عبد الله المنجد: شيخ قراء بلاد الشام

بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس جمعية التمدن الإسلامي فإن الموقع سيبدأ كل شهر بنشر مقالة من مقالات جمعية التمدن وإطلاع المهتمين على بعض مافيها.

نبذة من حياة شيخ المقرئين في الشام …

عبــد الله المنجــد (*)
1869 – 1940 م
1288 – 1359 هـ

نشأته وطفولته
في أواخر عام 1388 هـ و 1869 م ولد الشيخ عبد الله المنجد في دمشق ، في بيت علم وتجارة .
وكان أبوه ذا ثروة وغنى ؛ يرسل العروض إلى الحجاز ومدنه ويبقى في دمشق يجالس العلماء ويسامر الولاة ، وكان سخي اليد جواداً ، ينفق ما يجمعه على العلماء والصالحين فكانوا يترددون إليه طمعاً بماله ، ويتقرب منهم طمعاً بعلمهم ، وكانت الولاة ورجالات الشام يقربونه ليستمعوا إلى حديثه ، فقد كان أميراً من أمراء المجالس ، إذا تكلم أنصت القوم . وكانت أم الفقيد تنتسب إلى آل المفتي ، وهؤلاء قوم نزحوا عن دياربكر منذ زمن طويل ، واشتهروا بالعلم والحديث ، وأتوا دمشق فكان لهم في تاريخ الإفتاء اسم وأثر وصيت .

في بيئة لا يفارقها العلماء نشأ الفقيد ؛ أبوه يقرّب العلماء وأهل أمه من العلماء ، ويقولون إنه عرف أحد المشايخ الذين هبطوا دمشق ، قبل أن يلد ولده عبد الله ، وكان اسمه أبا القاسم ، وكان صالحاً مباركاً ، فبشره بغلام يكون إذا شب من أهل القرآن ويكون له أثر وصيت .

وماتت أمه وهو صغير ، واضطر أبوه إلى السفر إلى الحجاز لتجارة يدير أمرها ، فلم يكن غياب أبيه ، ولا موت أمه سبباً لإهمال الفقيد شأنه من التعلم . فجدّ ورغب وانتهل العلم من أهله ، والمشهورين فيه في زمانه .
تعلمه: لازم وهو صغير بيت الشيخ الحلواني الكبير ، شيخ القراء بالشام وقتئذ ، وتلقى على ابنته القراءة والكتابة ، ثم تحول عنها إلى والدها الشيخ الكبير ليحفظ القرآن . فقرأ عليه وحفظ طرفاً من السور .

وأتم حفظ القرآن على طريقة حفص على الشيخ الشرقاوي ، نزيل الشام ، ثم برع فيه ، وكان ذا صوت حسن رقيق ، يجتذب النفوس ويلين القلوب ، يقرأ لكل مجلس ما يناسبه ويتلو لكل حادث ما يحسن به ، فذاع صيته واستفاضت شهرته ، ونظروا إليه .

وكان الشيخ الحلواني قد جمع القرآن عن طريق الشاطبية فقط ، على الشيخ المرزوقي المغربي في الحجاز ، فلما أتى الشام لم يكن فيها من يقرأ أو يعنى بالقراءة ، فدفع الناس إلى حفظ القرآن وكان له تلاميذ منهم الشيخ أحمد دهمان والشيخ عبد الله الحموي ، والشيخ دبس وزيت والشيخ المالكي وغيرهم ، وكان أبرعهم الشيخ دهمان .

وأراد الفقيد أن يجمع القرآن ، وكان الشيخ الحلواني الكبير قد مات ، فقرأ على الشيخ أحمد دهمان شيخ القراء بعد أستاذه ختمة كاملة للقرّاء السبعة من طريقة الشاطبية على طريقة الشيخ سلطان ، وختمة أخرى من طريق الشاطبية والدرّة للعشرة من أولها إلى آخرها، وتحقق ما بشَّر به أبو القاسم ، فنال الفقيد في القرآن والقراءات قسطاً كبيراً ، وكانت تطمح نفسه إلى الإلمام بالزوايات الباقية التي كانت غير معروفة في دمشق ، على كثرة أهل العلم والقراء فيها ، ويريد الله أن يحقق طِلْبَةَ الفقيد المرحوم ، فيهبط دمشق من مصر حسين بن موسى شرف الدين المصري الشافعي الأزهري ، وكان مجيداً للقراءات متقناً مشاركاً في العلوم ، يأخذ بمجامع القلوب إذا قرأ ، وكان مشير الدولة العثمانية في دمشق إذ ذاك القارئ المحقق السيد أحمد خلوصي الشهير بحافظ باشا ، وكان يجيد طريقة الطّيبة وهي طريقة ما كان في الشام أحد يعرفها ، فوجد المرحوم في الشيخ حسين ضالته فلازمة ليأخذ عنه القراءات على طريقة الطّيبة ، ولكن الشيخ حسين كان بخيلاً بعلمه وكان صعباً في طاعته فلاقى المرحوم الأمرّين في قراءته عليه إلى أن وفقه الله لأخذها ، فقد قرأ عليه ختمة العشرة بما تضمنته طّيبة التقريب والنشر الكبير على طريق العراقيين والمغاربة وطريق المناسبة وأجازه بها سنة 1314

ويعلم الكثير من أهل العلم في دمشق ما لقيه المرحوم من صبر وتجلد وجد وكد وتحمل لنفرات أستاذه الشيخ حسين موسى في سبيل إتقان هذه الطريقة ، كان إذا جاءه قبل دقيقة عن الموعد لا يقبله وإذا تأخر دقيقة لم يقبله ، وإذا جاء في الموعد وكانت ساعة الشيخ قد تقدمت أو تأخرت لم يقبله ، وكان جزاء تأخّره أن ينقطع عن تدريسه أسبوعاً أو أسابيع ، فكأنه كان مصاباً بوسواس يدفعه إلى فعل ما فعل ، والمرحوم يتحمل ويتجلد ولا يبالي .
حدث المرحوم قال : سافر الشيخ حسين مرة إلى بيروت فلبث فيها مدة طويلة ثم عاد فنزل في دارنا ، فافترشنا له ،وقام الشيخ يصلي ، وأنا واقف أمام الباب الغرفة أنتظر لعله يحتاج شيئاً ، فبقيت طول الليل واقفاً أنتظر ، وبقي الشيخ يصلي حتى كان الفجر ، فناداني ، وصليت وراءه الفجر ….

ولما مات الشيخ حسين موسى أضحى الفقيد شيخ القراء بدمشق غير مدافع ، وكان الفقيد قد بلغ الذروة ولم يتخط الثلاثين فلم يقنع بما قرأه وبما اختص به ، بل أراد أن يلم بالعلوم الأخرى ، فلازم شيوخ العلم في عصره ، وكان أكثر ما يكون ملازمة علامة الشام الشيخ بكري العطار ، تفقه عليه وأخذ عنه الشيء الكثير ، وحضر دروس الشيخ محمد القاسمي ، وأخذ عن الشيخ الخاني الشهير ، وعن غيره .

الاجتماعات التي كان يقيمها
وفق الفقيد لجمع جماعة من القارئين يتلوون القرآن ويتدارسونه في ليلة من كل جمعة ، وكان على فضله المشهود له به من الجميع يرى نفسه أقلهم وأحقرهم ، ولا تزال هذه الجماعة دارجة على نحو ما سنّه لها الفقيد حتى اليوم .

بعض مواقفه: كان ـ رحمه الله ـ ذكياً متوقداً ، وله حوادث كثيرة تدل على إبائه وذكائه وشجاعته حدّث مرة قال : كنت في صباي أطلب العلم وأجمع القرآن ، وكان أهل العلم يستثنون من الخدمة العسكرية زمن الدولة العثمانية ، شرط أن يؤدوا امتحاناً ، فتقدمت للامتحان واتفقت أنا وثلاثة آخرون على أن لا نسلك سبيل الرشوة إلى المستخدمين اعتماداً على أنفسنا ، وكراهة للرشوة ، وفقراً منا ، [ قال ] . فلما كان يوم الامتحان وقفت أمام غرفة المستخدمين أقرأ وأتلو . فرأيت الثلاثة الذين اتفقوا معي من قبل على أن لا يرشواً أحداً ، يضحكون ويمزحون ، فقلت لهم ما بالكم ، قالوا: لقد أرسلنا إلى رئيس المستخدمين ما تيسر ونجونا ، ولن نمكث أمامه إلا قليلاً حتى نُعفى من الجندية ، فتدبر أمرك ، وأرسِلْ إليه شيئاً قبل أن تكون من المجنّدين . قال فاكتأبت ، ولكني لم أخف ، وتوكلت على الله ، وأبيت أن أرسل إلى الرئيس شيئاً ، وعجبت من هذا الناس كيف يخادعون ..

[ قال ] ودخل أولهم فلم يمكث إلا سبع دقائق تماماً ، وتبعه آخر فلم يمكث إلا مثله ، قال فتقدمت أنا ودخلت ، وإذا جماعة من كبار العلماء حول نضد كبير ، وقد رأسهم شيخ بوظيفة مفتى آلاي تركي الأصل ، فلما رآني حملق وهمهم ، وقال أحد الحاضرين إن امتحان الشيخ قراءة عشر من القرآن فأبى الرئيس وألح أن يمتحن ويُسأل قال : فسألني أسئلة صعبة عويصة ما كانت لتخطر على بالي ، فأجبت عنها ، فغيظ ، فعاد يسألني ويغلظ لي والشيوخ صامتون خائفون ، وأنا أجيب ولا أتلكأ ، لقد أعانني الله عليه ، وبقيت أمامه أربعين دقيقة يسألني وأجيبه ، والعرق يتصبب مني ، ثم قال إقرأ من القرآن عشراً ، فلم أتفكر ولم أتوقف وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ” قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ” ثم ختمت . فبهت الحاضرون ، وجُن الرئيس .. وقمت فخرجت ، والشيوخ معجبين ، وكان ذلك المفتي يقول : ما غلبني أحد قط إلا هذا الشيخ ، بآيته .

أخلاقه
ما عَرِف الناس رجلاً أشد تواضعاً وأعظم رقة ولطفاً من الشيخ الفقيد مع علم جم وأدب واسع ونبل رفيع ، إذا رآك جعلك سيده ، فكان يرى الفضل لجميع الناس وكان يخدم الجميع ويحترمهم وكان يرى الخير في كل إنسان .

كان راضياً عن ربه صابراً صبراً شديداً ، نُكب بماله وأولاده وصحته ، وعاش في برهة من الزمن عيشة كلها ضنك ، فكان لا يشكو ولا يتبرم ويصبر ويقول : لقد أوتيت القرآن ، ومن أوتي القرآن فقد أوتي خيراً كثيراً ، وكنت لا تراه ساخطاً ، وكان يقنع بما يكفي عياله ، ومع ذلك فقد كان كريماً ليس أحب إليه من أن يكرم ضيفه إذا طرق بابه ولو لم يكن في بيته شيء ، وكان لا يسألُه سائل إلا أعطاه ، وكثيراً ما كان يستدين ليعطي المحتاج فلا يرده وكان يقول : أستحي أن يسألني سائل فلا أعطيه ، ولقد اعترض على ذلك بعضُ أبناءه فأنّبه على ذلك .
وكان يتقبل الإساءة ولا يذكرها ، ويشيد بذكر المحسن له ، وكان يوصي أبناءه بأن يُصادقوا أبناء من أحسنوا إليه ويوصيهم بهم خيراً ، ويقول : إن لفلان علينا يداً ومعروفاً فبروا أبناءه ما استطعتم .
وكان يرحمه الله رقيقاً كريم الأخلاق متواضعاً ، يقطع وقته في قراءة القرآن والصلاة ، وكان يختم كل جمعة ختماً من القرآن منذ حفظه أي منذ ستين سنة ولم ينقطع عن ذلك حتى أنه كان يقرأ في أيام مرضه الشديد ثلاثة أجزاء في اليوم .

أواخر أيامه
في عام 1921 دعاه العلامة الأستاذ محمد كرد علي وجعله مدرساً للعلوم الدينية في مدارس دمشق الابتدائية ، فمكث فيها نيفاً وعشر سنين ، وكان يجهد نفسه في إلقاء الدروس وتعليم التلاميذ رغم ما به من مرض ملازم له ، وكان بعض أبنائه يسأله لو يلقي الدرس دون أن يجهد نفسه رحمة بحاله وتخفيفاً لمرضه فكان يقول : إن هذا واجب ديني ينبغي علي أداؤه على أكمل وجه ، لقد ضاع هذا الدين وإن لم نجهد النفس لإحيائه لليوم دثرت معالمه غداً .

وفي عام 1936 أخرج من المعارف لتجاوزه الستين فعاش في داره منعزلاً عن الناس ، فقد آذوه كثيراً ، وحسدوه كثيراً حتى أن بعض المشايخ كان ـ حسداً منه ـ يمنعه عن تلقي العلم وهدّده إن قرأ القرآن ليضربنه ، ولكن الله نصره ، ثم أوذي وهو في المعارف ، ولكنه نصر ، لأنه من جنود الله ” إن جنودنا لهم الغالبون ” .
عاش المرحوم أربع سنوات في داره منعزلاً ، قضاها في التلاوة والصلاة ، لا يختلط بالناس فإذا جاؤا إليه رحب بهم واستقبلهم من الباب وودّعهم إلى الباب على الرغم من مرضه وضعفه .
وفي ضحى يوم الأربعاء غرة بربيع الثاني سنة 1359 انتقل إلى ربه ، وهو هادئ مطمئن بذكر الله .

تلاميذه
كان للفقيد تلاميذ كثيرون يربون عن الخمسين ، وأكبر تلاميذه فضلاً خمسة هم شيخ المقرئين اليوم في بيروت الشيخ محمد توفيق البابا وشيخ الغوطة ومقرؤها الشيخ عبد القادر صمادية والسادة الشيخ ياسين الجويجاتي وبشير الشلاح وفوزي المنير وقد سمع تلاميذ تلاميذه يقرأون .

***
نيف وستين عاماً قضاها الفقيد في تعليم القرآن ونشره تكفيه ذخراً عند ربه ، وحسبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وتعلمه ) . وأنه قال : ( أشراف أمتي حملة القرآن ) . وأن ( آل الله أهل القرآن ) .
اللهم ارحمه رحمة واسعة ، أطلق بها لروحه العنان ، واجعل مسكنه في الجنان ، وآنسه بالقرآن ، واجعله في جوار النبيين والصديقين والشهداء وممن أنعمت عليهم ، إنك غفور رحيم .

(*) كلمة ألقيت في حفلة رثاء الفقيد في بهو المجمع العلمي العربي التي أقامتها جمعية التمدن الإسلامي عقب صلاة الجمعة الثانية في رمضان من هذا الشهر ، ونشرت في مجلة التمدن الإسلامي، السنة السادسة، الأجزاء 6-7-8، شعبان ، رمضان، شوال 1359هـ ، ص 132-134.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف الأعلام, الراحلون, من كنوز التمدن الإسلامي, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.