ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟

قام بعض الإخوة الأفاضل بتلخيص كتاب مولانا أبو الحسن علي الحسني الندوي :ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ومازالت تلك المعاني بحاجة إلى التأمل والإضافة والتعميق، وحبذا لو تدارس الإخوة المهتمون هذا الملخص فيما بينهم وأضافوا إليه ماتشهده البشرية من تطورات تشي بحاجتها إلى منهج جديد يقودها بعد أن تعبت واستنزفت من المناهج العكرة التي لم تجلب لها إلى الشقاء.

الباب الأول
العصر الجاهلي

الفصل الأول
الإنسانية في الاحتضار

كان القرن السادس والسابع (لميلاد المسيح) من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف ، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون ، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي ، وكأنَّ الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه ،وفقد قوة التمييز بين الخير والشر ، وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن ، وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة ، ولاذوا إلى الأديرة والكنائس ، ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا . وإن الإنسانية لا تشقى بتحول الحكم والسلطان من فرد إلى فرد آخر من جنسه ، أو من جماعة إلى جماعة أخرى مثلها في الجور والاستبداد وحكم الإنسان للإنسان ، بل بالعكس تقتضي ذلك سنة الكون .
بل إن كثيراً من هؤلاء السلاطين والأمم كانوا منبع الفساد والمرض في جسم المجتمع البشري فكان لا بد من عملية جراحية ، وكان قطع هذا الجزء السقيم وإبعاده من الجسم السليم مظهراً كبيراً لربوبية رب العالمين ورحمته { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، ولكن لم يكن انحطاط المسلمين وزوال دولتهم انحطاط شعب أو عنصر أو قومية ولكنه انحطاط رسالة هي للمجتمع البشري كالروح .
فهل كان انحطاط المسلمين واعتزالهم في الواقع مما يأسف له الإنسان ، وبعد قرون مضت على الحادث ؟
وهل خسر العالم حقاً- وهو غني بالأمم والشعوب- بانحطاط هذه الأمة شيئاً ؟ وفيم كانت خسارته ؟
وماذا آل إليه أمر الدنيا ، وماذا صارت إليه الأمم بعدما تولت قيادها الأمم الأوروبية حتى خلفت المسلمين في النفوذ العالمي ، وأسست دولة واسعة على أنقاض الدولة الإسلامية ؟ وما أثر هذا التحول العظيم في قيادة الأمم وزعامة العالم في الدين والأخلاق والسياسة والحياة العامة وفي مصير الإنسانية ؟
وكيف يكون الحال لو نهض العالم الإسلامي من كبوته وصحا من غفوته ، وتملك زمام الحياة ؟
ذلك كله ما نحاول الإجابة عنه في الصفحات الآتية ! …

أبو الحسن علي الحسني الندوي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟

لم يكن انحطاط المسلمين أولاً ، حادثاً من نوع ما وقع وتكرر في التاريخ من انحطاط الشعوب والأمم ، ولكن هذا الحادث كان غريباً لا مثيل له في التاريخ . مع أن في التاريخ مثلاً وأمثلة لكل حادث غريب .
نظرة في الأديان والأمم :
أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين ، حتى فقدت روحها وشكلها ، وأصبحت مهود الحضارة والسياسة مسرح الفوضى لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة.
المسيحية في القرن السادس المسيحي :
لم تكن المسيحية في يوم من الأيام من التفصيل والوضوح بحيث تقوم عليه حضارة ، ولكن كان فيها أثارة من تعليم المسيح ، وعليها مسحة من دين التوحيد البسيط ، فجاء بولس فطمس نورها ، وقضى قسطنطين على البقية الباقية ، حتى أصبحت النصرانية مزيجاً من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية والرهبانية ، مكونة من معتقدات وتقاليد لا تغذي الروح ، ولا تمد العقل ولا تشعل العاطفة ، بل أصبحت تحول بين الإنسان والعلم والفكر ، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية .
الحرب الأهلية الدينية في الدول الرومية :
ثم ثارت حول الديانة وفي صميمها مجادلات كلامية، وسفسطة من الجدل العقيم شغلت فكر الأمة ، واستهلكت ذكاءها ، وتحولت في كثير من الأحيان حروباً دامية وقتلاً وتدميراً . وحاول الإمبراطور هرقل (610-641) بعد انتصاره على الفرس سنة 638 جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها ، وأراد التوفيق ، وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك وصار المذهب المنوثيلي مذهباً رسمياً للدولة ، ولكن القبط نابذوه العداء وتبرؤوا من هذه البدعة ، وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة ، ووقع اضطهاد فظيع على يد قيرس في مصر واستمر عشر سنين ، وقع خلالها ما تقشعر منه الجلود.
الانحلال الاجتماعي والقلق الاقتصادي :
بلغ الانحلال الاجتماعي غايته في الدولة الرومية والشرقية ، وعلى كثرة مصائب الرعية ازدادت الإتاوات . حتى أصبح أهل البلاد يتذمرون من الحكومات . وقد هلك عام 532 في الاضطراب ثلاثون ألف شخص في العاصمة(13) . وعلى شدة الحاجة إلى الاقتصاد في الحياة أسرف الناس فيه. وأصبح الهمّ الوحيد اكتساب المال من أي وجه ، ثم إنفاقه في إرضاء الشهوات . وذابت أسس الفضيلة . وانهارت دعائم الأخلاق .
مصر في عصر الدولة الرومية ديانة واقتصاداً : كانت مصر في القرن السابع من أشقى بلاد الله بالنصرانية، وبالدولة الرومية معاً ، أما الأولى فلم تستفد منها إلا خلافات ومناظرات في طبيعة المسيح ، وأما الأخرى فلم تلق منها إلا اضطهاداً دينياً فظيعاً واستبداداً سياسياً شنيعاً ، فألهاها ذلك عن كل وطر من أوطار الحياة.
هذا ، وقد اتخذها الروم شاة حلوباً يريدون أن يستنزفوا مواردها . وهكذا اجتمع لمصر من الاضطهاد الديني ، والاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي ما شغلها بنفسها ، وكدر عليها صفو حياتها ، وألهاها عن كل مكرمة .
الحبشة : أما جارتها الحبشة فكانت على المذهب (المونوفيسي) كذلك ، ولم تكن في الدين بذات روح ، ولا في الدنيا بذات طموح .
الأمم الأوروبية الشمالية الغربية : أما الأمم الأوروبية المتوغلة في الشمال والغرب فكانت تتسكع في ظلام الجهل المطبق ، والأمية الفاشية ، والحروب الدامية ، وكانت بمعزل عن جادة قافلة الحضارة الإنسانية ، ولم تكن بذات رسالة في الدين ، ولا بذات راية في السياسة .
اليهود : وكانت هي أغنى أمم الأرض مادة في الدين ، وأقربها فهماً لمصطلحاته ومعانيه ، ولكن لم يكونوا عاملاً من عوامل الحضارة والسياسة أو الدين يؤثر في غيرهم ، وقد أورثهم تاريخهم الخاص وما تفردوا به بين أمم الأرض من العبودية الطويلة والاضطهاد الفظيع والكبرياء القومية ، والإدلال بالنسب ، والجشع وشهوة المال وتعاطي الربا.
بين اليهود والمسيحيين : وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم إلى المسيحيين ، وبغض المسيحيين إليهم وشوه سمعتهم .
إيران والحركات الهدامة فيها : أما فارس التي شاطرت الروم في حكم العالم المتمدن فكانت الحقل القديم لنشاط كبار الهدامين الذين عرفهم العالم ، كان أساس الأخلاق متزعزعاً مضطرباً منذ عهد عريق في القدم .
تقديس الأكاسرة : وكانت الأكاسرة ملوك فارس يدَّعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي .
التفاوت بين الطبقات : وكذلك اعتقادهم في البيوتات الروحية والأشراف من قومهم ، فيرونهم فوق العامة في طينتهم وفوق مستوى الناس في عقولهم ونفوسهم .
تمجيد القومية الفارسية : يرون أن لها فضلاً على سائر الأجناس والأمم.
عبادة النار وتأثيرها في الحياة : كانوا في الزمن القديم يعبدون الله ويسجدون له ، ثم جعلوا يمجدون الشمس والقمر وأجرام السماء ، ثم تدرج الناس إلى عبادة النار.
وهكذا حُرِمت الأمة الفارسية في حياتها ديناً عميقاً يكون تربية للنفس ، وتهذيباً للخلق، وقامعاً للشهوات ، وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين اللادينيين في الأخلاق والأعمال .
الصين ديانات :
وكانت تسود الصين في هذا القرن ثلاث ديانات . ديانة ” لا وتسو” وديانة “كونفوشيوس” والبوذية ، أما الأولى فقد كان أتباعها متقشفين زاهدين ، لا يتزوجون ، أما “كونفوشيوس” فقد كان يعني بالعمليات أكثر من النظريات ، ولكن انحصرت تعاليمه في شؤون هذه الدنيا.
البوذية-تطوراتها وانحطاطها : فقدت البوذية بساطتها وحماستها ، وابتلعتها البرهمية الثائرة الموتورة فتحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت. وتنصب تماثيل بوذا حيث حلت .
إذن فلم تكن عند الصينيين رسالة دينية للعالم يحلون بها مشاكله ، وكانوا في أقصى شرق العالم المتمدن محتفظين بتراثهم الديني والعلمي، لا يزيدون في ثروتهم ولا في ثروة غيرهم.
أمم آسيا الوسطى :
أما الأمم الأخرى في آسيا الوسطى وفي الشرق ، كالمغول والترك واليابانيين ، فقد كانت بين بوذية فاسدة ، ووثنية همجية .
الهند : ديانة ، واجتماعاً ، وأخلاقاً .
أما الهند فقد اتفق على أن أحط أدوارها ديانة وخلقاً واجتماعاً ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي ، وامتازت عن جاراتها في ظواهر وخلال يمكن أن نلخصها في ثلاث: (1)كثرة المعبودات والآلهة كثرة فاحشة. (2) الشهوة الجنسية الجامحة . (3) التفاوت الطبقي والمجحف والامتياز الاجتماعي الجائر .
مركز المرأة في المجتمع الهندي : وقد نزلت النساء في هذا المجتمع منزلة الإماء(65) ، وكان الرجل قد يخسر امرأته في القمار ، وكان في بعض الأحيان للمرأة عدة أزواج(66).
العرب : خصائصهم ومواهبهم :
أما العرب فقد امتازوا بين أمم العالم وشعوبه في العصر الجاهلي بأخلاق ومواهب تفردوا بها . ولكن ابتلوا بانحطاط ديني ووثنية سخيفة وأدواء خلقية واجتماعية جعلت منهم أمة منحطة الأخلاق فاسدة المجتمع حاوية لأسوأ خصائص الحياة الجاهلية وبعيدة عن محاسن الأديان .
وثنية الجاهلية : كان الشرك هو دين العرب العام والعقيدة السائدة ، ومع أنهم كانوا يؤمنون بوجود الله إلا أن عقولهم لم تسع فكرة الوحدانية ، فبحثوا لهم عن وسطاء توسلوا بهم إلى الله وأشركوهم في الدعاء . ثم ترقوا في الشرك فاتخذوا من دون الله آلهة .
أصنام العرب في الجاهلية : وهكذا انغمست الأمة في الوثنية بأبشع أشكالها ، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص ، بل كان لكل بيت صنم خصوصي .
الآلهة عند العرب : وكان للعرب آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب .
اليهودية والنصرانية في بلاد العرب : وانتشرت اليهودية والنصرانية في بلاد العرب ، ولم تستفد منها العرب كثيراً من المعاني الدينية ، وكانتا نسختين منهما في الشام وبلاد الروم.
الرسالة والإيمان بالبعث : تصور العرب للنبي صورة خيالية ، وتمثلوه في ذات قدسية .
الأدواء الخلقية والاجتماعية : كانت فيهم أدواء وأمراض متأصلة ، وأسبابها فاشية ، فكان شرب الخمر واسع الشيوع . وكان القمار من مفاخر الحياة الجاهلية . وانتشر الربا والزنى .
المرأة في المجتمع الجاهلي : كانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن ، تؤكل حقوقها وتُبْتز أموالها وتُحرم إرثها وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه(88) وتورث كما يورث المتاع أو الدابة(89). وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد .
العصبية القبلية والدموية في العرب : كانت العصبية القبلية والدموية شديدة ، وكان أساسها جاهلياً تمثله الجملة المأثورة عن العرب : ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )) فكانوا يتناصرون ظالمين أو مظلومين . وكانت في المجتمع العربي طبقات وبيوت ترى لنفسها فضلاً على غيرها ، وكان الحرب والغزو مما طبعت عليه طبيعتهم العربية ، وألهمتهم إياه معيشتهم البدوية .
ظهر الفساد في البر والبحر : وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج ، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء .
لمعات في الظلام: كان النور الضعيف الذي يتراءى في هذا الظلام من بعض الأديرة والكنائس أشبه بالحباحب الذي يضيء في ليلة شديدة الظلام فلا يخترق الظلام ، ولا ينير السبيل .

الفصل الثاني

النظام السياسي والمالي في العصر الجاهلي

الملكية المطلقة : كان العصر الجاهلي مسرحاً للحكم الجائر المستبد والملكية المطلقة .
الحكم الروماني في مصر والشام : كانت الولايات الرومية والفارسية غير مرتاحة في حكم الأجانب، وكانت الأحوال السياسية والاقتصادية مضطربة حتى في مراكز الدولة وعواصمها .
نظام الجباية والخراج في إيران : لم يكن النظام المالي والسياسة المالية في إيران عادلة مستقرة بل كانت جائرة مضطربة في كثير من الأحوال .
كنوز الملوك ومدخراتهم : ولم يكن ما ينفق على أهل البلاد في إيران من مالية الدولة شيئاً كثيراً . وقد اعتاد ملوك إيران أن يكتنزوا النقود ويدخروا الطرف والأشياء الغالية(112) .
الفصل الشاسع بين طبقات المجتمع : كان الغنى لأفراد معدودين والفقر لمعظم الأهلين .
الفلاحون في إيران : أثقلت الضرائب المتنوعة المتجددة كاهل الجمهور حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم أو دخلوا الأديرة فراراً من الضرائب والخدمة العسكرية لأمة لا يحبونها أو لغرض لا يتحمسون له وفشت في الناس البطالة والجنايات وطرق غير شرعية للكسب .
الاضطهاد والاستبداد : واضطهد اليوم في الشام والعراق واليعقوبيون في مصر اضطهاداً كبيراً واستبد الحكام استبداداً شديداً وعاثوا في البلاد والدماء والأموال والأعراض .
المدنية المصطنعة والحياة المترفة : استحوذت على الناس في الدولتين- الفارسية والرومية- حياة الترف والبذخ وطغى عليهم بحر المدينة المصطنعة والحياة المزورة وغرقوا فيه إلى أذقانهم . وكان الأمراء والأغنياء وأفراد الطبقة الوسطى على آثار الملوك يحاولون أن يقلدوهم ، وارتفع مستوى الحياة وتعقدت المدنية وصار الواحد ينفق على نفسه ما يشبع قرية أو يكسو قبيلة .
الزيادة الباهظة في الضرائب : كانت نتيجة هذا البذخ والترف الطبيعية الزيادة الباهظة في الضرائب وسن القوانين الجديدة لابتزاز الأموال من طبقات الفلاحين والصناع والتجار وأهل الحرف حتى وصلت إلى حد الإرهاق وأثقلت كاهل الأهلين وانقضت ظهرهم .
شقاء الجمهور : وهكذا أصبح أهل البلاد في كلتا المملكتين طبقتين متميزتين تمام التمييز : طبقة الملوك والأمراء وطبقة الفلاحين والصناع .
بين غنى مطغ وفقر منس : وهكذا ضاعت رسالة الأنبياء ، والأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية في العالم المتمدن المعمور بين غنى مطغ وفقر منس ، وأصبح الغني في شغل بنعيمه وترفه ، وأصبح الفلاح في شغل كذلك لهمومه وأحزانه وتكاليف حياته .

******************************

الباب الثاني
من الجاهلية إلى الإسلام
الفصل الأول
منهج الأنبياء في الإصلاح والتغيير

العالم الذي واجهه محمد صلى الله عليه وسلم : بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد. نظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته، رأى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم.
نواحي الحياة الفاسدة : إن نفسية الإنسان إذا زاغت لا يؤثر فيها إصلاح عيب من عيوبها حتى يغير اتجاهها من الشر إلى الخير وإذا أراد أي رجل من عامة رجال الإصلاح معالجة عيب واحد لظل طول عمره يعالجه، لذلك لا بد من اقتلاع جرثومة الفساد من النفس البشرية.
لم يكن الرسول رجلاً إقليمياً أو زعيماً وطنياً : وكان مجال العمل في بلاد العرب فسيحاً إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً إقليمياً وسار في قومه سيرة القادة والزعماء الوطنيين.
لم يبعث لينسخ باطلا بباطل : ولكنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يبعث لينسخ باطلاً بباطل ، وإنما أرسل إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً .
قفل الطبيعة البشرية ومفتاحها : أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت الدعوة والإصلاح من بابه ، ووضع على قفل الطبيعة البشرية مفتاحه .

الفصل الثاني
رحلة المسلم من الجاهلية إلى الإسلام

دفاع الجاهلية عن نفسها : أدرك المجتمع الجاهلي عندما قرع أسماعهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم أن دعوته سهم مسدَّد إلى كبد الجاهلية ونعي لها ، فقامت قيامة الجاهلية .
في سبيل الدين الجديد : مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة حجة يدعو إلى الله وحده والإيمان برسالته واليوم الآخر في كل صراحة، لا يكنى ولا يلين، فتقدم فتية من قريش همهم الآخرة وبغيتهم الجنة، فكانت رحلة طويلة شاقة، وما كان من قريش إلا ما توقعوه، فما زادهم كل هذا إلا ثقة وتجلداً .
التربية الدينية : هذا والرسول صلى الله عليه وسلم يغذِّي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب. و الرسول يقول لهم : { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم ، حتى إذا تعدت قريش في الطغيان أذن الله لرسوله ولأصحابه بالهجرة .
في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم : والتقى أهل مكة بأهل يثرب ، لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد ، فكانت هذه الجماعة الوليدة نواة للأمة الإسلامية التي أخرجت للناس .
انحلت العقدة الكبرى : ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يربيهم تربية دقيقة عميقة وانحلت العقدة الكبرى- عقدة الشرك والكفر- فانحلت العقد كلها . واستخلفهم الرسول صلى الله عليه وسلم في عمله ولحق بالرفيق الأعلى قرير العين من أمته ورسالته .
أغرب انقلاب وقع في تاريخ البشر : كان هذا الانقلاب أغرب ما في تاريخ البشر ، فقد كان غريباً في سرعته و عمقه وسعته وشموله . وكان غريباً في وضوحه وقربه إلى الفهم .
تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول : كان الناس يعيشون حياة جاهلية، لا يثيب الطائع بجائزة ولا يعذب العاصي بعقوبة . كان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية . فانتقل الذين أسلموا إلى معرفة عميقة واضحة ذات سلطان وسيطرة، فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلاباً عجيباً .
وخز الضمير : وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس ومحاسبتها والإنصاف منها .
الثبات أمام المطامع والشهوات : وكان الإيمان حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته ، يملك نفسه أمام المطامع والشهوات .
الأنفة وكبر النفس و الاستهانة بالزخارف والمظاهر الجوفاء : كما أنه رفع رأسهم عالياً وأقام صفحة عنقهم فلن تُحنى لغير الله. وهانت وجوه الخلق وزخارف الدنيا ومظاهر العظمة.
الشجاعة النادرة والاستهانة بالحياة : ولقد بعث الإيمان بالآخرة في قلوب المسلمين شجاعة خارقة وحنيناً غريباً إلى الجنة واستهانة نادرة بالحياة .
من الأنانية إلى العبودية : وكانوا قبل الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك فأصبحوا الآن وقد تنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم .
المحكمات والبينات في الإلهيات : وقد كان الأنبياء عليهم السلام أخبروا الناس عن ذات الله وعن بداية هذا العالم ومصيره ، وكذلك منحوهم مبادئ ثابتة ولكن الناس لم يستجيبوا.

الفصل الثالث
المجتمع الإسلامي

طاقة زهر : إن هذا الإيمان أقام عوج الحياة، ورد كل فرد في المجتمع البشري إلى موضعه ، لا يقصر عنه ولا يتعداه وأصبحت الهيئة البشرية طاقة زهر لا شوك فيها .
ليس منا من دعا إلى عصبية :واقتلع صلى الله عليه وسلم جذور الجاهلية وجراثيمها:(ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية(151)).
كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته :أصبحت الطبقات والأجناس في المجتمع الإسلامي متعاونة لا يبغى بعضها على بعض ، وأصبح كل واحد في المجتمع راعياً ومسئولاً عن رعيته .
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق : وأصبح المسلمون أعواناً على الحق ، أمرهم شورى بينهم ، يطيعون الخليفة ما أطاع الله فيهم .
حلول الرسول محل الروح والنفس من المجتمع : وكان المجتمع البشري قد فقد نشاطه في الحياة فانطفأت جمرة القلوب وبردت العواطف وكانت العاطفة القوية تلك التي يسميها الناس (الحب) تائهة. في هذا المجتمع قام محمد صلى الله عليه وسلم فحل عقاله وفك إساره ثم حل منه محل الروح والنفس وشغل منه مكان القلب والعين . ووقع من خوارق الحب والتفاني في سبيل طاعته وإيثاره على النفس والأهل والمال والولد ما لم يحدث قبله ولن يحدث بعده .
نوادر الحب والتفاني وعجائب الانقياد والطاعة : ولم يزل الحب والتفاني والانقياد والطاعة من جنود ” الحب ” المتطوعة ، فلما أحبه القوم بكل قلوبهم أطاعوه بكل قواهم .

الفصل الرابع
كيف حول الرسول خامات الجاهلية إلى عجائب الإنسانية

بهذا الإيمان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنسانية المحتضرة حياة جديدة . عمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف أحد غناءها فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة وبعث فيها الروح الجديدة ، ثم وضع كل واحد في محله فكأنما خلق له .
كتلة بشرية متزنة : ثم لا يلبث العالم المتمدن أن يرى من هذه المواد الخام المبعثرة كتلة لم يشاهد التاريخ البشري أحسن منها اتزاناً ، كتلة فيها الكفاية في كل ناحية من نواحي الإنسانية ، كتلة هي في غنى عن العالم ، وليس العالم في غنى عنها ، وضعت مدنيتها وأسست حكومتها وليس لها عهد بها ، وكانت بفضل التربية الدينية والدعوة الإسلامية مادة لا تنقطع ومعيناً لا ينضب .

*************************************

الباب الثالث
العصر الإسلامي

الفصل الأول
عهد القيادة الإسلامية

الأئمة المسلمون وخصائصهم : ظهر المسلمون وتزعموا العالم وعزلوا الأمم المريضة ، وساروا بالإنسانية سيراً حثيثاً متزناً عادلاً ، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم .
1ً: أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم.
2ً: أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس .
3ً: أنهم لم يكونوا خدمة جنس ، ورسل شعب أو وطن ، يسعون لرفاهيته وحده.
4ً: أن الإنسان جسم وروح،وهو قلب وعقل وعواطف وجوارح،لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رُقياً متزناً عادلاً حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نمواً متناسباً لائقاً بها، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بيد الذين يؤمنون بالروح والمادة و يمتاز أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا جامعين بين الديانة والأخلاق والقوة والسياسة
دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة : وكذلك كان ، فلم نعرف دوراً من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور ، دور الخلافة الراشدة.
تأثير الإمامة الإسلامية في الحياة العامة : إن هذا الرعيل من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم كان خليقاً بأن يسعد النوع الإنساني في ظله وتحت حكمه ، فإنهم كانوا خير القائمين على مصالحها حارسين لها.ويعيدون هذا العالم مملكة لله استحلفهم فيها .
المدنية الإسلامية وتأثيرها في الاتجاه البشري : كان ظهور المدنية الإسلامية بروحها ومظاهرها وقيام الدولة الإسلامية بشكلها ونظامها في القرن الأول لهجرة محمد صلى الله عليه وسلم فصلاً جديداً في تاريخ الأديان والأخلاق ، وظاهرة جديدة في عالم السياسة والاجتماع ، انقلب به تيار المدنية ، واتجهت به الدنيا اتجاهاً جديداً ، لم تعهده من قبل ، عهدها به دعوة دينية روحية فإذا هو يصبح نجاة وسعادة وروحاً ومادة وحياة وقوة ومدنية واجتماعاً وحكومة وسياسة . فأصبح الناس لا يجدون عائقاً عن الإسلام ، وكان تأثير هذا الانقلاب عظيماً جليلاً ، فكان الطريق إلى الله من قبل شاقاً عسيراً محفوفاً بالأخطار ، فأصبح الآن سهلاً يسيراً ، وكان يصعب على الإنسان أن يطيع الله ، فصعب عليه في الوسط الإسلامي أن يعصي الله . جاء الإسلام بالتوحيد ونعى على الوثنية والشرك ، فهان الشرك منذ ذلك اليوم في عيون أهله وصغر ، وصار أهله يخجلون منه ويتبرؤون منه ولا يقرون به . وترى كذلك تأثير للعقلية الإسلامية والشريعة الإسلامية في أخلاق الأمم اجتماعها وتشريعها .
ولا يستطيع دين من الأديان ومدنية من المدنيات تعيش في العالم المتمدن المعمور أن تدعي أنها لم تتأثر بالإسلام والمسلمين في قليل ولا كثير .
فلو جرت الأمور هكذا لكان للعالم الإنساني تاريخ غير التاريخ الذي نقرؤه حافلاً بالزلازل والنكبات ناطقاً بطول بلاء الإنسانية ومحنها ، لكان له تاريخ مجيد جميل يغتبط به كل إنسان ويقر عيناً ، ولكن جرت الأقدار بغير ذلك ، وبدأ الانحطاط في المسلمين أنفسهم .

الفصل الثاني
الانحطاط في الحياة الإسلامية

الحد الفاصل بين العصرين : هو الخط التاريخي الفاصل بين الخلافة الراشدة والملوكية العربية .
نظرة في أسباب نهضة الإسلام : كان زمام القيادة بيد الرجال الذين يمثلون الإسلام بحق ، فكانوا أئمة يصلّون بالناس ، وقضاة يفصلون قضاياهم ، ويحكمون بينهم بالعدل والعلم، وأمنةً لأموال المسلمين وخزنتهم .
شروط الزعامة الإسلامية :
1- الجهاد : أما الجهاد فهو بذل الوسع وغاية الجهد لنيل أكبر مطلوب .
2- الاجتهاد :من يرأس المسلمين قادراً على القضاء الصحيح في النوازل التي تعرض في حياة المسلمين وفي العالم وفي الأمم التي يحكمها .
انتقال الإمامة من الأكفاء إلى غير الأكفاء : تولى هذا المنصب رجال لم يكونوا له أكفاء .
تحريفات الحياة الإسلامية : 1- فصل الدين عن السياسة : أصبح الدين مقصوص الجناح مكتوف الأيدي ، وأصبحت السياسة مطلقة اليد حرة التصرف .
2- النزعات الجاهلية في رجال الحكومة .
3- سوء تمثيلهم للإسلام .
4- قلة الاحتفال بالعلوم العملية المفيدة : إن العلماء المفكرين منهم لم يعتنوا بالعلوم الطبيعية والعلوم العملية المثمرة اعتناءهم بعلوم ما بعد الطبيعة والفلسفة الإلهية التي تلقوها من اليونان .
5- الضلالات والبدع .
6- إنكار الدين على المسلمين وإهابته بهم : ولا يغربن عن البال أن الدين لم يزل طول هذه المدة حياً محفوظاً من التحريف والتبديل ، مهيباً بالمسلمين ناعياً عليهم انحرافهم عن طريقه .
حسن بلاء العالم الإسلامي في القرن السادس : في القرن السادس الهجري بدأت الغزوات الصليبي تتحدى الإسلام والمسلمين كلهم ، فمنَّ الله على العالم الإسلامي بقادة كبار حفظ الله بهم شرف الإسلام وعزته وهم عماد الدين أتابك زنكي (م 541هـ) وولده العظيم الملك العادل نور الدين محمود زنكي (م 569هـ) والملك الناصر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر ، الذين هزموا الصليبيين وأجلوهم عن القدس والشام[*].
فقر القيادة في العالم الإسلامي بعد صلاح الدين : مات صلاح الدين بعدما قضى مهمته ، وتراجع سيل الصليبيين ، رجعوا ليستعدوا للصليبية الجديدة في القرن التاسع عشر المسيحي ، ولم يرزق العالم الإسلامي بعد ذلك قائداً مخلصاً للإسلام مثل صلاح الدين، وعم الانحطاط في العالم الإسلامي واستفحل مع الأيام .
نتائج القرون المنحلة : وظلت خلية الإسلام تعمل في أدوار الانحطاط أيضاً ، وكان المسلمون- رغم انحرافهم عن سيرتهم الأولى- أقرب إلى طريق الأنبياء وأطوع لله من الأمم الجاهلية المعاصرة لهم .
انهيار صرح القوة الإسلامية : ولم تزل تضعف هذه القوة وتهن بدون أن يشعر بذلك الأجانب حتى إذا خضِّدت شوكة المسلمين في القرن السابع زال ذلك الشبح المخيف وسقط المجدار(192) ، فعاثت الطيور والوحش في الحقل ، وتجاسر الناس على المسلمين وبلادهم .

الفصل الثالث
دور القيادة العثمانية

العثمانيون على مسرح التاريخ : ظهر الترك العثمانيون على مسرح التاريخ ، وفتح محمد الثاني القسطنطينية فتجدد رجاء الإسلام وانبعث الأمل في نفوس المسلمين .
مزايا الشعب التركي :
1ً- شعب ناهض متحمس فيه روح الجهاد ، وكان سليماً من الأدواء .
2ً- توفر القوة الحربية التي يقدر بها على بسط سيطرة الإسلام المادية والروحية .
3ً- كانوا في أحسن مركز للقيادة العالمية .
انحطاط الأتراك في الأخلاق وجمودهم في العلم وصناعة الحرب : أخذ الترك في الانحطاط ودب إليهم داء الأمم من قبلهم فوقف الترك وتقدم الزمان .
الجمود العلمي:لم يعنوا باكتساب العلوم الحديثة بل منعوا الأفكار الجديدة أن تدخل منطقتهم
الانحطاط الفكري والعلمي العام: كان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه مصاباً بالجدب العلمي ، وشبه شلل فكري .
معاصرو العثمانيين في الشرق : عاصرت الدولة العثمانية الدولة المغولية والدولة الصفوية ، وكانت راقية متحضرة ولكنها شغلت بنزعتها الشيعية وبالهجوم على الدولة العثمانية مرة والدفاع عن نفسها مرة أخرى .
نهضة أوربا الجاهلية وسيرها الحثيث في علوم الطبيعة والصناعات: استيقظت أوربا في القرن السادس عشر من هجعتها وهبت تتدارك زمان الغفلة وتعدو إلى غايتها عدواً .
تخلف المسلمين في مرافق الحياة وصناعة الحرب: لم يضيع المسلمون ساعات وأياماً بل ضيعوا أحقاباً وأجيالاً انتهزت فيها الشعوب الأوربية كل دقيقة وثانية ، وسارت سيراً حثيثاً في كل ميدان من ميادين الحياة وقطعت في أعوام مسافة قرون .

*************************************

الباب الرابع
العصر الأوربي

الفصل الأول
أوربا المادية

طبيعة الحضارة الغربية وتاريخها : الحضارة الغربية ليست حديثة بل هي سليلة الحضارة اليونانية و الرومية ، إذاً يحسن بنا أن نتعرف بهما ، لنكون على بصيرة في انتقاد الحضارة الغربية والحكم عليها في القرن العشرين.
خصائص الحضارة الإغريقية : اليونان أمة موهوبة ، من أنجب أمم العالم ، فإذا نظرنا فيها نظرة تحليل وانتقاد وبحثنا عن طبيعتها وجدنا من المزايا التي تمتاز بها عن المدنيات الأخرى :
(1) الإيمان بالمحسوس وقلة التقدير لما لا يقع تحت الحس .
(2) قلة الدين والخشوع .
(3) شدة الاعتداد بالحياة والاهتمام الزائد بمنافعها ولذائذها .
(4) النزعة الوطنية .
ويمكن أن نحصر هذه المظاهر المتشتتة في كلمة مفردة هي (( المادية )) فكانت الحضارة اليونانية شعارها (( المادية )) .
خصائص الحضارة الرومية و الانحطاط الخلقي في الجمهورية الرومية : خلف اليونان الروم وفاقوهم في القوة والتنظيم ولكن لم يلحقوا بهم في العلم والفلسفة وانتقلت النفسية اليونانية إلى الروم ، وسال بالروم سيل الانحطاط الخلقي .
تنصر الروم : كان ذلك بجلوس قسطنطين الذي اعتنق النصرانية على سرير الأباطرة سنة 305م فانتصرت فيه النصرانية على الوثنية ونالت فجأة ما لم تكن تحلم به .
خسارة النصرانية في دولتها : ولكن انتصر النصارى في ساحة القتال وانهزموا في معترك الأديان ، ربحوا ملكاً عظيماً وخسروا ديناً جليلاً، لأن الوثنية الرومية مسخت دين المسيح ومسخه أهله .
الرهبانية العاتية و عجائب الرهبان : ابتدعت هذه النصرانية رهبانية لعلها كانت شراً على الإنسانية والمدنية من بهيمية رومة الوثنية . ظل تعذيب الجسم مثلاً كاملاً في الدين والأخلاق إلى قرنين ، وكان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال ويهربونهم إلى الأديار .
تأثير الرهبانية في أخلاق الأوربيين و عجزها عن تعديل المادية الجامحة :
كان نتيجة ذلك أن خلال الفتوة والمروءة التي كانت تعد فضائل،استحالت عيوباً ورذائل ولا يتوهم أحد أن هذه الرهبانية الغالية قد عدلت من شره المادية الرومية ، فإن الذي يوجد الاعتدال ويخفض المادية هو النظام الروحي الديني الذي يوافق الفطرة الإنسانية الصحيحة .
الفساد في المراكز الدينية و تنافس البابوية والإمبراطورية :
تسرب الضعف والانحراف في المراكز الدينية حتى صارت تزاحم المراكز الدنيوية وربما تسبقها في فساد الأخلاق والدعارة والفجور . وبدأ النزاع والمنافسة بين البابوية والإمبراطورية في القرن الحادي عشر . واستغل رجال الدين السلطان الذي يملكونه لأنفسهم .
جناية رجال الدين على الكتب الدينية و اضطهاد الكنيسة للعلم : من أعظم أخطاء رجال الدين في أوربا أنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة ، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس . وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوربا ، فخرج العلماء بنظرياتهم التي تنافي ما ورد في الكتب الدينية ، فقامت قيامة الكنيسة
ثورة رجال التجديد : هنالك ثار المجددون المتنورون وعيل صبرهم ، وأصبحوا حرباً لرجال الدين وممثلي الكنيسة والمحافظين على القديم .
تقصير الثائرين وعدم تثبتهم : لم يكن عند الثائرين من الصبر ما يميزون به بين الدين ورجاله المحتكرين لزعامته ولم يكن عندهم من صدق الطلب ما يحملهم على النظر في الدين الإسلامي الذي يخلصهم من هذه الأزمة بسبب السدود التي أقامتها الحروب الصليبية .
اتجاه الغرب إلى المادية و افتضاحها في الدور الأخير : انصرف اتجاه الغرب تدريجياً إلى المادية بكل معانيها . ولكن رجال النهضة الأوربية ظلوا قروناً يجمعون بين النظر المادي الجاحد ، والطقوس الدينية المسيحية ، حتى افتضحوا في الأخير وصعب الجمع بينهما بسرعة سير الحضارة المادية ، وتخلف الدين والتقاليد .
جنود المادية ودعاتها : ونهض الكتاب والمؤلفون والأدباء والمعلمون والاجتماعيون والسياسيون في كل ناحية من نواحي أوربا ينفخون صور المادية ، وينفثون بأقلامهم سمومها في عقل الجمهور وقلبه .
نسخة صادقة من الحضارة اليونانية : أصبحت الحياة في أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين نسخة من الحياة في يونان وروما . فمما لاشك فيه أن دين أوربا اليوم هو المادية لا النصرانية . وإن هؤلاء – بإمعانهم في المادية والتمسك بالأسباب الظاهرة والتعلل بها واستغنائهم عن الله – قد وصلوا من القسوة والغفلة فلا تكاد تشعر في خطب الزعماء والوزراء في أوربا برقة قلب وانكساره وإخبات إلى الله في أدهى ساعات الحرب وأمرِّها .
الغايات المادية للحركات الروحية العلمية :
إن الحركة الروحية التي شغلت الناس كثيراً في أوربا في الزمن الأخير إنما روحها المادية ،
التصوف المادي الغربي ووحدة الوجود الاقتصادي : وقد بلغ النظر المادي والفكر المادي في أوربا درجة الاستغراق فيه والفناء ونسيان ما سوى القيم المادية .[†]
نظرية دارون وتأثيرها في الأفكار والحضارة : ساعدهم في وجهة نظرهم هذه النظرية التي ظهرت في القرن التاسع عشر عن ارتقاء الإنسان ، وكانت هذه النظرية اتجاهاً جديداً لم يسبق في المسائل البشرية وما يتعلق بها ، تجعل الإنسان يعتقد أن هذا الكون سائر بغير عناية إلهية[‡] ، وبغير أن تتداخل فيه قوة غير الطبيعة ، كان هذا ديناً جديداً يهدم الدين القديم من الأساس ويحل محله . ولكن جمهور الناس تلقوا هذه النظرية بالقبول – رغم ما فيها من ضعف ونقص من الوجهة العلمية – وكأن الأذهان كانت متهيئة لمثل هذه النظرية ، وكأن الناس وجدوا فيها منافساً للدين ورجاله . وكان تأثير هذه النظرية بعيداً عميقاً في الأفكار والحضارة والأدب والسياسة تراه وتلمسه في أخلاق الناس ، وفي نزعات الرجوع إلى الفطرة وإلى العهد الذي كان الإنسان يعيش فيه على الفطرة عارياً حراً .
من جنايات المادية : وكان من نتائج هذه المادية الجارفة ، والتربية اللادينية أن أصحاب المراكز الكبيرة ، ورجال السياسة والمسئولية يرتكبون في بعض الأحيان جنايات لا يتنـزل إليها أكبر الآثمين . وذلك لمصلحة سياسية وهمية لبلادهم وأمتهم أو لجاه شخصي أو ربح مالي

الفصل الثاني
الجنسية والوطنية في أوربا

انكسار الكنيسة اللاتينية سبب قوة العصبية والقومية والوطنية :
الوطنية والقومية من خصائص الطبع الأوربي ، ولكن النصرانية قهرت هذه الطبيعة ، لأنها لا يزال عليها مسحة من تعليم المسيح ، فجمعت الأمم الأوربية تحت لواء الدين وجعلت من العالم النصراني عشيرة واحدةِ ، ولكن لما قام لوثر بحركته الدينية الإصلاحية الشهيرة ضد الكنيسة اللاتينية ، انهزمت الكنيسة اللاتينية،وكان نتيجة ذلك رجحان كفة الوطنية والجنسية.
طوائف العصبية الجنسية في أوربا : كان نتيجة انحلال النظام الديني وانتعاش النعرة القومية أن أصبحت أوربا معسكراً واحداً ضد الشرق كله ، وخطت خطّاً فاصلا بين الغرب والشرق والجنس الآري وبين ما عداه من أجناس البشر وأن الأول خلق ليسود ويحكم ، والثاني ليخضع ويدين . وكان نتيجة هذه النفسية الجنسية والعصبية ضد كل ما جاء من الخارج ، أن صار بعض الشعوب الأوروبية ينظر إلى الدين المسيحي وإلى المسيح كطارئ ونزيل .
عدوى الجنسية في الأقطار الإسلامية : هذه العدوى الجنسية سرت إلى بعض الأقطار الإسلامية التي كان يجب أن تكون زعيمة لدعوة الإسلام العالمية ، فترى في الترك النزعة الطورانية فاعتقد بعض المفكرين في تركيا الفتاة أن الإسلام دين طارئ غريب لا يصلح للترك. ومما لا شك فيه أن هذه النزعة قد وجدت في الترك وكذلك في الإيرانيين في الزمن الأخير.
الديانة القومية الأوربية وأركانها : ثم أصبحت الشعوب والدول في أوربا ، عوالم مستقلة لا ترى العالم خارج الخطوط التي خطتها الطبيعة أو خطتها بيدها ، ولا تختلف شعوب أوربا الحاضرة ودولها في هذه الديانة القومية إلا في الصراحة والنفاق .
الحل الإسلامي لمعضلة الحرب والمناقشات الشعوبية :
إن هذا الحل الذي قدمه الأستاذ (( جود )) لمشكلة الأمم حل عادل وتوجيه معقول ، فلا تنصرف عداوة الشعوب والأمم بعضها لبعض حتى يكون لها عدو من غيرها تشترك في عداوته وتتعاون في الحرب معه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وقد قسم الإسلام العالم البشري إلى قسمين ، أولياء الله وأولياء الشيطان ، ولم يشرع حرباً ولا جهاداً إلا ضد أنصار الباطل وأولياء الشيطان أينما كانوا ومن كانوا .
مطامح الدول الكبيرة :
أما الدولة الكبيرة فترى من واجب قوميتها أن تبسط سيطرتها على أكبر رقعة من الأرض وليس لها غاية أخلاقية وتمرة أدبية غير ما تسميه (( المجد القومي والشرف القومي )) .
منافسة الشعوب في المستعمرات والأسواق :
وقد سبقت إلى هذا الاستعمار والامتلاك أمم وتخلفت أخرى ، ثم نهضت الأخيرة تنافسها وتطالب بأسهامها وتبحث لها عن مستعمرات وغالباً ما تنشب بينهما الحروب لذلك.

الفصل الثالث
أوربا إلى الانتحار

عصر الاكتشاف والاختراع :
مهما بالغ المبالغون في إطراء الصناعات والمخترعات في أوربا ، وبرغم إعجابنا بها ، ينبغي ألا ننسى أن هذه المخترعات ليست غايات في نفسها ، بل هي وسائط ووسائل لغاية أخرى .
الغاية من الصناعات والمخترعات ، وموقف الإسلام منها : الغاية هي التغلب على العقبات في سير الحياة والانتفاع بقوى الطبيعة المودعة في هذا الكون واستخدامها لمقاصد صحيحة من غير علو في الأرض ولا فساد . إن موقف الإسلام في ذلك بيِّن واضح ، فالإنسان خليفة الله في الأرض قد سخر الله العالم لأغراضه الصحيحة فالمسلم ينتفع بكل ما خلق الله من قوة في الجهاد في سبيل الله ، ونشر دينه ، وفيما أباح الله ورغبة فيه من تجارة مشروعة وكسب حلال ، فالمصنوعات الجمادية خاضعة لإرادة الإنسان فهو الذي يجعلها باستعماله لها خيراً أو شراً .
عدم تعادل القوة والأخلاق في أوربا : إن الأوربيين قد فقدوا تعادل القوة والأخلاق والتوازن بين العلم والدين منذ قرون ، فلم تزل القوة والعلم في أوربا بعد النهضة الجديدة ينموان على حساب الدين والأخلاق .
قوة الآلهة ، وعقل الأطفال : يقول الأستاذ (( جود )) الإنجليزي : (( إن العلوم الطبيعية قد منحتنا القوة الجديرة بالآلهة ، ولكننا نستعملها بعقل الأطفال والوحوش(232) )) .
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم : أصبحت هذه المخترعات وضررها أكبر من نفعها .
أوربا في الانتحار : والحاصل أن الغربيين لما فقدوا الرغبة في الخير والصلاح ، لم تزدهم العلوم والمخترعات إلا ضرراً .
القنبلة الذرية وفظائعها: أذاع رئيس بلدة (هيروشيما) في 1949م أن الذين هلكوا في السادس من آب 1945م من اليابانيين يقارب عددهم مائتي ألف وأربعين ألفاً .
والذي خبث لا يخرج إلا نكدا :
وقد تضعضع أساس المدنية الأوربية ، كما ذكرنا بتفصيل ، ولم يزل بناؤه متزعزعاً ، ولم تزده الأيام ولم يزده الارتفاع إلا زيغاً واختلالاً، وفسدت بذرتها ، فلم تصلح شجرتها ولم تطلب ثمرتها {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً }.

الفصل الرابع
رزايا الإنسانية المعنوية
في عهد الاستعمار الأوربي

إن الذي يهمنا رزيئة العالم الإنساني وخطب المجتمع البشري في الروح والأخلاق والنفس في عهد النفوذ الأوربي العام .
بطلان الحاسة الدينية : ورث الشرقي أبًا عن جد أسئلة تدور حول غاية هذا العالم وهل بعده حياة ، وشغلت خاطره طيلة قرون . ولم يزل في الناس عدا حواسهم الخمس حاسة سادسة نسميها بالحاسة الدينية ، وإن أشد العقبات التي واجهها الأنبياء والدعاة ، هم أولئك الذين حرموا الحاسة الدينية . ولاشك أن هذه الأسئلة كانت موضوع دراسة العلماء والمفكرين في فجر النهضة الأوربية الجديدة ، ولكن كلما قطعت المدنية الأوربية شوطًا تخلفت هذه المباحث والأسئلة شوطًا ، ولم يكن ذلك عن إيمان واقتناع بحل صحيح . كلا ! لم يكن ذلك إلا لأن هذه الأسئلة قد فقدت أهميتها وأخلت مكانها لأسئلة مادية أهم في أعين أبناء القرنين التاسع عشر والعشرين منها .
إن داء هذا العصر الذي لا ينجح فيه الدواء ولا يؤثر فيه العلاج هو الاستغناء التام عن الدين.
زوال العاطفة الدينية : لما طغى بحر المادية في العالم الإسلامي في العهد الأخير ، كون رجال الدين جزراً صغيرة في بحر المادية المحيط ، يلجأ إليها الفارون إلى الله والمتبرمون من الحياة المادية ، وكنت ترى في العالم الإسلامي حركة مستمرة إلى هذه الجزر .واستمر هذا الإقبال على الدين إلى أول عهد الاستعمار الأوربي . ثم سرى الشك في الأوساط الدينية بتأثير المحيط والتعاليم الإفرنجية وضعفت الثقة بالله ، فأصبح الآباء يضنون بأولادهم على الدين ، وهكذا انقرض هذا الجيل ، ولفظ هذا العهد الروحي نفسهُ الأخير ، وتلاه عهد المادة .
طغيان المادية والمعدة : تضخمت معدة الحرص في الإنسان حتى صارت لا يشبعها مقدار من المال ، وأصبح الإنسان نهما يلتهم الدنيا التهاماً ، ويستنزف موارده حلالاً وحراماً . وهذا المجتمع لا تزال مقاييسه للشرف تتغير ومعاييره للإنسانية تتبدل وتتحول ومطالبه تتنوع ، حتى يضيق الإنسان بها ذرعاً ويلجأ إلى طرق غير شريفة لتحصيل المال وإلى كدح وكد في الحياة .
ارتفعت قيمة المال في عيون الناس ارتفاعاً لم تبلغه في الزمن السابق ، وبلغ من الأهمية والمكانة مبلغاً لم يبلغه – على ما نعرفه – في دور من أدوار التاريخ المدون .
التدهور في الأخلاق والمجتمع : احتل الأجانب الشرق الإسلامي وقد أصاب المجتمع الشرقي الإسلامي انحطاط في الأخلاق والاجتماع ، وسبقت إليه أدواء خلقية واجتماعية كانت أهم أسباب انهيار الدول الإسلامية وانهزام الأمم الشرقية . ولكن مع ذلك لم يزل المجتمع الشرقي الإسلامي – على علاته – محتفظاً ببعض المبادئ الخلقية السامية والخصائص الاجتماعية الفاضلة التي لا يوجد لها مثيل في الأمم ، وقد نضج واكتمل فن الأخلاق عند الشرقيين ووصل من الدقة والتفصيل ذروة لا يصل إليها ذهن العصر ، ولا يتصورها الغربي إلا في الشعر والأدب . ولكن مع مرور الزمن بدأ كل ذلك بالتدهور وأخذ الانحطاط مجراه وتسرب إلى المجتمع الشرقي فكر المصلحة والمادية الغربية. فالذهن الغربي والمنطق العصري أصبحا عاجزين عن الاهتداء إلى منفعة غير محسوسة ، وأصبح العقل الأوربي محامياً عن المادية لا يحكم على الأخلاق بالحسن والصحة إلا بمقدار جلبها للمنافع المادية ، وأصبحت الأخلاق التي لا وزن لها في ميزان المادة ، ينتقص كل يوم سلطانها على القلوب والعقول . ولا يهم المجتمع الآن كيف يعامل الولد والده أو الزوجة زوجها إذا كان هؤلاء الأفراد لا يزالون في الدائرة المدنية وما دام لا يحدث هذا اضطراباً في المجتمع فلا بأس إذا كان هنالك عقوق من ولد أو دعارة من امرأة أو فسق من رجل أو خيانة من زوجة .

*************************************

الباب الخامس
قيادة الإسلام للعالم

الفصل الأول
نهضة العالم الإسلامي

 اتجاه العالم بأسره إلى الجاهلية : لأسباب تاريخية عقلية ، طبيعية قاسرة ، تحولت أوربا النصرانية جاهلية مادية ، وأصبحت لا تؤمن في الحياة الشخصية إلا باللذة والمنفعة المادية ، وفي الحياة السياسية إلا بالقوة والغلبة ، وفي الحياة الاجتماعية إلا بالوطنية المعتدية والجنسية الغاشمة

استيلاء الفلسفة الأوربية على العالم : ليس على وجه الأرض اليوم أمة أو جماعة تخالف الأمم الغربية في عقائدها ونظرياتها .
الشعوب والدول الآسيوية : أما الشعوب والدول الآسيوية فهي في طريقها إلى الغاية التي وصلت إليها شعوب أوربا ، إلا أنها لا ترضى أن يتولى أمرها النزلاء الأجانب . وكلما سنحت لهذه الأمم فرصة الاستقلال تجلت أخلاقها ومبادئها وظهرت سيرتها الجاهلية في صورتها الطبيعية الحقيقية . ثم إن هذه الأمم أفلست إفلاساً شائناً في الدين والأخلاق ، وقد أشربت في قلوبها حب المال والمادة .
الحل الوحيد للأزمة العالمية : والحل الوحيد هو تحول القيادة العالمية وانتقال دفة الحياة من اليد الأثيمة الخرقاء التي أساءت استعمالها إلى يد أخرى بريئة حاذقة .
العالم الإسلامي على أثر أوربا : من الغريب أن المسلمين قد أصبحوا حلفاء للجاهلية الأوربية وجنوداً متطوعين لها . فترى المادية الغربية في البلاد الإسلامية في كثير من مظاهرها وآثارها .
المسلمون على علاتهم موئل الإنسانية وأمة المستقبل :
ولكن المسلمون هم الأمة الوحيدة على وجه الأرض ، التي تعد خصيم الأمم الغربية وغريمتها ومنافستها في قيادة الأمم ، والتي يعزم عليها دينها أن تراقب سير العالم وتحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها ، وأن تقودها إلى الفضيلة والتقوى ، وإلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، وتحول بينها وبين جهنم بما استطاعت من القوة ، والتي يحرّم عليها دينها ويأبى وضعها وفطرتها أن تتحول أمة جاهلية . هذه هي الأمة التي يكن أن تعود في حين من الأحيان خطراً على النظام الجاهلي الذي بسطته أوروبا في الشرق والغرب وأن تحبط مساعيها
رسالة العالم الإسلامي : لا ينهض العالم الإسلامي إلا برسالته التي وكلها إليه مؤسسه صلى الله عليه وسلم والإيمان بها والاستماتة في سبيلها ، وهي رسالة قوية واضحة مشرقة ، لم يعرف العالم رسالة أعدل منها . وهي الرسالة نفسها التي حملها المسلمون في فتوحهم الأولى . وقد ظهر فضل هذه الرسالة وسهل فهمها في هذا العصر أكثر من كل عصر ، فقد افتضحت الجاهلية وبدت سوآتها للناس واشتد تذمر الناس منها .
الاستعداد الروحي : ولكن العالم الإسلامي لا يؤدي رسالته بالمظاهر التي جادت بها أوربا على العالم ، إنما يؤدي رسالته بالروح والقوة المعنوية التي تزداد أوربا كل يوم إفلاساً فيها . فالمهم غرس الإيمان في قلوب المسلمين وإشعال العاطفة الدينية ، ونشر الدعوة إلى الله ورسوله
الاستعداد الصناعي والحربي : ولكن مهمة العالم الإسلامي لا تنتهي هنا ، فعليه بالمقدرة ، والاستعداد التام في العلوم والصناعة والتجارة وفن الحرب ، وأن يستغني عن الغرب في كل مرفق من مرافق الحياة ، أما ما دام العالم الإسلامي خاضعاً للغرب فلا يستطيع أبداً أن يواجه الغرب فضلاً عن أن يناهضه.
تبوء الزعامة في العالم والتحقيق : وقد تنازل العالم الإسلامي – بما فيه العالم العربي – منذ زمن طويل عن مكانته في القيادة العلمية والتوجيه ، والاستقلال الفكري ، وأصبح عيالاً على الغرب متطفلاً على مائدته .
التنظيم العلمي الجديد : ولابد للعالم الإسلامي من تنظيم العلم الجديد بما يوافق روحه ورسالته . فإذا أراد العالم الإسلامي أن يستأنف حياته ، وإذا كان يطمح إلى القيادة ، فلا بد إذن من الاستقلال التعليمي ، بل لابد من الزعامة العلمية وما هي بالأمر الهين .
بالاستعداد الروحي والاستعداد الصناعي والحربي والاستقلال التعليمي ينهض العالم الإسلامي ، ويؤدي رسالته وينقذ العالم من الانهيار الذي يهدده .

الفصل الثاني
زعامة العالم العربي

أهمية العالم العربي : إن العالم العربي له أهمية كبيرة في خريطة العالم السياسية . وهذا جعل العالم العربي محط أنظار الغربيين ، وكان رد فعله أن نشأ فيه شعور عميق بالقومية العربية .
محمد رسول الله روح العالم العربي : المسلم ينظر إلى العالم العربي بغير العين التي ينظر بها الأوربي والوطني العربي ، إنه ينظر إليه كمعهد الإسلام ومشرق نوره ومعقل الإنسانية ، وموضع القيادة العالمية ، ويرى أن العالم العربي استمد أهميته من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه روحه ، فإذا انفصل عن هذا زالت أهميته. فالإيمان هو قوة العالم العربي.
تضحية شباب العرب قنطرة إلى سعادة البشرية : بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغت شقاوة الإنسانية غاية ما وراءها غاية ، وكانت قضية الإنسانية أعظم من أن يقوم لها أفراد متنعمون لا يتعرضون لخطر ولا لخسارة ولا محنة ، إنما تحتاج هذه القضية إلى أناس يضحون بإمكانياتهم ومستقبلهم في سبل خدمة الإنسانية وأداء رسالتهم المقدسة ، إنه لا بقاء للإنسانية ولا قيام لدعوة كريمة بغير هؤلاء المجاهدين ، وبشقائهم في الدنيا – كما يعتقد كثير من معاصريهم – تنعم الإنسانية وتسعد الأمم . لذلك اختار الله العرب لأنهم كانوا الوحيدين المستعدين للتضحية عند البعثة.
وهكذا كان شأن العرب والذين احتضنوا هذه الدعوة منهم فقد كان نصيبهم من متاعب الجهاد وخسائر النفوس والأموال أعظم من نصيب أي أمة في العالم لأن سعادة البشرية إنما كانت تتوقف على ما يقدمونه من تضحية وما يتحملون من خسائر ونكبات.
وقد وقف العالم في القرن السادس المسيحي على مفترق الطرق إما أن يتقدم العرب ويعرضوا كل ما يعز عليهم للخطر فيسعد العالم وتستقيم البشرية ، وإما أن يؤثروا شهواتهم فيبقى العالم في حمأ الضلالة والشقاء ، وقد أراد الله بالإنسانية خيراً وتشجع العرب – بما نفخ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم من روح الإيمان – فقدموا أنفسهم فداء للإنسانية .
وقد استدار الزمان كهيئته يوم بعث الرسول ووقف العالم على مفترق الطرق مرة ثانية إما أن يتقدم العرب – وهم أمة الرسول وعشيرته – إلى الميدان ويغامروا بنفوسهم ويخاطروا فيما هم فيه فينهض العالم من غثاره وتتبدل الأرض غير الأرض وإما أن يستمروا فيما هم فيه من طمع وطموح ، فيبقى العالم في هذا المستنقع الذي يتردى فيه منذ قرون . إنه لثمن قليل جداً لسلعة غالية جداً .
العناية بالفروسية والحياة العسكرية : من الحقائق المؤلمة أن الشعوب العربية فقدت كثيراً من خصائصها العسكرية ، فالمهم لرجال التعليم وقادة الشعوب العربية أن يربوا الشبيبة العربية على الفروسية والحياة العسكرية ، وعلى البساطة في المعيشة وخشونة العيش والجلادة وتحمل المشاق والمتاعب ، والصبر على المكروه !. وأن يحاربوا بكل قوتهم ما يضعف روح الرجولة .
محاربة التبذير والفرق الهائل بين الغني والصعلوك :
وقد اعتاد العرب حياة الترف والإسراف . وبجانب هذا الترف جوع وفقر فاضح ، يراه الناظر في عواصم البلاد العربية فتدمع العين ويحزن القلب ، وما دامت التخمة والجوع يزخران في مدينة واحدة ، فالباب مفتوح على مصراعيه للشيوعية والثورات والاضطراب .
التخلص من أنواع الأثرة :أتى على العالم العربي عهد في التاريخ كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد ، هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة ، وكانت الأمة كلها تعيش عيش الصعاليك .
إن هذا العهد غير قابل للبقاء ، إنه لا مجال في الإسلام لأي نوع من أنواع الأثرة ، لأنها يجمع أنواعها ستنتهي وإن الإنسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاماً شديداً .
إيجاد الوعي في الأمة : إن أخوف ما يخاف على أمة ويعرضها لخطر هو فقدان الوعي في هذه الأمة ، إن الشعوب الإسلامية والبلاد العربية ضعيفة الوعي أو فاقدة الوعي وإن الأمم الأوربية – برغم عيوبها الكثيرة – قوية الوعي ، فمن أعظم ما تخدم به الأمة هو إيجاد الوعي في طبقاتها
استقلال البلاد العربية في تجارتها وماليتها :
وكذلك لابد للعالم العربي – كالعالم الإسلامي – من الاستقلال في تجارته وماليته وصناعته وتعليمه ، إن العالم العربي لا يستطيع أن يحارب الغرب وهو مدين له في ماله .
تقدم مصر في ميدان التجارة والصناعة والعلم :
ولابد هنا من الاعتراف بأن مصر قد أثبتت كفايتها واستعدادها الكبير في ميدان العلم والصناعة ، وتربية الرجال ، ونشر الثقافة ، ونقل العلوم العصرية إلى اللغة العربية .
رجاء العالم الإسلامي من العالم العربي : والعالم العربي بمواهبه وخصائصه وحسن موقعه وأهميته السياسية يحسن الاضطلاع برسالة الإسلام ، ويستطع أن يتقلد زعامة العالم الإسلامي
إلى قمة القبلة العلمية :
ما أعظم التطور الذي حدث في تاريخ العرب على إثر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وما أعظم النعمة التي أسبغها الله على العرب . نقلهم من جزيرتهم التي يتناحرون فيها إلى العالم الفسيح الذي يقودونه بناصيته . لقد قام العالم الكبيرة على أساس العقيدة الواحدة ، والإيمان العميق والصلة الروحية القوية ، هذه هي القيادة العالمية التي هيأتها البعثة المحمدية ، وهي القيادة التي يجب أن يحرص عليها العرب أشد الحرص ، إن الطريق إلى هذه القيادة ممهدة ميسورة للعرب ، وهي الطريق التي جربوها في عهدهم الأول (( الإخلاص للدعوة الإسلامية واحتضانها والتفاني في سبيلها وتفضيل منهج الحياة الإسلامي على جميع مناهج الحياة )) .

**************************************

 (13) Encyclopeadia Britanica .See Justin

(65) اقرأ استهلال قصة مها بهارات ( الملحمة الهندية الكبرى ) .
(66) R . C . Dutt 331 .
(88) سورة البقرة ، آية 232 .
(89) النساء آية 19 .
(112) إيران في عهد الساسانيين ص 162.
(151) رواه أبو داود .
[*] لمعلومات مفصلة حول هذه المرحلة وكيفية نهضة ذلك الجيل انظر كتاب: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس. د. ماجد عرسان الكيلاني.
(192) المجدار : ما ينصب في الزرع لطرد الطير والوحش .
[†] للاستفاضة في موضوع الفلسفة الماركسية ووحدة الوجود الاقتصادي انظر كتاب الفردوس المستعار للطبيب المفكر الأستاذ أحمد خيري العمري.
[‡] هذا هو السبب الأساسي لمعارضة النظرية الدارونية لمقتضى الدين لأنها تنفي وجود خالق مسيِّر لهذا الكون.
(232) Guide to Modern Wickedness . p . 261.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كتب, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.