله الأسماك، وتواصل الرواية الحديث عن معاناة (كونتا كونتي) ورفاقه منذ أن وطئت أقدامهم العالم الجديد، والرواية ترجمت إلى كثير من اللغات منها العربية، وتم إخراجها في عمل سينمائي.

وفي حديثها عن الاسترقاق وتجارة الرقيق، وما عاناه السود في رحلة العذاب من بلادهم في إفريقيا إلى المعتقل الكبير في أمريكا، تقول (مريم جميلة) الأمريكية اليهودية التي أسلمت، وكان اسمها (مارجريت ماركوس): (وعند وصولهم لأمريكا امتد استعبادهم إلى جعلهم يتركون هويتهم الأفريقية وأسماءهم الشخصية ويتركوا دينهم ويعتنقوا المسيحية، ديانة سادتهم. وفي المستعمرات الأمريكية كان تعليم الزنجي القراءة والكتابة بمثابة جريمة قانونية… وكان نسلهم يباع فتتم التفرقة بين الزنجي الطفل وأخيه وأخته إلى الأبد… ولا ترى الأم بعد ذلك أولادها حيث يؤخذون منها عنوة دون رجعة. ومن المؤسف حتى الآن أن تحرير العبيد في أمريكا لم يمنحهم شيئاً سوى الحرية فقط. فبالرغم من تمكن فئة قليلة من الزنوج من تحسين أحوالها المعيشية وتحقيق بعض كرامة العيش بشق الأنفس.. مازال أغلبية السود في أمريكا يعيشون الفاقة والبؤس في أحياء الزنوج اللاإنسانية القابعة تقريباً في كل مدينة من المدن الأمريكية، (جميلة، ب، ت، ن: 36-37).

واليوم يشكل المسلمون السود في الولايات المتحدة الأمريكية أكبر المجموعات الإسلامية هناك، والغالبية العظمى منهم من أحفاد الذين جيء بهم إلى أمريكا كرقيق، فالذين هاجروا من إفريقيا في القرن العشرين بإرادتهم من المسلمين يبلغ عددهم 000، 260 نسمه، أما أحفاد من أخذوا إلى هناك قبل الحرب الأهلية فيبلغ عددهم ما بين اثنين إلى ثلاثة ملايين نسمة، (أنظر، Numan,1992) وهم من أكثر الفئات اعتناقاً للإسلام وتحمساً لنشرة، ولديهم جمعياتهم وجماعاتهم الخاصة، بعضها ينضوي تحت مظلة (الاتحاد الإسلامي في أمريكا الشمالية، ISNA) وبعضها خاص، وتنتشر بين بعض فئات السود كثير من الانحرافات، والأخطاء في تطبيق الإسلام والتي ترجع بعضها إلى مصدر التلقي، والبعض الآخر يرجع إلى الجهل بتعاليم الإسلام الصحيحة، ولكن الصورة بدأت تتغير في العقود الأخيرة، حيث عمل الطلاب المبتعثون من الدول الإسلامية على تصحيح كثير من المفاهيم والأخطاء، بالإضافة تزايد أعداد القادمين من السود إلى البلاد الإسلامية للحج، والدراسة، والعمل.

الهجرات الأولى : يرى علماء الاجتماع أن عوامل الهجرة تتمثل في مجموعتين هما:
عوامل الدفع، وعوامل الجذب، وهذه العوامل تختلف من شخص لآخر، ومن وقت إلى وقت، ومن منطقة لأخرى. هذا وقد هاجر أعداد كبيرة من المسلمين إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال القرن العشرين، وخاصة خلال النصف الثاني منه، ولعل أهم عوامل الدفع للهجرة تتمثل في الآتي:
1ـ ضعف الفرص الاقتصادية في كثير من البلاد الإسلامية.
2- الهروب من الاضطهاد الشيوعي للذين كانوا يعيشون في الصين والاتحاد السوفيتي سابقاً، وأوربا الشرقية.
3- الهروب من التسلط والدكتاتورية في بعض البلدان الإسلامية.
4- الهروب من الاحتلال، وخاصة بالنسبة للفلسطينيين، والأفغان بعيد الاحتلال الشيوعي لأفغانستان.
5- ضعف الفرص الدراسية في كثير من البلدان الإسلامية، وخاصة الدراسات العليا، وبالأخص في العلوم البحتة مثل الطب والهندسة والكيمياء و الفيزياء.
6- الهروب من العنصرية، وخاصة في البلدان التي فيها أقليات إسلامية مثل الهند والفلبين، وسيريلانكا.

أما عوامل الجذب إلى أمريكا فتتمثل في وجود ما هاجر وسافر المهاجر من أجله، مثل توفر الفرص الاقتصادية، وتوفر الحريات، وتوفر الفرص التعليمية وغير ذلك من عوامل الجذب التي تختلف من شخص إلى آخر، ويبدوا أن العامل الاقتصادي كان أهم عوامل الجذب في النصف الأول من القرن العشرين، ويبدو كذلك أن العامل التعليمي كان أهم عامل في النصف الثاني منه، ففي السبعينات قدر عدد الطلاب الذين قدموا من البلدان الإسلامية للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية بحوالي نصف مليون طالب، بعضهم آثر البقاء هناك بعد إكمال دراسته، وكان لؤلئك الطلبة دور كبير في نشرا الإسلام، وتأسيس المراكز والمنظمات الإسلامية.

وهناك دوافع نفسية للهجرة، تتمثل في الملل من البقاء في مكان واحد، والرغبة في التغيير، والتقليد، والاطمئنان لوجود بعض المعارف في المكان المهاجر إليه، فالناس يشجع بعضهم بعضاً، وعن هذا لجانب يقول (جارنير،Garni) لوحظ أن المهاجرين من قرية أو مدينة أو إقليم أو دولة، غالباً ما يشجع بعضهم البعض الآخر على الهجرة، وأنهم يتجمعون من جديد في نهاية المطاف ومثال ذلك تلك التجمعات أو الأحياء الخاصة بالصينيين، والزنوج والإيرلنديين، والإيطاليين، التي توجد بشكل خاص في المدن الأمريكية الكبرى، فعندما تكون الأخبار من الإبن أو الصديق المهاجر سارة، تنشط حركة الهجرة، فيهب الكثير من الأفراد سعياً وراء الهجرة، لا لشيء إلا لدافع الشعور بالصداقة أو القرابة الذي يجمع بين الأصدقاء والأقرباء) (الخامري، 10:1979 ومن الأحداث المهمة في تاريخ علاقة المسلمين بالولايات المتحدة الأمريكية، ودخول الإسلام إلى تلك الديار، وترسيخ دعائم الجالية الإسلامية في أمريكا مشاركة الحكومة العثمانية بوفد في معرض ( فيلادلفيا) الدولي للصناعات الذي أقيم في عام 1876 م حيث أدرك الحرفيون- وكان معظمهم من بلاد الشام- الفرص الكبيرة المتاحة في العالم الجديد، وربما كان ذلك سبباً في هجرة بعضهم فيما بعد، وإغراء غيرهم بتلك الفرص، وتجدر الإشارة إلى أن هناك معرضاً في العاصمة (واشنطن) لا يزال إلى الآن يعرض بعض المنتجات التي عرضت في معرض عام 1876.

هذا وقد سُجّـل المهاجرون في تلك الفترة تحت مسمى (أتراك)، وبعدما طبقت الحكومة العثمانية قانون التجنيد الإجباري عام 1908 م بدأت أعداد من المسلمين تولي وجهها نحو أمريكا، وبدأ كثير منهم بيع السلع على عربات متنقلة، أما الناجحون فأصبحوا أصحاب متاجر ومصانع مشهورة، مثل عائلة فرح التي تصنع بنطلونات من أفضل أنواع البنطلونات في العالم، وقد أخفى كثير من المسلمين إسلامهم لكي يتمكنوا من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، (انظر: ويليامز، 1994 م).

وكما يذكر ( ويليامز) ( كانت قوانين الهجرة في أمريكا تتضمن تمييزاً ضد العرب، إذ نصت على أن الهجرة غير مسموحة إلا للبيض والسود، وعلى سبيل المثال حوكم عربي أمريكي في العشرينات من القرن العشرين لتقرير هل يحق له الحصول على الجنسية بسبب لونه القمحي، لكنه كسب القضية حين أعلن القاضي أنه أبيض، ولا يزال كثيرون يروون قصصاً عن تستر آبائهم وأجدادهم على إسلامهم لكي يفلتوا من موظفي الهجرة وتحاملهم) (ويليامز، 14:1994 ).

ومن أجل تلك الظروف قام المهاجرون منذ أواخر القرن التاسع عشر بعزل أنفسهم في مستوطنات خاصة، وكان مجتمعاً مكوناً من الذكور في أغلبه، وتكونت جماعات قومية وشبه قومية في المراكز الحضرية في الشمال، وخاصة في مدينة (ديترويت) وقد استقر المهاجرون العرب على الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية (Rashad,1991). ومن جهة أخرى، كانت أعداد المسلمين في بداية القرن قليلة، وكانوا عموماً محدودي الثقافة والتعليم، وكان الهدف من الهجرة في معظمه هدف اقتصادي، ولذلك لم يكونوا مهيأين لحمل الدعوة إلى الآخرين، وكان تأثيرهم محدودا فيمن حولهم، وخاصة السود، للأسباب التالية:
1- ضعف الثقافة والتعليم، كما أسلفنا. فمعظمهم لم يكن متعلماً تعليماً جيدا.
2- الوقع النفسي للغربة، وما تسببه من ضغوط على المهاجر، الذي لم يكن يجد حوله عددا كافياً من قومه يشاركونه غربته.
3- حاجز اللغة، فلم يكن المهاجرون الأوائل يجيدون اللغة الإنجليزية، حيث لم يكن هناك معاهد لتعليمها، ولم يكن هناك جاليات تتكلم الإنجليزية في البلدان العربية كما هو الحال اليوم.

ويعتقد (أديب رشاد) أن المهاجرين الأوائل من المسلمين لم يحاولوا تعريف الأمريكيين السود على الإسلام، رغم أن بعضهم أسس تجارته الصغيرة في أحياء يسكنها جماعات من الأمريكيين الأفارقة، وعندما يدور الحوار حول التربية الدينية، فإنهم يتجاهلون تماماً مجموعات السود. ويضيف أن بعض المسلمين في تلك الفترة كان يخالف تعاليم الإسلام في كثير من تجارته وسلوكه من أجل رجاء الحصول على الحلم الأمريكي في الثروة. وكان ذلك سبباً في أن بعض الأمريكيين الأفارقة كان يتساءل عن الأسباب التي دعت العرب والهنود وغيرهم من الـمــســلمـيـن، حـتـى الذين جـاؤا من إفـريقـيا إلى عـدم تقـديم الإســلام إلى الأمريكـيـيــن الأفــارقة ( Rashad,1991:15).

ولعل من أوائل الهجرات إلى أمريكا ما أشار إليه (الداري) عندما ذكر أنه في السنوات الأولى من القرن العشرين نزح إلى القارة الأمريكية عدد كبير من مسلمي شبه القارة الهندية، ومن جزر الهند الشرقية، وفي سنة 1906م هاجرت من البنجاب مجموعة من مسلمي الهند استوطنوا ولاية كاليفورنيا، كما هاجرت إلى هذه الولاية جاليات عربية (الداري، 1403: 21).
وعن أسباب هجرة البنجابيين يقول (رشاد، Rashad) انهم فعلوا ذلك هروباً من الاستعمار البريطاني، وتقليدا لبعض جيرانهم، وهروباً من المجاعة التي اجتاحت الهند في تلك الفترة، ويقول أنهم استقروا على الساحل الغربي وعملوا في الزراعة، وكانت (ولوز، Willows) في كاليفورنيا واحدة من المناطق التي استقروا فيها، وينتشر أحفاد أولئك المهاجرين في غرب الولايات المتحدة، كما استقر بعض الأوائل من الهند وباكستان في الموانئ الشرقية، كانوا طلاباً وتجارا بحريين، وكان معظمهم من الرجال الذين ظنوا أنهم يستطيعون أن يجمعوا ثروة من أمريكا في وقت قصير ثم يعودون بما جمعوه من ثروة إلى بلدانهم، ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فأحياناً تتأخر الثروة، وأحياناً لا تأتي، ولذلك قرر بعضهم الاستقرار في أمريكا لعلمه بسوء الأحوال التي تنتظره لو عاد. واستقر معظمهم في المناطق الحضرية، أما المناطق الزراعية فقد جذبت إليها المهاجرين ذوي الأصول الريفية الذين ارتبطوا نفسياً ومهنياً بالزراعة (انظر:Rashad,1991).

ومما لا شك فيه أن انهيار الإمبراطورية العثمانية كان له دور كبير في هجرة أعداد كبيرة من التتار والألبان والبوسنيين، ( ففي عام 1915 م أقام الألبان مسجداً في (مين) وأقاموا مسجدا آخر عام 1919 م في كونيكتكات، ومنذ الستينات بدأ الأتراك يستغلون الفرص الاقتصادية المتاحة لهم في الولايات المتحدة الأمريكية، مثلما فعل مسلمو إفريقيا وإندونيسيا وماليزيا. وربما كان أكثر المهاجرين . تحمساً لدينهم الوافدون من الهند وباكستان وبنجلادش، فبعدما بدأت بريطانيا تسد الباب في وجوههم بسبب قوانين الهجرة العنصرية فيها، أخذوا يتجهون إلى الولايات المتحدة التي فتحت أبوابها أمام المهاجرين من العالم الثالث. وكان هؤلاء ( قدا شحذوا إيمانهم ورسخوا عقيدتهم نتيجة للحرب الدينية التي شهدتها شبه القارة الهندية. لذلك هم أنشط الجاليات في أمريكا لجهة تنظيم أنفسهم وتشكيل المنظمات الإسلامية) (ويليامز، 1994: 15 -16).
ولعل من أقدم المجموعات الإسلامية التي نزحت إلى القارة الأمريكية مجموعة من المهاجرين استوطنوا مدينة (سيدر رابيدز) بولاية (أيوا) من بينهم خمس عشرة أسرة عربية مسلمة هاجرت من سوريا ولبنان عام 1895 م واستوطنت فيها (الداري، 21:1403). وانظر كذلك مجلة قافلة الزيت، ربيع الأول 1396 هـ). وعلى العموم هناك مهاجرون لأمريكا من جميع الدول الإسلامية وغير الإسلامية بعضهم وصل في فترات مبكرة، والبعض لم يهاجر إلا في النصف الثاني من القرن العشرين.

الجالية العربية : ليس هناك بلد إسلامي لا يوجد منه مهاجرون إلى أمريكا، وربما كانت دول الخليج العربي من أقل الدول التي يوجد منها مهاجرون في أمريكا، وذلك لترفر الفرص الوظيفية فيها، وارتفاع مستوى المعيشة بالنسبة لغالبية السكان، وتوفر الأمن والاستقرار الاجتماعي والسياسي، وقوة الروابط الأسرية والاجتماعية، يضاف إلى ذلك أن بعض مجتمعات تلك الأقطار لم تنفتح على العالم الخارجي وتحتك به إلا في فترات متأخرة نسبياً، فالمملكة العربية السعودية لم تقع تحت الاستعمار وكانت شبه مغلقة إلى أن وحدها الملك عبد العزيز رحمه- الله وأسكنه فسيح جناته، وبدأ في بناء المؤسسات التي تتطلبها الدولة الحديثة، وكان أول احتكاك مباشر وملموس بالثقافات الغربية يتمثل في التنقيب عن النفط من قبل الشركات الأمريكية، والتي مثلت أولى نوافذ الاحتكاك الاجتماعي بالعالم الخارجي.
وقد شكل المهاجرون العرب على مختلف موجات هجرتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية جالية من الجاليات العديدة التي اشتمل عليها المجتمع الأمريكي. وإذا صح ما ذكره الأديب الأمريكي (والت ويتمان) من أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست أمة واحدة، بل أمة تعج بالأمم، فإن الجالية العربية ليست جالية واحدة، وإنما هي الأخرى جالية تعج بجاليات متعددة، فهناك اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون والسودانيون والمصريون واليمنيون والعراقيون والمغاربة والتونسيون والجزائريون وغيرهم وكل هؤلاء يشكلون عناصر الجالية العربية في الولايات المتحدة الأمريكية (جزين، 1987 م).

وقد مرت بعض الأقطار العربية بظروف دفعت بالكثير من سكانها إلى الاتجاه إلى الغرب هرباً من الأوضاع السيئة التي وقعوا فيها وبحثاً عن الحرية من جهة، وتحسين أوضاعهم الاقتصادية من جهة أخرى، وتعتبر بلاد الشام والتي تشمل سوريا ولبنان وفلسطين من أكثر المناطق في العالم العربي طردا للسكان، وكان السبب في ذلك يعود إلى تسلط الحكومة العثمانية وإرهاق الناس بالإتاوات والضرائب (انظر، صليبا: 1985)، وكان المسلمون والنصارى سواسية في ذلك، إلا أن المهاجرين من النصارى كانوا أكثر لتشابه عقيدتهم مع عقيدة البلاد التي هاجروا إليها. أما المسلمون فقد كانوا يترددون كثيرا في الهجرة إلى بلاد غير بلاد المسلمين خشية على دينهم، ويروي كمال نمر حادثة طريفة روتها له إحدى السيدات المسلمات في مدينة (ديترويت)Detroit في ولاية (ميتشجان)Michigan حيث قالت: الأسباب اقتصادية ملحة، فكر والدي في الهجرة من لبنان إلى أمريكا، وفي سبيل ذلك جد واجتهد إلى أن استطاع أخيرا أن يحصل على تذكرة وإذن بالدخول. وما أن وطئت قدماه المركب الذي سيحمله عبر البحار إلى أمريكا، حتى خطر بباله أمر هام، فاتجه إلى الربان مستفسرا: هل يوجد في أمريكا مساجد؟ وهناك حدثت المفاجأة، إذ ما كاد يعلم أنه لا يوجد فيها مساجد، حتى هرول تاركاً المركب، وهو يقول: إنها إذن بلاد كفر ولن أذهب إلى بلاد كفر أبدا) (النمر، 1407: 15).

وقد أشارت (اليكسانان) إلى سبب إحجام العرب المسلمين عن الهجرة إلى أمريكا عندما قالت: (وقد دفع الخوف من صعوبة المحافظة على التقاليد الإسلامية في قلب مجتمع غربي مسيحي إلى إعاقة عملية هجرة المسلمين إلى الولايات المتحدة) (اليكسانان، 1985: 26).

وبالنسبة لعدد المهاجرين العرب في أمريكا تقول (اليكسانان): (تعتبر الجالية الأمريكية العربية في الولايات المتحدة، وقوامها 2 مليون نسمة، نتاجاً لقرن كامل من الهجرة. وهناك 90% من المهاجرين تقريباً من المسيحيين و10% من المسلمين، وهذه نسبة عكسية لنسبة المسلمين إلى المسيحيين في الشرق الأوسط) (المصدر السابق: 18). أما سمير ابرهام ونبيل ابرهام فيريان أنه ( من الصعب تأكيد العدد الفعلي للأمريكيين العرب وذلك لنقص الإحصاءات الدقيقة. ويتفق المراقبون والخبراء بصفة عامة على أن عدد الأمريكيين العرب يتراوح بين 2 مليون إلى 3 مليون عربي، وذلك بعد مرور ما يزيد على قرن كامل من الهجرة والنمو) (ابرهام وابراهام، 1985: 19). ويقدر ( فريد نعمان ) F.Numan عدد العرب المسلمين في الولايات المتحدة ب 000، 620 نسمة، يمثلون 12.4% من مجموع المسلمين هناك ( Numan,1992:13).

ويمكن النظر إلى الهجرات العربية التي تمت في النصف الثاني من القرن العشرين على أن غالبية أفرادها من المسلمين القادمين من بلاد مستقلة، فبين عامي 1967 و 1976م هاجر من العراق حوالي ثلاثة وعشرين ألفاً، ومن الأردن وفلسطين أكثر من خمسة وعشرين ألـفــاً، ومــن ســوريـا حـوالي عـشــرة آلاف، ومن مصـر أكثر مـن سـتــة وعــشـريــن ألـفــاً ( Gottesman,1980). وليس بالضرورة أن تكون تلك الأعداد كلها من المسلمين، فالسجلات الأمريكية لا تضم معلومات عن الديانة، ولكن من المرجح أن غالبية المسيحيين ممن كان ( يريد الهجرة قد هاجر من قبل، وأن الموانع التي كانت تحول بين المسلمين والهجرة قد ضعفت، وخاصة في العقدين الأخيرين، لتوفر الجماعات والمؤسسات الإسلامية المختلفة.

وبالنسبة للمهاجرين اليمنيين، لا يوجد اتفاق بين الباحثين على تاريخ وصولهم طلائعهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن هناك من يرى أنهم بدأوا في التدفق والهجرة بعد افتتاح قناة السويس في عام 1869 م، فقد ادعى- فلاح عجوز من كاليفورنيا يبلغ من العمر 90 عاماً أنه قد جاء إلى الولايات المتحدة الأمريكية في مستهل القرن العشرين، وأن عمه قد وصل إليها قبله بعدة سنوات (Bisharat,1975:24). وفي دراسته الميدانية عن الجالية اليمنية في (ديترويت) يذكر الخامري أن المستجيبين لاستفساراته كانوا يشعرون بالفخر عندما يتحدثون عن تاريخ هجرة أقاربهم إلى الولايات المتحدة، فقد ذكر بعضهم أن أجدادهم وآباءهم وأقاربهم قد وصلوا إلى الولايات المتحدة في الفترة من 1900 إلى 1910 م (الخامري، 1979: 24).
هذا وقد انتشر اليمنيون في مدن كثيرة في أمريكا، وخاصة ما يقع منها على الساحل الشرقي مثل نيويورك وبوسطن، ولكن تعتبر مدينة (ديترويت،Drtroit) في ولاية (ميتشجان)Michigan من أكثر المدن الأمريكية التي يوجد بها جالية يمنية، فقد قابل الباحث في مدينة (دينفر) أحد اليمنيين الذين يعيشون في (ديترويت) وسأله عن تقديره عن عدد الجالية اليمنية هناك، فأفاد بعد التشاور مع زميل آخر بأن عددهم يتجاوز الثلاثين ألفا، أما تاريخ هجرتهم إلى تلك المدينة، فيرى نبيل ابراهام أن مجموعة صغيرة من اليمنيين جاءت إلى (ديترويت) منذ عام 1900 م (ابرهام وابراهام، 1985: 191) ومن هناك بدأت أعدادهم تتزايد، وخاصة في الستينات والسبعينات، فقد وجد الخامري أن 69,5% من عينة دراسته وصلت إلى (ديترويت) خلال الفترة من 1970 إلى 1978م، ومعظم المهاجرين اليمنيين من صغار السن، فالخامري في دراسته المشار إليها وجد أن 80% من عينة بحثه تتراوح أعمارهم بين 17 سنة و 37 سنة، أما الذين بين 37 و 57 سنة فقد بلغت نسبتهم 17%، بينما يمثل الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 57 سنة 2% فقط، (الخامري، 1979).
وأغلب المهاجرين اليمنيين من الذكور الذين يعتبرون أنفسهم مهاجرين مؤقتين جاؤا لهدف اقتصادي ولا ينوون الإقامة الدائمة، وتشير كثير من الدراسات إلى أن اليمنيين يميلون للسكن في مجمعات، وفي مناطق معينة في مدينة (ديترويت) ولذلك أسباب عدة، فدراسة الخامري تشير إلى أن 4، 44% من عينة البحث ترى أن أسباب التركز في تلك المناطق سببه قوة العلاقات والروابط بين أفراد الجماعة، وحاجة أفرادها إلى تبادل الدعم، كما ذكر 38.9% أهمية القرب من مكان العمل، وذكر 8. 7% أن دافعهم كان رخص الإيجار (المصدر السابق: 58). ومن الواضح أن الروابط المختلفة والعلاقات تعتبر من أهم العوامل التي تحدد المنطقة السكنية في تلك المدينة، وهناك ميل من القادمين الجدد للسكن مع أقاربهم أو ذويهم أو معارفهم من الفلاحين حتى يتمكنوا من الحصول على عمل، وعلاوة على ذلك فإن دور العلاقات والروابط الاجتماعية مهم في تكيف المهاجرين الجدد مع البيئة الجديدة لوجود حاجز اللغة، ولتأثير الصدمة الحضارية، وللجهل بالقوانين والأنظمة وطرائق المعيشة. وتعتبر المساجد والمحلات التجارية العربية والإسلامية، والمقاهي من الرموز التي تجذب المهاجرين الجدد للسكن بقربها لما يجدونه فيها من إشباع لاحتياجاتهم المعنوية والمادية، والنفسية والاجتماعية.

وإذا كان معظم المهاجرين اليمنيين من العمالة غير الماهرة والتي تحترف الزراعة، فإن العقدين الأخرين شهدا تزايدا في أعداد المهاجرين العرب من العمالة الماهرة، وحملة الشهادات العليا، فيذكر محمد عبد العليم مرسي أن مصر خسرت نزيفاً بشرياً إلى الولايات المتحدة على شكل دارسين للدكتوراه امتنعوا عن العودة إلى بلادهم بعد انتهائهم من دراساتهم، وقد بلغ عددهم (950) فردا من مختلف التخصصات التي أوفدتهم دولتهم للتعمق فيها. وبحساب أن الواحد منهم يكلف بلاده عشرين ألف دولار في السنة، فإن مصر خسرت خلال تلك الفترة (1970- 1980م) ما يزيد على خمسين مليوناً من الدولارات هي فقط تكلفة تعليمهم على الأرض الأمريكية أثناء دراساتهم العليا فقط، أما ما سبق ذلك من تكاليف فلم يدخل في الحساب (مرسي، 1404: 71-72).
ويفيد المهاجرون العرب بلدانهم بالحوالات المالية التي يرسلونها لأسرهم، فالمهاجر اليمني يمكن أن يعيل أسرة كبيرة في اليمن عندما يحول لها مائة دولار في الشهر، و.هو مبلغ من السهولة الحصول عليه وصرفه في أمريكا، ولكنه مبلغ كبير عندما يحول إلى الريال اليمني، ويصعب الحصول على مثله في داخل اليمن، كما يفيد المهاجرون العرب في نشر الإسلام، وفي خلق شيء من التوازن مع اللوبي الصهيوني، وإن كان العرب إلى الآن لم يصلوا إلى أن يكونوا قوة مؤثرة في السياسة الأمريكية، وإن كانت المؤشرات تدل على أن الوضع يسير من حسن إلى أحسن، وخاصة عندما تنسق الجهود بين جميع الفئات المسلمة وغير المسلمة، والعربية وغير العربية، ومن جهة أخرى يشكل المهاجرون العرب خسارة كبيرة لبلدانهم بنقص العمالة، وخاصة الماهرة منها، ونقص الكفاءات في التخصصات العلمية المختلفة.

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية – 3 مغلقة

عبد الله المنجد: شيخ قراء بلاد الشام

بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس جمعية التمدن الإسلامي فإن الموقع سيبدأ كل شهر بنشر مقالة من مقالات جمعية التمدن وإطلاع المهتمين على بعض مافيها.

نبذة من حياة شيخ المقرئين في الشام …

عبــد الله المنجــد (*)
1869 – 1940 م
1288 – 1359 هـ

نشأته وطفولته
في أواخر عام 1388 هـ و 1869 م ولد الشيخ عبد الله المنجد في دمشق ، في بيت علم وتجارة .
وكان أبوه ذا ثروة وغنى ؛ يرسل العروض إلى الحجاز ومدنه ويبقى في دمشق يجالس العلماء ويسامر الولاة ، وكان سخي اليد جواداً ، ينفق ما يجمعه على العلماء والصالحين فكانوا يترددون إليه طمعاً بماله ، ويتقرب منهم طمعاً بعلمهم ، وكانت الولاة ورجالات الشام يقربونه ليستمعوا إلى حديثه ، فقد كان أميراً من أمراء المجالس ، إذا تكلم أنصت القوم . وكانت أم الفقيد تنتسب إلى آل المفتي ، وهؤلاء قوم نزحوا عن دياربكر منذ زمن طويل ، واشتهروا بالعلم والحديث ، وأتوا دمشق فكان لهم في تاريخ الإفتاء اسم وأثر وصيت .

في بيئة لا يفارقها العلماء نشأ الفقيد ؛ أبوه يقرّب العلماء وأهل أمه من العلماء ، ويقولون إنه عرف أحد المشايخ الذين هبطوا دمشق ، قبل أن يلد ولده عبد الله ، وكان اسمه أبا القاسم ، وكان صالحاً مباركاً ، فبشره بغلام يكون إذا شب من أهل القرآن ويكون له أثر وصيت .

وماتت أمه وهو صغير ، واضطر أبوه إلى السفر إلى الحجاز لتجارة يدير أمرها ، فلم يكن غياب أبيه ، ولا موت أمه سبباً لإهمال الفقيد شأنه من التعلم . فجدّ ورغب وانتهل العلم من أهله ، والمشهورين فيه في زمانه .
تعلمه: لازم وهو صغير بيت الشيخ الحلواني الكبير ، شيخ القراء بالشام وقتئذ ، وتلقى على ابنته القراءة والكتابة ، ثم تحول عنها إلى والدها الشيخ الكبير ليحفظ القرآن . فقرأ عليه وحفظ طرفاً من السور .

وأتم حفظ القرآن على طريقة حفص على الشيخ الشرقاوي ، نزيل الشام ، ثم برع فيه ، وكان ذا صوت حسن رقيق ، يجتذب النفوس ويلين القلوب ، يقرأ لكل مجلس ما يناسبه ويتلو لكل حادث ما يحسن به ، فذاع صيته واستفاضت شهرته ، ونظروا إليه .

وكان الشيخ الحلواني قد جمع القرآن عن طريق الشاطبية فقط ، على الشيخ المرزوقي المغربي في الحجاز ، فلما أتى الشام لم يكن فيها من يقرأ أو يعنى بالقراءة ، فدفع الناس إلى حفظ القرآن وكان له تلاميذ منهم الشيخ أحمد دهمان والشيخ عبد الله الحموي ، والشيخ دبس وزيت والشيخ المالكي وغيرهم ، وكان أبرعهم الشيخ دهمان .

وأراد الفقيد أن يجمع القرآن ، وكان الشيخ الحلواني الكبير قد مات ، فقرأ على الشيخ أحمد دهمان شيخ القراء بعد أستاذه ختمة كاملة للقرّاء السبعة من طريقة الشاطبية على طريقة الشيخ سلطان ، وختمة أخرى من طريق الشاطبية والدرّة للعشرة من أولها إلى آخرها، وتحقق ما بشَّر به أبو القاسم ، فنال الفقيد في القرآن والقراءات قسطاً كبيراً ، وكانت تطمح نفسه إلى الإلمام بالزوايات الباقية التي كانت غير معروفة في دمشق ، على كثرة أهل العلم والقراء فيها ، ويريد الله أن يحقق طِلْبَةَ الفقيد المرحوم ، فيهبط دمشق من مصر حسين بن موسى شرف الدين المصري الشافعي الأزهري ، وكان مجيداً للقراءات متقناً مشاركاً في العلوم ، يأخذ بمجامع القلوب إذا قرأ ، وكان مشير الدولة العثمانية في دمشق إذ ذاك القارئ المحقق السيد أحمد خلوصي الشهير بحافظ باشا ، وكان يجيد طريقة الطّيبة وهي طريقة ما كان في الشام أحد يعرفها ، فوجد المرحوم في الشيخ حسين ضالته فلازمة ليأخذ عنه القراءات على طريقة الطّيبة ، ولكن الشيخ حسين كان بخيلاً بعلمه وكان صعباً في طاعته فلاقى المرحوم الأمرّين في قراءته عليه إلى أن وفقه الله لأخذها ، فقد قرأ عليه ختمة العشرة بما تضمنته طّيبة التقريب والنشر الكبير على طريق العراقيين والمغاربة وطريق المناسبة وأجازه بها سنة 1314

ويعلم الكثير من أهل العلم في دمشق ما لقيه المرحوم من صبر وتجلد وجد وكد وتحمل لنفرات أستاذه الشيخ حسين موسى في سبيل إتقان هذه الطريقة ، كان إذا جاءه قبل دقيقة عن الموعد لا يقبله وإذا تأخر دقيقة لم يقبله ، وإذا جاء في الموعد وكانت ساعة الشيخ قد تقدمت أو تأخرت لم يقبله ، وكان جزاء تأخّره أن ينقطع عن تدريسه أسبوعاً أو أسابيع ، فكأنه كان مصاباً بوسواس يدفعه إلى فعل ما فعل ، والمرحوم يتحمل ويتجلد ولا يبالي .
حدث المرحوم قال : سافر الشيخ حسين مرة إلى بيروت فلبث فيها مدة طويلة ثم عاد فنزل في دارنا ، فافترشنا له ،وقام الشيخ يصلي ، وأنا واقف أمام الباب الغرفة أنتظر لعله يحتاج شيئاً ، فبقيت طول الليل واقفاً أنتظر ، وبقي الشيخ يصلي حتى كان الفجر ، فناداني ، وصليت وراءه الفجر ….

ولما مات الشيخ حسين موسى أضحى الفقيد شيخ القراء بدمشق غير مدافع ، وكان الفقيد قد بلغ الذروة ولم يتخط الثلاثين فلم يقنع بما قرأه وبما اختص به ، بل أراد أن يلم بالعلوم الأخرى ، فلازم شيوخ العلم في عصره ، وكان أكثر ما يكون ملازمة علامة الشام الشيخ بكري العطار ، تفقه عليه وأخذ عنه الشيء الكثير ، وحضر دروس الشيخ محمد القاسمي ، وأخذ عن الشيخ الخاني الشهير ، وعن غيره .

الاجتماعات التي كان يقيمها
وفق الفقيد لجمع جماعة من القارئين يتلوون القرآن ويتدارسونه في ليلة من كل جمعة ، وكان على فضله المشهود له به من الجميع يرى نفسه أقلهم وأحقرهم ، ولا تزال هذه الجماعة دارجة على نحو ما سنّه لها الفقيد حتى اليوم .

بعض مواقفه: كان ـ رحمه الله ـ ذكياً متوقداً ، وله حوادث كثيرة تدل على إبائه وذكائه وشجاعته حدّث مرة قال : كنت في صباي أطلب العلم وأجمع القرآن ، وكان أهل العلم يستثنون من الخدمة العسكرية زمن الدولة العثمانية ، شرط أن يؤدوا امتحاناً ، فتقدمت للامتحان واتفقت أنا وثلاثة آخرون على أن لا نسلك سبيل الرشوة إلى المستخدمين اعتماداً على أنفسنا ، وكراهة للرشوة ، وفقراً منا ، [ قال ] . فلما كان يوم الامتحان وقفت أمام غرفة المستخدمين أقرأ وأتلو . فرأيت الثلاثة الذين اتفقوا معي من قبل على أن لا يرشواً أحداً ، يضحكون ويمزحون ، فقلت لهم ما بالكم ، قالوا: لقد أرسلنا إلى رئيس المستخدمين ما تيسر ونجونا ، ولن نمكث أمامه إلا قليلاً حتى نُعفى من الجندية ، فتدبر أمرك ، وأرسِلْ إليه شيئاً قبل أن تكون من المجنّدين . قال فاكتأبت ، ولكني لم أخف ، وتوكلت على الله ، وأبيت أن أرسل إلى الرئيس شيئاً ، وعجبت من هذا الناس كيف يخادعون ..

[ قال ] ودخل أولهم فلم يمكث إلا سبع دقائق تماماً ، وتبعه آخر فلم يمكث إلا مثله ، قال فتقدمت أنا ودخلت ، وإذا جماعة من كبار العلماء حول نضد كبير ، وقد رأسهم شيخ بوظيفة مفتى آلاي تركي الأصل ، فلما رآني حملق وهمهم ، وقال أحد الحاضرين إن امتحان الشيخ قراءة عشر من القرآن فأبى الرئيس وألح أن يمتحن ويُسأل قال : فسألني أسئلة صعبة عويصة ما كانت لتخطر على بالي ، فأجبت عنها ، فغيظ ، فعاد يسألني ويغلظ لي والشيوخ صامتون خائفون ، وأنا أجيب ولا أتلكأ ، لقد أعانني الله عليه ، وبقيت أمامه أربعين دقيقة يسألني وأجيبه ، والعرق يتصبب مني ، ثم قال إقرأ من القرآن عشراً ، فلم أتفكر ولم أتوقف وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ” قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ” ثم ختمت . فبهت الحاضرون ، وجُن الرئيس .. وقمت فخرجت ، والشيوخ معجبين ، وكان ذلك المفتي يقول : ما غلبني أحد قط إلا هذا الشيخ ، بآيته .

أخلاقه
ما عَرِف الناس رجلاً أشد تواضعاً وأعظم رقة ولطفاً من الشيخ الفقيد مع علم جم وأدب واسع ونبل رفيع ، إذا رآك جعلك سيده ، فكان يرى الفضل لجميع الناس وكان يخدم الجميع ويحترمهم وكان يرى الخير في كل إنسان .

كان راضياً عن ربه صابراً صبراً شديداً ، نُكب بماله وأولاده وصحته ، وعاش في برهة من الزمن عيشة كلها ضنك ، فكان لا يشكو ولا يتبرم ويصبر ويقول : لقد أوتيت القرآن ، ومن أوتي القرآن فقد أوتي خيراً كثيراً ، وكنت لا تراه ساخطاً ، وكان يقنع بما يكفي عياله ، ومع ذلك فقد كان كريماً ليس أحب إليه من أن يكرم ضيفه إذا طرق بابه ولو لم يكن في بيته شيء ، وكان لا يسألُه سائل إلا أعطاه ، وكثيراً ما كان يستدين ليعطي المحتاج فلا يرده وكان يقول : أستحي أن يسألني سائل فلا أعطيه ، ولقد اعترض على ذلك بعضُ أبناءه فأنّبه على ذلك .
وكان يتقبل الإساءة ولا يذكرها ، ويشيد بذكر المحسن له ، وكان يوصي أبناءه بأن يُصادقوا أبناء من أحسنوا إليه ويوصيهم بهم خيراً ، ويقول : إن لفلان علينا يداً ومعروفاً فبروا أبناءه ما استطعتم .
وكان يرحمه الله رقيقاً كريم الأخلاق متواضعاً ، يقطع وقته في قراءة القرآن والصلاة ، وكان يختم كل جمعة ختماً من القرآن منذ حفظه أي منذ ستين سنة ولم ينقطع عن ذلك حتى أنه كان يقرأ في أيام مرضه الشديد ثلاثة أجزاء في اليوم .

أواخر أيامه
في عام 1921 دعاه العلامة الأستاذ محمد كرد علي وجعله مدرساً للعلوم الدينية في مدارس دمشق الابتدائية ، فمكث فيها نيفاً وعشر سنين ، وكان يجهد نفسه في إلقاء الدروس وتعليم التلاميذ رغم ما به من مرض ملازم له ، وكان بعض أبنائه يسأله لو يلقي الدرس دون أن يجهد نفسه رحمة بحاله وتخفيفاً لمرضه فكان يقول : إن هذا واجب ديني ينبغي علي أداؤه على أكمل وجه ، لقد ضاع هذا الدين وإن لم نجهد النفس لإحيائه لليوم دثرت معالمه غداً .

وفي عام 1936 أخرج من المعارف لتجاوزه الستين فعاش في داره منعزلاً عن الناس ، فقد آذوه كثيراً ، وحسدوه كثيراً حتى أن بعض المشايخ كان ـ حسداً منه ـ يمنعه عن تلقي العلم وهدّده إن قرأ القرآن ليضربنه ، ولكن الله نصره ، ثم أوذي وهو في المعارف ، ولكنه نصر ، لأنه من جنود الله ” إن جنودنا لهم الغالبون ” .
عاش المرحوم أربع سنوات في داره منعزلاً ، قضاها في التلاوة والصلاة ، لا يختلط بالناس فإذا جاؤا إليه رحب بهم واستقبلهم من الباب وودّعهم إلى الباب على الرغم من مرضه وضعفه .
وفي ضحى يوم الأربعاء غرة بربيع الثاني سنة 1359 انتقل إلى ربه ، وهو هادئ مطمئن بذكر الله .

تلاميذه
كان للفقيد تلاميذ كثيرون يربون عن الخمسين ، وأكبر تلاميذه فضلاً خمسة هم شيخ المقرئين اليوم في بيروت الشيخ محمد توفيق البابا وشيخ الغوطة ومقرؤها الشيخ عبد القادر صمادية والسادة الشيخ ياسين الجويجاتي وبشير الشلاح وفوزي المنير وقد سمع تلاميذ تلاميذه يقرأون .

***
نيف وستين عاماً قضاها الفقيد في تعليم القرآن ونشره تكفيه ذخراً عند ربه ، وحسبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وتعلمه ) . وأنه قال : ( أشراف أمتي حملة القرآن ) . وأن ( آل الله أهل القرآن ) .
اللهم ارحمه رحمة واسعة ، أطلق بها لروحه العنان ، واجعل مسكنه في الجنان ، وآنسه بالقرآن ، واجعله في جوار النبيين والصديقين والشهداء وممن أنعمت عليهم ، إنك غفور رحيم .

(*) كلمة ألقيت في حفلة رثاء الفقيد في بهو المجمع العلمي العربي التي أقامتها جمعية التمدن الإسلامي عقب صلاة الجمعة الثانية في رمضان من هذا الشهر ، ونشرت في مجلة التمدن الإسلامي، السنة السادسة، الأجزاء 6-7-8، شعبان ، رمضان، شوال 1359هـ ، ص 132-134.

كُتب في الأعلام, الراحلون, من كنوز التمدن الإسلامي, منائر | التعليقات على عبد الله المنجد: شيخ قراء بلاد الشام مغلقة

الطريق إلى الله

كتب الأخ الفاضل أنس هذه الرسالة من بلاد الغربة وبثها حبه لإخوانه وتأملاته ثم أردفها بكلمات رقيقة تدلنا على الطريق إلى الله فجزاه الله كل خير ورده وسائر الإخوة غانمين سالمين. وهذا نص رسالته.

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم لك الحمد أنت المنعم ذو الفضل العظيم والصلاة والسلام على قدوتنا وحبيبنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوتي في الله الأحبة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…….أرجو من الله أن تكونوا في أحسن حال إيمانيا ً وصحيا ً واجتماعيا ً وعلميا ً وعمليا ً وعلى كل الصعد إن شاء الله…… شوقي لكم كبير ،وهو [يشتد] كلما سمعت بزيارة أحد الشباب المسافرين لكم، فأحتسب غيابي عن جمعاتكم الطيبة عند الله.
الحمد لله فأحوالي إن شاء الله جيدة، والدوام في الجامعة يسير على قدم وساق، والعلم غزير وذو نوعية عالية، عسى الله أن يوفقني لتحصيله التحصيل الجيد المثمر.
بدأ فصل الصيف هنا وعاد الخضار يكسو الشوارع والأشجار وكل مكان هنا، وأتت مع الدفء أسراب الطيور المغردة فما أبدعها من أصوات…..سبحان الخلاق، كما بدأ الناس أيضا ً أصلحهم الله وهداهم بأخذ راحتهم باللباس ….عافانا الله وإياهم…..وهذا الأمر في الحقيقة صعب أيها الإخوة فأسأل الله لي ولكم الثبات وغض البصر وحفظ الجوارح.
منذ يومين كان لدي محاضرة في مكان بعيد نسبيا ً فوصلت صباحا ً قبل الوقت المحدد، واحترت ماذا أفعل ريثما تبدأ المحاضرة، فوجدت بالقرب من المكان مقبرة، والمقابر هنا تحظى بعناية شديدة فهي تنافس أروع الحدائق وحواضن الأزهار والورود، فقلت في نفسي أدخل فأتجول في هذه المقبرة، ولما دخلت بادرت كالعادة بقراءة دعاء دخول المقبرة لكنني توقفت وقلت في نفسي واحسرتاه على أولئك الموتى الذين علت قبورهم شاخصات لا توحد الله….. وحزنت لذلك، لكنني فوجئت بعد دقائق بقبر أبيض اللون جميل ذو شكل قريب مما آلفه، فاقتربت وإذا بالشهادتين والبسملة قد خطت عليه، وسبحان الله، فلا أستطيع أن أصف لكم فرحتي بهذا القبر الذي وجدته، فيا عجبي من فرحتي بقبر وميت مسلم، ويا عجبي من غفلة عن كثير من مسلمي بلادنا الأحياء الذين هم بحاجة لكلمة خير ونصيحة ودعوة فتنصلح أحوالهم بإذن الله.
إخوتي الأحبة مرت معي مقالة رائعة في كتاب بعنوان (في النفس والمجتمع) جزى الله كاتبه الخير الكثير، هذه المقالة بعنوان الطريق إلى الله، هذا الطريق الذي يغفل عنه الكثيرون مع أنه مفتوح لهم دوما ً على اختلاف ظروفهم ومستوياتهم، هذا الطريق الذي يشعر سالكه بالأنس بالله دوما ً ولو كان وحيدا ً، هذا الطريق الذي يدّعي كثيرون البحث عنه وهو مفتوح أمامهم في كل حين ومكان، لكن تعقيدهم للأمور جعله مغلقا ً صعبا ً ارتياده. مع الطريق إلى الله أدعكم للتفكر والتأمل:

الطريق إلى الله

* هل استأت مرة من صديق ، لأنه يقوم بعمل يؤذيك أو يتسبب في مضايقتك؟ هل هممت أن تقاطعه فلا تكلمه بعد ذلك أبدا؟ هل جمعت أمرك أن تلقيها في وجهه كلمة قاطعة: لست صاحبي ولا أعرفك منذ اليوم؟
ثم رددت نفسك في اللحظة الأخيرة وقلت: إنه بشر ، وكل البشر يخطئون. وأنا أيضا أخطئ أحيانا بغير قصد ، ثم يتبين لي ماأخطأت؟ .. وهل أقبلت على صديقك تكلمه كأنه لم يسىء إليك ، بل تكلمه مقبلا عليه وقد أعطيته نفسك وقلبك … حقا لا رياء .. حقا ينبع من أعماق نفسك؟
إنها الطريق إلى الله
* هل أحسست نحو إنسان أنك تحبه؟ تحبه ولست في حاجة إليه ولا تنتظر نفعا على يديه؟ تحبه بلا ضغينة له في نفسك ولا غَيْرة ولا حقد؟ تحبه فلا تقيس نفسك – سرا – إليه وتقول: ألم أكن أنا أولى منه بما هو فيه؟ تحبه فلا تحسده على مزاياه ومواهبه بل تحبها كأنها هي ملكك ، وتتمنى له المزيد ؟ تحبه فتنجذب إليه كما ينجذب المغنطيس ، وتسري روحك على موجات الجاذبية خفيفة مرفرفة نشوانة كالفراشة التي ترفرف للنور؟
إنها الطريق إلى الله
* هل فتنتك هذه الفتاة الممشوقة الساحرة النظرات؟ هل أحسست رعشة في كيانك وهزة في فؤادك؟ هل اضطربت نفسك كلها كما تتحرك الرواسب الخامدة في الماء الرائق فإذا كله قد اضطرب وماج ، تيارات صاعدة هابطة ، وذرات تذهب وتجيء . والماء الرائق صار مختلط اللون قد امتلأ “بالعكار”؟
ثم هل تذكرت أنها ليست لك؟ وأنه ليس لك أن تتبعها بخطواتك أو بنظراتك أو بمشاعرك؟ هل أحسست – رغم الرغبة الجامحة التي تكاد تنتزعك من إطارك وتفلت بك من نفسك – أنك متنازل عنها.. عن الشهوة والفتاة ، وأنك تسترد أنفاسك اللاهثة وخفقاتك المضطربة .. وتهدأ وتطمئن؟
إنها الطريق إلى الله
* هل صفت نفسك في نور القمر؟ هل سرحت طرفك في هذا الكون الحالم الغارق في الضياء؟ هل نسيت نفسك وأحسست بالحواجز بينك وبين الكون تتذاوب وتختفي رويدا رويدا حتى إذا أنت جزء من العالم الواسع الفسيح ، وهو خاطرة تملأ فؤادك؟ هل نسيت أحقادك وضغائنك وما بينك وبين الناس من صراع وتضارب ، وأحسست أنك والناس جميعا ذرات خفيفة هائمة في الملكوت، لا ينبغي أن تتصادم – فالكون فسيح – بل ينبغي أن يخلي بعضها الطريق لبعض ، وأن تتجاذب لتسبح معا منسابة في النور؟ هل أحسست أنك طليق كهذا الشعاع السارب في الفضاء ينقل بسمة القمر الحالم إلى وجه الأرض؟ طليق من السلاسل التي تقيدك بالأرض، طليق من شهواتك الجامحة ورغباتك المجنونة ، ونوازع الشر الحبيسة؟
إنها الطريق إلى الله
* هل أحسست بتلك القروش التي في جيبك كأنها ليست لك؟ هل انقطعت السلسلة المتينة التي تشدك إليها وتشدها إليك؟ هل بطل الجذب العنيف الذي يربط كلا منهما بالآخر؟ هل أحسست بدلا من ذلك أن يدك تعبث بها لتخرجها من مكمنها ، نشوانة بما تفعل ، طليقة من الشح، نشيطة إلى العطاء؟ هل دسستها بعد ذلك في يد فلان من الناس وانطلقت نشيط الخطوات خفيف الروح ، كأنك تخلصت من ثقلة كانت تشدك إلى الأرض؟
إنها الطريق إلى الله
* هل أحسست بالألم يعتصر فؤادك؟ ألم من كل نوع.. آلام شتى . كلها مؤلم وكلها شديد.. هل أحسست أنك تتهاوى تحت وطأتها وأنك لا تستطيع احتمالها؟ هل أحسست وخزها يدفعك إلى الصياح.. إلى التأوه.. إلى الانفطار.. إلى انهيار الأعصاب وانهيار السلطان على النفس؟
ثم هل تمالكت نفسك رغم هذا ، وقلت تؤسي نفسك وتجمع شتاتها تصبرها.. فليكن ذلك في سبيل الله؟
إنها الطريق إلى الله
*هل أحسست رغبة تدفعك إلى العبادة؟ رغبة ملحة تقيمك وتقعدك، ولا تجد راحتها إلا ابتهالا إلى الله ، واستسلاما لله؟ وهل خشعت نفسك وأنت تلبي هذا الهاتف الذي يدفعك إلى الله ، واهتز وجدانك وشعرت بالقشعريرة تسري في كيانك؟ هل أحسست أنك لست في عالم الأرض. لست في تلك البقعة التي يحددها الزمان والمكان المعلوم. وأنك لست أنت هذه الوشائج والعضلات العظام. وإنما أنت [بين يدي] الله ومع الله.
إنها الطريق إلى الله
* هل أحنقك الشر يمرح في الأرض؟ هل أحسست بهزة الغضب وأنت ترى الظلم يقع عليك وعلى غيرك من بني البشر؟ هل رأيت أنه لا يجوز لك أن تسكت وأنه ينبغي أن تتحرك وتثور؟ وأنك أنت .. أنت قبل غيرك ، ينبغي أن تقول لهذا الشر مكانك ، فقد جاوزت حدك. وهل علمت أنك لا شك متعرض للأذى حين لا تسكت على الظلم ، وحين تأخذ على عاتقك أن تقاومه وتعترض سبيله؟ وهل علمت أن الأذى قد يشتد عليك حتى ليسلبك الراحة والأمن ورغد العيش… وقد يسلبك الحياة.. ثم ظلت نفسك على غضبها ، وعلى عزيمتها في الوقوف للظلم وصد العدوان؟
إنها الطريق إلى الله
* هل ضاقت نفسك بالحياة فما عدت تطيق آلامها وقسوتها؟ هل تملكك الضجر واليأس ، وأحسست بالحاجة إلى الشكوى؟ هل تلفّتّ حولك فلم تجد من تشكو إليه؟ لم تجد الصفي الذي يخلص لك حتى لتفتح له نفسك دون تحرج وتطلعه على كل خفاياك؟ أوْلم تجد راحة في شكواك إلى الناس؟ ثم تطلعت إلى السماء وانفجرت بالشكوى؟ هل وجدت الله وشكوت له بثك ونجواك؟ هل أحسست أن هذا الحمم الذي تطوي ضلوعك عليه قد تدفق وتدفق ، وسال كلمات على لسانك وعبرات في عينيك ، وأنك أرسلتها كلها [بين يدي من يملك] كل شيء ، ويقدر على كل شيء؟ وأحسست بالراحة والبرد والسلام إذ انطلقت تلك الشحنة الحبيسة ووصلت إلى غايتها؟ وهدأت نفسك أنك أودعتها حيث ينبغي أن تودع وحيث لا تضيع؟
إنها الطريق إلى الله
هل ألممت بذنب؟ هل جمحت نفسك فانطلقت من عقالها ، وأنت تغالبها فتغلبك ، أو تسكت عنها منذ البدء فتنطلق إلى حيث يغويها الشيطان؟ هل وقعت الواقعة وانتهى الأمر ولم يعد إلى مرد من سبيل؟ وهل أفقت من غفوتك على لذعات ضميرك؟ هل نكست رأسك خجلا من نفسك أن ضعفت وتلاشيت أمام الإغراء؟ هل أحسست أنك لا شيء؟ أنك تافه لا تستحق التقدير والاحترام؟ هل انقلبت خطيئتك سجنا يحيط بك من كل جانب ، لا مهرب منه إلا إليه. وحيثما توجهت سد عليك الأفق وحجبه بالظلمات؟ وهل ضاقت نفسك بالحياة؟
ثم … هل انفتحت كوة من عالم الغيب ودخل منها بصيص من النور؟ هل استروحت نسمات تدخل إليك من عالم سحيق؟ هل أحسست بسمة حانية تطل عليك من ملكوت الله؟هل أحسست يدا رفيقة تأخذ بك من كبوتك؟
هل أحسست صوتا يهتف بك : “والله يحب المحسنين ، والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم – ومن يغفر الذنوب إلا الله – ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ” وصوتا آخر يهتف بك: ” كل ابن آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون “.
وهل غمرتك غمرة من نور؟ وهل اندفعت قائما تذكر الله وتستغفر الله ، وتتوب إليه، وتمسح الخطيئة من ضميرك ، وتعزم عزمة الواثق أن لن ترجع إليها
هل أحسست أنك مندفع إلى إلله أكثر حماسة مما كنت من قبل، وأشد تعلقا به مما كنت من قبل ، وأكثر إقبالا على نوره مما كنت من قبل
… إنها الطريق إلى الله
هل أحسست – وقد فرغت من عملك وجهاد يومك – أنك لا تملك من أمر نفسك شيئا؟ وأنك مهما عنّيتها بشؤون الحياة فليس من وراء ذلك إلا تعب الخاطر ومشغلة الفكر؟ وأن عليك أن تسعى ولكنك لا تملك نتيجة السعي ولا تعلم أيان مرساه؟ هل شعرت أن القوة الكبرى هي التي تدبر كل شيء وتمنح كل شيء؟
هل شعرت أنك أديت واجبك كما ينبغي ، وفي حدود طاقتك،وأنه ليس في وسعك بعد ذلك إلا أن تنتظر أمر الله؟ وهل حداك هذا إلى أن تكل أمرك إلى الله وتضع في رعايته الحمل الذي يثقل ظهرك والمشغلة التي تأكل فؤادك؟ وهل أحسست أنك آمن على هذا الحمل حقا وهو في رعاية الله؟ وأنه هناك كأنك أنت الساهر على حراسته؟ وهل ملأت قلبك الطمأنينة إليه؟ ونمت وفي خاطرك أنه يرعاك وأنت نائم ويدبر لك أمرك وأنت غاف عن الإدراك
إنها الطريق إلى الله ..
انتهت المقالة….جزاكم الله خيرا ً وبارك بكم وحماكم وجمعنا دوما ً على خير وسلامة…رجاءا ً دعوة صالحة لأخيكم الضعيف والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
8 ربيع الآخر 1428هـ/ 25 نيسان 2007م

كُتب في مقالات القراء, منائر | التعليقات على الطريق إلى الله مغلقة