اكتملت الأركان – 2006-12-02

[ذكرنا فيما سبق أن أركان الفردوس الأميركي قائمة على خمسة ثوابت ، وتحدثنا عن الثابت الأول وهو المادية والثاني وهو الفردية والثالث وهو الرأسمالية ، ونختم الكلام عن الموضوع اليوم بالثابتين الرابع وهو الاستهلاك ، والخامس سماه الكاتب : الآن وهنا ، وأحب أن أسميه : الغرق في الفردوس الموهوم].
الثابت الرابع :الاستهلاك : مر معنا في الثابت الأول أن فورد عدو الحركات العمالية اللدود قدعالج الأزمة الصناعية الكبرى عام 1915 بخطوتين مذهلتين : إنقاص ساعات العمل وزيادة الأجور ، ولم يكن الرجل غبياً فقد استطاع أن يوجد عند الناس وقتاً للفراغ وفائضاً في المال من أجل أن يهيمن شيطان التسوق عليهم [كلا إن الإنسان ليطغى * أن رأه استغنى] ، وبالتخفيضات الموسمية والتقسيط والدعاية بدأت الرأسمالية تمتص وبمكر مدخرات العمال ومحدودي الدخل! ويجب أن يكون الرضى متوفراً عند الشراء! ولا يهم مابعده ، كي تشتري أكثر ..

واجه شيطان التسوق أحد عشر مليون مهاجر إلى أميركا عام 1915 ممن يحملون ثقافة فيها عوامل معيقة ، ومنها على سبيل المثال : احترام رأي الكبار ووضع القرار بأيديهم ، وهؤلاء عادة أبعد نظراً وأقل تقبلاً لقيم الاستهلاك ، لذا كان لابد من توهية مراكزهم ، وبدأ ذلك بالحط من قيمة احترام الكبير بطريقة شديدة الدهاء : لا وظائف لكبار السن ، وهذا يجعلهم عالة على أفراد العائلة الأصغر ، وهو مايضعف من مكانتهم واحترامهم، وإذا حصل توظيف ما فالأجر أقل! مع ترويج أنهم الأقل كفائدة وفائدة وقدرة على التأقلم!! [تستطيع أن ترى هذه الفكرة الشيطانية بمثال أخر مذهل: لقد أمنت المجتمعات المسلمة إمداداً اجتماعياً ومادياً للجهات المرجعية فيها (الكبار) عن طريق مؤسسات مدهشة الأداء! مثل نظام الأوقاف ، فأتت الحكومات الخبيثة فصادرت تلك المؤسسات لتبقى المرجعيات (الكبار) عالة! مع التركيز على عدم كفائتها! و فتح الأبواب لمرجعيات عميلة وهزيلة بديلة لسد الفراغ الاضطراري! ولو كانت تلك البدائل المزيفة من أحط الناس خلقاً وأكثرهم انتهازية بل حتى لصوصية].

اصطدمت الشركات الرأسمالية أيضاً بالعائلة كبيرة العدد والتي تضم أحياناً ثلاثة أجيال ، مما يجعل الاستهلاك أقل، فقد يكون لكل أولئك جهاز هاتف أو راديو وحتى غسالة واحدة! وتمزيق الآصرة الأسرية والحث على الانفراد سيزيد من الاستهلاك ، والفرد الذي كان يكفيه مع مجموعة من الناس بعض الأجهزة لابد أن يقتنيها بنفسه الآن!

العائق الثالث كان في النفسية التي تحب وتعتز بالأشياء القديمة، وتصلحها المرة بعد المرة لما لها من بعد عائلي أو ذكريات وعراقة خاصة! وعلاج ذلك بنشر ثقافة روج لها الإعلام بمكر وتقوم على إضفاء القداسة والتحضر على كل حديث والإزراء بكل قديم! [لاحظ كيف أن الشعوب الغافلة تسير كالنائم إلى الاستبدال والتخلص من القديم لمجرد ظهور الحديث! واحسب التكاليف التي تدفعها وهي تلهث وراء الجديد!].

ومادام لكل دين طقوسه المميزة فلا بد من طقس خاص بالرأسمالية ألا وهو التسوق [والذي لم يعد ينتهي] وبعد الحرب العالمية الثانية والتي اشتغلت فيها الصناعة الأميركية بشكل ممتاز ، كان هناك هاجس من شبح الركود ولا بد له من شيطان يقف في وجهه [تماماً مثل حفلات الدجالين] وكان ذلك الشيطان هو التسوق ، والذي زعم أصحابه أنه سينتج في النهاية مجتمعاً بلا فقر ولا بطالة ، حيث يشتري الجميع فيه ما يريدون!

أصبح التسوق مسألة وطنية وجزءاً من الإيمان به ، ومن الملفت جداً للنظر خطاب الرئيس الأميركي لمواطنيه بعد أحداث أيلول!

لقد صدم الأميركان الطيبون بوجود أشرار في هذا العالم ، فقد كانوا يظنون أن النظام الأميركي قد جلب محبة العالم وإعجابه! ونتيجة الصدمة فقد انكفأ الأكثرون في بيوتهم ، وبدأ خلل في الحياة الطبيعية ، وهنا خرج الرئيس ليطلب من الشعب أن يعود لحياته الطبيعية! ولم يجد مثالاً لذلك إلا بأن يذهبوا إلى (مجمعات التسوق Malls ويمارسوا التسوق!!) بالحرف الواحد!! والمعنى أنه برغم المصيبة التي حصلت فأميركة ستكون بخير مادمت أيها الشعب الأميركي المسكين تتسوق!

ساهمت الدعاية والإعلام ولا شك بطريقة مركزية في الحث على التسوق! ولكن مهلاً فهناك أمر لم ينتهبه له الكثيرون! فقد كان هناك تركيز على البيت الفاره الواسع ومعه حديقة رائعة! [وما دخلك أنت] وتم ذلك عن طريق سياسة حكومية عامة وأهداف شركات عقارية متواطئة مع البنوك الضخمة [العائدة إلى صنف الواحد بالمائة المسيطر] واستغل المذكورون نزعة الحاجة إلى المأوى لتقديم منازل جميلة جداً وواسعة ومغرية جداً تستطيع أخذها بقروض دون ضمانات وبفوائد قليلة! ولكن هناك أمر فني صغير جداً! فالمنزل لن يكون في المدينة! بل في الضواحي!

[حسنٌ وما مشكلتك أنت] وخلال عقد الخمسينات ازداد سكان المدن 1% فقط مقابل 45% في الضواحي! التي حازت على 75% من نسبة البناء في كل الولايات المتحدة ، يقدر حالياً عدد سكان الضواحي بـ 80% من سكان أميركة!

رافق التوسع السكني في الضواحي انفجار في صناعة السيارات ، فكونك في مكان بعيد عن عملك [وفي بلد حتى الآن لا يوجد فيه مواصلات عامة] سيضطرك إلى شراء سيارة! وسيلزم لعمل زوجتك وحتى توصيلها للأولاد سيارة أخرى! ومادمت انتقلت من بيت المدينة الصغير إلى بيت واسع في الريف فسيلزمك أثاث مناسب! وأجهزة كهربائية متنوعة ، ومادامت طرق البناء القديمة لا تؤدي إلى جناية الأرباح الهائلة فلا بد من نشوء طريقة بناء أكثر سرعة وأقل متانة وجودة ، وهذا يعني أنه قد لايبقى مناسباً لسنوات طويلة ، وبالطبع فلديك خيارات لا تنتهي للانتقال إلى بيت أفضل وهناك الشركات العقارية والمصارف في خدمتك ، فقط ادفع ماتدخر أو اقترض حتى تبقى طوال عمرك تدفع كل ماتنتج وتبقى تحت رحمة الديون التي لاتنتهي!

البيت الخاص كان فريداً وله خصوصية أصحابه وبصمتهم ، أما الآن فنموذج معماري يتكرر ، ويساهم في إنتاج أفراد متشابهين ، وهؤلاء الأفراد يشتركون في النزعة الفردية ويرغبون بمسافة أكبر بين الفرد والآخرين! وماداموا متشابهين معمارياً إلى حد كبير ، ولا بد من التميز فليكن في السيارة! والتي لم تعد وسيلة نقل بل هوية ومكون للشخصية! وصار الأميركي [وغير الأميركي] يمتطيها مزهواً ، والحقيقة أنها هي التي كانت تمتطيه! وداخل كل بيت [ليس فقط الأميركي بل كل مغسول بالوهم] هناك في الزاوية وثن صغير أو كبير [حسب قوة الاتباع للدين الأميركي وتماماً مثل الأقوام الوثنية التي كان لكل بيت فيها وثن خاص] وذلك الوثن الذي لم يعد الأكثرون قادرين على الارتداد عنه هو الجهاز العظيم [وثن العصر الحديث] المسمى (التلفزيون).

في عام 1913ؤنشرت مسلسلة شعبية مصورة اسمها (التنافس مع آل جونز) وحققت نجاحاً هائلاً جعلهاتستمر في الصدور ثمانية وثلاثين عاماً!! وكان هدفها الأول : زرع التنافس على الشراء! وغرس حمى التسوق بينهم! ونجحت تلك المصورة ليصبح في داخل كل منا اليوم (آل جونز) الذين يوقدون فينا غرائز الشراء والتنافس والحسد والتسوق الذي لا ينتهي! وللتقليل [من بعض الإحراجات النفسية] لعملية الدفع فسيقدم نظام التقسيط [والذي يؤدي إلى الشور بالدفع القليل ، ولو في البداية] وهو نظام صار شاملاً لكل شيء يمكن شراؤه في أميركة! والطريقة الأخرى للزج في نظام الاستهلاك هي نظام الـ credit card [والتي ولا شك فيه فوائد كبيرة] ولكن المكر الخفي فيه أعظم! ولقد بدأت البطاقة تتحرك ضمن عدة مطاعم لتصبح أكبر فخ استهلاي عالمي! ويمكنك بها أن تتسوق الآن ، وادفع لاحقاً ، وإياك أن تدع آل جونز يسبقونك في شراء أي شيء! وبالتأكيد لن يخبرك أحد أن حجم الدين الشخصي الناجم عن بطاقة الائتمان قد بلغ مع فوائده 1.7 تريليون دولار ، ونسبة 110% من الدخل العائلي [في الولايات المتحدة] .

[خشية أن تَكتشف بعض الحقائق فينفر بعض الناس من نظام الابتلاع التسوقي] سيترك آل جونز في كل منزل وثناً يتعبده المتسوقون ولا يخرجون عن قبضته ، وهو دائم التذكير لهم بطقوس الديانة الجديدةَ، واستطاع ذلك الوثن أن يحول الاستهلاك من نزعة منبوذة في عالم ماقبل أميركة إلى ميل غريزي وفطري في النفوس! ومادامت سكنى الضواحي سيتلوها بيوت متباعدة ونسيج اجتماعي مهلهل أو غائب ، فإن التلفزيون سيكون الأنيس والصاحب ، فضلاً عن تسلله وثناً خفياً في الأعماق! ومن المعلوم أن التلفزيونات تقدم برامج مكلفة جداً وغالبها يمكن التقاطه بالمجان ، فكيف يمكننا فهم أنه يوجد شيء مجاني في عالم المادة وعبادة المال؟ الجواب سهل، فالفواصل الإعلانية هي روح تلك المحطات! ورغم أهمية الترويج لبضاعة ما ، وهو حق مشروع وبرئ [في الظاهر على الأقل] إلا أن الفكر الذي وراءه هو المقصود والخطير حقاً! فالسلعة المقصودة هي أنت أيها المسكين! والهدف هو صورة في ذهنك تتصرف من خلالها ، وتشعر بالتدريج أن السعادة متعلقة بها!

إن الفرد يتعرض يومياً في عصر العولمة إلى مابين 3000- 10000 إعلان! وبالتعاضد فإنها تقوم بغسل مخ جماعي [هناك رسائل شديدة الخطورة تبث في اللاوعي ، وقد يمر مع الدعاية العادية صورة لا تلتقطها العين ولكنها تُلتقط في الذاكرة ، ليكون لها آثار لاحقة، وهو أمر لا يوجد مجال للتطرق إليه الآن] والغسيل الجماعي يعني باختصار أيها السادة: نحن مسيرون بلا اختيار!

[في عصر العولمة ينفق مزارع واحد في كاليفورنية ماينفقه عشرة آلاف فلاح في بنغلاديش] وبالتالي فالطبقات التي تنفق وتشتري وتتسوق أكثر ينبغي أن تكون الأكثر سعادة ، ولكن الإحصائيات والواقع يشيران إلى عكس ذلك!

[هناك هوية مدمرة يزداد حملتها] وهي الشعور بالذات من خلال التسوق، فلقد تجاوزت التنافس مع آل جونز ، لتحترم أنت نفسك وتنظر إليها بعين الرضا كلما كانت قدرتك التسويقية أعظم! لقد حصلت على هوية في عالم لايعترف إلا بالمادة ، ويقيم الإنسان فقط من خلال قدرته الشرائية وليحمل مايشاء من اختصاصات وشهادات فقيمته بقدرته [يقول العوام الجهلة معك فرنك بتسوى فرنك] لذا لابد من الاستهلاك ، وهو من أدوات البعض لتمييز الإنسان عن الحيوان!

أنت تتسوق إذاً فأنت موجود ، وهم يربحون ، فقل لي ماهو حقيقة أفيون الشعوب؟ لقد صارت هناك عيادات ومواقع انترنيت لمعالجة مدمني التسوق!! الذين يشعر أحدهم بالمرض عند زيادة الدين وتراكمه إلى د يعجزه عن سداد الدين، فيحاول ترك إدمان التسوق فلا يستطيع! بل وصل اللعب بالبشر إلى وجود شركات تجارية تقدم لك دواء خاصاً [يمتنع الكاتب عن ذكره كيلا يروج له] وهو خاص لمدمني التسوق لتقليل الاستهلاك، والذي تلاحم مع الوصية التي صارت عرفاً وموجهاً في الحياة الاستهلاكية: Shop till you drop أي تسوق حتى الموت! [وحتى وأنت في حال الاحتضار فلا تنس أن توصي أولادك بتغيير بعض الأثاث لأنه أصبح قديماً ، واشتر قبراً ، واثنين أفضل لمفاجآت الأيام ، واطلب ممن حاول شراء أمور كثيرة كي لا يتحدث أحد عن قلة التزامنا بالدين التسوقي ، وعار أن لايجدوا في بيوتنا بعض التوافه الاستهلاكية] ، [من باب الطرفة الحقيقية قصة أحد المعارف المسنين وكان مشغول البال دائماً بتأمين قبر وكيفية خروج الجنازة ، وشراء طعام للمعزين ، وكنا نداعبه قائلين : نرجوك أن ترحل ونحن ندبر الأمور من بعدك!].

قارن الحكمة! الأميركية: Shop till you drop مع الآية القرآنية (واعبُد ربك حتى يأتيك اليقين) (الحجر:15/99). لتعرف أن هناك نمطين مختلفين بالحياة مهما تلاقيا فلن يتطابقا أبداً لأن أحدهما هو العبادة بكل شمولها وامتدادها والآخر هو العلم الهزيل بظاهر الحياة الدنيا!

[لعل صورة ذلك الدين ماتزال غير واضحة تماماً فأين أماكن العبادة وهل له طقوس موسمية ومن هم كهنته … والصورة كاملة ولكننا لم نعرها الانتباه! فـ (السوبر ماركات والمولات) الضخمة هي دور العبادة (كاتدرايات الدين الأميركي) وهي تلم الناس أجمع ، والأيقونات هي (الماركات العالمية) ، وراقب الجموع المهرولة بحماس ، وخصوصاً في مواسم الأعياد لترى عبادة [تضم مزيجاً من الصلاة والتبتل والطواف] ، أما الكهنة فهم الرأسماليون ، أصحاب الواحد بالمائة المسيطرون على كل اقتصاد في الأرض! أما القرابين التي يقنعك الكهنة باستمرار تقديمها فهي تلك السلع التي صار الأكثرون يستلذون بتسوقها! أما الوثن الرئيس فهو الذات والفردية [إقرأ الكلمة قبل الماضية –في الأرشيف ـ لتتعرف عليها].

وبينما يحرص ثابت الفردوس المستعار على أن تستهلك وتنفق آخر مالديك ، ويجعلك تحت رحمة الديون يأتي ثابتنا الإيماني الرابع ويمثله الصيام الذي بحقيقته هوانقطاع عن الاستهلاك [وكلما كنا مغسولين وتحت الاجتياح حولناه إلى التسطيح الاستهلاكي والإنفاق].

يأمر الصيام بالانقطاع عن الطعام والشراب والعلاقة الجنسية من أجل أن ندرك أن هناك عالماً آخر لايحصل من دون الانقطاع [رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش] ومن بسيط الأمثلة أن مواعيد الطعام المقدسة عند البعض سيتم تغييرها جذرياً ، وإن هناك معان عميقة جداً في الحياة ، وهي أوسع بكثير من مداركنا الحسية المحدودة.

الانقطاع ممكن ، فلم نخلق لنكون [كالأنعام] فنأكل ونشرب ونمارس الجنس ثم ننطلق في الأرض مثل الوحوش لتلبية مطالب الطعام والشراب والجنس! وعندما لا نعي ذلك البعد فنحن نمارس شعيرة ظاهرها الانقطاع وباطنها التحايل .. [الصيام أحد شفيعين: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ..] ..[فلتتذكر وأنت تدخل إلى إحدى كاتدرائيات الدين الجديد قولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفكلما اشتهيت اشتريت].

الثابت الخامس : الآن وهنا

كل فردوس لا يحوي بعداً زمانياً مكانياً سيكون ناقصاً ومشوهاً ، والفردوس الذي لا يسمح بالجنة حيث كل شيء مباح فهو ليس بفردوس حقيقي! لذا فلا بد أن يقدم الفردوس المستعار جنته، وهي ذات مباهج ولذة لانهائية ، فأميركا هي نهاية العالم [لغير المؤمن] وهي الفردوس الأخير!

في الحقيقة لم يحدث أن نشأت حضارة بلا تاريخ سوى حضارة واحدة ، هي حضارة الفردوس المفقود، وفيها لاتوقف عند التاريخ فقد تخلصت أميركة من أثقاله! وأبادت كل متعلقاته ، وكل قيم ومبادئ وأخلاق جديدة هي أفضل مما قبلها ، وابتداء من تورغوت (1718) وكوندوركوت (1794) ثم هيغل (1831) كانت فكرة التقدم حتمية تاريخية لامهرب منها ، وهي المقابل التاريخي لفكر داروين البيولوجي في التطور، ولكن بعد قرنين انفجرت صيف عام 1989 تاريخية هيغل على يد فرانسيس فوكوياما في نظريته حول (نهاية التاريخ) فما أحرزه الغرب هو آخر المطاف والنتيجة النهائية والعملية لتطور الأفكار والإيديولوجيات!

لكن تلك الفكرة خطيرة ففتيل الصراع يجب توقفه ، وماذا ستفعل القوى المحركة الماكرة ، والاحتكارات الاقتصادية لاستمرار الحراك والهيمنة والكسب؟ لابد من اختراع أعداء وهميين أو مصطنعين يساهم وجودهم في إدارة ماكينة الاقتصاد والسياسة والتسليح ، فخرجت النظرية [المرعبة] عن صدام الحضارات لصاموئيل هنتنغتون [لاحظ الاستنفار الذي يقوم به بوش كل فترة والتصريحات من قوله عن الحرب الصليبية إلى المسلمين الفاشيين ، لإيقاظ الغرائز التي تمد الصراع].

ضعف الذاكرة الأميركي لفت نظر مفكرين أمثال نعوم تشومسكي ، وآرثر شاليسنجر ، وهواردزن ، وستيفن برتمان ، فرأوا في تلك الظاهرة أكثر من جهل أو لامبالاة ، لأنه في الحقيقة تجهيل متعمد [للشعب الأميركي نفسه، والمحكوم من طبقة الواحد بالمائة] فستون بالمائة من الأميركيين البالغين لايعرفون أن الرئيس الأميركي أمر باستخدام القنبلة الذرية ولا أين استخدمها!!! فما بالك بإبادة الهنود الحمر ، واستغلال شعوب الأرض ، ونهب الخيرات [فضلاً عن السلاح الأميركي الذي يقتل به يومياً مالايعد من الأبرياء من أفغانستان إلى فلسطين] ..

فلسفة الحاضر presentism هي البديل الذي تحتاجه أميركة، فلا تاريخ ولا مستقبل بل اللحظة الحاضرة! فهي الحقيقة المطلقة ، وكل ماعداها وهم! وباعتبار أن الإدراك الأولي يتعلق بالحواس فقط فإن هذه الفلسفة لها جاذبية شديدة! وكيف للغرق بها أن يرى الفردوس خارج حواسه المحدودة التي حوصر ضمنها من خلال الفلسفات التي أفقدته الإدراك والوعي العميق خارج غرائزه ورغباته! وكانت تلك الأبدية المطلقة [الحاضر] هو الضلع الذي لابد منه ليكتمل الدين الجديد! وكل ماتريده تحصل عليه هنا ، وليس هناك أبعاد للزمان والمكان خارج اللحظة الحاضرة! وهنا الفردوس … المقصد النهائي ، ومكان المباهج والمسرات!

الفردوس المزيف ليس فيه [رضا الله: ورضوان من الله أكبر] بل إرضاء الحواس والمتعة ، حيث تمت برمجة الفرد من خلال مبدأ الحرية الفردية ليصبح جزءاً من فلسفة اللذة التي تقدم المتعة الفردية [مهما دمرت ماحولها] على كل شيء.

رغم أنف كل حضارة كانت اللذة جزءاً من فكر وسلوك البشر ، ولكن فرق بين أن يكون لها دور يغني الحياة أو تصبح طوفاناً مدمراً [يمكن للذة الجنسية أن تكون سبب متعة مباحة بل واجبة تحصل بها السكينة ويستمر التناسل وتتجدد الحياة ، أو تصبح هي الموجه الأول والباب إلى الحيوانية والبهيمية التي لاينجو منها المحارم ولا الأطفال ولا حتى الرضع ، بل ولا القطط والحمير والدجاج والكلاب!! وقد شكوت يوماً ألمي لأخ مسلم غربي لكثرة مافي بلده من أدوات الإفساد الجنسي وحرية الانحلال! فقال الحمد لله أننا أفضل من غيرنا! فقلت وهل هناك ماهو أكثر هبوطاً؟ فقال: نعم ، فبلادنا تمنع فيها مجلات (اللواطة بالحيوانات) بينما هي مسموحة في الدولة المجاورة]. [غفرانك اللهم].

فلسفة اللذة [المنحرفة] نشأت في القرن الخامس قبل الميلاد ، وداخل مرحلة التحلل الأخلاقي للحضارة الإغريقية ، ولها فلاسفتها : أرستيبوس (325 ق.م) وكان من تلاميذ سقراط ، وامتد تأثيره إلى أبيقور (270 ق.م) … ومضى الكل وشهدت عظامهم باندثار فلسفتهم ، ولكن البشر [كلما ضعف اتصالهم بعالم ماوراء الأحاسيس- أي عالم الغيب] كانوا يقعون في براثنها وأسرها!

لقد جاء في مبادئ الاستقلال –المادة الثامنة- أن طلب السعادة هدف أساسي للأمة الناشئة! وفي ظل الحرية الفردية وتقديسها ومع عبادة الذات ، ومع [العمى] عما هو خارج الحواس لم يكن مآل السعادة سوى الغرق في فلسفة اللذة بلا خطوط حمراء.

Have a good time (قضاء وقت ممتع) شعار رئيسي بدأ من الفردية والحرية الشخصية والخصوصية لينتهي في حفلات الجنس الجماعي ، والمخدرات [وقتل طفلات عراقيات بريئات بعد اغتصابهن أمام عيون أهاليهن ، واستباحة أفغانستان التي لم يكتب تاريخ الغزو الفاجر لها بعد ثم الكذب عشر سنوات بخصوص أسلحة دمار شامل موهومة في العراق ليتم بعدها تدمير العراق وإشعال الحرب الطائفية على يد نيرون أميركة ، والطائرات الأميركية من الأباتشي إلى الايف 16 ومابعدها وهي ترمي الصواريخ والقنابل العنقودية بسادية مرعبة فوق العزل في فلسطين وجنوب لبنان … لأن إسرائيل تدافع عن نفسها .. أما الآخرون فلهم حق وحيد هو الموت بالأسلحة الأميركية النذلة والجبانة] ..

سيغموند فرويد (1856-1939) الطبيب النمساوي وصاحب نظرية التحليل النفسي ، وأن الدافع الجنسي هو المسيطر على اللاشعور، هذا الطبيب العبقري اختزل الإنسان في ثلاث مناطق بمعزل عن أي شيء آخر وهي الفم والشرج والفرج!!! فهي التي تكمل شخصية الإنسان وكل ماعداها هباء! والخطير أن فرويد لم يجعل اللذة خياراً [أبيقوريا نسبة إلى فيلسوف اللذة أبيقور] بل جعلها حتمية قدرية أكلت كل مايكون قد بقي في النفوس من عفة أو حرج بل أية محاولة للخروج من أسر الحواس!

كان للفرويدية دور في إكمال الدين الأميركي! فرغم كل النحت في الفطرة البشرية كان هناك بقية [ وستبقى الفطرة أبداً] من العفة والاستقامة والأعراف الأخلاقية ، [بل كان هناك نوع من اللامعقول] الذي جعل الكاتبة آيدا كرادوك تقدم للمحكمة الفيديرالية بتهمة الترويج للفاحشة ، والذي فعلته كان مجرد إصدار كتيب صغير يحوي إرشادات لليلة الزفاف (والتي كانت هي اللقاء الأول بين الجنسين) ، وانتهى الأمر بانتحار الكاتبة ليلة انعقاد المحاكمة! كما حكم على الممرضة مارغريت سانغر بخمسة وأربعين عاماً! من السجن لتأليف كتاب إرشادي عن وسائل منع الحمل ، وبتهمة نشر الفاحشة (وقد فرت الممرضة إلى أوربة قبل التنفيذ).

رغم تلك الأجواء طلع عفريت الجنس من قمقم الساحر الذي لم يكن سوى فرويد ، ورغم أنه نمساوي إلا أن ابن أخته إدوار بيرنيز (1891-1995) حاز الجنسية الأميركية وهو الذي روج لنظرية خاله ، ويعد إدوار الأب الحقيقي لعلم الدعاية والعلاقات العامة وفرض نفسه كأهم وكيل إعلاني في أميركة ، وكان يقول: (إذا فهمنا الآليات والدوافع التي تحرك الجماهير فإننا تستطيع أن نقود ونحرك هذه الجماهير لما نريده دون أن تشعر) وكان يسميها (طريقة الرضا) ، والشيء المهم هو أن إدوار بيرنيز كان يدير الإحصاءات وينشر المقالات وصور الكاريكاتير ويشيع النكات ، ويسهم بشكل فعال في تغيير الرأي العام وكتبه كلها تدور حول تغيير الرأي العام ، وكان زبائن بيرنيزمن طبقة الواحد بالمائة ، وقد اختير لاحقاً ليكون من أهم ألف شخصية أثرت في البشرية خلال سائر العصور!

كان عمل بيرنيز التلاعب بعقول الناس وقد تبنى نظرية خاله ، وبفضل حملات ترويج هائلة وندوات وحوارات ودعم للأساتذة ومنح وتعليقات ونكات … فقد أصبحت نظرية دارون حقيقة شبه مطلقة دخلت إلى الأعماق عبر إعلام يجعل مالا يصدق قابلاً للتصديق!

أخطر مافي النظرية : إن الصمام يجب أن يبقى مفتوحاً كي لاينفجر الأنبوب [ لاحظ دهاء الأنظمة التي تغلق كل الصمامات والحقوق وتبقي فقط صمام الجنس والفاحشة وأدواتها المنفذ الوحيد] وقد حمل عالم التربية سبوك نظرية فرويد إلى التربية وشاركه : مارغريت ميد ، روث بندكت ، أريك أريكسون ، كارل مننغر … وبينما يوصي الإسلام بالأم ضمن مفهوم نبوي راشد (أمك ثم أمك ثم أمك ) فقد عكست نظرية فرويد الاتجاه فنادت أمك ثم أمك ثم أمك سبب كل عوج أو اضطراب في حياتك [ولا بد أن كبتاً جنسياً ما قد قامت به أو ارتكبت خطأ ما تجاهك ضمن السياق الفموي أو الفرجي!!] وبالتأكيد فإن هذا سيقلل من الشعور بقداسة الأم والاحترام الشديد لها! ودخلت مفاهيم فرويد تحت الجلد الأميركي إلى أن ظهر ألفرد كنزي بكتابه (السلوك الجنسي عند الذكر البشري) والذي مهد لثورة جنسية لاحقة ، وهو كتاب غير غرائزي ويعتمد على الإحصائيات والبيانات والجداول! وحقق رواجاً غير مسبوق! وكان ألفرد كنزي عالماً رصيناً وزوجاً وأباً وأسس عام 1947 معهداً لدراسات الجنس أمدته المؤسسات الضخمة وقام باستطلاع شمل 16000 شخص وهو مانشر فيما بعد بالكتاب الذي كان مقدمة الثورة الجنسية في الستينات!

صدم كنزي المجتمع الأميركي من خلال معلومات مريعة منها على سبيل المثال أن 85-98% من الذكور قد مارسوا الجنس قبل الزواج! و 70% من الذكور لديهم تجارب جنسية مدفوعة الأجر مع المومسات! و 17% من ذكور الريف قد مارسوا الجنس مع الحيوانات!! وأن نصف الذكور يخونون زوجاتهم! وأعلن هذا البحث للمنظمات الكنسية والكشفية الملتزمة أن كل ماتفعله ليس ذا جدوى ، وبدل أن يغير الأميركيون سلوكهم فقد غيروا أعرافهم بعد أن اتضح لهم أن [الأطهار قلة] والفساد يمارسه الجميع ، [ومن كان منهم بلا خطيئة فليرم الخاطئين بحجر].

وقال كينزي : (خطيئة الجميع ليست خطيئة) ولم يعد في أي ممارسة جنسية أي إشكال فالكل يقوم بذلك ، ومع الفردية وعدم وجود خط أحمر فكل شيء تابع لا ستطلاعات الرأي من شن الحروب إلى الإجهاض ، وصار وثن الأرقام هو الحاكم بعد أن جُعل كل فرد يعبد نفسه ثم نحتكم إلى مجموع الأفراد الذين يؤلهون أنفسهم!

الدين المزيف يحمل عناصر فنائه وزيفه في داخله ، واتضح فيما بعد أن كينزي الرصين العالم قد قام بتزوير بحثه [ليجر الشباب والمجتمع إلى الفاحشة ويقنع النظيفين أنهم هم الشاذون في بحر اللذة الجنسية الجارفة ، أما قال تعالى : أخرجوهم من قريتكم إنهم إناس يتطهرون] واتضح أنه قد أقحم في بحثه 3000 سجين غالبهم من المحكومين في جنايات جنسية! وتعمد انتقاء مومسات في بحث له عن السلوك الجنسي لدى المرأة! كما أشرف على تدريب عمليات اعتداء جنسي على الأطفال (بزعم أنه يقوم بدراسة ردود أفعال الأطفال الأبرياء) ثم اتضح في النهاية أنه مجرد رجل شاذ يمارس الشذوذ مع شاذين في فريق بحثه! [تماماً مثلما سيتضح يوماً أن بوش شاذ نفسياً وأخلاقياً وأنه مريض وقدوته نيرون روما ولكن على مستوى العالم كله].

رغم كل ذلك فإن هوليود قدمت كينزي عام 2004 في فيلم تكريمي يحمل اسمه غاضة النظر عن كل انحرافاته وتحريفاته فهو بطل حرر المجتمع من العقد والأوهام! ثم تتالت سلسلة التحطيم :

– بعد خمس سنوات من بحث كينزي صدرت أول مجلة عري (بلاي بوي) واعترف هيفنر صاحبها بفضل كينزي وأبحاثه عليه!

– عام 1960 أجازت منظمة الصحة العالمية حبة منع الحمل للنساء!

– عام 1966 صدر بحث يقرر أن المرأة تستمتع بالعلاقات العابرة …

– عام 1968 أصدرت المحكمة الفيدرالية قراراً يجيز تصوير الأفلام الإباحية كنوع من حرية التعبير!

– عام 1973 قررت جمعية الأطباء النفسيين الأميركيين أن الشذوذ الجنسي ليس مرضاً ولا داعي للبحث عن علاج للشاذ فإنه لم يعد شاذاً بعد تلك السنة!

– في الستينات والسبعينات انتشر مفهوم ممارسة الجنس بمعزل عن الحب والمشاعروالعواطف!

– انتشرت كنتيجة لما سبق نظريات الحب الحر [وتبادل الأزواج والزوجات والعلاقات التي نعتذر عن الإشارة إليها هنا].

– بعد انتشار الأيدز تم التركيز على البعد عن المرض لا بالعفة [تلك الطريقة البدائية المتخلفة] بل باستخدام الواقيات الذكرية!

– يذكر الدكتور أحمد خيري العمري إحصائيات عن حجم الفساد الجنسي في الولايات المتحدة موثقة ومنسوبة إلى مراجعها ونعتذر عن ذكرها ومن أهون مافيها أن 85% من الذكور و 77% من الإناث قد مارسا الجنس قبل الوصول إلى المرحلة الجامعية! وهناك نسبة تقترب من واحد بالمائة مخيفة حقاً ومقززة تتعلق بممارسة الجنس مع جثث الموتى!

لم يدر في خلد أحد أن الإنسان سيتوه وينزل إلى هذا الدرك من (أسفل سافلين).

مقابل ذلك الفردوس الوهمي والمنحط هناك عالم الآخرة والغيب ، ومن ذلك المنطلق سوف نرى (كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد) (الفجر 89/6-12).

الإيمان بالآخرة عالم آخر تماماً له حديث خاص سنتابعه في كلمة الشهر القادم بإذن الله.
هدية العدد نشيد صغير لأننا لم نستطع تحميل النشيد كله إضافة إلى صورة جميلة لدمشق القديمة تصلح كسطح مكتب.

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على اكتملت الأركان – 2006-12-02 مغلقة

لقاء أوزبكستان المسلمة مع العلامة القاري

القسم الأول:

اسمه ومولده:
هو الشيخ أبو مجاهد عبد العزيز بن عبد الفتاح بن عبد الرحيم بن محمد القاري المدني.
ولد الشيخ عبد العزيز في عام 1365هـ بمكة المكرمة، وهو مقيم بالمدينة النبوية حاليا.

والده المرحوم:
الشيخ عبد الفتاح القاري، من مواليد مدينة \”قُوقَنْدْ\” من مدن وادي فرغانه ببلاد ما وراء النهر. وفي عهد الزحف الروسي على بلاد التركستان هاجر الشيخ إلى أفغانستان ثم إلى الجزيرة العربية. وكان الشيخ عبد الفتاح القاري من أقران الشيخ عبد العزيز بن باز – مفتي السعودية – رحمهما الله. وطلبا العلم سويا على يد علماء الجزيرة العربية.

طلبه للعلم:
درس فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الفتاح القاري في بداية طلبه للعلم في المعهد العلمي بالرياض من عام 1375هـ إلى عام 1380هـ. ثم واصل الطلب في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ابتداء من تأسيسها في عام1381هـ. وامتدت مرحلة الطلب لدى الشيخ إلى عام 1389هـ، فبعد أن تخرج – حفظه الله- من كلية الشريعة استمر في مواصلة دراسته في جامعة الأزهر بالقاهرة، حيث نال درجة الماجستير ثم الدكتوراه من قسم السياسة الشرعية.

من آثار الشيخ العلمية والعملية:
عمل مدرسا وعميدا للدراسات العليا بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية، وإماما وخطيبا بمسجد قباء، ورئيسا للجنة مراجعة مصحف المدينة النبوية بمجمع الملك فهد. وله مؤلفات عديدة في علوم القرآن والتفسير وعلم التجويد والقراءات وغير ذلك من الفنون. وله ديوان شعري بعنوان: \”شجون غريب\”.

شيوخه:
تتلمذ شيخنا الفاضل على يد كل من سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز – مفتي السعودية السابق-، والشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي – \”مؤلف أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن،\” – والشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ المحدث حماد الأنصاري وغيرهم –رحمهم الله أجمعين.

“أوزبكستان المسلمة”:
بادئ ذي بدء نتقدم إلى سماحتكم -باسم زوار موقعنا الكرام- بالشكر الجزيل على تفضلكم بالقبول لإجراء هذا الحوار المبارك مع موقع \”أوزبكستان المسلمة\”. ثم نشرع في عرض أسئلتنا لسماحتكم.

السؤال الأول:
بين علماء الإسلام بأنه يجب ويتعين على كل من يعمل بتعليمات الكتاب والسنة أن يكون ملازما للجماعة. ويوردون الأدلة الدالة على ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فكيف يشرح فضيلتكم حقيقة هذه الجماعة والأقوال التي قيلت حولها؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم. يتبين جواب هذا السؤال بحديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- التالي: \”افترق أهل الكتابين إلى ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة\”. (هذا لفظ رواية أبي داود). وفي رواية الترمذي: سأل الصحابة: \”من هي الفرقة الناجية؟\” فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: \”ما أنا عليه اليوم وأصحابي\”.
فإذا أطلق لفظ \”الجماعة\” فإنه يفهم منها أنها الطريق الذي سلكه الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه وكل من سار على هذا الطريق وتمسك به. وهذا الطريق يتكون من مجموعة العقائد والأقوال والأعمال. فأي إنسان يجتهد في فهم الكتاب والسنة كما فهمهما النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والصحابة، والعمل بشرائع الإسلام كما عمل بها الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- والصحابة أيضا فإنه عضو من أعضاء هذه الجماعة العظيمة.
والعلماء يقولون: إنه لا يشترط أن يجتمع أعضاء هذه الجماعة في مكان واحد وفي زمن واحد. فلو وُلِد شخص في الشرق وآخر في الغرب وعاش كل واحد منهما في مكانه الذي ولد فيه وهو متمسك بسنة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه فإنهما من أهل هذه الجماعة الواحدة، وإن كان أحدهما لا يعرف الآخر. إلا أنه لو قُدِّر اجتماعهما فالتقيا في مكان وزمان واحد تجد أن عقيدتهما وأقوالهما وأعمالهما تنبع من مشكاة واحدة لا يتناقض بعضها مع بعض أبدا. وانظر إلى حالنا الآن: فبرغم المسافات البعيدة بين بلادنا وبلادكم ورغم كوننا لم يلتق بعضنا مع بعض قبل هذا المجلس نجد أن عقيدتنا وأفكارنا وأقوالنا واحدة لا تختلف، ونتحدث في هذا المجلس وكأننا تعلمنا في مدرسة واحدة وتصاحبنا منذ سنين عديدة. وهذا مصداق كوننا –نحن وأنتم- ضمن الجماعة الواحدة. ولذلك قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: \”الجماعة أن تكون على الحق وإن كنت وحدك\”.
وبناء على ذلك نقول: يقصد بكلمة \”الجماعة\” جميع المسلمين الذين يعيشون في مشارق الأرض ومغاربها بالعمل بالشريعة الإسلامية الصافية. وهي موجودة منذ عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه إلى يومنا هذا وهي باقية ودائمة إلى قيام الساعة بإذن الله جل وعلا وحفظه ورعايته.
وأما الحديث الآتي فإنه يزيد من قوة القلب وطمأنينته ويدفع كل مؤمن للعيش بلزوم الجماعة، حيث قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: \”لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك\” (رواه البخاري). وهذه الغلبة والظهور يكون واضحا وجليا أمام العالم تارة بالحجة والبيان وتارة بالقوة والتمكين في الأرض.

الأحاديث الواردة في أمر الناس باتباع السنة بقبول الدين الإسلامي كما جاء به النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- ولزوم الجماعة والابتعاد عن الفرقة والاختلاف وأسبابها كثيرة متظافرة. والمسلمون الذين يمتثلون هذه الأوامر يسمون بـ \”أهل السنة والجماعة\”. فهم يتبعون سنن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويسلكون الطريق الذي سلكه الصحابة الكرام ويحافظون على جماعة المسلمين ووحدتهم.
ويجدر بنا أن نذكر بعضا من تعريفات العلماء المتعددة لمفهوم \”الجماعة\”. فبعضهم قالوا بأن المراد بـ\”الجماعة\” هم الصحابة (كما روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز)، وقال طائفة من العلماء بأن \”الجماعة هم: العلماء المجتهدون وأهل العلم والفضل في كل عصر\” (كما ذكره الحافظ ابن حجر عن الإمام البخاري). وقال آخرون بأن \”المراد بالجماعة هو الخليفة أو ولي أمر المسلمين الشرعي والمسلمون الذين بايعوه بالسمع والطاعة على الكتاب والسنة\” (كما عرفه بذلك الإمام الطبري).
وهذه التعريفات وإن كانت في ظاهرها يختلف بعضها عن بعض إلا أنها في الحقيقة يؤيد ويكمل بعضها بعضا. وهذا يتبين من خلال البحث والتدقيق فيها.

“أوزبكستان المسلمة”: السؤال الثاني:
ورد في الحديث (الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم): \”من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة فمات فميتة جاهلية\”. نرجو أن تشرحوا لنا الحديث شرحا موجزا، وما هي هذه الجماعة التي ذكرت في الحديث؟
الجواب:
الجماعة التي تحدثنا عنها آنفا يسمى أيضا بـ \”الجماعة الكبرى\”، و\”الجماعة العظمى\”. وهي التي تكون موجودا في كل وقت، ولا يخلو عنها زمن من الأزمان. وأما الجماعة المذكورة في الحديث الذي أوردته فهي قد توجد في وقت ولا توجد في وقت آخر، وقد توجد في مكان دون مكان. ويمكن أن نسمي هذه الجماعة بـ\”الجماعة السياسية\” – إن صح التعبير-. فلو وجدت جماعة إسلامية تطبق شرع الله وتحكم بما أنزل الله في حدود معينة من الأرض فإنها يجب طاعتها. والإعراض عن السمع والطاعة لأميرها يعتبر من أعمال الجاهلية.

ويفهم من لزوم الجماعة هذه أيضا: العيش في ظل الدولة الإسلامية ومبايعة ولي أمرها (الخليفة أو الأمير والوالي) والطاعة له. فعلى سبيل المثال: بايع الصحابة -رضوان الله عليهم- بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- الذي اختير خليفة لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقاموا بطاعته وامتثال أوامره. وما زال المسلمون منذ ذلك العهد بمبايعة ولي أمرهم وإعلان السمع والطاعة له. وذلك لأن هذه المسألة مما تظافرت النصوص الشرعية في الأمر به والنهي عن ضده. ومن المعلوم أن الخلافة الإسلامية العظيمة انتهت بسقوط الدولة العثمانية. ففي هذه الأزمنة والظروف التي لا يوجد فيها خليفة وإمام متفق عليه لدى المسلمين عموما ماذا يجب على المسلمين ولمن يسمعون ويطيعون؟ فهنا يجب أن نذكر: بأنه حتى لو لم يوجد خلافة عامة شاملة لجميع المسلمين قد توجد إمارات إسلامية محدودة. وحكومة \”طالبان\” التي حكمت في أفغانستان ولو لفترة يسيرة هي مثال واضح لهذه الحالة. فيجب على المسلمين الذين يعيشون في حدود هذه الدولة أن يسمعوا ويطيعوا ويبايعوا أمير هذه الدولة الإسلامية، لأنه طبقت الشريعة الإسلامية. والخروج على هذه الدولة يعتبر خروجا على الجماعة التي ذكرت في الحديث المذكور في السؤال.

فإذا، متى ما قامت دولة بهذه الصفات، يعني متى ما وجدت جماعة إسلامية سياسية تملك زمام الأمور وتدبيرها فإنه في هذه الحالة يجب على كل مسلم يعيش في حدود تلك الدولة الإسلامية أن ينضم إلى هذه الجماعة ويلزمها ويطيع أميرها. وأما المسلمون الذين يعيشون في خارج حدود هذه الدولة أو في أماكن بعيدة عنها فإنه يجوز لهم أن يبقوا في أماكنهم التي يقيمون فيها إذا كانوا قادرين على إقامة شعائر دينهم والقيام بدعوة الناس إلى دين الله عز وجل في تلك البلاد. وأما المسلم الذي لا يستطيع أن يعمل بشعائر دينه ولا أن يقوم بدعوة الناس إلى هذا الدين الحق في مكان إقامته يجب عليه أن يدخل تحت حماية الدولة الإسلامية وأن يهاجر إليها. فإن أي مسلم يعيش في بلاد الكفر ويموت فيها وهو لا يستطيع أن يؤدي واجباته الدينية فإن عاقبته وخيمة وأليمة.

فالحديث الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: \”من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية\”؛ يأمر بلزوم الجماعة السياسية أو الدولة الإسلامية في العسر واليسر وفي المنشط والمكره. فترك الدولة الإسلامية وخذلانها والاستقرار في دولة كفرية وعصيان الأمير الذي يحكم بالشريعة الإسلامية يعتبران مفارقة للجماعة، وفي كلتا الحالين يعتبر صاحب هذه الفعلة مرتكبا لكبيرة وجريمة عظيمة.

وحسب عقيدة أهل السنة والجماعة قد توجد خلافة إسلامية في زمن معين ولا يوجد في زمن آخر. ولكن لا يمكن أن يوجد زمن يخلو من جريان أحكام الشريعة الإسلامية فيه. ونستطيع أن نستفيد هذه الحقيقة من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- الذي أخرجه الأئمة (أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه وغيرهم).

فبعد أن سمع حذيفة -رضي الله عنه- من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وجوب لزوم جماعة المسلمين والسمع والطاعة لإمامهم سأله قائلا: \”فإن لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام؟\” فبين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما يجب على المسلم حتى في تلك الأزمنة الحرجة، وأنه يجب عليه أن يلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية بنفسه. فهذا يبين أن الشريعة مستمرة في كل وقت، فلم يعلق وجوب العمل بالشريعة الإسلامية بوجود الإمام أو الخليفة. وقد ضل حزب التحرير والشيعة وأخطئوا في هذا الباب لأنهم علقوا العمل بأحكام الشريعة في كل شؤون الحياة بوجود وتوفر الإمام الشرعي أو الخليفة، وبالتالي قاموا بإلغاء العمل بكثير من أحكامها بدعوى عدم وجود الخليفة. وكأنه ينبغي على المسلمين انتظار مجيء الإمام حتى يقيم شرع الله ويطبقه في حياة الناس، وإلى حين ذلك لا يجب على أحد أن يعمل بالأعمال الشرعية. وعلى سبيل المثال: ألغى الشيعة صلوات الجمعة والجماعة في المساجد، لأنهم يعتقدون أن القيام بهذه الأمور كإقامة صلوات الجمعة والجماعة من مسئوليات الإمام المهدي المنتظر خروجه في آخر الزمان.

وأما عقيدتنا – نحن أهل السنة والجماعة – أنه إذا وجد إمام للمسلمين فإنه يجب السمع والطاعة له، وإذا لم يكن موجودا، يجب على المسلمين – أهل الشورى منهم – أن يختاروا من بينهم إماما شرعيا لهم. وإذا لم يتيسر هذا أيضا فإن الواجب على كل مسلم أن يقيم شرع الله في نفسه ويعمل بكل ما أمره الله به ويجتنب عن كل ما نهى عنه.

“أوزبكستان المسلمة”: السؤال الثالث:
نرجو من سماحتكم أن تبينوا لنا \”الجماعة الصغرى\” بتوضيح أكثر، فما هي حقيقة هذه الجماعة؟
الجواب:
كل جماعة أو مؤسسة إسلامية اجتمع أعضاؤها لتحقيق هدف شرعي أو أكثر –سواء كانت هذه المؤسسة في داخل الدولة الإسلامية أو خارجها- فهي الجماعة الصغرى. ولا شك في جواز وشرعية تأسيس مثل هذه الجماعات أو المؤسسات الخيرية من وجهة النظر الإسلامية، بل هو واجب.
ويمكننا فهم ماهية \”الجماعة الصغرى\” بضرب بعض الأمثلة عليها. فأوضح وأسهل مثال على ذلك: الجماعة التي تجتمع لأداء الصلوات المفروضة. فهذه صورة من صور الجماعة الصغرى. وإليكم مثالا آخر وصورة أخرى لهذه الجماعة؛ وهي خروج مجموعة من المسلمين -ثلاثة أو أكثر- في سفر لغرض شرعي.

ويمكننا أيضا أن نعرفها بعبارة موجزة كالتالي: \”الجماعة الصغرى هي: كل جماعة تجتمع لتحقيق هدف شرعي لا يمكن أن يحققه الأفراد ولا بد فيه من التعاون الجماعي حتى يتحقق\”. فمثلا؛ الجمعيات التي تتأسس من أجل القيام بدعوة الناس إلى دين الإسلام وبناء المساجد والمدارس الإسلامية وكفالة الأيتام والمساكين ومد يد العون والمساعدة إليهم وإنقاذ الأسرى والمظلومين من المسلمين وغير ذلك من المقاصد الشرعية النبيلة، كلها إسلامية شرعية صحيحة. فالمؤسسات والمنظمات الخيرية الكثيرة التي تناصر القضايا الإسلامية والمسلمين وتحقق الأهداف الإسلامية كلها يصلح أن يكون مثالا على هذه الجماعة الصغرى. ونعتقد أنها جماعات إسلامية موافقة للسنة النبوية. ونرد كل الدعاوى التي لا أساس لها من الصحة والتي تشاع من أجل تشويه سمعة هذه الجمعيات الخيرية وجهودها المشكورة. فانتقاد هذه المؤسسات الإسلامية –الرسمية منها وغير الرسمية- وما تبذلها من جهود مشكورة في خدمة الإسلام والمسلمين – فانتقادها والتقليل من شأنها وإشاعة الشبهات حولها واتهامهم بالضلال والابتداع من قبل بعض المخذلين -الذين لا يسلم من لسانهم أحد من أهل الخير- أمر باطل غير منصف ولا نزيه. فهؤلاء المخذلون ليس لهم هم إلا اتهام الآخرين والبحث عن عيوبهم ومثالبهم، فهم لم يقدموا للإسلام شيئا غير التجريح والتبديع. وكان الأولى لهم أن يجتهدوا في الأعمال الصالحة وأن يبذلوا جهودهم وأوقاتهم في خدمة الإسلام والمسلمين بدلا من إضاعتها في توجيه الاتهامات واختلاق الأباطيل في حق من يعملون ويجتهدون. فنقول لهم: إذا كانت هذه المؤسسات والجماعات الخيرية على خطأ فأرونا أنتم ما هو الصحيح؟! فقوموا واعملوا وحققوا تلك الأهداف الصحيحة التي غفل عنها هؤلاء وانتبهتم لها أنتم؟! لماذا تهدرون أوقاتكم وأوقات الآخرين بإشغالهم بإشاعة مثل هذه الاتهامات الباطلة التي لا تستند إلى دليل قاطع ولا إلى بديل نافع؟!

صحيح أن كل جماعة بل كل أحد لا يسلم من خطأ ونقصان، فلا أحد معصوم إلا الأنبياء، ونسأل الله أن يغفر لنا زلاَّتنا. ولكن ما دام أن هذه الجماعات لا نرى فيها ما يخالف أصول أهل السنة والجماعة في الاعتقاد والأعمال فإننا نلتمس لهم العذر لما يصدر منهم من بعض الأخطاء اليسيرة ونرجو الله أن يغفر لنا ولهم. ونبذل لهم حق النصح والإرشاد وتصحيح هذه الأخطاء بالحكمة والموعظة الحسنة. ونتعاون معهم على البر والتقوى كما أمرنا الله -سبحانه وتعالى- بذلك في قوله:
{وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2].

“أوزبكستان المسلمة”: السؤال الرابع:
تكملة لهذا الموضوع أيضا نرجو أن تستطردوا قليلا في حكم مسألة تأسيس مثل هذه الجمعيات الخيرية والانضمام إليها؟
الجواب:
مسألة تأسيس مثل هذه الجماعات أو الانضمام إليها يحدد حكمها بحسب الضرورات والإمكانيات. لا شك أن الأمة الإسلامية تمر اليوم بأصعب الظروف وأسوأ الحالات، فلذا يجب على المسلمين جميعا القيام بنصرتها ومساعدتها والخروج بها من الظلم إلى العدل ومن الظلمات إلى النور. فلأجل أداء هذه المسؤوليات يجب على المقتدرين لديهم الاستطاعة والإمكانيات أن يساعدوا هذه الجماعات الخيرية وأن يتعاونوا معها، وإذا لم تكن موجودة يجب عليهم أن يؤسسوها. لأن الأفراد لا يمكن أن يحققوا شيئا كبيرا إلا بالجماعة والاجتماع. وهذه حقيقة جلية لا تحتاج إلى دليل. ولكن من أراد أن يبحث لها دليلا فـالأدلة عليها كثيرة جدا. فمثلا لما كان الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- في مكة قبل الهجرة بايع أهل المدينة مرتين مما يدل على ضرورة تشكيل الجماعة في كل وقت وفي كل ظرف. ففي بيعة العقبة الأولى كانت البيعة على الإيمان والدعوة؛ حيث بايع المسلمون الجدد من أهل المدينة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على الثبات على الإيمان وعدم الإشراك بالله والقيام بدعوة الناس إلى هذا الدين الحق. وفي بيعة العقبة الثانية؛ بايع الأنصار (المؤمنون من أهل المدينة) على إيواء المهاجرين من مكة وتقوية أواصر الأخوة فيما بينهم وحمايتهم مما يحمون منه أهاليهم، واعتبارهم كإخوة أشقاء لهم ومساعدتهم بكل ما يستطيعون. ولم تكن الدولة الإسلامية موجودة في ذلك الوقت، ولكن الجماعة الإسلامية كانت قد أسست والمسلمون كانوا يقومون بطاعة أميرهم والأوامر الشرعية التي أمر بها القرآن كانت تطبق في شؤون حياتهم على أكمل وجه. وهذه التوجيهات كلها كانت تتم عن طريق الوحي الذي كان ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- متتالية.

فمعظم الأوامر الشرعية التي أمر بها الإسلام – إن لم يكن جميعها- لا يمكن تحقيقها إلا بالجماعة. والقاعدة الفقهية تقول: \”ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب\”. وتبليغ دعوة الإسلام إلى الناس، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة صلوات الجمعة والجماعة والعيد والجنائز والأذان وعقود النكاح والطلاق وغير ذلك من الشعائر الإسلامية من أهم مسؤوليات المسلمين عموما وأهل العلم على وجه الخصوص. والقيام بهذه الشعائر الإسلامية وتنظيمها وترتيبها هي من واجب الدولة الإسلامية في الأصل، ولكن إذا لم يكن هناك دولة إسلامية تقوم بها فإن هذه الواجبات تبقى في ذمة المسلمين عموما والعلماء خصوصا. وعدم القيام بها أو التقصير فيها من أعظم الذنوب. وهي ليست مما يقدر عليه الآحاد من الناس، وكل من أراد أن يقوم بها لا بد أن يحتاج إلى مساعدة الآخرين وتأييدهم. وبالتالي نعود مرة أخرى وبالضرورة الطبيعية إلى أهمية تكوين الجماعة والانضمام إليها. وإنكار هذه الحقيقة ليس إلا من قبيل الجهل وعدم فهم الدين وطبيعة هذه الحياة. فإذا كان القيام بأمر الله واجبا فاتخاذ الوسائل المعينة على تحقيق هذه الفريضة أيضا واجب. وأهم وسيلة لذلك هو العمل مع الجماعة. فإذاً، نفهم من كلمة \”الجماعة\” أنهم المسلمون الذين اجتمعوا تحت قيادة أمير مسلم شرعي على تحقيق هدف شرعي أمر به الإسلام.

وهذه الخلاصة التي توصلنا إليها يمكن أن نستنتجها أيضا من حديث السفر الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: \”إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم\”. (رواه الإمام أبو داود).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في شرحه لهذا الحديث –بما معنى كلامه-: \”أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- النفر الثلاثة الذين هم أقل عدد يمكن أن يتكون منهم جماعة وخلال أقصر فترة يجتمعون فيها -وهي في سفرة قصيرة- لهدف من الأهداف بأن يعينوا أميرا لهم من بينهم. وفي هذا إشارة منه -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أن وجوب تعيين الأمير فيما هو فوق هذه الجماعة من حيث العدد والمدة من باب أولى وآكد.
ويقول -صلى الله عليه وآله وسلم- في حديث آخر: \”ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية\”. (رواه الإمام النسائي).

أوزبكستان المسلمة: السؤال الخامس:
في نظرنا أن تسمية ولي الأمر بالأمير أو الرئيس ليس له أهمية كبيرة، فإذا كان كذلك فما حكم طاعة هذا الأمير؟
الجواب:
لا شك أن طاعة الأمير واجب، لأنه لا يمكن أن يستقيم أي مجتمع على نظام وترتيب بدون طاعة لأمير معين، وسيسوده الفوضى، ولا يمكن تحقيق أي هدف خيري في مكان لا نظام فيه. وهذه أيضا حقيقة واقعية لا ينكرها العقلاء، حتى الكفار لا يعيشون ولا يشتغلون إلا باجتماعهم على رئيس يطيعونه. فمن لم يطع الأمير فلا شك أنه آثم، لأنه بفعلته هذه سيفتح الباب على مصراعيه للفوضوية وانعدام النظام والأمن، ويتسبب في تفرق الجماعة وتشتتها، فينتشر السلب والنهب والجرائم المختلفة بين الناس. هذه من جهة، ومن جهة أخرى؛ يعتبر هذا الشخص الذي شق عصا الطاعة للأمير ناقضا لعهده، لأن حقيقة العلاقة بين أمير الجماعة وأعضائها هي العهد والميثاق الذي أخذوه على أنفسهم بأن يطيعوا ويسمعوا لهذا الأمير الذي اختاروه ما لم يأمر بمعصية الله ورسوله، فيكون التعاون معه على البر والتقوى واجبا عينيا في ذممهم قد تعاهدوا واشترطوا على ذلك. والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: \”المؤمنون على شروطهم\” (رواه البخاري). وإخلاف الوعد من خصال المنافقين كما هو معلوم. ولكن إذا أمر ولي الأمر بمعصية الله ورسوله فحينئذ لا سمع ولا طاعة، لقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: \”لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق\” (رواه الإمام أحمد).

“أوزبكستان المسلمة”: السؤال السادس:
ما حكم من يعصي أميره أو يعرض عن طاعته حينما يأمره بعمل خيري مشروع؟ وكيف يتعامل معه؟
الجواب:
لا شك أنه آثم، وينبغي نصحه وإرشاده ونهيه عن مثل هذه التصرفات الخاطئة والخطيرة، ولكن لا يجوز إقامة حد معين أو تعزير عليه، لأن هذا الأمر من مسؤولية الدولة الإسلامية، فإذا لم توجد الدولة الإسلامية يسقط هذا الواجب عنا، وأما مرتكب هذا الذنب وغيره سيسأل أمام الله عز وجل وهو تحت مشيئته -سبحانه وتعالى-.

“أوزبكستان المسلمة”: السؤال السابع:
فضيلة الشيخ، ذكرتم أن حقيقة العلاقة بين أمير الجماعة وأعضائها هي التعاهد والتعاقد على البر والتقوى، فكيف تكون صورة هذا التعاهد؟ وهل أعضاء مثل هذه الجماعات يقومون بمبايعة أميرهم؟
الجواب:
لا، البيعة لا تشترط هنا، البيعة في الأصل يطلب ممن يريد الانضمام تحت لواء \”الجماعة العظمى\”، وأما التعاهد والتعاقد الذي يكون في \”الجماعة الصغرى\” يتم بالنظر إلى العرف في الغالب، فمثلا عامة المسلمين يلتفون حول عالم من علمائهم أو شيخ من مشايخهم معتبرينه إماما وقائدا لهم، وكذلك العلاقة بين الأستاذ وتلميذه مثال لما ذكرناه، فيكون الأستاذ بمنزلة الأمير على تلاميذه، فطلبة العلم يسمعون ويطيعون لشيخهم شرعا وعرفا، ويستشيرونه ويتقبلون توجيهاته في كل الأمور. فحتى لو لم تكن بينهم مبايعة فإنه يسود بينهم التقدير والاحترام والترتيب والانتظام. ولكن لو اقتضى الأمر أن يتبايعوا فيما بينهم فهذا أيضا جائز ومشروع. لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما كان في العهد المكي واجتمع بالأنصار في العقبة وبايعهم البيعة الأولى خفية، ولم تؤسس الدولة الإسلامية بعد، وحين بايع الأنصار (أهل المدينة) لم يبايعهم كأمير للدولة الإسلامية، بل بايعهم كنبي من عند الله فقط، أو نقول: كرجل عادي يقوم بالدعوة إلى الله لا غير.

“أوزبكستان المسلمة”: السؤال الثامن:
إذاً، نفهم من هذا أن تشكيل جماعة إسلامية من أجل تحقيق أهداف شرعية أمر مشروع، أليس كذلك؟
الجواب:
ليس جائزا فحسب، بل هو واجب، أعني تحقيق مثل هذه الأهداف الخيرية النبيلة بالعمل الجماعي. إيصال الدعوة الإسلامية الصافية إلى الناس ونشر العقيدة الصحيحة بين المجتمعات التي صار فيها المنكر معروفا والمعروف منكرا، وابتعد فيها المسلمون عن تعليمات دينهم وشعائرهم الإسلامية بأسباب وعوامل كثيرة متنوعة، من سياسية واجتماعية واقتصادية وغير ذلك، وإنقاذهم من هذه الظلمات الحالكة والسيول الجارفة وكذلك نصرة المظلومين ومساعدة الفقراء والمحتاجين، كل هذه المسؤوليات وغيرها لا يمكن أداؤها بجهود فردية أبدا، بل لا بد فيها من عمل جماعي شامل. ولا بد من تأسيس الجماعات الإسلامية التي تتحمل هذه الأعباء.
ولله الحمد والمنة، توجد في كل بلد جماعات إسلامية قد شد أعضاؤها مآزرهم واستعدوا للتضحية والفداء من أجل نصرة أمتهم، فهم يبذلون كل ما وسعهم وطاقاهم من غير كلل ولا ملل. فيجب على كل مسلم أن يتمنى العضوية في مثل هذه الجماعات وأن يبحث عنها بكل جهده وطاقته وأن يلزمها فور حصوله عليها. فإن لم يجدها فإن المسلم الذي يتوقد في قلبه جمرة الإيمان يبذل قصارى جهده في تأسيسها والقيام بمهماتها. والله تعالى أعلم

القسم الثاني:

الجهاد من أجل الحق واجب

“أزوبكستان المسلمة” السؤال التاسع:
فضيلة الشيخ! قبل أن ننتقل معكم إلى السؤال التالي نرى أنه لا بد لنا أن نشرح لكم الظروف والأوضاع التي أدت لورود هذا السؤال؛ من المعلوم لديكم أن أغلبية الشعب الأوزبكي يعيشون تحت خط الفقر المدقع، والحكومة لا تقدر على إعاشة الشعب، والمساعدات التي تقدمها المنظمات المالية الدولية بمئات الملايين من الدولارات لا يرى لها أي أثر إيجابي في حياة عامة الشعب الأوزبكي. بل على العكس من ذلك: ما زالت الحكومة تلزم الناس بدفع الرسوم الباهظة وتقوم باستحداث الضرائب تلو الضرائب والتي أثقلت كاهل الغني فضلا عن الفقير. والدولة منشغلة بتشييد القصور الرئاسية الهائلة، وتقوية قوات الأمن والشرطة والجيش. ومن الطبيعي جدا أن الناس لا بد وأن يبحثوا عن سبل أخرى وطرق شتى للكسب والرزق من أجل إعاشة أنفسهم وأهليهم وأولادهم، وفي حالات كثيرة تراهم لا يبالون أ من الحلال يكتسبون أم من الحرام؟ وبالتالي لا يراعون لا بأنظمة الدولة ولا بقواعد الشريعة الإسلامية. ففي ظل هذه الظروف وبطبيعة الحال لا بد وأن تفقد المصالح الحكومية والمفاهيم الأخرى المختلفة أهميتها، فلو أن أحدا بدأ يتحدث عن هذه المسائل يمكنكم سماع مثل هذه الأجوبة الآتية: \”هل الدولة تفكر في حقوقي أصلا؟! فلماذا يجب علي أن أفكر في حقوقها؟! ما دام أنها لا تؤدي حقوقي فأنا أيضا لا أعترف بحقوقها علي! الدولة تغتصب مستحقاتي نهارا جهارا! وأنا أيضا أختلس من جيبها أموالي التي أستحقها بالطرق التي أجيدها!\” فهذا الشعار أصبح قانونا يعمل به لدى الكثيرين وإن كان غير مكتوب على ورق! فقد تولد الآن لدى الكثيرين هذا التساؤل: إذا كانت الحكومة هي التي تنتهك القوانين المقررة في البلاد فلماذا نطالب الشعب المسكين المغلوب على أمره أن يقوم بها أتم قيام؟!

وأما نحن المسلمين نعلم -علم اليقين- أن حياتنا الإسلامية لا تنبني على مثل هذه التناقضات والمتضادات. ومهما كانت الظروف نحن نبقى مسلمين، ولدينا شريعة ربانية. إذا كانت الدولة تخرق قوانينها فنحن يجب علينا أن نعمل بشريعتنا كاملا وبدون أي تلاعب. فالدولة ليست قدوة لنا في مخالفة الأنظمة والقواعد الإسلامية. بل يتحتم علينا أن نراعي تعليمات الكتاب والسنة في كل خطوة نخطوها وفي كل عمل نعمل به. فأي أمر يوافق هذا القانون [السماوي] المقدس فهو الحق الصائب، وكل الأمور التي تخالفه هو الباطل بعينه. فنحن نعتمد اعتمادا كاملا في تقييم أي أمر أو أية حادثة و أية نازلة على هذا الأساس الثابت!

وبناء على هذه المقدمة التمهيدية، أحببنا أن نسأل رأيكم حول نازلة من النوازل تتعلق بمشاكل الناس الاقتصادية وهمومهم اليومية:
كل الثروات والموارد الطبيعية في أوزبكستان، كالمياه والكهرباء وطاقات التدفئة والغاز، وغيرها تعتبرها الدولة ملكا لها، فهي تحتكرها وتبيعها للشعب بأسعار غالية، ومع ذلك لا توفرها لهم في موعدها الضروري الذي تَعِدُ به، ولا سيما في أيام الشتاء تزداد المشاكل والصعوبات في توزيع الغاز والكهرباء، مما يتسبب في معاناة الشعب المسكين في القرى والأرياف واضطرارهم للعيش بلا إنارة ولا تدفئة لعدم وصول الكهرباء والغاز إليهم. ولا تسأل عن تألم الأطفال من شدة البرد القارس. وبسبب هذه المظالم الحكومية يشرع الناس في التهرب من دفع رسوم هذه الخدمات. وبعضهم يعلنون ما في قلوبهم بصراحة: \”ما عندي حتى قيمة الخبز الذي أريد أن آكله فمن أين أدفع رسوم الكهرباء و الغاز؟!\”. ففي حالات الفقر المدقع هذه تتراكم الديون على عواتق و ذمم كثير من الناس للدولة حتى تصل إلى مئات الآلاف من \”السوم الأوزبكي\”.
وبعض الناس يستفيدون من خدمات الماء والكهرباء والغاز بالقدر الذي يستطيعون دفع رسومه ثم يقومون بتغيير أرقام أجهزة العدَّاد إلى الخلف، وبالتالي يدفعون أقل مما يلزمهم في الأصل. ويمكن أن يقال باختصار وبعبارة شديدة الصراحة: يخدعون الحكومة ويحتالون عليها!

فالخلاصة أن بعض الناس ينظرون إلى هذه المسألة و إلى هذه التصرفات بأنها غير جائزة من الناحية الشرعية، والبعض الآخر يرون أنها جائزة ولا غبار عليها. والذين يرون أنها لا تجوز شرعا يقولون: \”إن المسلم يجب أن يكون وفيًّا بعهده ولا يخلف وعده ومؤديا للشروط التي التزم بها. وهذه المسألة هي تعاهد وتعاقد بين الدولة وبين كل فرد من أفراد هذا الشعب. فالدولة وعدت وأعطت عهدا للشعب ومواطني هذا البلد بأن توفر لهم هذه الخدمات المذكورة في أوقات معينة وبأسعار محددة. وكذلك الشعب قد وعدوا بأن يدفعوا مستحقات الدولة من هذه الخدمات في مواعيدها. فعدم تسديد هذه الرسوم المتعاقد عليها يعتبر محرما، وتغيير أرقام أجهزة العداد إلى الخلف حكمه كحكم السرقة.

وأما الذين يجيزون عدم دفع هذه الرسوم -أي رسوم خدمات الماء والكهرباء والغاز ونحو ذلك- للدولة يقولون: \”الدولة هي التي تغش وتخون وتظلم مواطنيها. وأحوال الشعب الاقتصادية والمعنوية تتدهور إلى الهاوية يوما بعد يوم. فقد وكلتهم الدولة إلى أنفسهم بلا رعاية ولا إيواء بعد أن اغتصبت حقوقهم ونهبت ثرواتهم، ولا تدفع رواتب الموظفين بالقدر الكافي. وأقل الرواتب حوالي خمسة آلاف سوم أوزبكي، يعني: أربعة دولارات، أو بالكثير خمسة دولارات. فحتى هذه المبالغ الزهيدة لا تسلم لهم في الوقت المحدد في معظم الأماكن، وكثير من الموظفين يعملون منذ سنوات وهم لا يستلمون رواتبهم، وتقوم الدولة بتهدئتهم والتسويف عليهم خلال كل هذه المدة بإعطائهم قليلا من القمح في بعض الولايات، أو قليلا من البطاطس في أماكن أخرى، أو عدة ليترات من الزيت في قرية أخرى، وهكذا. فإذاً حقوق الناس على الدولة والتي لم تؤد إليهم كثيرة متراكمة. ولذلك يجوز لهؤلاء المظلومين ألا يدفعوا رسوم هذه الخدمات من مياه وكهرباء وغاز وغير ذلك. لأن الدولة قد نقضت عهودها وأبطلت شروطها مع المواطنين منذ أمد بعيد، فالعمل بها ومراعاتها بعد كل هذا ليس له أي معنى، فبالتالي كل هذه التصرفات المذكورة جائزة\”.

ومثل هذه الحالات ليست خاصة في مسألة الماء والكهرباء والغاز فقط، بل إن الناس صاروا يحاولون القيام بمثل هذه الأمور في كل معاملاتهم ومع أية شركة أو مصنع، فترى بعضهم يختلس الزيت وما أشبهه من شركة إنتاج القطن فيبيعه في السوق، والبعض الآخر الطوب واللبِن من مصنع الطوب، وآخرون يهربون الأقمشة والملابس من مؤسسة الخياطة، وهكذا.
وهنا نرى أنه لا بد أن نذكر بأنه في بعض البلاد المجاورة لأوزبكستان توجد شركات خاصة منفصلة عن الدوائر الحكومية، إلا أنها تقوم بالتنسيق والاتفاق معها. ولكن حتى في تلك الأماكن نرى من يقوم بمثل هذه التصرفات المذكورة أعلاها.

فالسؤال: ما تقييمكم لهذه الأوضاع ولهذه التصرفات والأمور؟
الجواب:
الجواب على هذا السؤال لا بد أن يكون مفصلا. أولا، يجب أن نقسم تصرفات الناس بهذه الطرق والحيل إلى قسمين: القسم الأول: المعاملات التي تكون مع الحكومة، والثاني: المعاملات التي تكون مع الشركات الخاصة أو مع أشخاص معينين.
ففي الحالة الأولى: مظالم الدولة تجاه الشعب واضحة جلية. ما دامت الحكومة لا تؤدي رواتب الناس وحقوقهم كاملة، وقد أغرقت الشعبَ المسكين في ظروف صعبة للغاية فإنها هي السبب في كل الجرائم والمصائب التي تقع في البلاد. لأن كثيرا من الناس لا يتحملون الصبر على الشدائد فيقومون ببعض الجرائم معتبرين أنفسهم بأنهم مضطرون على ذلك. ولذلك أوقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قطع يد السارق في عام المجاعة، وذلك لعلمه بكثرة وقوع مثل هذه التصرفات من الناس بسبب شدة الجوع والفقر. فمن سياسة الدولة الإسلامية تخفيف العقوبات والحدود التي تقام على المجرم حتى تقوم بتسهيل الخدمات المعيشية الضرورية وتوفير المؤن والتأمينات الغذائية والكسوة ونحو ذلك ورفع مستوى المواطنين المعيشي. وأما الحكومة التي تسلطت على بلادكم فهي على العكس تماما، فبدلا من رفع المستوى المعيشي للفقراء والمساكين تقوم باعتقال المسلمين وتعذيبهم وقتلهم بغير حق، فلم يبق لها أي احترام لدى الشعب، ولا ينبغي احترام الحكومة التي لم تحترم المسلمين. واستعمال الماء والكهرباء والغاز وعدم دفع رسومها للحكومة من قبل المظلومين لا يعتبر سرقة في مثل هذه الأوضاع المتردية. إذا كانت الحكومة لا تريد أن تقع مثل هذه الاختلاسات من قبل الشعب فلتقم هي أولا بأداء حقوقهم كاملة ورفع مستواهم المعيشي ورواتب العاملين وليدفعها في موعدها المحدد. ماذا يعني \”خمس دولارات\”؟! هذا مضحك وسخرية من الدولة، ومؤلم ومحزن لحال الشعب. كيف يعيش الناس بمثل هذا الراتب؟ وكم يأخذ موظفو الأجهزة الحكومية الخاصة؟ هل يعيشون ويرعون عيالهم بـ\”خمسة\” دولارات؟! كلا، لا يتحملون مثل هذه الحال أبدا. فالحكومة هي المجرمة وغير القانونية في الأصل، وهي التي تضطر الناس للسرقة، وإشاعة الجرائم. ونحن ننتقد قيام الناس بهذه الحركات وكأننا لا نرى جرائم أجهزة الدولة البشعة! ما يفعله الشعب المسكين هي في أرخص الأشياء وما لا بد منها للعيش، وأما المتسلطون على الدولة فإنهم ينهبون ويغتصبون جميع ثروات الشعب المغلوب على أمره. فإذاً السبب الرئيس لكل الجرائم التي تقع داخل الشعب هو الحكومة نفسها. ولكن مع ذلك كله، لا يمكن أن نبرر الجريمة أبدا أيـًّا كان فاعله. ولكن إذا نظرنا إلى التصرفات والحيل التي ذكرت في السؤال مجردا عن عوامل خارجية ليس من الإنصاف اعتباره جريمة. فما يقوم به كثير من الناس من تلك الحيل لا يجوز اعتباره سرقة أو غشا محرما. ويجدر بنا أن نذكر بهذه المناسبة قصة هند بنت عتبة -رضي الله عنها- مع زوجها أبي سفيان، وشكواها إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.

عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: جاءت هند بنت عتبة –زوجة أبي سفيان- إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: \”خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك\”. رواه مسلم.
ونستفيد من هذا الحديث وجوب قيام رب الأسرة بتأمين زوجته وأولاده بالنفقة، وكذلك: جواز اختلاس المرأة من مال زوجها بغير إذنه بالمعروف مقدارَ ما يكفيها وأولادها.
وإذا أضفت على مظالم الحكومة في الناحية الاقتصادية محاربتها الإسلام والمسلمين بكل صراحة ووقاحة انعدمت قانونيتها تماما وتتيقن بلا أدنى شك أو ريب بأن هذه الحكومة ليس لها أي حق أو احترام. وينبغي أن نذكر هنا قصة أبي عبيدة -رضي الله عنه- مع أهل الشام حيث قام -رضي الله عنه- برد الجزية التي أخذها من أهل الشام مقابل حمايتهم من الأعداء، وذلك حين عرف أنه لا يستطيع حمايتهم من جيوش الروم. ففي تلك الحالة تقوم الدولة الإسلامية بتخيير أهل الذمة وإرجاع ما أخذ منهم من الأموال مقابل حمايتهم من المعتدين. وأما الحكومة الأوزبكية فهي تعتدي على مواطنيها فضلا عن حمايتهم من الأعداء.
وقال الإمام الماوردي: \”… حتى إذا لم تقدر الدولة الإسلامية على الوفاء بعهدها الذي وعد بها لشعبها فإن حقها يكون ساقطا عن ذمة الشعب. وأما إذا كانت الدولة تحمي حقوق المسلمين وتؤدي لهم ما اشترطوا عليه فإن المعاهدة التي بينها وبين الشعب يجب أن يحافظ عليها، حتى وإن كانت دولة كافرة\”. هذه هي الحالة الأولى من معاملات الناس.

وأما حكم الحالة الثانية يختلف عن الحالة الأولى، يعني: إذا كانت الخدمات المذكورة سابقا (من ماء وكهرباء وغاز وغيرها) ليست تابعة للدولة، وإنما هي بملكية شركات خاصة فإنه يجب أداء مستحقاتها كاملة موفاة. لأنها شركات خاصة ويملكها أناس معينون، وليس عليهم مظالم لدى الناس، ولم يقوموا بخيانتهم ومعاداتهم وبخس حقوقهم. والله -سبحانه وتعالى- يقول:
{وأوفوا بالعهد إن العهد كان عته مسئولا}. وقال سبحانه: {أوفوا بالعقود}. وفي الحديث الصحيح: \”المسلمون على شروطهم ما لم يعص الله\”. وأما الاستدلال بهذه النصوص لصالح الدولة الظالمة فغير صحيح، لأن الدولة قد نقضت عهودها قبل كل أحد ولم تعد تراعها أو تعمل بها. وأما الشركات الخاصة وأصحاب التجارات المستقلين إذا كانوا يؤدون ما عليهم كما يجب ويوفون بعهودهم وشروطهم فاحترامهم ومراعاة أداء حقوقهم والعمل بشروطهم واجبة علينا، حتى لو كان أصحابها من الكفار، لأنهم أشخاص يعملون من أجل إعاشة أنفسهم ومن يعولون، فلا يجوز اختلاس أموالهم أو بخس حقوقهم. وقد قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: \”أعطوا الأجير أجره قبل أن يجِفَّ عرقه\” (رواه ابن ماجه).

“أوزبكستان المسلمة”: السؤال العاشر:
فضيلة الشيخ، يرد هنا سؤال آخر: إذا كانت هذا الاختلاس و الأخذ بغير إذن المالك ليست من أملاك الدولة التي يظلم الشعب ولا من الشركات الخاصة أو من أشخاص معينين، وإنما من أموال وأملاك الجماعات الإسلامية، فما هو الموقف الواجب اتخاذه تجاه هذا التصرف؟
الجواب:
الأخذ من ملك الجماعة بغير إذن شرعي حرام. لما توفي أحد المسلمين في غزوة خيبر قال الصحابة -رضي الله عنهم- عنه: \”هنيئا له الجنة\”، فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: \”كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها قبل أن تقسم الغنائم لتشتعل عليه نارا\”. فقام أحد الحاضرين وجاء بشراك أو شراكين قد غلها أيضا ووضعها أمام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقال عليه الصلاة والسلام: \”شراك أو شراكان من نار\”. (رواه البخاري وأبو داود). فالاعتداء على أموال الجماعة من كبائر الذنوب.
يجب علينا أن ننظر بكامل التقدير والاحترام للجماعات الإسلامية والمؤسسات الخيرية التي تسعى بإخلاص ونية صادقة في خدمة الشعوب الإسلامية ومساعدة المحتاجين والفقراء ونصرة الدين الإسلامي. وينبغي على كل مسلم أن يعتقد بأن تعاونه معهم من مسئولياته المقدسة والعظيمة، لأن هذه الواجبات ليست من مسئولياتهم فقط، بل هي واجبة في ذمة كل مسلم، وكلنا مسئولون عنها أمام الله عز وجل.

“أوزبكستان المسلمة”: السؤال الحادي عشر:
إذا كانت أموالا تابعة لرياض الأطفال أو المدارس، وكلها تابعة لتصرف الدولة؟
الجواب:
الأخذ من رياض الأطفال ليس كالأخذ من الحكومة نفسها، بل هو سرقة لحقوق الأطفال بعينها. وهذا حرام قطعا، ولا سيما إذا كان بينهم أيتام فخطر الجريمة أشد، وكذلك الحال بالنسبة للمدارس. ولا أظن أن الأموال التي تختلس من هذه الأماكن تعاد من قبل الحكومة كما كانت. والذين يتعلمون ويدرسون في هذه المدارس ورياض الأطفال إنما هم أولاد الشعب وأولاد المسلمين، فالضرر الذي يُـلحق بهم كالضرر الذي يُلحق بالشعب نفسه.

“أوزبكستان المسلمة”:
جزاكم الله خيرا كثيرا طيبا مباركا فيه، شيخنا الكريم، نكرر لكم مرة أخرى الشكر الجزيل والثناء الفضيل لتكرمكم بالإجابة على هذه الأسئلة. وفي ختام لقائنا بكم نتقدم إليكم بهذا السؤال الأهم لدى أعضاء هذا الموقع وزواره والذي يكون بمثابة المسك الذي يختم به اللقاء الطيب المبارك: ما هي توجيهات سماحتكم إلى أهل أوزبكستان المسلمة من الرجال والشباب وطلبة العلم وما هي دعواتكم الطيبة لهم وآمالكم التي تتطلعون لها وتنتظرونها منهم؟
الجواب:
أولا؛ أريد أن أؤكد لكم بأن أوزبكستان هي وطني الحبيب أيضا. فهذا البلد هو البلد المبارك الذي ولد فيه ونشأ والداي الكريمان، وكل المسلمين هناك هم من أقربائي وأبناء وطني. وأستغل هذه المناسبة الطيبة معكم بتوجيه دعواتي الصالحة لهم، وأرجو منكم إبلاغ سلامي إليهم من أعماق قلبي. وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقهم لخيري الدنيا والآخرة، وأن يجمعنا بهم في جنات النعيم عند مليك مقتدر.

وأما توصياتي وتوجيهاتي إليهم فإني أرغب أن أستطرد فيها قليلا:
من الواضح الجلي للعالم أجمع -شرقه وغربه- أن المسلمين في أوزبكستان يعيشون تحت الظلم والقهر والتضييق. التعذيبات الوحشية التي تمارس للسجناء المسلمين –ولا سيما السجينات المسلمات- في المعتقلات وغرف التحقيق تقشعر من ذكرها الجلود وتفزع مشاعر الإنسان. الحكومة الأوزبكية بأجهزتها الخبيثة من مخابرات ووزارة داخلية ومحاكم صورية ارتكبت وما زالت ترتكب الجرائم تجاه الشعب الأعزل. فالحالة الدينية والسياسية والاقتصادية في وضع سيء للغاية. فلم يكتف الرئيس الأوزبكي باعتقال آلاف المسلمين الأبرياء وتعذيبهم في السجون، بل إنه أصبح يتلاعب بهم ويكذب عليهم بإعلان عفوه العام المزعوم عن السجناء –الذين ليس لهم أي ذنب أو تهمة في الأصل- ثم لا يطبقه بالتساوي لجميع المعفوين عنهم –حسب زعمه-. وإلا في حقيقة الأمر يجب إطلاق سراح جميع المسلمين بلا أي شرط أو رشوة، وعلى الرئيس أن يعتذر علنا من المسلمين خاصة ومن الشعب الأوزبكي عامة. ومن شدة ووحشية التعذيبات التي تمارسها الحكومة ضد السجناء أجريت بعض التحقيقات والمحاكمات حولها في دوائر الأمم المتحدة. ونحن على علم واطلاع من قيام الممثل الخاص للجنة الأمم المتحدة ضد التعذيبات \”تيو وان باوي\” بزيارة لبعض السجون الأوزبكية وإجرائه بعض المقابلات مع من تعرضوا لتلك التعذيبات، ومن ثم إصداره تقريرا يدين فيه تلك التعذيبات التي تمارس ضد المسلمين. والتقاعس عن النصرة والدفاع عن حقوق هؤلاء المظلومين وعدم ردع الظالم عن ظلمه أو السعي إلى إيجاد حل لهذه الأزمات وإيثار الصمت المميت تجاهها –بعد الاطلاع عليها ومعرفة حقيقة الأمر- ليس إلا مشاركة لوقوع هذه المظالم والجرائم. كيف نفسر سكوت العلماء والأئمة عن قضايا إخوانهم في الدين في أوزبكستان وما يتعرضون له من التقتيل والتنكيل في الوقت الذي يتكلم عنها ويدافع عن قضاياهم المنظمات غير الإسلامية والشخصيات غير المسلمة. بل كيف نقول عن تلك المبالغات العجيبة في الثناء على هذه الدولة الظالمة ومدحها والانتصار لها وصرف الدعوات الصالحة لرئيسها الدكتاتور المجرم والتي يطلقها أئمة المساجد من بيوت الله وفي نفس الوقت يسبون ويلعنون من يظهر فضائح هذه الدولة التي هتكت أعراض المسلمات بخلع جلابيبهم وطردهن من المدارس والوظائف بل قامت بهدم وإغلاق آلاف المساجد وحاربت دين الله عز وجل بكل الوسائل والأساليب، ماذا نقول عمن يدافع عن كل هذه الجرائم؟! وهل يتصور أن يصدر هذا من مسلم عامي فضلا عن من ينتسب إلى العلم والفضل؟! كلا وألف كلا!!

أنا أدعو –أولا وقبل كل أحد- مشايخ أوزبكستان وأئمة المساجد وطلبة العلم إلى أن يخافوا الله -جل وعلا- لا أن يخافوا من \”كريموف\”، يجب على أهل العلم والقدوة لدى الناس أن يقوموا بواجباتهم الدينية المقدسة بكل إخلاص وصدق وإيمان. عليهم أن ينتصروا للمظلومين لا لهذه الحكومة الظالمة. من أوجب الواجبات المتحتمات عليهم أن يبلغوا كلام الله -سبحانه وتعالى- وسنة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الناس كاملة بدون نقصان، وأن يقوموا بالإنكار على الظلمة وأن يسعوا لإصلاح أوضاع المسلمين، وأن يكونوا قدوة صالحة للعامة بوقوف العلماء في الصف الأول دائما وفي كل الأزمات.
قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: \”من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان\”.
فهل يعتقد مشايخ أوزبكستان بأنهم أضعف الناس إيمانا؟! لم لا نسمع منهم -ولو كلمة واحدة- ينكرون بها على الظلم والإجرام؟! نعم لم ولن يترك الصادع بكلمة الحق آمنا مطمئنا! ولكن انظر وراجع التاريخ الإسلامي ترى من الذي صدع بالحق قولا وفعلا وثبت عليه في كل المصائب والأزمات التي مر بها المسلمون! ومن الذي يطلب منه مثل هذه الشجاعة؟ ألا يعلم أولئك أن الفوز بالجنة ليس بالأمر الهين. ألم يقل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بأن \”الجنة حفت بالمكاره\”؟! ولذا لن تنتصر على الأعداء بسهولة ويسر.

إضافة إلى هذه المقترحات ينبغي أن نجلي حقيقة أخرى لا بد أن تكون تابعة لسابقتها: إذا قام الدعاة الربانيون بواجبهم بدعوة الناس إلى الطريق الحق والإنكار على ممارسات الظلم والعدوان يجب على عامة المسلمين أيضا تأييدهم والانتصار لدعوتهم. لأن العلماء الحقانيين لا يعيشون لمصالح أنفسهم، وإنما يحيون بهموم وغموم مصلحة الأمة وهدايتها بامتثال كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فما دام الأمر كذلك فإنه يجب على الأمة أيضا الالتفاف حول علمائها المخلصين والقيام بنصرتهم وحمايتهم من المعتدين عليهم، وكذلك يجب على الأمة أن يسمعوا ويطيعوا لهم. لماذا نؤكد على هذه الحقيقة؟ لأننا نرى بعض الناس ينتقدون ويلومون أهل العلم والأئمة الذين صدعوا بالحق وأعلنوا مخالفتهم لهذه الحكومة الطاغية. فانتقاد أولئك العلماء أمر محرم وشنيع. كيف وهم القلة القليلة الذين ثبتوا على الحق والجادة، ومع ذلك نرى من يلمزهم ويخذلهم بدلا من الانتصار لهم؟!. فاليوم يجب على أهل أوزبكستان أن يقفوا جنبا إلى جنب كالجسد الواحد مع العلماء والدعاة والأئمة الذين يصدعون بكلمة الحق ولا يخافون في الله لومة لائم، ومن أهم الواجبات كذلك؛ الصبر الجميل على الأذى والضرر الذي يحصل بسبب الدعوة. قال الله تعالى على لسان لقمان وهو يعظ ابنه: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك}. ويدل هذه الآية دلالة واضحة على أن ثمة بعد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصائب وابتلاءات وفتن وأذى كثيرة من قبل الأعداء تنتظر الداعية. ففي مثل هذه المرحلة نحن مأمورون جميعا بالصبر والمثابرة. وأول ما يجب في الصبر هو حفظ اللسان من كل ما لا يجوز أن يتلفظ به، وخاصة من الوقيعة في أعراض أولى الأمر والقيادات الإسلامية من العلماء [المخلصين] وطلبة العلم وإخوانه المسلمين بتوجيه اللوم والاتهامات الباطلة تجاههم. ولا بد من تحذير المسلمين عن خطأ خطير يقع غالبا عندما تمر الأمة بأيام المحن والابتلاءات فيكثر فيها غيبة بعضها البعض وكل واحد يلقي اللوم على الآخرين ويرى أنهم هم السبب في المصائب وجر الويلات على الأمة وهكذا… وهذا بالذات هو ما يريده الأعداء منا. ونحن نؤمل عليكم ونرجو منكم –يا أهل وطني- أن تكونوا يدا واحدة على من سواكم من الكفار والمنافقين ورحماء بينكم متعاونين على كل خير وأن يواسي بعضكم بعضا عند المصائب. وأما من ينشغل بإثارة مثل هذه الفتن لا شك أنه قد أدخل السرور في قلوب الكفار والمنافقين. وأنتم إذا سترتم عيوب بعضكم البعض وكنتم إخوة متحابين متآزرين وسرتم على هذا المنهج الحق بالصبر والثبات لينصرن الله بكم الدين وتستحقون النصر والتمكين والغلبة على أعداء الدين.

لا ينبغي البحث عن الأسباب الجذرية التي أدت إلى هذه الأوضاع المزرية في أوزبكستان من كل النواحي الدينية والسياسية والاقتصادية وغيرها –لا ينبغي البحث عن أسباب هذه المأسي- من داخل المسلمين. بل يجب أن تعرفوا أن السبب الرئيس في كل هذه التدهورات والانحطاطات هو السياسة العوجاء التي جاءت بها هذه الحكومة الطاغية التي تسلطت على الشعب الأوزبكي، وأما الدخول في المتاهات حول هذه القضايا فهي حماقة وغباء، لأن الحقيقة الواضحة كالشمس لا يبحث عنها. وإذا لم تكن الحكومة الأوزبكية هي السبب الأساس لكل هذه البلايا والشرور فلماذا يشن \”كريموف\” حملاته الوحشية على الشعب الأوزبكي أجمع؟! هل بقي أحد لم يصبه طغيان كريموف؟! هل سلم مجال من مجالات الحياة لم تصبها سهام كريموف؟! لو كان \”الوهابيون\” السبب لمظالمه فلماذا إذاً ألقي الأئمة \”غير الوهابيين\” في المعتقلات؟! وهل المسلمون هم السبب في إغلاق الأسواق التجارية بل هدم كثير منها بالكامل والهجوم على عامة التجار؟! ولماذا أدرج مئات الآلاف من المسلمين في اللائحة السوداء لدى الحكومة؟! ما هو ذنب كل هؤلاء المسلمين؟ الجواب: كل هذا ليس إلا نتيجة لسياسة الدكتاتور الأوزبكي!!

وإذا لزم أن نتحدث عن أخطاء المسلمين فإننا نقول بأن أهم الأخطاء عندهم عدم قوة الترابط والائتلاف فيما بينهم لإعلاء كلمة الله، وانتشار الفرقة والخلاف لعدم وضوح المنهج الصحيح لديهم لمعاناتهم من الجهل والنقصان في العلوم الدينية والسياسية وفقه المرحلة وعدم معرفتهم الكاملة بالمفاهيم الصحيحة حول كيفية تطبيق الدين على الواقع. فهذه الأخطاء يجب أن تعالج بالحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب الأمثل.
وأما نصائحي وتوجيهاتي لطلبة العلم في أوزبكستان؛ يجب عليهم أن يصرفوا أكبر اهتماماتهم لتعلم العلوم الإسلامية وكيفية تطبيق الأوامر الشرعية في الحياة. لا يجوز لهم أن يتقاعسوا عن هذه الواجبات ويتركوا الجدية والأعمال الخيرية الكثيرة بدعوى أن وقتها لم يأت بعد. ويجب أن يدركوا هذه الحقيقة جيدا؛ وهي أن نشر وتبليغ الدعوة الإسلامية والدين الإسلامي إنما يكون بتنفيذ ما يغضب أعداء الإسلام ولا يترك لهم قرارا، وأحيانا يضطر طالب العلم لمواجهتهم بالشجاعة والثبات. وإلا لن يترك لكم الأعداء شيئا، لأنهم لا يريدون انتشار الإسلام واتساع رقعته. هل تتصورون أن أعداء الإسلام ترضيهم استقامة الشباب على الإسلام وأداؤهم للصلوت مع جماعة المسلمين وتحجب الفتيات المسلمات؟! إذا تردد الطالب الجامعي إلى المساجد وأعفى لحيته هل يفرحون بذلك؟ لا شك أن هذه الأمور يثير غضبهم وجنونهم! وأما أنتم –شباب الإسلام- على ذمتكم مسئولية تطبيق هذه الأوامر الربانية. وما دام الأمر هكذا فمهما حاولتم أن تؤدوا الشرائع والأوامر الإسلامية بطرق سلمية لا بد وأن تلاقوا الفتن والمحن والصدود عن هذا الطريق الحق –شئتم أم أبيتم-. فالأعداء يحاولون بكل مكرهم وأساليبهم الخبيثة على صرفكم وقطع الطريق عليكم وخنق طريق الإسلام، فلذا لا بد أن يتغذى طلبة العلم بروح الدفاع عن الدين الحق والصراع الجاد من أجله، ونقول بعبارة واضحة جلية: لا بد أن يوجد لديهم الروح الجهادية. وأما الجبن والخور والخمول واليأس من نصر الله والبحث عن الرفاهية والعيش الهنيء لا يأتي إلا بالشر والضرر. وليكن طالب العلم ربانيا حقانيا صادقا ثابتا قوي الجأش يتطلع للمجد والعظمة الحقيقية يتحمل جميع المشاق والمحن في سبيل تحقيق أهدافه السامية ولا يخاف في الله لومة لائم! لأن هذه الصفات هي صفات المؤمن الصادق –أولا-، وثانيا: لأن طالب العلم هو عالم المستقبل وتعقد الأمة عليه الأمل بإذن الله، والعلماء الربانيون كانوا يرفعون همم الناس ومعنوياتهم وروحانياتهم إلى العلياء دائما، حتى إنهم كانوا يحرضونهم على الجهاد في سبيل الله قولا وعملا. وإذا كان طلاب العلم منذ بداية طلبهم يتعودون على الجبن والخوف والتأخر عن الصفوف الأولى وكتمان الحق والسكوت عن الظلم والعدوان والجرائم بدعوى الصبر، سيصيرون في اليوم الذي يعتقد فيه العوام أنهم صاروا علماء أيضا جبناء وضعفاء مضطرون للتبعية لا يستطيعون السير بأنفسهم، أينما يوجَّهون لا يأتون بخير. بل لا يبقى لهم سوى أن يكونوا لعبة وسلاحا بأيدي الظلمة الجبارين يخدمونهم في ضرب الإسلام والمسلمين. أو على أحسن الأحوال يفضلون العزلة والهروب من تحمل المسئوليات. وبالتالي يحاولون تبرير مواقفهم البائسة وعيوبهم الظاهرة حينما يرون طائفة ممن يصدعون بالحق ويعملون بالجدية والحزم، لمعرفتهم بضعفهم وعدم استطاعتهم على الانضمام إليهم، فلا يجدون وسيلة تحقق لهم هذا التهرب إلا الطعن في جهود تلك الطائفة أو بعض الشخصيات البارزة (في مجال الدعوة والجهاد. لأنهم لا يقدرون لا على الانضمام إلى هؤلاء ولا على تصحيح أخطائهم. والواجب المتعين في الحقيقة أن الإنسان إذا رأى أن قوما من الصالحين يحققون ما لم يستطع هو على تحقيقه أن ينضم إليهم ويتعاون معهم وأن يصحح لهم أخطاءهم بالحكمة، أو على الأقل أن يدعو لهم بالتوفيق والسداد وأن يحفظ قلبه ولسانه من الطعن فيهم. فالمقصود: أن عدم استطاعة الشخص على اتخاذ مثل هذه المواقف الصحيحة الثابتة إنما تكون نتيجة سيئة للتربية الخاطئة منذ أن يكون طالبا صغيرا وكذلك بسبب قلة نصيبه من نعمة إخلاص النية لوجه الله -سبحانه وتعالى-.

ولكن يجب ألا يفهم من توجهاتي هذه أنني أقصد الجهاد المسلح والقتال بالذات، لا، نحن نعارض وننكر سفك الدماء بغير حق وانعدام أمن واستقرار المسلمين، فالقيام بالتفجيرات هنا وهناك والتسبب في جعل عامة الشعب الآمن ضحايا العنف والفوضوية لا يجوز. فالجهاد له ضوابطه وقواعده، وله ميقاته وميعاده الذي سيأتي، ويجب أن يكون بقيادة العلماء وتوجيههم. وإنما مقصودنا من التوجيهات السابقة؛ أولا: أن الإنسان لا بد أن يتربى بالروح الجهادية حتى يستطيع أن يصدع بكلمة الحق. لأنها أيضا جهاد. ثانيا: والجهاد كما قلنا له شروطه وضوابطه، فلا بد من دراسته وتعلمه أولا، وهو من العلوم الدينية الواجبة. فإذا أهمل هذا المجال وتهرب العلماء من الحديث عن الجهاد في سبيل الله فهذا هو من أكبر أسباب الفوضوية وانعدام الطاعة للعلماء. لأنك مهما حاولت على الإخفاء والكتمان فلن تحجب القمر بطرف الثوب! ولن يندرس علم ومفهوم الجهاد والقتال في سبيل الله. فما دام الأمر هكذا إذاً ما هي القضية التي يجب أن نحسب حسابها ونتقي الأخطاء المتوقعة فيها؟ لا بد أن نعلم جيدا أن العلماء إذا تهربوا وبحثوا عن الطرق السهلة المريحة سيخرج من الشباب الصغار من يريد أن يجاهد كما يحلو له. والنتيجة المؤلمة في هذه الحالة أننا نتفرق إلى طرفي نقيض: طرف ممن ينسبون إلى العلم والفقه تعوَّد على الرفاهية والجبن وعدم تحمل المشاق ومن لا يهتم بقضايا دينه العصيبة حتى لو غرق العالم بالطوفان لا يبالي بشيء وكأن الماء لم يصل إلى كعبيه -كما يقال في المثل الأوزبكي-، وفي الطرف الآخر: شباب متهور لا يخاف من أي شيء ولا يفكر في عواقب تصرفاته الارتجالية ولا يسمع لأي أحد. إذا من يبقى على المنهج الصحيح؟!

والحقيقة أن مفهوم الدفاع عن الوطن متأصل ومتقرر لدى الجميع حتى الكفار من الديموقراطيين وغيرهم يصرحون بذلك علنا. وهل تظن أنه يمكن توجيه الشعوب الإسلامية إلى الدفاع عن الوطن بدون جهاد؟! أو تظن أن البلاد الإسلامية أصبحت مستغنية عن الدفاع والحماية؟! أو أننا لا نتكلم عن هذه المسألة إلا عندما يدعو الكفرة والمنافقون من الديموقراطيين وأمثالهم المسلمين إلى الجهاد لاستغلالهم من أجل مصالحهم الشخصية؟!
وأنتم –يا أعضاء هذا الموقع المبارك- افضحوا هؤلاء المجرمين الذين يعتقلون المسلمين ويعذبونهم ويقتلونهم بالطرق الوحشية البشعة، افضحوا هؤلاء الخونة عبر موقعكم هذا في الإنترنت، أعلنوا عن أسمائهم وأسماء عوائلهم وصورهم وعناوينهم، وانشروا فضائحهم الإجرامية في العالم بحسب إمكانياتكم. وإلا لن يتوقفوا عن مظالمهم أبدا. والإعلام قوة كبيرة، وأعداء الإسلام يستخدمون وسائل الإعلام هذه لمحاربة المسلمين وضرب معاقل الإسلام بكل حرية. وأما المسلمون فغالبيتهم لا يهتمون به، وليس لديهم مؤهلون وأصحاب خبرة في هذا المجال بالقدر الكافي. فلذا يجب علينا حتميا أن نقوي أنفسنا في هذا الجانب، لأن أعداء الإسلام يخافون من انكشاف سوءاتهم وفضائحهم أمام العالم. وكذلك ينبغي أن تهتموا بحث وترغيب أعضاء منظمات حقوق الإنسان بإرسال التقارير تلو التقارير إليهم حول هذه القضايا الهامة. لأن تلك المنظمات الحقوقية تقوم بإنجازات كثيرة مما لا يستطيع المسلمون أن يقوموا به لمنعهم وحظرهم [من قبل الدول الكافرة الظالمة. فمنظمات حقوق الإنسان العالمية والمحلية لديها إمكانيات للضغط على الحكومات لتخفيف الأوضاع على المسلمين.

وهنا يجدر بنا أن نذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية التالي:
\”يتعبد لله في كل زمان بما يؤمر به مما يناسب ذلك الزمان\”. والحرب الإعلامية واستغلال وسائل الإعلام من مقتضيات الصراع الذي لا بد منه في العصر الحاضر، فلذا نصرة الدين الإسلامي باستخدام هذه الوسيلة من المطالب المهمة في هذه الأيام. وهذه أيضا نوع من أنواع العبادة إذا صلحت النية. والمسألة ليست منحصرة في الإعلام فقط، بل إذا اقتضت الضرورة ينبغي نقوية وتطوير التحركات السياسية لأهل السنة والجماعة، وهذا أيضا جائز ومطلوب.
يجب أن يكون المسلمون هم أقوى شعوب العالم في جميع المجالات، فيكونوا أعلم الناس وأشجعهم وأعلاهم همة وطموحا وإقداما. وكما أنهم يهتمون بالفنون والعلوم الإسلامية يجب عليهم أن يهتموا بجمع العلوم الدنيوية النافعة والتطورات الـتـقنية (التكنولوجيا)، وجميع أنواع وإمكانيات القوة الإنسانية، ومن ثم استغلالها لمنافع الإسلام والشعوب الإسلامية حتى ينالوا مرضات الله -سبحانه وتعالى-. فحينئذ ينتصر المسلمون ويوفقون لإعزاز دين الإسلام وإعلاء كلمة الله على وجه الأرض إن شاء الله. ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقكم لمثل هذه الخيرات والإنجازات العظيمة. وليس ذلك على الله بعزيز.

“أزوبكستان المسلمة”:
نسأل الله أن يستجيب دعواتكم ويحقق آمالكم العظيمة هذه، وألا يحرمكم من أجرها وثوابها. والعلماء الربانيون الذين لا يخافون في الله لومة لائم من أمثال سماحتكم هم فخرنا واعتزازنا. والله عز وجل يبرهن ويبين للناس ولطلبة العلم في كل عصر القدوة المثالية الصادقة في تحمل هموم وغموم الدين والأمة والتضحية في سبيل الله وإيثار مرضات الله على كل شيء بإظهار عدد من العلماء الصادقين الذين يوجهون الأمة إلى الطريق الصحيح وإلى بر الأمان، فنحن نرجو الله العلي القدير أن يجعلكم منهم وأن يجازيكم -عن الأمة الإسلامية عامة والشعب الأوزبكي المسلم خاصة وعنا بالأخص- خير الجزاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[نهاية القسم الثاني]

كُتب في المناهج | التعليقات على لقاء أوزبكستان المسلمة مع العلامة القاري مغلقة

الإمام المظلوم (ناصر السنة) : العلامة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط

كانت الشوارع مقفرة قبل فجر يوم الجمعة (13 شوال 1425 هـ/ 26 تشرين الثاني 2004م) في دمشق الشام ، وكان أغلب الناس غارقين في نوم عميق ، وأصوات حبات المطر الغزيرة تعزف أنشودة الخير النازل من السماء ، ورياح الشتاء الباردة ترقص متهادية بين الشوارع والدور حاملة البشرى بالمطر والبركة إلى مدينة العلم والهدى (دمشق) ، ثم تشتد كأنها باسم الكائنات تشكو إلى رب الكون العسف والظلم لأهل الإيمان في بقاع الأرض ، أو تعود مزمجرة وكأنها تتوعد أهل الباطل بمصرع وخيم قريب.

في تلك الليلة الباردة كان الرجل الذي ملئت حياته عناء وصبراً وحَملَ أمانة وعلماً ، على موعد يرجع فيه إلى الله ، ولم يطل انتظاره فأقبلت إليه ملائكة الموت تضمه (فيما نحسب ولا نزكي على الله أحداً) إلى ثلة الرجال الكبار أنصار سنة النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهناك .. هناك نحسبه استراح بعد أن ملأ الظالمون حياته (منذ نعومة أظفاره) هجرة وتشريداً وطرداً ومنعاً وأذى وافتراءً ؛ فما بالى ولا خشع لنازلة وهو يرفع راية النبي العظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومضى دون أن يتضعضع لظالم أو تنطق شفتاه بنفاق لكبير أو صغير ، فقد كانتا مشغولتين أبداً بذكر الله وسنة رسول الله ، وعاشقتين لاترتويان من ذكر اسم النبي الطاهر الكريم وهما تعلمان العباد سنته وهديه.

في لحظات صعدت روح الإمام المظلوم عبد القادر الأرناؤوط إلى بارئها ، ترفرف وتزفُن فرحة بلقاء الله ولقاء الأحبة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وصحبه وأهل السنة المطهرة والإيمان أجمعين .

ولد العلامة الشيخ عبد القادر (قدري) الأرناؤوط في قرية (فريلا) في (إقليم كوسوفا) من بلاد الأرناؤوط في ما كان يسمى يوغوسلافيا، سنة (1347هـ – 1928م) ، وبعد أجواء اضطهاد وقلق بسبب السيطرة الصربية الواسعة على البلاد ؛ ثم صدور المرسوم الملكي عام 1930م ، والذي أعطى الملك صلاحية واسعة للتحكم بالمسلمين ؛ وقد هاجر والد الشيخ (رحمهما الله) مع أسرته إلى الشام ، وكان الشيخ في الثالثة من عمره ، واستقبلتهم وغيرهم دمشقُ التي ماعُرف عنها إلا أنها الأم الحنون لكل ضيف ومهاجر وعالم ومجاهد.

عاش الشيخ في أسرته حياة متواضعة بسيطة عجمت عوده وجعلت منه شاباً عصامياً ثم طلب العلم عند كبار العلماء واضطهد منذ بداية حياته العلمية من بعضهم لاقنتائه كتاب الوابل الصيب! ولم يثن ذلك من عزمه فتابع الطريق بعصامية نادرة وتخصص في علم الحديث حتى أصبح من كبار أهله ، وكان للشيخ من الأخلاق النبوية الشيء العظيم من تحمل الأذى والصبر على أهل الجفا مع بشاشة الوجه لطلاب العلم وإكرامهم وتحمل إلحاحهم وطلباتهم المرهقة ، وكان الشيخ خطيباً مفوهاً ولكنه منع من الخطابة والتدريس لسنوات طويلة فاقتصر على تدريس طلبة العلم في بيته وتفقيه الناس في الاجتماعات الخاصة من أفراح وأتراح ، وكان جريئاَ في الحق ، يلطف في الأسلوب ، ولكنه لايواري ، وطالما تحدث عن زكاة الحديث فيؤدي خمساً عن مائتي حديث.

ابتعد الشيخ طيلة حياته عن التكفير والتفسيق والتبديع ولم أسمعه قط يتكلم بذلك … بل يذكر أن كذا لايجوز وهذا لا ينبغي وهذا مخالف للسنة ، وما عدا أعداء الله الذين لم يكن الشيخ يخفي بغضه لهم ويدعو عليهم ، ماعدا أولئك فقد كان الشيخ شديد التواضع مع الناس كلهم بل مع أبنائه ينادي أحدهم بلفظ (يا أستاذي) ، وطالما كان في معهد العلوم الشرعية يجلس بجوار المربي الشيخ عبد الرحمن الشاغوري شيخ الطريقة الشاذلية رحمه الله فيتبادلان الحديث والنصح والمودة رغم اختلاف المشارب والمذاهب والأفكار!

علمنا الشيخ أن صاحب العلم يستفيد من غيره وطالما اعتمد على كتب العلماء أمام تلامذته ليوضح مسألة أويقررها سواء كانوا من السلف أوالخلف وقلما رأيت عالماً يستعين بكتاب لأحد أنداده ونظرائه.

ضُيِّق على الشيخ في آخر حياته تضييقاً شديداً ويبدو أن بعض الغيورين علم بذلك فتوسط لتخفيف التضييق عنه ، فاستدعاه أحدهم وقال له : أنتم تقولون أنه لايوجد واسطة بين العبد وبين الله فلماذا توسط بعض الناس من أجلك؟ فقال الشيخ الذي لم يقبل تلك المباسطة الثقيلة!: إن الله عادل فلايحتاج إلى واسطة بينما أنت ظالم فاحتاج الأمر معك إلى واسطة.

منذ أواخر شهر رجب وأول شهر شعبان الذي سبق وفاة الشيخ رحمه الله صار بعض الأعوان يأتون للمراقبة في مدخل البناء ومنع الشيخ حتى من لقاء الناس والإجابة على أسئلتهم ثم نقل مكتبته كلها إلى الجهة الأخرى من البناء لشدة ما اعتراه من ضيق!

آخر درس ألقاه الشيخ كان يوم الأربعاء الذي سبق وفاته ومثل الإمام أحمد .. أوقف دروسه كلها [ربما خشية أن يؤذى الناس بسببه] واعتذر بأنه يريد أن ينجز بعض الأمور ، ولما سأله أحد تلامذته متى وأين أراك فقال الشيخ : وقت صلاة الجمعة في جامع زين العابدين .. فأتى التلميذ يوم الجمعة .. فإذا بجنازة الشيخ في المسجد فكاد يسقط على الأرض من هول المصاب.

في فترة الشباب كان الشيخ رياضيا لايشق له غبار ، وعمل مدرساً وواعظاً في مدرسة الإسعاف الخيري في رعاية الأيتام . وفي سنة 1377هـ الموافق سنة 1957م انتقل إلى المكتب الإسلامي الذي أسسته في دمشق ، وهناك ظهر نبوغه بقيامه بنشر آثار السلف الصالح مع مجموعة من أهل العلم والفضل ومنهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، والدكتور محمد لطفي الصباغ ، والشيخ شعيب الأرناؤوط ، والشيخ عبد القادر الحتاوي ، والشيخ إسماعيل الكيلاني ، وآخرون . وعمل فترة مديراً للمكتب الإسلامي بعد سفر الأستاذ زهير الشاويش خارج سورية لظروف قاهرة سنة 1963م ، وكان عمله في المكتب الإسلامي أكثر من عشر سنوات منقطعاً له ، ثم متعاوناً مع المكتب ، حتى وفاته رحمه الله . وكان محباً رحمه الله لمنهج أهل السنة ، وظهر ذلك في دعوته العامة في دروسه ومساجده وتلامذته ، وفي تحقيقاته للكتب. كما شارك في تحقيق عدد من إصدارات المكتب مع الأستاذ زهير الشاويش ، والشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله ، والشيخ شعيب الأرناؤوط والدكتور محمد بن لطفي الصباغ والشيخ الحتاوي ، والشيخ أحمد القطيفاني ، وغيرهم . وشارك بتحقيق عدد من الكتب المخطوطة ، والتي طبع أكثرها المكتب الإسلامي ، مثل : ” الكلم الطيب “ ، و ” مشكاة المصابيح “ ، و ” روضة الطالبين “ ، و ” زاد المسير “ وساعد في إعداد مؤلفات الشيخ ناصر الدين الألباني ، مثل ” صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته الفتح الكبير “ ، و ” شرح العقيدة الطحاوية “ ، و ” سلسلة الأحاديث الصحيحة والضعيفة “ ، و ” شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد “ ، و ” الروضة “ ، و ” زاد المسير “ ، وكتب الفقه الحنبلي ، وغير ذلك . ثم انفرد بعد ذلك بأعمال قيِّمة أتقن العمل بها ، أحسن الله إليه ، مثل كتاب ” جامع الأصول “ .

وكان من أواخر أعماله إعادة تحقيق كتاب ” شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد “ للمكتب الإسلامي ، وهو تحت الطبع الآن.

كانت الصلات عامرة بينه وبين الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – ، حيث كان الشيخ عبد العزيز يقدِّر الشيخ عبد القادر وله معه علاقة خاصة ، دلَّت على تقديره البالغ له ، ومنها تعيينه واعظاً في كوسوفا ، فذهب إلى بلاده الأصلية ( يوغسلافية ) أكثر من مرة يعظ الناس ، ويدلهم على الخير ( وكان يتقن لغتهم ) .

كما كان الشيخ عبد القادر متأثراً بالعمل العام الذي يقوم به الأستاذ عصام العطار وبالدعوة التي كان يقوم بها الأستاذ عبد الرحمن الباني ، وبعض إخوانه .

كان – رحمه الله – سهل العبارة فصيح اللسان ، حسن الاستشهاد بالأحاديث النبوية الصحيحة ، وبما كان عند السلف الصالح من مواعظ مختارة منتقاة ، وطالما كان يحضر الطلاب من بلاده الأولى ، ومن تركية للدراسة في الشام أو في المملكة العربية السعودية ، ويسعى في تأمين ما يلزمهم من المساعدات المالية والعلمية وغيرها .

وقد نكب الشيخ عبد القادر – رحمه الله – أكثر من مرة ، فقد أصيب بوفاة زوجته الأولى أم محمود – رحمها الله – بحادث مؤلم . ثم لقي المتاعب من قبل بعض الجهات، فمنع من الخطابة ، والتعليم ، وحضور الاجتماعات ، ثم إلزامه البقاء في بيته لفترات ، مع أنه كان رقيق الوعظ ، حسن النصح للناس . والتف الناس حوله محبين له مستفيدين من علمه ، ومنهم مجموعة من طلاب العلم الذين تخرّجوا على يديه ، وفيهم من بلغ منـزلة عالية وكبيرة في سورية ، وغيرها .

وخرجت جنازة الشيخ أقرب ما تكون إلى السنة ولم يرتفع للناس فيها صوت ، وحصل فيها خشوع عظيم وحضرها الآلاف رغم أنه لم يعلم بوفاته رحمه الله إلا القليل ، ثم دفن الشيخ في تربة الحقلة القريبة ، وجرى العزاء بالشيخ في مسجد الحسن في الميدان ، وحضرها كبار أهل العلم وأثنوا على الشيخ خيراً ، ويكفيه شهادة الشيخ أسامة الرفاعي له بأنه عالم رباني وكذلك كلام شيخ القراء الشيخ كريم راجح والشيخ نعيم العرقسوسي حفظهم الله جميعاً وغيرهم.

اللهم ارحم فقيدنا واخلف أهله وولده وتلاميذه بخير ، وعوضنا خيراً

وإن لله ما أخذ ولله ما أعطى وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ملاحظة : استفدنا من بعض المعلومات التي وردت من مقالة للشيخ زهير الشاويش إضافة إلى مواقف شخصية لمشرف الموقع مع فضيلة الشيخ رحمه الله ، كما وضعنا صورة فوتوغرافية للشيخ في قسم حديث الصور .

كُتب في الأعلام, الراحلون, منائر | التعليقات على الإمام المظلوم (ناصر السنة) : العلامة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط مغلقة

فتش عن المال – 2006-11-03

[ربما لن يتصور أحدنا أن يكون وراء السلوك الذي يتصرفه عالم كامل من الأفكار والرؤى والسلوكيات ، بل دين يستولي عليه ويسكن روحه دون أن يحس ، وفي كلمة هذا الشهر نتابع الحديث عن كتاب الفردوس المستعار والفردوس المستعاد للطبيب المفكر الأستاذ أحمد خيري العمري ، وقد سبق في كلمة الشهر الماضي (انظرها في الأرشيف لطفاً) أن تحدثنا عن ركني المادية والفردية في الدين الأميركي ، واليوم نتحدث عن الركن الثالث وهو رأس المال].

من الطبيعي إذا التقت المادية مع الفردية أن يبرز الركن الثالث من الدين الأميركي وهو(رأس المال) وقد تعودنا على التعامل معه كمواجه للشيوعية المقبورة ، دون أن نفكر أننا سنواجه إعصاراً هائلاً لم نكن مستعدين له وكنا نبشر بأجزاء منه دون أن نعلم خطورته وقصة ولادته.

كان الفكر الاقتصادي مقيداً بكنز الذهب والفضة ، ولما كانت تلك الثروات محدودة مهما كبرت ، فقد نشبت النزاعات ، وكان سبب اكتشاف أميركا الأول البحث عن المزيد من الذهب ، وازداد مخزون اسبانية منه [كما برز رصيدها من التوحش والهمجية والتدمير للحضارات بشكل غير مسبوق وهو الشيء الذي ستتممه الحضارة الأميركية لاحقاً] وازداد التضخم فانتهت اسبانية كقوة اقتصادية ثم عسكرية.

وجاء آدم الاقتصادي الجديد الذي قلب كل المفاهيم الاقتصادية السائدة ، وهو آدم سميث الاسكوتلندي المولود عام 1703 صاحب كتاب (ثروة الأمم) ، وكان رأيه أنه يجب ترك السوق حرة وهي ستنظم نفسها تلقائياً لوسمح للأفراد أن يعملوا لمصلحتهم الخاصة دون عوائق ، كما أن وسائل الإنتاج سواء كانت أراض أو ثروات طبيعية أو مصانع يجب أن يمتلكها الأفراد! وبالتالي فإن مصلحتهم الخاصة هي المحرك لهم والربح ثم الربح هو عمود المسألة كلها.

الأرباح الخاصة ستعود على المجتمع بالنفع أيضاً ، وبدأ البساط يسحب من تحت أقدام الإقطاعيين ومُلاك الأراضي ليصبح السيد فيها أصحاب البنوك والمصانع والسياسيين البورجوازيين.

واجهت نظرية سميث تحديات كبيرة ولكنها صمدت ثم كانت لها الغلبة وأصبح الجميع (يسار ويمين ووسط) يتحدثون عن فضائل اقتصاد السوق.

تتحدث الرأسمالية [وبمكر] عن عدم التدخل في السوق عندما تربح ، وتتخلى عن عدم التدخل جزئياً إذا كان الأمر سيزيد من أرباحها في المرحلة التالية.

أعجب أمر في كتاب سميث [الاقتصادي الصرف] أن يتحدث عن عالم الغيب عندما قال أن هناك يداً خفية! (invisible hand) تقوم بتنظيم أحوال السوق … وتلك اليد الخفية تقوم بتحويل عمل الأفراد الذين يهدفون إلى مصلحتهم الذاتية فحسب ، إلى مصلحة المجتمع! ولم تكن تلك الكلمة شطحة فقد كررها مرات ، وصار هناك من يكتبها بالأحرف الكبيرة أي (Invisible hand) ولم يكن مصادفة أن بعض الموسوعات العلمية تشير إلى آدم سميث على أنه نبي الرأسمالية!![ انظر على سبيل المثال: Adam Smith;capitalism\’s prophet by Robert L.Formanini (RePEc:fib:feddei:y:2002:n:v:7no1) ].

قد يُظن أن الدين في حضارة الفردوس المستعار ليس سوى أمر مادي ، ولكن لا بد من شيء ما غيبي المصدر فالعقيدة و(الإيديولوجيا) وحدها لاتصنع ديناً وإلا لصارت الشيوعية أو الديمقراطية ديناً!

ويبدو أن الحد الفاصل بين (الإيديولوجيا) والدين هو عالم الغيب …شيء خفي ، تماما مثل اليد الخفية! وتلك اليد الخفية والغيبية جعلت من الرأسمالية ديناً ، وله مسميات أخرى [وكما نقول عن الإسلام أنه دين الفطرة ودين التوحيد] فإن للدين الرأسمالي مرادفات مثل : دين الاقتصاد ، ودين السوق!

رغم أن معتنق الرأسمالية ينظر إليها كما ينظر إلى قوانين الفيزياء أو [الرياضيات] أي أنها تفسر الوجود ولا تبتدعه من العدم ، وهي حيادية ، ولم تقدم نفسها كفكر إيديولوجي ، لذا فإن أهم مبدأ عند آدم شميث هو الحيادية ، أي ترك الباب مفتوحاً ، وباختصار: عدم التدخل! لتجري القوانين في سياقها الطبعي من دون تدخل [أي حماقة نرتكبها مثلاً إذا حاولنا إعاقة الطيف المغناطيسي الموجود والذي نقوم نحن فقط بالاستفادة من آثاره] فالتدخل أمر ضد الطبيعة ، وعواقب التدخل كارثية مهما كانت عواقب عدم التدخل مؤلمة!

إن العقيدة تقوم على التغيير وهو يتطلب التدخل لإعلاء ما يعتقد أصحابه أنه حق وأفضل وأطهر ، أما مبدأ عدم التدخل فيقوم على شيء آخر [في غاية الخطورة] وهو وجه [لدين ماكر جداً] نستطيع أن نقول عنه وبراحة للضمير أنه الخضوع والاستسلام والانصياع [بل والعبودية] لليد الخفية!! [هل أدركت خطورة الأمر أخي القارئ!].

إن قوانين الكهرباء لم تتحرك يوماً لتعطينا رؤانا وقيمنا ونمط حياتنا ومنظوماتنا الأخلاقية ، [وحلالنا وحرامنا] وأبعاد تفكيرنا وتصورنا للوجود ، ولكن الرأسمالية[الحيادية والقائمة على عدم التدخل!!!] تفعل ذلك !

الرأسمالية منظومة كاملة عقدية وأخلاقية وسلوكية [ بل ووجدانية أيضاً] شعرنا أم لم نشعر ، أقررنا أم أنكرنا! وهي تزودنا بمنظار ذو لون خاص نرى الوجود كله من خلاله! ونبحث في منظوماتنا الشرعية عن مؤيدات له ، [فالشيوعية كفر محض والرأسمالية تتقاطع مع إسلامنا في كثير بل الأكثر من جوانبه!] وباختصار فلنقم بالطقس الأساسي لذلك الدين الأميركي وهو الخضوع ، [ولنحمل عقيدة وفكر وسلوك ووجدان مبدأ عدم التدخل] ، ولنتأله لمعبود ما [وإن لم ندرك ونفهم ] ، [ولا يهم ماذا تسمي ذلك المعبود بعدها] : هل تسميه السوق! أم نقول لك أنها اليد الخفية الذي بشر بها [نبي الرأسمالية] سميث. [هل تتذكر ذلك المثل العامي البشع : سوق حسب السوق … أو ضع رأسك بين الرؤوس وقل ياقطَّاع الرؤوس … وهل تستطيع أن تفطن إلى كم ألف مرة ضاع فيها الحق وظهر الباطل من وراء مبدأ عدم التدخل والانصياع الذي استثمر إلى حد مرعب في تحويل مجتمعات كاملة إلى مجرد سوائم للعلف والتسمين لتذبح!! وبقية القطيع يتفرج ثم يعود إلى الاجترار والاستهلاك للعلف!].

كم يبدو الأمر رومانسياً عندما كانوا يقولون: فتش عن المرأة! ففي الرأسمالية فتش عن المال [وهي منظومة مغايرة لنا مهما بدا أن لها بعض تقاطعات ظاهرة لن نعدم من يفتي بتطابقها مع الإسلام]. وكل ماجرى ويجري وماسيأتي سببه المال ثم الزيادة من المال!

الرأسمالية تزعم أنها لم تبتدع الأمر بل وضحته ، فالمال هو الذي يجعل العالم يتحرك في طواف مذهل وضمن عالم شكلت أخلاقياته وقيمه الرأسمالية.

الأديان التقليدية وجدت نفسها في مواجهة خاسرة مع الوحش الكاسر فانسحبت مؤثرة أن تقوم بدور المواسي الروحي! للضحايا ، [لعل ذلك الوحش يبقي لها بعض الفتات أوالمواقع التجميلية و الاستثمارية في ساحته الطاحنة ، والتي تعيد الرأسمالية الاستفادة منها في إلقاء الوهم في النفوس أنها لا تمس القيم والأخلاق بشيء فهي قائمة على عدم التدخل!!!!!].

وانسحبت المفاهيم الدينية والأخلاقية ، فصارت الساحة خالية ، وكنتيجة طبيعية كانت الرأسمالية هي البديل الذي لا بديل غيره بحال بعد أن التفت على الجميع ومكرت بهم مذ زعمت أنها تفسر الموجود فقط ولا تبتدعه ، ومع الوقت استبدلت الرأسمالية [دينها وبكل منظوماته] بالأخلاق والقيم التقليدية ، ومع عجز [كثير من] المؤسسات الدينية وفسادها [وارتباطها التلاحمي مع السياسيين والظالمين] صارت الرأسمالية هي دين هذا العصر بلا منافسة ولا نزاع!!

وكما أن بعض المتدينين مثلاً يقولون وبصدق أن الإسلام هو الحل دون أن يكون عند كثيرين منهم تصور عميق لذلك ، فكذلك أتباع الدين الجديد يبشرون بأن الاقتصاد هو الحل [وهو الذي سيوفر كل الضمانات ويحل كل المشاكل ، وهناك دول عديدة انهمكت أنظمتها بعمليات تجميل (اقتصادية) ظانة أن ذلك سينسي شعوبها حرمانها من أبسط حقوق الإنسان ومن الضمانات القانونية وسيلغي من ذاكرتها الجماعية كل الاضطهاد والسجن والتعذيب والمذابح والنهب والسلب والظلم الذي قامت به تلك الأنظمة ، والتي توهم الشعوب أن الأمر كان مجرد خطأ فني يمكن تعويضه بسهولة عن طريق نثر بعض النقود (المنهوبة أصلاً) فوق رؤوس الخارجين (كمجتمع أو أفراد) للتو من حمامات الرعب والدم والاضطهاد ، ويمكن للشعب الذي ترك منظومته الأخلاقية لصالح الدين الاقتصادي الجديد أن يستسلم بسهولة مثل ….. تبيع نفسها وتنسى أنها بيعت في سوق النخاسة بمجرد التلويح لها بالنقود ، أما الشعوب ذات المنظومة الدينية والأخلاقية والقيمية المغايرة ، فهي رقم صعب ومتعب وتذليله يحتاج إلى جهد طويل وقد لا ينجح في النهاية].

[ليس الدين الرأسمالي شيئاً سهلاً وإن تظاهر بالليونة وعدم التدخل بل هو ماكر ويتدخل في كل شيء ، و يزرع فيروساته في كل جزء حي ، بحيث لا ترجى له العافية بعد ذلك ، منتهكاً بل ومغتصباً قيماً وأخلاقاً كثيرة في طريقه] ولعله أكثر الأديان أتباعاً وأوسعها انتشاراً ، فالمليارات من البشر يدينون به ، مع أنهم يظنون أنفسهم مسيحيين أو بوذيين أو حتى مسلمين .. أو لادينيين ..[ فالفيروس سكن في كل خلية منهم وإن لم يدركوا ذلك].

في الدين الرأسمالي وسائل الانتاج يجب أن تكون ملكاً لأفراد ، ودور الحكومات ينحصر في حماية الأفراد وهم يتنافسون على المزيد من الأرباح.

الربح و[قداسة] الفرد وعدم التدخل هي الأقانيم الأساسية لدين الرأسمالية! هل تشعر أن ذلك لايكفي ! وهل مازلت تحس أن الدين يحتاج إلى خضوع واستسلام لقوة عظمى … وبحيث لايكون الأمر مقصوراً فقط على مصطلح اليد الخفية بل يضم عقيدة دينية مذهلة تابع تسللها معي إذا سمحت.

[هل أنت عالم ، مفكر ، مخترع ، طبيب ، داعية ، كنز مخفي … كل ذلك لايهم] فالحقيقة أنه إذا كان معك قرش فأنت (بتسوى) قرش …. لاغير .

الخضوع ليس تابعاً لمجرد الفكرة [الغامضة] بل لآثارها! ومنها : ازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء ، ودمار البيئة ، واحتكار الأغنياء لمصادر الثروة ، والحروب الطاحنة والقلاقل الاجتماعية ، والأمراض القاتلة [لاحظ أن هناك من يعتقد أن مرض الإيدز ، وربما جنون البقر ، وحتى حمى الطيور إنما سببها تجارب جرثومية قامت بها الولايات المتحدة ثم أفلت الزمام من يدها …] والتدخل لإيقاف نهب الشعوب ، ولمنع الحروب ، ولإسقاط الأنظمة الديكتاتورية كله وإيقاف جنون التسلح .. ومنع الدول التوسعية من العدوان ، والإصرار على اتفاقيات حماية البيئة ، وغير ذلك … كله هرطقة وكفر بالدين الرأسمالي وهو ضد مبدأه الأساسي (عدم التدخل) اللهم إلا إذا قررت (اليد الخفية) التدخل فذلك ممكن ولو أدى إلى نهب ثروات الأرض ، أو ابتلاع الشركات الاحتكارية العالمية لآلاف الشركات الأصغر ، وازدياد معدلات الفقر والبطالة ، وإشعال الحرب بين العراق وإيران (لتأكل أكثر من مليون شاب إيراني وأقل منهم بقليل من العراقيين) ، أوذبح أكثر من مليون أفريقي من التوتسي والهوتو ، أو احتلال جزر الفوكلند ، أو أفغانستان بحجة وجود دولة إرهابية ، أو العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل (والجارة (إسرائيل) تملك من أسلحة الدمار الشامل مايفني العالم العربي كله ، بل إنها قصفت المفاعل النووي العراقي وهددت بضرب الباكستاني – قبل أن يتاح لها حاكم شديد الإخلاص والانصياع فيفكك برنامج بلاده النووي بالمجان – ولولا الخشية من انفجار المنطقة لما ترددت بضرب المفاعل الإيراني) … وكذلك المجازر في فلسطين ولبنان فيجب فيها عدم التدخل التزاماً بمبادئ الدين الماكر الجديد] .

يجب عدم التدخل لأن مصالح الأفراد! [نعم ياسيدي الأفراد] مصونة ويجب على الجميع حمايتها ولو وصل العالم إلى الفناء الأكيد!

مليارات البشر يضعون نصب أعينهم الفردوس المستعار ، فردوس النمو والرفاهية ، ولابد لكل دين من إيمان وتضحية لذا لابد أولاً من الخضوع لليد الخفية التي تحرك السوق فهي الأدرى والأبعد نظراً ، وثانياً : لابد من الصبر والتحمل لمشاق الطريق [أعرف أخاً هاجر إلى الولايات المتحدة منذ ثلاثين عاماً وكان لديه نقود يمكن أن يبدأ بها مشروعاً متواضعاً يكفيه هنا ، ولكنه ذهب يبحث عن الفردوس، ولم تبق مهنة لم يزاولها ، وهو الآن شحاذ تماماً ، وطالما قلت له لايوجد ضرورة لسفرك ، وأن تعمل في كناسة القمامة في بلدك خير لك من أن تعيش شحاذاً في وطن غريب عنك فلم يلتفت إلى ذلك وسمعت أنه يفكر بالرجوع بعدما فنيت حياته هناك في غسل الصحون …. وهناك آخرون صاروا أصحاب ملايين وشهادات ، ولكنهم خسروا أولادهم … وآخرون خسروا أنفسهم! وقال لي احدهم : هل تحرم السفر؟ فقلت له: إذا استجمعتَ ظروفه الشرعية فسافر! فقال: وماهي؟ فقلت له: أن يكون لك دين حقيقي تعيشه في كيانك وروحك ثم في حياتك ما استطعت ، فهو الضمان الوحيد لبقائك ، وإلا التهمك الدين الجديد حتى دون أن تدري!!).

وثالثاً : ينبغي القبول بما يجري لأن الرأسمالية قانون كوني [قدر] لا سبيل لتغييره ! ومن يعترض فهناك محاكم تفتيش جاهزة التهم ، بداية من الاعتداء على الحق الخاص وانتهاء بالأصولية والإرهاب!

مفهوم الحرية الشخصية انتهى منذ أصبحت بضعة شركات احتكارية هي المشرع الحقيقي للقوانين الأميركية ، ثم صارت مبادئ تلك الشركات هي مبادئ أميركة كلها ، وعبر محامين قديرين فإن حرية تلك الشركات الاحتكارية المرعبة هي بعينها الحرية الفردية التي يكفلها الدستور [ويقدسها كل مواطن أميركي صالح].

الملاحظ أنه كلما كان هناك تدخل اقتصادي أصيب النمو بالتراجع ، وكلما ازدهر عدم التدخل ازداد النمو الاقتصادي.

ولكن ما شأني أنا وما شأن مؤلفنا الفاضل الدكتور العمري ، فإن للقوم كامل الحرية في اعتقاد مايريدون و ((لا إكراه في الدين)) .. ما شأننا نحن؟ ولماذا التدخل؟

[سؤال مهم جداً! وتدخل سافر لولا أمر أساسي! وهو أن القوم لا يوجد عندهم ((لا إكراه في الدين)) كما عندنا (مهما كانت غلظة بعض دعاتنا وغلط تصورهم لبعض الأمور) ، وهم يعتبرون أن دينهم يجب أن يسود الأرض بالإكراه ، سواء في كورية الشمالية أو إيران أو أفغانستان أو العراق أو جورجية أو دارفور أو جنوب لبنان ، وهم لهذا مستعدون للتدخل حتى النهاية ، أما ما يحصل للشعوب من مآس ودمار وويلات فمبدأ عدم التدخل مبرر كاف للتفسير!].

[الفوضى الخلاقة مصطلح مرعب استخدمته الإدارة الأميركية ، لأنها حقاً تريد وبالإكراه نشر دينها (وهو ليس النصرانية بالتأكيد لا السهلة ولا الأصولية بل الرأسمالية) وهي تريد نشر الديمقراطية على طريقتها والحرية على طريقتها والعدالة على طريقتها ، وهي تقول وبفم ملآن أنها تريد الإكراه في الدين، وذلك بزرع الفوضى الخلاقة التي قالها البعض وعلى وجوههم إمارات نشوة سادية لا ترى إلا في أفلام مصاصي الدماء المرعبة] .

فلنكن عاقلين بل في منتهى الحكمة ونحن ندرس ذلك الدين الجديد لنرى نهاية (السيناريو) المرسوم لنا ، لعل فيه بعض الخير فنستفيد منه! أو أنه عين الهلاك فنرفضه رفضاً قائماً على دراية وبصيرة ، لأنه ينقض الإسلام عروة عروة من لم يعرف الجاهلية كما يقول الفاروق رضي الله عنه].

لن نركز على الاستغلال الموجود في العالم ، ولن نحمل الدين الأميركي تبعته ، سنذهب إلى الفردوس المستعار المليء بالشعارات والمطلي بألوان زاهية ، وسنزيل القشرة تلو القشرة عن تلك الجنة الأرضية لنرى حقيقتها [ سنقدم المعلومات والأرقام هنا باختصار ، ومن شاء فليرجع إلى الكتاب الأصلي للأستاذ العمري والذي وثق فيه كل المعلومات المذكورة من مراجعها الأميركية].

عندما ازداد معدل الدخل العائلي بين عامي 1979-1992 فإن 98% من هذه الزيادة ذهبت إلى 20% من العائلات الأميركية الأكثر ثراء ، وبقي فقط 2% لتتقاسمها ال 80% من العائلات الأفقر.

أغنى 20% من الأميركيين يسيطرون على 83% من مصادر الثروة .

من نسبة العشرين بالمائة الأغنياء هناك 1% فقط يمتلك 40 – 60% من كل مصادر الدخل (الأميركي الهائل).

لوركزنا فقط على وسائل الإنتاج وغدارة الأعمال فإن نخبة من 1% فقط ستحصل على 90-95% من كل مصادر الدخل!

العشرة بالمائة الأغنى سيحصلون على (ومنهم النخبة الأولى 1%) يحصلون على 99% من مصادر الدخل!!

كل من في الفردوس الأرضي الآخرون لهم فقط [وفقط] 1% واحد بالمائة من كل مصادر الدخل!

الزيادة في الدخل القومي الأميركي GNP بين عامي 1983-1998 ذهبت كلها لطبقة 1% حصرياً والتي تمتعت بزيادة صافية قدرها 17% بينما باقي ال99% جميعاً هبط دخلهم بنسب متفاوتة.

يبدو أنه ليست هناك يد خفية بل قبضة حديدية ، قبضة ال1% ، والتي تجعل 12.5% من الأميركيين يعيشون تحت خط الفقر الفيدرالي الرسمي (أي حوالي 36 مليون شخص).

الخط الرسمي ليس هو الحقيقي فكلفة النقل في مجتمع لايمتلك وسائل نقل عامة كافية والضمان الصحي وغير ذلك يجعل خط الفقر الحقيقي أعلى ، حيث تذكر بعض الدراسات أنه يشمل 30% من السكان جلهم من الأطفال والنساء والسود!

أليست هناك أرض الفردوس ومنابع الثروة وبلاد من جد وجد ….

نعم ذاك زعمهم ولكن الأرقام تشير إلى أن 70-80% من الثروة مركوز في يد 10-20% الأغنى طوال التاريخ الأميركي ، وظلت تلك النسبة تتقلص باستمرار إلى أن تركزت الثروة في يد طبقة الواحد بالمائة (ذوي اليد الخفية).

كانت الرأسمالية تروج إلى أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء هي مرحلة عابرة من التطور وسينتهي الأمر برخاء عميم ، أما اليوم فالأدبيات الرأسمالية تروج لإبقاء الفجوة لأن ذلك مفيد للاقتصاد ، ولكن كيف يسكت الناس والملايين عن ذلك الوضع؟

يجب أن نفهم الوضع الطبقي للمجتمع الأميركي! ففيه ثلاث طبقات :

الطبقة الأولى: هي الطبقة التي لا تعمل لأنها لا تستطيع أن تعمل ومكونة من المشردين والمعاقين الفقراء والمنبوذين والذين ليست لهم بيوت ، ويقدر عددهم بما يقارب ثلاثة ملايين إنسان ، هم ال1% الأفقر.

الطبقة الثانية : وفيها أربع فئات أولاها العمال اليدويون غير المهرة ولهم حد أدنى من الأجور بالكاد يبقيهم على الرمق ولهم أقل الضمانات ، والفئة الثانية هي العمال اليدويون المهرة (أصحاب الياقات الزرقاء) وأجورهم منخفضة ويكافحون لعدم السقوط إلى الفئة الأولى! أما الفئة الثالثة فهم الأشخاص الذين يستخدمون عقولهم وليس أيديهم (أصحاب الياقات البيضاء) ومنهم الصحفيون والأساتذة والأكاديميون ويحاولون الصعود إلى المرتبة الأعلى! والفئة الرابعة تستخدم أفواهها كالموظفين الكبار والسياسيين والمحامون والأطباء الكبار ورجال الأعمال المستقلون … وعادة يتخيلون أنهم يقودون العالم ويقفون على قمته ، وفي الحقيقة فهم يعملون عند الطبقة التالية ، طبقة العاطلين عن العمل!

الطبقة الثالثة: هذه الطبقة لاتعمل لأنها لا تحتاج إلى العمل! ولكنها تحصل على أموال طائلة ، إنها طبقة الواحد بالمائة الأغنى ، صاحبة اليد الخفية، وهي التي تحوز على أرباح الطبقات كلها ، وقد يكون لبعضهم وظائف ولكنها مجرد طقس شكلي فالدخل الشخصي ليس من العمل نفسه بل من استثمارات رأسمالية ضخمة!

قد تتداخل بعض الطبقات ولكن بحدود ضيقة ، وكما في بعض الديانات الشرقية فالطبقة التي تلدك فيها أمك هي طبقتك النهائية بشكل عام ، ماعدا استثناء مدهش وأخاذ! وهو أن أصحاب المرتبة الثالثة (وهم أصحاب الشهادات العليا عموماً) يمكن لهم أن يتحولوا إلى المرتبة الرابعة [مع ملاحظة أن المرتبتين الثالثة والرابعة تقعان في الفئة الثانية].

هذه الإمكانية في الصعود تفسر كل السكوت على الاحتكار الذي تمارسه نخبة [اليد الخفية] والتي لاتتجاوز 1%.

إنه الوعد بالصعود والحلم بالثراء المدهش انتقالاً إلى المرتبة الأعلى ومع وجود عقيدة الفردية [أو عبادة الذات إن شئت] التي يستنشق الجميع وجودهم من خلالها يصبح قبول ذلك الظلم شرطاً من شروط اللعبة ، فلا بأس أن يحتكر الواحد بالمائة من الأفراد تسعين بالمائة من المقدرات مادام هناك احتمال [ولو وهمي] أن يصبح من نخبة [اليد الخفية].

اللعبة الذكية هو أن الواقفين عند المرتبتين الثالثة والرابعة هم الطبقة التي تصنع الرأي العام ، وستبقى تنقل قواعد اللعبة وتعممها على كل الطبقات

هناك استثناء آخر [واسع الطيف عمودياً شديد الضيق أفقياً] ، وهو الانتقال من الحضيض إلى القمة لبعض الفنانين أو الرياضيين ، ولكنه محدود جداً ولأصحاب مواهب خاصة [ويبقون مهما ارتفعوا غير ذي جذور مثل الطبقة العليا].

النجوم الذين يمكنهم الانطلاق بسرعة الصاروخ إلى القمة تسوقهم آلة الإعلام الجبارة كأيقونات وثنية ، ورموز تعين الوثنية الفردية على زيادة التجذر في النفس ، [فهم عملياً مجرد أدوات فنية لترسيخ الفكر الفردي أحد أركان الدين الجديد!].

تابع معي عزيزي القارئ هذه المعلومة المدهشة: إذا تأملنا قائمة فوربس Forbes list التي تشمل أغنى 400 شخص في أميركة لوجدنا أن 43.4 % من الأسماء ولدت أساساً في القائمة ، عبر إرث وثروات لم تبذل أي جهد للحصول عليها.

14% ولدوا قريبين جداً من القائمة ، و6% ورثوا ثروات ضخمة، ولكنها أقل من ثروات الأوائل .

7% بدؤوا من ثروة تفوق خمسين مليون دولار .

الباقون [الذين صنعوا أنفسهم] ولدوا غالباً في الشريحة التي تمثل أغنى 20% من الأشخاص ، وحصلوا على تعليم متميز مبكر جداً [أحد تلاميذي تباهى يوماً بأن مدرسته تخرج العباقرة ، وهي من أغلى المدارس رسوماً وقتها وهو منحدر من عائلة غنية ومحفوف بالعناية الدراسية والرفاهية في الحياة ، فقلت له ثق تماماً لو أننا أحضرنا من سوق الخضار صبياً عادياً ووضعنا له من الإمكانيات مثلما وضع لك لفاقك وكل رفاقك العباقرة ، ولو أننا جعلناك محله وحرمناك من زهرة الحياة الدنيا التي تنعم بها لكنت أكثر منه جهلاً وقد يصعب عليك أن تفرق الشمال من اليمين].

وهناك نسبة قليلة من الفنانين والرياضيين والذين لولا دعم المؤسسات الضخمة لهم لم يصلوا إلى ماهم فيه.

بيل غيتس غني العالم الأكبر العصامي المكافح الذي رُوج له [بل روج للدين الذي يستثمره] بأنه بدأ من مرآب منزله المتقدمين ، وأنه مثال عظيم للمكافحين العصاميين ، هذا العبقري لم يذكر للناس انتماؤه الطبقي! فوالده من أهم المحامين في ولاية سياتل ، ووالدته مديرة بنك مهم ، أما جد أبيه فكان حاكم الولاية! أما جد أمه فهو مؤسس أحد أهم البنوك الأميركية ، وغيتس نفسه الذي درس في أغلى الجامعات (جامعة هارفرد) كان قد درس في ثانوية كلفتها أكثر من كلفة الجامعة نفسها!! [ياللعصامي المسكين].

قد تحصل تغييرات طفيفة إلى الأعلى قليلاً أو إلى الأسفل ولكن (تداول الثروة) لايكون إلا بين الأغنياء والأغنياء فقط!

وهذا الأمر معاكس تماماً للتوجيه القرآني الذي يأمر بالإنفاق والبذل والجماعية ((كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم)) الحشر: 59/7.

هل نزلت هذه الآية للأميركان أم للمسلمين؟ إن الدين أساساً للعالمين ، ولكن فوق ذلك فنحن تحت خطر القصف الرأسمالي الذي ينشر جراثيمه أينما تحرك ، وهو أعلن صراحة (نظرياً وعملياً) أن الإكراه في الدين مبدأ رئيس يعمل من خلاله!

عندما وجدت زيادة كبيرة في الدخل حدد القرآن إلى أين يذهب المال ، إنه يذهب إلى الطبقات الأفقر ((كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم)) ، ومايلي تلك العبارة واضح تماماً … تماماً … بلا أي لبس : ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) الحشر 59/7.

تتمة الآية استثمرتها المؤسسة الدينية التقليدية في جوانب ضيقة ، وقد يكون الحرص على اللحية عند البعض وعدم نتف حواجب النساء عند آخرين أكثر خطورة من تصدع الأمة ، ويقول الأستاذ العمري أنه لم يحصل ولا حتى مرة واحدة أن تحدث أحد عن تداول الثروة واحتكار الأغنياء لها [تحدث عن الأمر بطرق مختلفة أشخاص (قد لايكونون من التقليديين) مثل سيد في العدالة الاجتماعية والإمام الغزالي –المعاصر- في كثير من كتبه، والأستاذ راشد الغنوشي في كتابه الحريات العامة في الدولة الإسلامية ، والدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه الإسلام والوعي الحضاري ، والعلامة القرضاوي في سفره العظيم عن فقه الزكاة ، وآخرون … كما أعرف خطيباً كان يؤكد على تلك المعاني في كثير من خطبه يوم الجمعة قبل أن يعزله الظالمون … ولكن ينبغي الإقرار أن كل ذلك الحديث شيء بسيط جداً أمام مرارة المأساة].

لماذا تنتصر الهوامش على المتون ، وهل ارتبطت المؤسسة التقليدية بالسلطة [السياسية أو المالية] فآثرت إغراق الناس في التفاصيل كي تلفت الأنظار عن احتكار السلطة أو المال [مقابل فتات وطموح الصعود إلى فئة أعلى وعدت به اليد الخفية!!] أم الأمر مجرد خطأ فني …. لايهم فالنتيجة واحدة!

إن الإسلام لا يترك مسألة توزيع الثروة والتوازن الاقتصادي والعدالة الاجتماعية من دون تدخل!

[إن الإسلام أيها الناس يتدخل ، نعم يتدخل في توزيع المال] ، ((كي لايكون دولة بين الأغنياء منكم)).

الإسلام يتدخل لإيجاد توازن اجتماعي ويقلص الفجوة بين الأغنياء والفقراء …شاء آدم سميث أم أبى … فالتدخل من أركان الإسلام وليست الزكاة التي يطلبها الإسلام من الغني ويعطيها الفقير هي 2.5% أو العشر أو نصف العشر .. الزكاة هي نقطة التوازن وهي حق معلوم وشعيرة عبادة ويد ظاهرة في إقامة الحق ، وعندما تتخلف الزكاة لسبب ما ، فإن في المال حقاً سوى الزكاة ، والتي تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم كما جاء عن النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم.

لايمنع الإسلام الملكية الفردية بل يصونها [وإلى حد الأمر بقطع يد من يعتدي عليها] ، ولكنه لا يجعلها وحشاً كاسراً يلتهم كل مافي طريقه ، ولا يضع الإسلام حداً أعلى للملكية الفردية ولكنه لايسمح أبداً بالهبوط في الحاجات الأساسية حتى لأفقر العباد […(فما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جواره وهو يعلم) وهي ليست فلسفة خيالية بل بعدٌ تنفيذي صارم حريص على حقوق المستضعفين : (فمن أعطى الزكاة مؤتجراً فله أجره ومن منعها فإنا آخذوها وشطر مال ، عزمة من عزمات ربنا لايحل منها لآل محمد شيء) ..كما ورد عن النبي الهادي].

ليست الزكاة فضلاً من الغني بل واجباً شرعياً ، وليس لأحد مال فالمال مال الله ونحن مستخلفون فيه ، والزكاة صمام أمام ، وتسديد لدين المجتمع على كل فرد منا ، والأنا في الإسلام تبرز بقوة لتندغم في الجماعة لا لتلتهمها ، فالفرد للجماعة والجماعة للفرد والكل للإسلام!

نمو الرأسمالية يتجه نحو المال ، ونماء الإسلام يتجه لما هو أكرم ، يتجه إلى الإنسان ، ولن يكون في مجتمع الإسلام طبقة 1% تلتهم كل شيء ، لأن الكل يتدخل: الغني والفقير فيحصل التوازن في الأرض قبل أن تحويه جنة السماء.

فردوسنا أيها المسلمون مضمون على الله ((إن لك ألا تجوع فيها ولاتعرى * وأنك لاتظمأ فيها ولا تضحى)) طه:20/118-119. وليس ذلك فقط في الفردوس الأخير بل بدايته الفر دوس الأرضي الذي تظلله التقوى ويحفه الإيمان.

 

ملاحظة : في الكلمة الشهرية القادمة الحلقة الأخيرة من الحديث عن الدين الرأسمالي.

– من المواد الجديدة في هذا العدد : (يرجى عند عدم توفر المادة الرجوع إلى الصفحة في اليوم التالي فبعض الفقرات لم نتمكن من تحميلها بعد) وجزاكم الله خيراً مع الاعتذار للتأخر.

1- عامان على رحيل الإمام المظلوم المحدث الشيخ عبد القادر الأرناؤوط (انظر في الأعلام – الراحلون)

2- الإمام الجويني وغياث الأمم (ركن الدعوة).

3- أزمة القيادات في العالم الإسلامي للعلامة الدكتور عبد العزيز القاري (المناهج).

4- قصيدة للشاعر د. عبد الغني بن أحمد التميمي (تذكرة).

5- أسئلة وأجوبة إضافة إلى بعض الأناشيد التي أنزلت في العدد الماضي وفقرات أخرى

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على فتش عن المال – 2006-11-03 مغلقة

مقتطفات من غياث الأمم للجويني – 3

المرتبة الثالثة

(الباب الثالث)

{فِي خُلِّو الزَّمَانِ عَنِ المُفْتِين وَنَقَلَة المَذَاهِبِ}
636 – مضمون هذه المرتبة ذكرُ متعلّقِ التكاليف إذا خلا الزمانُ عن المفتين وعن نقلةٍ المذاهبِ الأَئمة الماضين ، فماذا يكون مرجع المسترشدين المستفتين في أَحكام الدين؟
637 – ومِلاك الأمر في تصوير هذه المرتبة ، أن لا يخلو الدهر عن المراسم الكلية ، ولا تَعْرَى الصدورُ عن حفظ القواعد الشرعية ، وإنما تعتاصُ التفاصيلُ والتقاسيمُ والتفريع. ولا يجدُ المستفتي من يقضي على حكم الله في الواقعة على التعيين.
638 – فإذا لاح للناظر تصويرُ هذه المرتبة ، فنحن بعون الله تعالى نقدم على الخوض في مقصودها الخاصّ أَمراً كلياً في قواعد الشريعة ، يقضي اللبيبُ من حسنهِ العجبَ ، ويتهذبُ به الكلام في غرض المرتبة ويترتب ، ويجرى مجرى الأُّس والقاعدة والملاذِ المتبوع الذي إليه الرجوع. فنقول:
639 – لا يخفى على من شدا طرفا من التحقيق أَن مآخذَ الشريعة مضبوطةٌ محصورة ، وقواعدَها معدودةٌ محدودة؛ فإن مرجعَها إلى كتاب الله تعالى ، وسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآيُ المشتملةُ على الأحكام وبيان الحلال والحرام معلومة ، والأخبار المتعلقةُ بالتكاليف في الشريعة متناهية.
640 – ونحن نعلم أَنه لم يُفوّض إلى ذي الرأي والأًحلام أن يفعلوا ما يستصوبون ، فكم من أَمرٍ تقضي العقولُ بأنه الصواب في حكم الإِيالة والسياسة ، والشرعُ واردٌ بتحريمه.

ولسنا ننكر تعلُّقَ مسائل الشرع بوجوهٍ من المصالح ، ولكنها مقصورةٌ على الأُصول المحصورة ، وليست ثابتةً على الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح ، ومسالك الاستصواب.

ثم نعلم مع ذلك أَنه لا تخلو واقعةٌ عن حكم الله تعالى على المتعبدين.
641 – وقد ذهب بعضُ من ينتمي إلى أَصحابنا إلى أنه لا يبعد تقديرُ واقعةٍ ليس في الشريعة حكمُ الله فيها ، وزعم أَنها إذا اتفقَتْ ، فلا تكليف على العباد فيها. وهذا زلل ظاهر.
642 – والمعتقد أنه لا يفرضُ وقوعُ واقعةٍ مع بقاءِ الشريعة بين ظهراني حملتها إلا وفي الشريعة مستمسكٌ بحكم الله فيها.
643 – والدليل القاطع على ذلك أَن أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم استقصَوْا النظرَ في الوقائع والفتاوىَ والأَقضية فكانوا يعرضونها على كتاب الله تعالى ، فإن لم يجدوا فيها متعَلَّقاً ، راجعوا سُنَنَ المصطفى عليه الصلاة والسلام فإن لم يجدوا فيها شفاءً ، اشتوروا ، واجتهدوا ، وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرِهم ، إِلى انقراض عصرهم ، ثم استنَّ مَن بعدهم بسنتهم ، فلمن تتفق في مكَرِّ الأَعصار ، وممرّ الليل والنهار واقعةٌ نقضي بعرُوِّها عن موجَبٍ من موجبات التكاليف. ولو كان ذلك ممكنا ، لكان يتفق وقوعُه على تمادي الآماد ، مع التطاول والامتداد. فإذا لم يقع ، عَلِمْنا اضطراراً من مطرد الاعتياد أَن الشريعة تشتمل على كل واقعةٍ ممكنةٍ ، لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه : \” بم تحكم يا معاذ ؟ فقال : بكتاب الله. قال: فإِن لم تجد ؟ قال فبسنة رسول الله ، قال فإِن لم تجد ؟ ، قال : أَجتهد رأي \” .

فقرره رسول الله صلى الله عليه وسلم وصوّبه ، ولم يقل: فإن قصر عنك اجتهادُك ، فماذا تصنع ؟ . فكان ذلك نصاً على أَن الوقائع تشملها القواعدُ التي ذكرها معاذ.
644 – فإذا تقرر ذلك ، فلو قال قائل: ما يتوقع وقوعه من الوقائع لا نهاية له. ومآخذ الأَحكام متناهية ، فكيف يشتمل ما يتناهى على ما لا يتناهى ، وهذا إِعضال لا يبوء بحمله إلا موفقٌ ريانٌ من علوم الشريعة.
645 – فنقول: للشرع مبنى بديع ، وأسٌّ هو منشأُ كلِّ تفصيل وتفريع ، وهو معتمد المفتي في الهداية الكلية والدراية ، وهو المشيرُ إلى استرسال أَحكام الله على الوقائع مع نفي النهاية ، وذلك أَن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والإِثبات ، والأَمرِ والنهي ، والإِطلاقِ والحجر ، والإِباحةِ والحظر ، ولا يتقابل قَط أَصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أَحدهما ، وتنتفي النهايةُ عن مقابله ومناقضه.
646 – ونحن نوضح ذلك بضرب الأمثال ، ثم نستصحب استعمالَ هذه القاعدة الشريفة في تفاصيل الأَغراض من هذه المرتبة ، والله المستعان في كل حين وأَوان ، فنقول:
647 – قد حكم الشارع بتنجيس أَعيان ، ومعنى النجاسة التعبّد باجتناب ما نجَّسه الشرع في بعض العبادات على تفاصيلَ يعرفها حملةُ الشريعة في الحالات ، ثم ما يحكمُ الشرعُ بنجاسته ينحصر نصاً واستنباطاً ، وما لا يحكم الشرع بنجاسته لا نهاية له في ضبطنا ، فسبيلُ المجتهد أَن يطلب ما يُسأَل عن نجاسته وطهارته من القسم المنحصر ، فإِن لم يجده منصوصاً فيه ، ولا ملتحقاً به بالمسلك المضبوط المعروف عند أَهله ، أَلحقه بمقابل القسم ومناقضه ، وحكم بطهارته.
648 – فاستبان أَنه لا يُتصوّرُ والحالةُ هذه خلوُّ واقعةٍ في النجاسة والطهارة عن حكم الله تعالى فيها.

ثم هذا المسلك يطَّرد في جميع قواعد الشريعة ، ومنه ينبسط حكمُ الله تعالى على ما لا نهاية له.
649 – وهذا سرُّ في قضايا التكاليف لا يوازنه مطلوبٌ من هذا الفنِّ عُلوًّا وشرفاً ، وسيزداد المطَّلع عليه كلَّما نهج في النظر منهاجاً ، ثم يزداد ابتهاجاً. فإِذا تقرّر هذا نقول:
650 – المقصود الكلي من هذه المرتبة أن نذكر في كل أصل من أصول الشريعة قاعدة تنزل منزلة القُطب من الرَّحى والأُسّ من المبنى ، ونوضح أنها منشأُ التفاريع ، وإليه انصراف الجميع.

والمسائل الناشئةُ منها تنعطف عليها انعطافَ بني المهود من الحاضنة إلى حِجرها ، ويأرِز إليها كما تأرِز الحية إلى جحرها.
651 – ولو أردت أن أصفَ مضمونَ هذا الركن بالتراجِم والعبارات الدالة على الجوامع والجمل ، انعقد الكلامُ ، ولم يُحِط به فهمُ المنتهي إليه .
652 – وإِذا فصلتُ ما أبتغيه فصلاً فصلاً ، وذكرتُ ما أحاوله أصلاً أصلاً ، تبيّن الغرض من التفصيل ، وعلى فضل الله وتيسيره التعويل . فلتقع البداية بكتاب الطهارة.
كتاب الطهارة

فصل

فنقول في حكم المياه :
653 – قد امتن الله على عباده بإِنزال الماء الطهور ، فقال عزَّ من قائل : (وأَنْزَلْنَا مِنَ السَّماء ماءً طَهُوراً ) سورة الفرقان : 48

والطهورُ في لسان الشرع هو الطاهر في نفسه المطِّهرُ لغيره .

وتطرأُ على الماءِ الطهورِ ثلاثةُ أشياء :

أَحدها – النجاسة

والثاني – الأشياء الطاهرة

والثالث – الاستعمال.
654 – فأَما النجاسةُ إذا وقعت في الماءِ ، فمذهبُ مالك رحمه الله أَن الماء طهورٌ ما لم يتغير ، واستمسك في إِثبات مذهبه بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : \” خُلق الماءُ طهوراً لا ينجسه شيء إِلا ما غير طعمَه وريحَه \”
655 – ومذهب الشافعي رضي الله عنه أَن الماءَ إذا بلغ قلتين لم ينجُس ما لم يتغير ، وهو قريبٌ من خمِس قِرب ، فإِن لم يبلغ هذه المبلغ ، فوقعت فيه نجاسة ، تنجَّس ، تغير أَو لم يتغيرّ.
656 – واضطربت الرواية عن أَبي حنيفة رحمه الله ، ولست لاستقصاءِ تلك الرويات ، فإن غرضي وراءَ هذه المذاهب.
657 – فإن فُرض عصرٌ خالٍ عن موثوق به في نقل مذاهب الأَئمة ، والْتَبَس على الناس هذه التفاصيل ، التي رمزتُ إليها ، وقد تحققوا أن النجاسة على الجملة مجتنبة ، ولم يخفَ على ذوي العقول أَن النجاساتِ لا تؤثِّرُ في المياه العظيمة ، كالبحار والأَودية الغزيرة كدجلةَ والفرات وغيرهما ، ولا بد من استعمال المياه في الطهارات والأَطعمة وبه قوامُ ذوي الأَرواح.
658 – والذي تقتضيه هذه الحالة أن من استيقن نجاسةً اجتنبها ، ومن استيقن خلو ماءٍ عن النجاسة ، لم يسترب في جواز استعماله ، وإن شك ، فلم يَدْرِ ، أَخذَ بالطهارة. فإن تكليف ماءٍ مستيقَن الطهارة ، بحيث لا يتطرقُ إليه إمكانُ النجاسةِ عَسِرُ الكونِ ، مُعْوِزُ الوجودِ ، وفي جهات الإمكان متسعٌ ، ولو كلف الخلقُ طلبَ يقين الطهارة في الماءِ ، لضاقت معايشُهم ، وانقطعوا عن مضطَربهم ومكاسبهم ، ثم لم يصلوا آخراً إلى ما يبغون.
659 – فهذه قواعدُ كليةٌ تخامرُ العقولَ من أُصول الشريعة لا تكاد تخفى ، وإن درست تفاصيلُ المذاهب.
660 – وإن استيقن المرءُ وقوع نجاسةٍ فيما يقدّره كثيراً ، وقد تناسى الناسُ القلتين ، ومذهبَ الصائرِ إلى اعتبارهما ، فالذي تقتضيه هذه الحالة أَن المغترفَ من الماءِ إن استقين أَن النجاسة قد انتشرت إلى هذا المغترَف وفي استعماله استعمالُ شيءٍ من النجاسة فلا يستعمله.

وإن تحقق أن النجاسةَ لم تنته إلى هذه المغترَف ، استعمله ، وإن شك أخذ بالطهارة ، فإن مما تقرر في قاعدة الشريعة استصحابُ الحكم بيقين طهارة الأَشياءِ ، إلى أن يطرأَ عليها يقين النجاسة.
661 – وهذا الذي ذكرته قريبٌ من مذهب أَبي حنيفة الآن.
662 – ولو تردد الإِنسان في نجاسة شيءٍ وطهارته ، ولم يجد من يخبره بنجاسته أو طهارته ، مفتياً أو ناقلاً ، فمقتضى هذه الحالةِ الأَخذُ بالطهارة ، فإنه قد تقرر في قاعدة الشريعة أن من شك في طهارة ثوبٍ أو نجاسته ، فله الأَخذُ بطهارته.
663 – فإذا عسر دركُ الطهارةِ من المذاهب ، وخلا الزمانُ عن مستقلٍّ بمذهب علماءِ الشريعة ، فالوجه ردُّ الأمرِ إلى ما ظهر في قاعدة الشرع أَنه الأَغلب.
664 – وقد قدمنا : أن الأصلَ طهارةُ الأشياءِ ، وأن المحكومَ بنجاسته معدودٌ محدود. ولو وجدنا في توافر العلماءِ عيناً وجوّزنا أنها دمٌ ، ولم يبعد أن صبيغاً مضاهياً للدم في لونه وقَوَامه ، واستوى الجائزان فيه عندنا ، فيجوز الأَخذُ بطهارته بناءً على القاعدة التي ذكرناها.
665 – فالتباسُ المذاهب ، وتعذر ذكر أقوالِ العلماءِ في العصر ينزلُ منزلةَ التباس الأحوال في الطهارة والنجاسة مع وجود العلماءِ.
666 – فإِن قيل : هذا الذي ذكرتَه اختراعُ مذهبٍ لم يصر إليه المتقدّمون ، والذين أوضحوا مذاهبَهم لم يخصصوها ببعض الأعصار ، بل أرسلوها منبسطةً على الأزمان كلِّها.
667 – قلنا : هذا الفن من الكلام يتقبَّلُه راكنٌ إلى التقليدِ مضربٌ عن المباحث كلِّها ، أو متبحّرٌ في تيار بحارِ علوم الشريعةِ بالغٌ في كل غَمْرٍة إلى مقرها ، صالٍ بحرّها ، صابرٌ على سبرها ، بصيرٌ بمآخذِ الأقيسة في معضلاتها ، غواص على مغاصاتها ، وافرُ الحظِّ من بدائعها ، وينكرها الشادُون المستطرِفون الذين لم يتشوَّفُوا بهممهم إلى دَرْك الحقائق ، ولم يضروا إلى المآزق ، والمضايق.
668 – ولا بد من تقرير الانفصال عن السؤال قبل الاندفاع في مجال المقال.

فنقول : لو عُرضت الكتبُ التي صنفها القَّياسون في الفقه مع ما فيها من المسائل المرتبة ، والأبواب المبوّبةِ ، والصور المفروضة قبل وقوعها ، وبدائع الأجوبة فيها ، والعباراتِ المخترعةِ من مستمسكاتهم فيها ، استدلالا ، وسؤالا وانفصالا ، كالجمع والفَرْق ، والنَّقْضِ والمنع ، والقلْب وفساد الوضع ، والقول بالموجَب ، ونحوها ، لتعب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في فهمها ، إذ لم يكن عهدٌ بها ، ومن فاجأَه شيءٌ لم يعهده ، احتاج إلى ردِّ الفكر إليه ، ليأنَس به ، ثم يستمر على أمثاله.

ومعظمُ المسائل التي وضعوها لم يُلفُوها بأَعيانها منصوصاً عليها ، ولكنهم قدّروها على مقاربةٍ ومناسبة من أُصول الشريعة.
669 – فتقديرُ إعواصِ المذاهب ، والتباسِ الآراءِ والمطالبِ إذَا جرّ إشكالاً في النجاسة والطهارة ـ واقعةٌ مفروضة ، رأَيت فيها قياسَ الشكِّ في النجاسة التي أنتجه التباسُ المذاهب ، على شكٍّ يُنتجه إشكالٌ في الأَحوال مع بقاءِ المذاهب.
670 – فقصارى القولِ فيه اعتبارُ شكٍّ بشك ، وبناءُ الأمرِ على تغليب ما قضى الشرعُ بتغليبه وهو الطهارة.
671 – والذي يكشف الغطاءَ في ذلك أن من أنكر ما ذكرته قيل له : لو قُدِّر خلوُّ الزمان عن العلماءِ بتفاصيل هذا الشأن ، وأشكل على صِاحب الواقعة أن الماءَ الذي وقعت فيه النجاسةُ مما كان يعفو العلماءُ عنه ، أَم لا ، ولا ماءَ غيره . فماذا تقول أَيُّها المعترضُ المنكر ؟ أَتقول: يجب اجتنابُه ؟ فهذا إن قلتَه ، فهو مذهبٌ مخالفٌ مذاهبَ الأولين . ثم يعارضهُ جواز استعماله ، وإن لم يطّلع على مذاهب المتقدّمين.

فهما إذاً مسلكان ، والتجويز أقرب مآخذ الشريعة في مواقع الشك في النجاسات كما سبق تقريره.
672 – وإن قال المعترض: لا حكم لله في هذا الماءِ في الزمان الخالي عن العلماءِ، روجع في ذلك، وقيل له : عَنَيْتَ أَنه لا حرجَ على المرء فيه استعمل ، أَو أَضربَ ، فهذا على التحقيق تسويغ الاستعمال لإمكان الإِشكال.
673 – والذي ذكرناه أَمثلُ ، فإن تَبْقِيَةَ ربط الشرع على أَقصى الإمكان ، نظراً إلى القواعد الكلية ، أَصوبُ من حلِّ رباط التكاليف لمكان استبهام التفاصيل.

ولا يخفى مدركُ الحقِّ فيما ذكرناه على القطن . وأما الفَدْم البليدُ ، فلا احتفال به ، ومن أبى مسلكَنا ، فهو عَنُودٌ جحودٌ ، أو غبيٌ بليدٌ.

والله ولي التأييد والتسديد بمنه ولُطفه.
674 – فإذا وضح ما ذكرناه ، فنعودُ إلى سير الكلام ، ونستتم غَرضنا في النجاسة والطهارة في هذا الأسلوب من الكلام ، ونقول : رب نجاسةٍ مستيقَنة يقضي الشرعُ بالعفو عنها ، ثم ذلك ينقسم إلى ما لا يتصوّر التحرز عنه أصلاً ، وليس من الممكن الاستقلالُ باجتنابه ، وهو كالغبار الثائر من قوارع الطرق التي تطرقُها البهائمُ والدواب والكلابُ ، وعلى القطع نعلم نجاستَها ، والناس في تردداتهم ، وتصرفاتهم يعرقون ، والرياح تثير الغبارَ ، فتنالُ الأبدانَ والثيابَ ، ثم لا يخلو عما ذكرناه البيوتُ والدورُ والأَكنانُ. ونحن نعلم أن التحرز من هذا غيرُ داخلٍ في الاستطاعة ، ثم الأَنهار ينتشر إليها الغبارُ المثارُ قطعاً ، فكيف يُفرضُ غسل هذا النوع ، والماءُ يتغشاه منه ما يتغشى غيرَه من الثياب والأبدان والبقاع ، فلا خفاءَ بكون ذلك محطوطاً عن المكلفين أجمعين.
675 – ومن ضروب النجاسات ما يدخل في الإِمكان الاحترازُ منها على عُسر ، وإذا اتصلت بالبدن والثوب أَمكن غسلُها ، ولكن يلقى المكلفون فيه مشقةً لو كلفوا الاجتناب والإزالةَ . وهذا على الجملة معفوٌّ عنه عند العلماءِ ، وإنما اختلافُهم في الأَقدار والتفاصيل ، ومثال هذا القسم عند الشافعي رحمه الله دماءُ البراغيث ،والبثرات إذا قلّت.

وللأئمة في تفصيل هذه الفن مذاهبُ مختلفة ، ليس نقلُها من غرضنا لآن.
676 – ونحن نقول وراءَ ذلك : لا يخفى على أهل الزمان الذي لم تدرُس فيه قواعدُ الشريعة ، وإنما التبست تفاصيلُها أَنَّا غيرُ مكلفين بالتوقِّي مما لا يتأَتى التوقِّي عنه ، ولا يخلو مثلُ هذا الزمان عن العلم بأَن ما يتعذر التصون عنه جداً ، وإن كان متصورّاً على العُسر والمشقة معفوٌّ عنه ، ولكن قد يخفى المعفوٌّ عنه قدراً وجنسا ، ولا يكون في الزمان من يستقلُّ بتحصيله وتفصيله.
677 – فالوجه عندي فيه أن يقال : إن كان التشاغل مما يُضَيِّقُ متنّفَس الرجل ومضطرَبه في تصرفاته وعباداته وأفعاله ، التي يُجريها في عاداته ، ويجهدُه ويكُدّه مع اعتدال حاله ، فليعلم أنه في وضع الشرع غيرُ مؤاخذٍ به ، فإِن مما استفاض وتواتر من شيمِ الماضين رضي الله عنهم أجمعين التساهلُ في هذه المعاني ، حتى ظن طوائفُ من أَئمة السلف أن معظم الأبوال والأرواث طاهرةٌ ، لما صح عندهم من تساهل الماضين في هذه الأبواب.
678 – وإن لم يكن التصوُّن عنها مما يجرُّ مشقة بيّنةً مُذْهلةً عن مهماتِ الأشغال ، فيجب إزالتُها.
679 – هذا ما يقضي به كليُّ الشريعة عند فرض دروس المذاهب في التفاصيل.
680 – فهذا مسلكُ القول في أحكام النجاسات ، ولو أكثرت في التفاصيل ، لكنت هادماً مبنى الكتاب ، فإن أصل ذلك التنبيه على موجَب القواعد ، مع تعذر الوصول إلى التفصيل ، فلو فَصّلْنَا وفرّعنا ، لكان نقلُ تفاصيل المذاهب المضبوطةِ أولى مما تقرر كونه عند دروسها.

فليفهم هذه المرامزَ مُطالِعُها ، مستعيناً بالله عزت قدرته.
681 – وقد ذكرنا في صدر الباب أن الماءَ تطرأُ عليه النجاساتُ والأشياءُ الطاهرةُ والاستعمالُ . وقد نجز مقدارُ غرضنا من أَحكام النجاسات.
682 – فأما طريانُ الأشياءِ الطاهرة على الماءِ ، فلا يتصور أن يخفى مع ظهور قواعد الشرع في الزمان أن ما يردُ على الماء من الطاهرات ، ولا يغير صفةً من صفاته ، فلا أثر له في سلب طهارة الماءِ وتطهيره.

وإن غيره مجاوراً أو مخالطاً ، فهذا موضع اختلاف العلماء ، ولا حاجة بنا إلى ذكره.

ولكن أذكر ما يليق بالقاعدة الكلية ، فأقول:
683 – تخصيص الطهارات بالماءِ من بين سائر المائعات مما لا يعقل معناه ، وإنما هو تعبُّدٌ محض ، وكل ما كان تعبداً غير مستدرَكِ المعنى ، فالوجه فيه اتباعُ اللفظ الواردِ شرعاً ، فلنتبع اسمَ الماءِ ، فكلُّ تغيُّر لا يسلبُ هذا الاسمَ لا يُسقط التطهيرَ.

وهذا الذي ذكرتُه كلياً في تقدير دروس تفاصيل المذاهب ، هو المعتمد في توجيه المذهب المرتضى من بين المسالك المختلفة؟
684 – وأما طريانُ الاستعمال ، فالمذاهب مختلفةٌ في الماء المستعمل.

والذي يوجبه الأصلُ لو نُسيت هذه المذاهب تنزيله على اسمِ الماء وإطلاقِه ، وليس يمتنع تسميةُ المستعملِ ماءً مطلقاً.

فيسوغ على حكم الأصل من غير تفصيلٍ التوضؤُ به ، تمسكاً بالطهارة والاندراج تحت اسم الماء المطلق.

فهذا ما يتعلّق بأحكام المياه على مقصدنا في هذا الركن.

والله أعلم.

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على مقتطفات من غياث الأمم للجويني – 3 مغلقة

رسالة.. من حراس المسجد الأقصى (قصيدة)

للشاعر د. عبد الغني بن أحمد التميمي

أعيرونا مدافعَكُمْ ليومٍ… لا مدامعَكُمْ
أعيرونا وظلُّوا في مواقعكُمْ
بني الإسلام! ما زالت مواجعَنا مواجعُكُمْ
مصارعَنا مصارعُكُمْ
إذا ما أغرق الطوفان شارعنا
سيغرق منه شارعُكُمْ
يشق صراخنا الآفاق من وجعٍ
فأين تُرى مسامعُكُمْ؟!
** ** **
ألسنا إخوةً في الدين قد كنا .. وما زلنا
فهل هُنتم ، وهل هُنّا
أنصرخ نحن من ألمٍ ويصرخ بعضكم: دعنا؟
أيُعجبكم إذا ضعنا؟
أيُسعدكم إذا جُعنا؟
وما معنى بأن «قلوبكم معنا»؟
لنا نسبٌ بكم ـ والله ـ فوق حدودِ
هذي الأرض يرفعنا
وإنّ لنا بكم رحماً
أنقطعها وتقطعنا؟!
معاذ الله! إن خلائق الإسلام
تمنعكم وتمنعنا
ألسنا يا بني الإسلام إخوتكم؟!
أليس مظلة التوحيد تجمعنا؟!
أعيرونا مدافعَكُمْ
رأينا الدمع لا يشفي لنا صدرا
ولا يُبري لنا جُرحا
أعيرونا رصاصاً يخرق الأجسام
لا نحتاج لا رزّاً ولا قمحا
تعيش خيامنا الأيام
لا تقتات إلا الخبز والملحا
فليس الجوع يرهبنا ألا مرحى له مرحى
بكفٍّ من عتيق التمر ندفعه
ونكبح شره كبحاً
أعيرونا وكفوا عن بغيض النصح بالتسليم
نمقت ذلك النصحا
أعيرونا ولو شبراً نمر عليه للأقصى
أتنتظرون أن يُمحى وجود المسجد الأقصى
وأن نُمحى
أعيرونا وخلوا الشجب واستحيوا
سئمنا الشجب و الردحا
** ** **
أخي في الله أخبرني متى تغضبْ؟
إذا انتهكت محارمنا
إذا نُسفت معالمنا ولم تغضبْ
إذا قُتلت شهامتنا إذا ديست كرامتنا
إذا قامت قيامتنا ولم تغضبْ
فأخبرني متى تغضبْ؟
إذا نُهبت مواردنا إذا نكبت معاهدنا
إذا هُدمت مساجدنا وظل المسجد الأقصى
وظلت قدسنا تُغصبْ
ولم تغضبْ
فأخبرني متى تغضبْ؟
عدوي أو عدوك يهتك الأعراض
يعبث في دمي لعباً
وأنت تراقب الملعبْ
إذا لله، للحرمات، للإسلام لم تغضبْ
فأخبرني متى تغضبْ؟!
رأيت هناك أهوالاً
رأيت الدم شلالاً
عجائز شيَّعت للموت أطفالاً
رأيت القهر ألواناً وأشكالاً
ولم تغضبْ
فأخبرني متى تغضبْ؟
وتجلس كالدمى الخرساء بطنك يملأ المكتبْ
تبيت تقدس الأرقام كالأصنام فوق ملفّها تنكبْ
رأيت الموت فوق رؤوسنا ينصب
ولم تغضبْ
فصارحني بلا خجلٍ لأية أمة تُنسبْ؟!
إذا لم يُحْيِ فيك الثأرَ ما نلقى
فلا تتعبْ
فلست لنا ولا منا ولست لعالم الإنسان منسوبا
فعش أرنبْ ومُت أرنبْ
ألم يحزنك ما تلقاه أمتنا من الذلِّ
ألم يخجلك ما تجنيه من مستنقع الحلِّ
وما تلقاه في دوامة الإرهاب والقتل ِ
ألم يغضبك هذا الواقع المعجون بالهول ِ
وتغضب عند نقص الملح في الأكلِ!!
** ** **
ألم تنظر إلى الأحجار في كفيَّ تنتفضُ
ألم تنظر إلى الأركان في الأقصى
بفأسِ القهر تُنتقضُ
ألست تتابع الأخبار؟ حيٌّ أنت!
أم يشتد في أعماقك المرضُ
أتخشى أن يقال يشجع الإرهاب
أو يشكو ويعترضُ
ومن تخشى؟!
هو الله الذي يُخشى
هو الله الذي يُحيي
هو الله الذي يحمي
وما ترمي إذا ترمي
هو الله الذي يرمي
وأهل الأرض كل الأرض لا والله
ما ضروا ولا نفعوا ، ولا رفعوا ولا خفضوا
فما لاقيته في الله لا تحفِل
إذا سخطوا له ورضوا
ألم تنظر إلى الأطفال في الأقصى
عمالقةً قد انتفضوا
تقول: أرى على مضضٍ
وماذا ينفع المضضُ؟!
أتنهض طفلة العامين غاضبة
وصُنَّاع القرار اليوم لا غضبوا ولا نهضوا؟!
** ** **
ألم يهززك منظر طفلة ملأت
مواضع جسمها الحفرُ
ولا أبكاك ذاك الطفل في هلعٍ
بظهر أبيه يستترُ
فما رحموا استغاثته
ولا اكترثوا ولا شعروا
فخرّ لوجهه ميْتاً
وخرّ أبوه يُحتضرُ
متى يُستل هذا الجبن من جنبَيْك والخورُ؟
متى التوحيد في جنبَيْك ينتصرُ؟
متى بركانك الغضبيُّ للإسلام ينفجرُ
فلا يُبقي ولا يذرُ؟
أتبقى دائماً من أجل لقمة عيشكَ
المغموسِ بالإذلال تعتذرُ؟
متى من هذه الأحداث تعتبرُ؟
وقالوا: الحرب كارثةٌ
تريد الحرب إعدادا
وأسلحةً وقواداً وأجنادا
وتأييد القوى العظمى
فتلك الحرب، أنتم تحسبون الحرب
أحجاراً وأولادا؟
نقول لهم: وما أعددْتُمُ للحرب من زمنٍ
أألحاناً وطبّالاً وعوّادا؟
سجوناً تأكل الأوطان في نهمٍ
جماعاتٍ وأفرادا؟
حدوداً تحرس المحتل توقد بيننا
الأحقاد إيقادا
وما أعددتم للحرب من زمنٍ
أما تدعونه فنّـا؟
أأفواجاً من اللاهين ممن غرّبوا عنّا؟
أأسلحة، ولا إذنا
بيانات مكررة بلا معنى؟
كأن الخمس والخمسين لا تكفي
لنصبر بعدها قرنا!
أخي في الله! تكفي هذه الكُرَبُ
رأيت براءة الأطفال كيف يهزها الغضبُ
وربات الخدور رأيتها بالدمّ تختضبُ
رأيت سواريَ الأقصى لكالأطفال تنتحبُ
وتُهتك حولك الأعراض في صلفٍ
وتجلس أنت ترتقبُ
ويزحف نحوك الطاعون والجربُ
أما يكفيك بل يخزيك هذا اللهو واللعبُ؟
وقالوا: كلنا عربٌ
سلام أيها العربُ!
شعارات مفرغة فأين دعاتها ذهبوا
وأين سيوفها الخَشَبُ؟
شعارات قد اتَّجروا بها دهراً
أما تعبوا؟
وكم رقصت حناجرهم
فما أغنت حناجرهم ولا الخطبُ
فلا تأبه بما خطبوا
ولا تأبه بما شجبوا
** ** **
متى يا أيها الجنـديُّ تطلق نارك الحمما؟
متى يا أيها الجنديُّ تروي للصدور ظما؟
متى نلقاك في الأقصى لدين الله منتقما؟
متى يا أيها الإعـلام من غضب تبث دما؟
عقول الجيل قد سقمت
فلم تترك لها قيماً ولا همما
أتبقى هذه الأبواق يُحشى سمها دسما؟
دعونا من شعاراتٍ مصهينة
وأحجار من الشطرنج تمليها
لنا ودُمى
تترجمها حروف هواننا قمما
** ** **
أخي في الله قد فتكت بنا علل
ولكن صرخة التكبير تشفي هذه العللا
فأصغ لها تجلجل في نواحي الأرض
ما تركت بها سهلاً ولا جبلا
تجوز حدودنا عجْلى
وتعبر عنوة دولا
تقضُّ مضاجع الغافين
تحرق أعين الجهلا
فلا نامت عيون الجُبْنِ
والدخلاءِ والعُمَلا
** ** **
وقالوا: الموت يخطفكم وما عرفوا
بأن الموت أمنية بها مولودنا احتفلا
وأن الموت في شرف نطير له إذا نزلا
ونُتبعه دموع الشوق إن رحلا
فقل للخائف الرعديد إن الجبن
لن يمدد له أجلا
وذرنا نحن أهل الموت ما عرفت
لنا الأيام من أخطاره وجلا
هلا بالموت للإسلام في الأقصى
وألف هلا

كُتب في تذكرة, منائر | التعليقات على رسالة.. من حراس المسجد الأقصى (قصيدة) مغلقة

وإن تتقوا وتصبروا لايضركم كيدهم شيئاً – 2006-10-06

أمام إلحاح أطفالي نقعت في الماء بعض بذور البطيخ الأصفر (الشمام) والذي له طعم مثل العسل! وقد أخذت البذور من (بطيخة) نادرة الطعم زكية الرائحة، ثم زرعناها في وعاء خاص ، وبعدها ظهرت وريقات صغيرة استحالت إلى نبات فتي يملأ العين خضرة وبهاء! وبقينا ننتظر الأزهار التي تعقبها الثمار الشهية ، ولكن عبثاً! ومنذ أيام ودعنا آخر عرق أخضر فقد ماتت نبتتنا! ومع ذلك الوداع أدركت جهلي! فذلك النبات أميركي! وصممت بذوره خصيصاً لتنبت مرة واحدة، وواحدة فقط ، وإلا فكيف سندفع (كأمة) كل سنة مئات ملايين الدولارات ثمناً لبذور جديدة !

أمتعني جداً (بقدر ما أقلقني) كتاب ممتاز ألفه الكاتب المفكر والطبيب أحمد خيري العمري ، وسماه (الفردوس المستعار والفردوس المستعاد) وقد تفضل مشكوراً بإهدائي نسخة منه، ومن ذلك الكتاب علمت لماذا لاتنبت البذور مرتين!

يذكر الأستاذ العمري أنه في عام 1915 حصل ماغير وجه العالم ، فقد حصل إفراط في الإنتاج ، وتكدست البضائع ، فقلت أرباح الرأسماليين الذين التجئوا إلى هنري فورد (1863-1947) فأحال الأمر إلى قسم الدراسات الاجتماعية ، وبعد مداولات عاصفة خرجت مؤسسة فورد باقتراحين مذهلين : الأول : تقليل ساعات العمل من 60 ساعة في الأسبوع إلى 48ساعة! وزيادة الأجور!! وبالتأكيد لم تكن مؤسسة فورد غبية بل في غاية المكر والدهاء!

كان الهدف هو إيجاد وقت للراحة والترف! وبالتأكيد فيجب أن تكون الجيوب ممتلئة! وإذا وجد الفراغ والمال فشيطان التسوق هو ثالثهما من دون جدال. [منذ فترة افتتح عندنا في الشام مركز تجاري ضخم لم يجد أصحابه إلا عبارة في غاية السماجة والعامية للدعاية له وهي: ( كتير كتير تسوق) مع صور غريبة تناسب سكان مونت كارلو ونيس (الأتقياء) في الستينات!].

كان فورد عدواً لدوداً للحركات العمالية، ولكنه كان أدهى منها بكثير ، فأوقع الكل في فخ الاستهلاك ، وببعض الدعاية المغرية كالتخفيضات الموسمية والتقسيط المريح استطاع فورد وخلفاؤه انتزاع بقية المدخرات التي وفرها العمال المساكين.

عدت لأنظر في كتاب الفردوس المستعار والفردوس المستعاد فوجدت أنه قائم على ثلاثة محاور أساسية: أولها يتحدث كيف أن المواجهة مع المنظومة الأميركية ليست مواجهة عسكرية بل إن هناك ديناً أميركاً لم يبدأ عمله عند سقوط بغداد بل هو سرطان متغلغل في كثيرين ، والصراع العسكري وجه واحد لصراع حضاري وقيمي يطرح نفسه كدين بالمعنى العميق وهذا كله في مواجه فرد مقموع ومهزوم ومكبوت في طاقته الإنسانية كلها [جزى الله الحكام ماهم أهله]، ولم يعد الدين (الأميركي) حكراً على أميركيين وطنيين حتى العظم! بل أصبح له ملايين الأتباع الذين يحملونه حتى وإن لم يدركوا ذلك! ومادام لكل دين إعجازه فقد كانت معجزة الدين الأميركي منبعثة من روحه (أي حسية صرفة) تقدم إبهاراً تقنياً يشل قدرات الفرد ويقضي على أي جدال أورفض .

يرسل إلينا الدين الأميركي كل يوم ملايين الرسائل عبر الإعلام والتحليلات والتربية والثقافة والأجهزة التقنية، والتقدم العلمي والمخترعات ووسائل الاتصال والتعبير والمؤسسات والخدمات والترفيه وحل المشاكل … وهو دين لايصطدم مع أحد ولا يحارب العقائد مباشرة ولكنه يزحف ببطء مخيف مكتسباً مواقع ثابته يصعب جداً إعادة التمكن منها ، والأمكر أنه لايعارض العبادة ولا يمنع أحداً من مزاولة ما يعتقد ، بل يهنئ ويفتح الأبواب ويبارك ويصافح بينما يفرغ القيم الأساسية ليضع قيمه هو ومبادئه ونظرته وعقليته بل يسكب روحه سكبا في كل مفصل فيناً.

لب هذ الدين قائم على فكرة الحلم الأميركي من الرفاهية والترف والعيش في جنة السلع الأرضية.

وكما أفرغ فورد جيوب العمال المساكين ، فقد أفرغ الدين الأميركي الأرض من قيمها ، فأوحى لها أن التقدم إلى الفردوس (المستعار والوهمي والمزيف) رهن بخلاصها من الفردوس الآخر (وهو القديم والموروث والممل ).

[إن النزهة القصيرة التي قرر الدين الأميركي ومنظومته العسكرية أن يقوم بها لمدة أسبوعين في بغداد! لتحريرها من الطغيان البعثي كانت فردوساً مزيفاً ، ولم يدرك سدنة الدين الأميركي أن هناك فردوساً آخر استطاع الذين يريدون استعادته أن يبقوا القوات الأميركية تغرق في الوحل العراقي خمس سنوات عجاف ولا يعلم إلا الله عواقب ما ستأتي به الأيام].

فردوسنا الذي فقدناه (أخلاقاً وديناً وعادات وترابطاً اجتماعياً ومروءة وإنسانية) يضع الدين الأميركي بديلاً عنه فردوساً مستعاراً ، خلفه أعلى معدلات الاغتصاب في العالم وأكثر نسب الاعتداء على المحارم ،وأعلى نسبة طلاق وأكبر نسبة جريمة وإدمان مخدرات وكحول وسرقة وقتل وعيادات نفسية وتفكك عائلي ومآوي عجزة وتفكك اجتماعي وخواء روحي …) .

بعد ذلك يتحدث الكاتب عن أن الخروج من الجنة (والذي تتفق عليه أدبيات الأديان الكبرى) قد اعتراه التشويش ، وقامت هوليود بتحويل الأمر إلى موضوع جنسي! بينما كان الأمر حداً يتأدب به البشر وتتدرب به النفس فلا تجمح نحو تدمير ذاتها، ومن آدم إلى إبراهيم إلى محمد صلى الله عليهم جميعاً كانت هناك دائماً ضوابط للتوازن وإخراج من الحضيض وإعادة توجيه نحو الفردوس الحقيقي الذي لا يجوز أن نتوه عنه.

وكما لكل دين ثوابته وأركانه فللدين الأميركي أركانه أيضاً! وهي : المادية والفردية والاقتصاد الحر والاستهلاك والعيش (الغرق) في الحاضر!

الركن الأول قديم قَوي في القرن الخامس الميلادي ثم خفت بانتشار المسيحية، وعيب الدين الأميركي أنه لا يجعل المادة مكوناً من المكونات الحضارية وفقط ، بل أنه يندر قيام حضارة ارتكزت على عنصر واحد مثلما فعلت الحضارة الأميركية [وهو ماسيجعلها تتآكل ذاتياً في المستقبل] وكل الأسئلة جوابها : المادة والطاقة، أوقل : الحواس الخمس! فهي الرؤية الأكثر تبسيطاً لأكثر الأمور تعقيداً! ، إنهم بالضبط كما يقول تعالى : (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) (الروم:30/7)، ويشير الكاتب إلى أمر خطير ، وهو أننا نقول أن هناك توازناً في الإسلام بين المادة والروح ، فنجعلهما قسيمين، والأمر ليس كذلك فعالم المادة جزء ظاهر من عالم غير مرئي وأرحب بكثير ، وهو عالم الغيب ، فلا تناقض ولا تصادم ولاتوازن ولا تعادل ولا تساوٍ ، إنما جزء صغير ظاهر من جزء أعظم غير ظاهر ، فهل نؤمن بالأول لأننا نراه وننكر الآخر لأننا لا نراه (مادياً).

مع أن ألأميركيين ليسوا هم الذين اخترعوا الفلسفة المادية لكنهم عاشوها ومضوا إلى أعمق غور فيها! وهنا برزت النفعية (البراجماتية) كفلسفة ميزت أميركة وهي أهم إضافة سلبية قدمها الأميركان إلى الحضارة عندما شطبوا كل الأديان والمذاهب والفلسفات ووضعوا معياراً جديداً ، فكل شيء ليست له قيمة مالم تكن له نتيجة عملية على أرض واقع مؤلف من بعدين وحواس خمس فقط! [انتبه : لعلك تحمل هذا الوهم طيلة حياتك وأنت لاتدري].

ليس المهم الصواب والخطأ ، الخير والشر ، الحرام والحلال ، الألم والشقاء ، المهم فقط المنفعة المادية الآنية! [ومن أجل ذلك فبدهي أن تباد حضارة الهنود الحمر ويقتل عشرات الملايين ، وأن يستعبد ملايين الأفارقة بعد خطفهم من أفريقية ، وأن تدمر هيروشسيما وناغازاكي بالقنابل النووية ، وأن يكذب بقصة الأسلحة النووية العراقية سنوات بعد حصار ظالم لشعب العراق استمر عشر سنوات وحصد مئات الألوف من الأطفال الأبرياء وسبب من الويلات والنكبات مالا يحصيه عد ، وبدهي أن تنزل القوات الأميركية في أفغانستان ثم العراق وغداً دارفور وربما بعده لبنان أو سورية (لاسمح الله) وإدارتهم تكذب وتكذب وتكذب وتتحدث عن الإرهاب وهي ترمق النفط وتتحدث عن الديمقراطية وهي تريد ضمان الاستقرار لحليفتها التوراتية (إسرائيل) ، وتتحدث عن الاستقرار ، وقد سفكت في شعوب الأرض كلها الملايين من الدم البرئ الحرام].

[دهشت جداً منذ أيام لطالب غربي أتى يسألني عن بعض الأمور في الإسلام ، فقلت له : هل أنت تبحث عن الأمر لأهداف أكاديمية أم شخصية؟ فأجابني ببراءة : سأخبرك عن تفكيري حول الدين : إنني لست أتبع أي دين فإذا قال الناس أن هناك خالقاً وجنة وناراً ويوماً آخر فأنا أقول بذلك ، وإذا هم أنكروا كل ذلك فأنا معهم!! وهو مثال سافر عن البراجماتية العجيبة].

وهناك من سيقول (متفلسفاً) : إن الله تعالى يقول أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، وسيطرب أتباع الدين الأميركي لهذا الاكتشاف! غافلين عن الفرق الأساسي بين النفع الشرعي الذي هو للناس ، والنفع الأميركي الذي هو للذات (وهذا له علاقة وثيقة بموضوع أخطر إذ لايوجد متبع للدين الأميركي إلا ويحمل جراثيمه، وهو عبادة الذات! مما سنركز عليه لاحقاً)].

[من النتائج الطبيعية للدين الأميركي وبراجماتيته أن ينظر الأفراد على مصالحهم التجارية فيرفضون المقاومة ضد الاحتلال لأنها لا تعين على الاستقرار الاقتصادي ، ويقبلون الاحتلال لأن الخسائر – ضمن الحواس الخمس- أقل من خسائر المواجهة] .

أعان على الفلسفة النفعية رواد مثل سبنسر (منتصف القرن التاسع عشر) وخلاصة نظريته الماكرة جداً (وهي داروينية اجتماعية سابقة للداروينية البيئية التي أتى بها دارون) أن القوي يأكل الضعيف في البيولوجيا ، والغني يأكل الفقير في عالم الأفراد ، وتغيير ذلك سيؤخر تطور البشرية [ضمن رؤية سبنسر للبشرية] ، [من النتائج العملية أن إبادة شعوب بكاملها إنما هي عملية تنظيف ، لذلك لم يستطع الرئيس كلينتون إلا الاعتراف بتقصير الإدارة الأميركية الشديد في إيقاف مذابح التوتسي والهوتو والتي ذهب ضحيتها أكثر من مليون إنسان ذبحوا بالسيوف والفؤوس! فلا نفط عندهم ولا مصالح اقتصادية ، وموتهم سيخفف بعض الجهد عن كاهل البشرية-الأميركية- ، ونستطيع بسهولة أن نرى تلك المعاني في الأفلام الأميركية ، والتي عمادها القتل والجريمة ، فبعد انتهاء مهمة العميل يمحق ويقتل مثل حشرة فقد انتهت مهمته ، ولم يعد منه نفع حتى لولم يكن خائناً ، فقد أدى وظيفته ، ونفعه –ضمن الحواس الخمس- وليس له أي كرامة كإنسان ، ويمكن للإنسان أن يكون عطوفاً على والديه إلى حد معين ، وبعدها فدور العجزة هي المكان الطبيعي للوالدين ، إذ لا يوجد في الدين الأميركي أي شيء يمت إلى العمل لوجه الله أو الأجر الأخروي ، أو الحسنات والثواب ، والتوفيق في الحياة بسبب بر الوالدين].

[هناك أمر حيرني ، وهو أن كثيراً ممن يعيشون في تلك المجتمعات يحبون الخير ، وهناك من يدفع الملايين لتلك الأعمال ، وهذا حق لأن الفطرة البشرية لاتموت بهذه السهولة ، ولكن حاول أن ترى ذلك السخاء في حالة الضيق والقحط ، فهل ستجد أمة ممن قال الله فيهم : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة! أبداً فحالة البحبوحة والرغد هي التي تدفع لأعمال الخير إرضاء للنزعة الذاتية وفي أحيان أخرى بقصد المباهاة ، أما عند المحنة فتزول الطبقة البسيطة من الفطرة ، ويستيقظ وحش البراجماتية ، وليس أدل على ذلك ما حصل عندما انقطعت الكهرباء في نيويورك لبضعة ساعات فقط ، فقد حصل من السرقات والنهب والاعتداء على أملاك الناس مالم يسبق في تاريخ البشر (ومثله ماحصا في إعصار فلوريدا السنة الماضية الذي نهبت فيه بعض المدن بشكل غير مسبوق)، أما في بلادنا المتخلفة فمازلت أرى الناس في الأسواق القديمة يضعون غطاء بسيطاً على بضائعهم وأحياناً مجرد عصا صغيرة ، تعلن أن صاحب المحل ذهب إلى الصلاة والبيع متوقف الآن ، ولا أحد يسرق ولا أحد يمد يده رغم كثرة الفقر والحاجة، أما عندما تحصل نكبة أو مصيبة ، فمشاعر المؤازرة والمساندة والبذل في بلادنا تبدأ من الأقل مالاً فما زالت فيهم النخوة التي لا يوجد لها مرادف عند الاستهلاكيين ، وبالمناسبة فيوجد بيننا آلاف البراجماتيين –أتباع الديانة الأميركية- وهم لايحسون بما هم فيه ، ويذكرني حالهم بشكوى لأحدهم عن قسوة قلبه ، وبعدما سمعه أحد الحكماء قال له: سل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك!]

الركن أو الثابت الثاني في الدين الأميركي هو : الفردية :

مبدأ الفردية تشكل إطاره النظري عبر ثلاثة مفكرين : رالف والد إيمرسون (1803-1882) وهنري ديفيد ثورو (1817-1862) وألكس دي توكفل (1805-1859).

لقد هاجم الأولان كل النظم الدينية التي تدعو إلى غير الفردية ، وركزوا على أن الفرد هو القيمة الأولى والأهم في المجتمع ، وهو ينتمي لنفسه أولاً وأخيراً ، وليس من حق المجتمع أن يملي عليه تصرفاته وأفكاره ، ومن حق هذا الفرد أن يسلك أي سلوك يجلب له السعادة مهما كان مخالفا لتصور الآخرين في السعادة [ليست الانتحارات المشتركة والجنس والتحشيش الجماعي والاعتداء على المحارم واغتصاب الأطفال وتعذيبهم ، وإطلاق النار من المراهقين على أساتذتهم وزملائهم سوى مفردات بسيطة لهذا الفكر].

في كل إنسان نزعة فردية ولكن بالتربية والإيمان تصقل لتتحول إلى عامل إيجابي أو تبقى ضمن إطار لايؤدي إلى أضرار واسعة الطيف ، أما الفلسفة الفردية فهي منهج خطير ليس قائماً على إدراك دور الفرد بل يؤله الفرد ، فترى الفردية أن معيار الأخلاق والمبادئ يمر عبر الفرد ، وليس من واجبه أن يضحي من أجل غيره ، فالمجتمع صمم من أجل خدمتة ، والفردية لاتدعو للعزلة بل هي تنظيم جديد للعلاقة بين الناس قائمة على فرد مع فرد وليس علاقة فرد بمجتمع، [عند عقد الزواج الإسلامي يذكر العلماء أن العلاقة الزوجية ليست علاقة فرد بفرد ، بل مجتمع بآخر].

وماذا عن الفرد الضعيف؟ يقول إيمرسون: لايقل لي أحد أن لدي التزاماً تجاه الفقراء ، إنهم ليسوا فقرائي! [إن مايجري من أعمال الخير في المجتمعات الغربية قائم على الفردية أساساً ويبني عليها ، ولم يكن يوماً قائماً على العقد الاجتماعي ، أو الواجب الديني ، كما هو نظام الزكاة في الإسلام الذي يفرض على الأغنياء فرضاً إخراج الزكاة كي لايكون المال دولة في أيدي الأغنياء].

حققت الفردية دوراً إيجابياً في البناء الحضاري الأميركي بإطلاق طاقة الفرد [ولو على حساب أمور أخرى]. وانبثق منها مفهوم الحرية الشخصية التي كانت طعماً ساذجاً وقناعاً لممارسة الفردية ، وعندما يصبح الفرد مشرعاً لنفسه فمعنى هذا أن أكبر عدد من الأفراد إذا اتفقوا على شيء واحد فسيملكون حق التشريع للمجتمع بغض النظر عن أي شيء آخر! [أباحت إحدى الدول الأوربية للشاذين جنسياً تبني الأطفال!! لأن مجموع المصوتين في البرلمان مع القرار أكثر من المعارضين] وتهمس لك الفردية: أنت أهم شيء ، واقبل نفسك ، وباختصار كُن ذاتك ، فلا داعي لتعديل أي شيء في حياتك إلا مايوافقك [خرجت مظاهرة في نيويورك مرة تضم عشرات آلاف الشواذ وهي تنكر على الحكومة الأميركية تقصيرها في إيجاد الأدوية التي تسمح للشاذين باستمرار سلوكهم دونه أن يضطروا للوقوع تحت وطأة الإشكالات الصحية].

كرست الفردية نوعاً من افتتان المرء بذاته ، وبنت فيه نرجسية فائقة ، ومع الوقت نمت هذه الخصلة لتتحول إلى عبادة الذات، ويصبح الفرد هو مركز الكون! [وهذا الأمر في غاية الخطورة من الناحية الشرعية]: (أفرأيتَ من اتخذ إلههُ هواهُ وأضله الله على علم) (الجاثية45/23) ، وعندما تستقر تلك العبادة ستبدأ بإخراج الوثن الذي ستقود به جماهير السذج والمغفلين!

[نتوقف عند مثال واحد ، وهو هنا فني ولكن له نسخ تجارية وعلمية وسياسية] : تُسلط أضواء الأعلام ليلاً ونهاراً على بعض النجوم الذين هم دائماً في غاية الأناقة والوسامة والجاذبية والذين هم يمثلون النجاح الفردي الكاسح والعصامية في شق الطريق! والولع الموجه لهم هو ترميز لعبادة الذات [التي ينبغي للكل أن يتوجه إليها] ، وكل فرد في الجمهور يرى في النجم ذاته ، فهو يتقرب ويعبد ذاته من خلال الرمز النجومي الذي هو محض وثن يحرض عبادة الذات في النفس!

لابد من ربط الجمهور بأدق تفاصيل حياة ذلك النجم من نوع الصابون وكيف يحلق وكيف يحب وماذا يأكل [ليس لأنه قدوة صالحة ومعلم خير ، بل فقط لأنه فرد يوقظ في النفس وثنية الذات إلى أبعد حد] ، ثم تقام بعدها تصفيات للنجوم تهدر فيها حياة أولئك [الأفراد الخاسرين ، فهو مذبح وثني قديم تفترس السباع فيه العبيد ، ولا يحزن أحد على العبيد الضعفاء مادامت السادية والذات قد اشتفت بمنظر التوحش الكامن فيها ووحده المنتصر يحوز البطولة ، ويمكن لمن يهمه الموضوع أن يتابع مسيرة الحياة للنجوم الذين لا يستطيعون المتابعة كيف ينهار أكثرهم نفسياً بعد النجومية المتداعية أو ينتحرون أو يعيشون في وضع لا يحسدون عليه].

من آلاف المتقدمين يحصل انتقاء تدريجي يقوم به الجمهور مختاراً من يجسد نفسه [ أي ذاتيته و وثنه الداخلي] فلا منطق هنا ولا معيار ولا مُحدد إلا الذات والذات فقط وماتهوى ، ويزداد الحماس ويشارك في التصويت ملايين قد لا تشارك في انتخابات الرئاسة الأميركية نفسها، وكلما اشتد السباق تحول الأمر إلى هستيريا ليبقى اثنان في النهايةلابد أن يُصرع أحدهما [ضمن الطريقة المعاصرة لصراع الأسود والعبيد] ، وتقدم البرامج الأميركية ، والتي من أشهرها برنامج (الوثن الأميركي : American Idol) الذي يستقطب الملايين ، وسيصل الوثن الأخير الذي سيكون المعبود الحقيقي الذي يعبر عن حلم الملايين ومشاعرهم وآمالهم ، وسيكون حتى شكل حلاقته وثيابه وعطره بل وحتى مجونه المثل الأعلى لملايين الشباب في الأرض ، وستحلم بمثله ملايين المراهقات ، وسيكون مادة عبادة تتعبد لها الجماهير الغافلة وهي تقصد عبادة ذاتها!

هذا البرنامج الوثني لابد له من نسخة عربية ، [وربما عجب بعض أفاضل الدعاة والعلماء للشعبية الكاسحة لبرامج مثل (ستار ) وملايين المكالمات التي كانت تشارك في التصويت ] وربما بكى بعضهم واستنفر بسبب العري ، والوقت المهدور في أمة مذبوحة وللجيل المائع والتفاهة ، ولوعلموا الحقيقة الكامنة لعلموا أن الأمر أخطر بكثير فهو إقامة صرح ومعبد للوثنية التي تقوم على عبادة الذات والفردية التي هي ركن أساسي في قيم الفردوس الزائف المستعار.

[من نافلة القول أن كثيراً من البرامج التي انصبت فجأة مثل المطرعلى العالم العربي مثل البرمجة اللغوية العصبية وتطوير الذات وبقية تلك الكليشات البراقة ، إنماتحمل في أعماقها وبكل صراحة (الفكر الوثني الأميركي وعبادة الذات وفقط عبادة الذات) ورغم أننا ندعو إلى أخذ ماقد يكون فيها من بعض النقاط الإيجابية ، إلا أننا ندعو إلى الانتباه إلى الروح الكامنة فيها ، وخصوصاً في مجتمعات ممحوقة ثقافياً ونهمة وجائعة إلى كل جديد مهما كان فيه بسبب تعطيشها الطويل ، كما تعشعشع فيها النظم الشمولية التي يوافقها تماما نمو الذات لا لتتحد كقوة اجتماعية بل لتنمو بشكل فردي يزيد من تجذير الانفراد ، ويقضي على البقية الباقية من الجماعية التي تنحت النظم فيها ليلاً نهاراً لمصادرتها لصالحها وسحب أي تكتل جماعي ، ومنذ فترة قريبة جداً ذكر أحد كبار المشتغلين بحقوق الإنسان أنه تلقى تحذيراً من بعض الجهات الصديقة التي نصحته أن لايواصل النضال في وجه أحد الأنظمة الشمولية! لأن الولايات المتحدة ورغم العداء الظاهر مع حكومة ذلك البلد الديكتاتورية إلا أنها راضية في الأعماق عن ذلك النظام تماماً بسبب أنه لم يتوفر قط في المنطقة نظام استطاع أن يفكك البنية الجماعية لشعبه مثلما فعل ذلك النظام الشمولي! فتأمل يرحمك الله].

نعود إلى ماذكره مفكرنا النبيه الدكتور العمري ، لنرى التوجه القرآني حول الفردية والذاتية ، فنسمع نداء زكريا عليه السلام (رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين) (الأنبياء21/89) ، إنه يريد كسر حاجز الفردية والانطلاق نحو الجماعة: (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رَغَباً ورَهَباً وكانوا لنا خاشعين) (الأنبياء 21/90) ، والقرآن لم يلغ الفرد بل أثبته ليكون الجزء الصالح من جماعة ، وليس وثناً مزيفاً ، كما نقف عند سؤال مؤثر في سورة البلد يخاطب الفرد (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) (90/5) لقد تصور المسكين ذلك فلم ير أبعد من ذلك ، وبقي في أسر حواسه (يقول أهلكت مالاً لبداً) (البلد90/6) ، [مازالت هناك طاقة جبارة في العالم الإسلامي يحتار الغرب في القضاء عليها وهي العمل لوجه الله والبذل والتعب لهذا الدين ، والعمل الطوعي الذي لا يبتغي الإنسان من وراءه جزاء ولا شكورا إلا رضا الله تعالى ، ويتحدث أستاذنا الدكتور عبد الكريم بكار عما تحييه ثقافة التطوع في النفس من أبعاد مهمة جدا، وضرورة استمرار تلك الثقافة بنيتنا الإسلامية -وهي بالتأكيد ليست ثقافة التطوع التي يركض إليها البعض ووراءها مؤسسات تنصيرية أو تغريبية تدعمها الأموال الهائلة من الخلف لتنشر فكراً تطوعياً غريباً غايته إرضاء( أي عبادة الذات) وليس العمل الخالص لوجه الله ] .

المال والمال وحده هو المحرك عند الفردي وعابد الذات ، الأرباح والخسائر ، ورغم أن الله قد جعل له عينين ولساناً وشفتين ، إلا أنه ظنها آخر المطاف ولم ينزع بها إلى ماوراء ظاهريتها المحدودة ولم يتجاوز العقبة التي كان يفترض بجوارحه أن تنهض إليها (فلا اقتحم العقبة) (البلد90/11) ، والذي هو (فكُّ رقبة* أو إطعام في يوم ذي مسغبة* يتيماً ذا مقربة* أو مسكيناً ذا متربة) (البلد 90/13-16) ، إنه العطاء والخروج من الذات والفردية القاتلة ، ليصبح جزءاً من الجماعة الصالحة ، ويكف عن فرديته التي ملأته فلم ير غيرها (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) (البلد90/17) ، لقد خرج من أسر الذات وانتمى إلى الجماعة عندما اقتحم العقبة.

لقد وصف القرآن الكريم الفرد بأنه ظلوم ، كفور ، وعجول ،وأكثر شيء جدلاً ، وهلوعاً ، و يطغى وهو كنود ، ويفجُر أمامه وهو في خسر …

الإنسان ظلوم كفرد ولكن صلته مع الآخر ستوجهه نحو العدل

الإنسان عجول كفرد والجماعة تكبح عجلته

الإنسان كفور كفرد ولكن انتماءه للآخرين قد يجعله شكوراً

وهو جهول ينظر من زاوية ضيقة فإذا انتمى إلى الجماعة صار إدراكه أوسع

…. شيء واحد يجعله يخرج من أسر حواسه الخمسة ، ألا وهو البصيرة! قال تعالى : (بل الإنسان على نفسه بصيرة). (القيامة75/14) [يحضرني هنا عبارة للإمام سفيان الثوري رحمه الله يقول فيها : بصر العينين من الدنيا وبصر القلب من الآخرة وإن الرجل ليبصر بعينيه فلا ينتفع ببصره فإذا أبصر بالقلب انتفع].

البصيرة تخرج الفرد من أسر حواسه الخمسة التي لا ترى إلا الطعام والشراب والمال والنكاح والمصالح الضئيلة.

والمرهب في الأمر أن الله تعالى قد أحصى الناس (لقد أحصاهم وعدهم عداً) (مريم 19/94) ، وهم سيتابعون تلك الفردية (وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) (19/95).

وبينما تشكل الفردية جوهر الوثنية الحديثة ، تشكل الجماعة محور الحياة الصالحة ، [وواضح أن الضمير الجماعي هو معقد التوجه في تلك الحياة الصالحة ، وإذا أدركنا ذلك فهمنا لماذا يحرص الإسلام على عدم الوقوع في المعاصي لأن الأمر ليس خياراً فردياً ، والذي لا يكون فيه عقوق الوالدين سوء أدب وقلة اهتمام من ولد عاق بل بداية تفكك اجتماعي ، و لايكون الزنا حادثة إدخال عضلة متصلبة في تجويف عضلي آخر ، بل انهيار النظام الأسري وطغيان العلاقات الحسية بين البشر قفزاً فوق كل ماهو معنوي وإنساني وروحي وجمالي وجماعي! وليس شرب الخمر استدعاء لنشوة فردية ، بل أول طريق إهدار كرامة بن آدم وغيبوبة عقله [ومن يعلم آفات الكحول في المجتمعات الغربية يعلم عمق مانقول]..

ما أسكر قليله فكثيره حرام! ومايضر المجتمع كله –في البداية أو النهاية- فهو حرام.

وثقب السفينة الصغير يودي بها إلى أعمق قاع. لذلك يرفض المسلمين الفردية التي تمس الجماعة.

أما الصلاة فهي عالم أعظم من كل وصف حيث العروج إلى الملأ الأعلى و اندماج الأنا مع الجماعة ، بداية بالشهادة الفردية للحقيقة المطلقة الكبرى: أشهد ألا إله إلا الله .. يتلوها: الله أكبر ، وعندها تندغم الأنا في الكل : ( إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم) ، وسواء أصليت معها في الحرم الشريف أم في الربع الخالي فأنت جزء من جماعة المؤمنين المصلين ، وتجتمع في صلاتك مع النداء الإبراهيمي الأول : (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) ، فتسير وراء إبراهيم ويصبح الفرد أمة(إن إبراهيم كان أمة) (النحل 16/120). فهو منهج يعاكس عبادة الذات ولا يفتت الأمة إلى ذوات وأفراد بل يجعل الفرد أمة ، والكل يمشي في الصراط المستقيم.

ليست أميركا ملحدة أيها الإخوة والأخوات (وشعبها متدين وفيه فطرة عظيمة) ولكن عبادة الذات تفسدها وتفسد على العالم إيمانه لذا فلننتبه كي لا نصبح من أتباع ذلك الدين الفردي ، الذي لن يمنعك من صلاة المسلمين الظاهرة لكنه سيسلبك روحها ، وسيجعلك تصلي صلاة فردية ولوكنت في الحرم ليلة القدر.
وسنتابع في المقالة القادمة بإذن الله تتمة الحديث عن أركان الدين الأميركي الجديد .
– لطيفة : قرأت أن أحد التابعين لما قرأ قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وابنه (عليهما السلام) وهما يبنيان الكعبة ويقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) صار يبكي قائلاً : ياخليل الله تبني بيت ربك وتخاف أن لايتقبل منك! (ولله در إبراهيم فما كان يعبد نفسه بل ربه).
– غريبة : إذا نظر الإنسان إلى ماحل بالمسلمين اليوم في رمضان ، والذي هو منهج رباني لضمان التوازن لابن آدم المسكين ، فإنه يجد طغيان الثقافة الاستهلاكية وتسلل الأنا ومايأتي به رمضان المبارك من (إعادة معايرة للأمة المسلمة) يهدره الكثيرون دون أن يحسوا عبر سلوكيات تعاكس مقصود رمضان تماماً ، ومن العجيب أن الدين الذي يأمر أتباعه بالاخشيشان والتقشف ، يستهلك أتباعه في رمضان أضعاف ما يستهلكون في غير رمضان من المواد الغذائية ، وكثير من الناس تذهب وتأتي إلى المساجد كوظيفة اجتماعية أكثر منه تدرباً روحياً وتعميقاً إيمانياً لكثير من المفاهيم ، وتماماً كما ذكر سلف الأمة من أن القرآن قد أنزل ليُعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملاً. (هل تستطيع أن تخمن ماهي الفلسفة التي تجتاحهم وتزيد من تعميق الضعف لديهم).
-هدية : نهدي هذا المقال إلى كل الإخوة الذين تعبت الدعوة عليهم وبذلت لهم روحها ووقتها [وفي أحيان كثيرة دمها ، وعلى الأقل ركبت الخطر من أجلهم] ثم لما اشتدت أعوادهم وفتحت لهم أبواب الدنيا ، لم يفكروا إلا بأنفسهم وأنفسهم فقط ، فلقد كانت الدعوة ساذجة فلم تدرك مبكراً جراثيم التربية الفردية التي رضعوها في حياتهم ، والكامنة في أعماق بعضهم …
– نهنئ الأمة المسلمة بشهر رمضان المبارك ونسأل الله أن يتقبل منها صالح عملها ، كما نوصي الإخوة بالحرص على صلاة الجماعة ، وخصوصاً الفجر في المساجد ، ومن أجمل الأفكار التي اقترحها بعض الإخوة أن يكون الذهاب إلى المساجد بشكل عائلي لتجدد الخير والصلة مع الله والتواصل فيما بينها كعائلة ومجتمع ، وليس فقط كأفراد ، وندعو الإخوة والأخوات إلى ذلك ليذوقوا معنى العبادة الجماعية.

 

شكر خاص لبابا النصرانية
لم يكن بالإمكان شرح المكر الصليبي بالعالم الإسلامي قبل الكلام الوقح الذي ذكره بابا النصرانية في محاضرته الألمانية، وخصوصاً لتلك الجماهير المغسولة والمنزوعة الدسم والتي روضت خلال عشرات السنين سواء من قبل بيئات اجتماعية ذائبة حضارياً ، أو من خلال المناهج الحكومية التربوية التي تعمل بلا كلل لسلخ الهوية الإسلامية عن كل قطاعات التوجيه والتربية ، أو من خلال منافقين لهم ألسن طوال في حرب كل توجه إسلامي يخرج عن توصيات الفراعين الصغار الذين يحكمون الأمة المسلمة اليوم ، ولكنهم خُرس إذا انتهكت أعراض الأمة وفي غاية الأدب مع أعدائها ، ولم أستغرب اللطف البالغ في الحديث عن التأكد من كلام [قداسة] البابا (والذي لا نعتقد قداسته) ممن كانوا أسوداً هصورة على كل من رفع راية في مقاومة الظالمين.

بابا رومة قام مشكوراً بإحراق الأخضر واليابس ، وأهدر آلاف الجهود المبذولة للضحك على أمة لا إله إلا الله ، وعرى نفسه وغيره في لحظات لم تكن فورة بمقدار ماهي تصميم وتخطيط وتعمد ، فالرجل الذي نصبه كرادلته (مقدساً) لا يخطئ ؛ ماكان ليلقي خطاباً دون أن تراجعه عدة جهات واختصاصات حرصاً على بقاء (القداسة) الموهومة طاغية في عقول العامة، وهي فكرة من بقايا الطفولات الوثنية في عقول البشر .

ورغم أن الكنيسة لا تتفق مع الدين الأميركي أو الفكر الغربي في العديد من القضايا ، إلا أنها تجد نفسها في خندق واحد معه في مواجهة الإسلام ، رغم أنها تُحاصر مع الوقت لصالح الفكر الغربي المادي المحض بل هي تتجوهر لصالحة لتصبح سادناً متقدماً بين يديه ، يمهد لمشاريعه واحتلاله الشامل عبر مقدمات تنصيرية تكون مكافأتها إطلاق يدها في تلك الشعوب (الهمجية) والتي هي بحاجة للهداية والتخليص (حسب زعمهم).

أدى الهجوم الكاسح على الإسلام مرة بعد مرة إلى نوع من التضعضع في حمل الإسلام عند البعض ، وآخر ما سمعته حول ذلك داعية لاينهى المسلمين عن الحماقات والعدوان ، بل يوجههم عبر قناة خليجية إلى أن منظر الاحتجاجات في بلاد المسلمين ، وقبضات الرجال في المظاهرات منظر غير حضاري (أي نعم) ، أي يعكر المخملية الغربية التي ينبغي أن تكون ، وحدثت نفسي: أليست له عينان إن مات قلبه!

وبعد ذلك يقال لرجال الإسلام بل ولنسائه : لا تلوحوا حتى بقبضاتكم .لماذا يكون التقاص دائماً على حساب الإسلام

إن الكنيسة تشعر بخطر حقيقي لأنها تتقدم في بعض بلاد المسلمين (ولدي معلومات مخيفة عن ذلك) ، ولكنها تخسر في بلادها هي ، وبدل أن تنشط نفسها [ذاتيا] وهذا حقها للملمة أتباعها الشاردين فإنها تحاول التعويض بأسلوب القرون الوسطى ومحاكم التفتيش ، ولن نتوقف عند الوقاحة البندكتوسية بحق الإسلام ، ولن نرد على اتهام الإسلام بأنه لا يلتقي مع العقل رغم أن فتح الباب لمناقشة ما يتحدث عنه البابا المؤدب سهل جداً ، وكان عليه قبل أن يرمي الحجارة على الإسلام أن ينظر إلى بيت العنكبوت الذي يحيط به وبأفكاره ودعواه!

من المدهش أن البابا قد دعا سفراء خمسين دولة لتهدئة العالم الإسلامي ، متجاهلاً أن السفراء يمثلون الحكومات ، والحكومات ويا للأسف لا تمثل من شعوبها شيئا ، وعندما تتحرك قليلاً وتحاول الالتصاق بقضايا الأمة فهو نوع من الاضطرار الذي لم يعد مكره والتلاعب به خافياً على أحد ، ومن أبسط وأوضح أنواع المكر أن الحكومات الإسلامية تفتح سفارات للبابوية ، وتعترف للدين النصراني بمكانة سياسية ، وهي التي تحرم على شعوبها المسلمة أي حراك ونشاط سياسي ، زارعة فيها ليل نهار فكرة فصل الدين عن السياسة ، ومن الفضائح أن الدول الإسلامية الخمسين لم تجد واحدة منها الشجاعة الكافية لتقطع علاقاتها مع الفاتيكان [وكان الرئيس الفنزويلي شافيز أشجع من كل الحكام العرب والمسلمين، فهو يعلم حقيقة العقيدة التي تتعارض مع العقل ، والدين الذي يتظاهر أحباره بالتسامح بينما هم أعداء لكل فكر تحرري في جنوب أميركا ، وتحالفاتهم مع الأنظمة الاستبدادية ودعمهم للدكتاتورية شيء مريع] ، مع أنها طالما قطعت العلاقات فيما بينها مهدرة مصالح شعوبها المسلمة من أجل مأرب خسيسة ، وربما قاطعت دولاً أكبر منها بكثير انتقاماً لإساءة بحق إحدى تلك اللعب المزركشة (التي تسمي نفسها حكاماً).

ألا فليعلم الكل أنه لا يوجد في نفوسنا أحد من البشر أعظم وأجل وأكبر من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعندما تصدر إساءة بحقه صلى الله عليه وآله وسلم فإن كل مشارك فيها وساكت عنها فهو عدو لله ولرسوله ، ومهدور الاحترام منزوع الولاء وليسم نفسه بعدها مايشاء. (وكل مافوق التراب تراب).

لقد رفضت الكنيسة اليونانية (الأرثوذكسية) أن يزور البابا الراحل ديارها دون أن يقدم اعتذاراً عما فعلته البابوية بديارهم عندما مرت الجيوش الصليبية الحاقدة فعاثت في الأرض فساداً ، وعُلِّقت الزيارة ، أما نحن المتسامحون! فقد استقبلنا البابا وكأنه من خلفاء المسلمين ، وطبل وزمر أصحاب الحوار والتأخي دون أن يكون عند أحدهم شجاعة ليرد على البابا الذي قال وفي ساحة المسجد الأموي لثلة من أصحاب العمائم البيضاء : أهلاً بكم في سورية!!!

إن التسامح سجية فينا ، وقد عاش اليهود والنصارى بين المسلمين معززين مكرمين ، بل إن كثيراً من المسلمين لا تتاح لهم بعض الحقوق والتسهيلات التي تقدم لغيرهم ، ولكن التسامح شيء والاستغباء شيء آخر ، والبراء ممن يعادي الله ورسوله والولاء لله ورسوله أمر فوق كل شيء. وبدهي أن الكلام الوقح بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لايتحمل وزره إلا قائله ومن يرضى عنه ، ولايتحمل وزره أي نصراني عشنا وسنبقى نعيش معه في بحبوحة وتسامح علمنا إياه الإسلام.
ندعو كافة الإخوة إلى زيادة الفقه بالإسلام وعدم تحويل مشاعرهم إلى غضب ، بل إلى التزام سلوكي (وليس معرفي فقط) ، وإلى حركة تجاه الهداية (ومن أبسط مفرداته صلاة الفجر العائلية في المساجد) ، كما ندعو كافة الإخوة والأخوات إلى تعزيز مرجعية الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ونشر قراراته ، واعتمادها كبوصلة مرجعية في وسط الفتن التي تحيط بالأمة ، والاستغناء بها عن قرار أي مفت يطوع عمامته للسلطان أو الحاكم ، وفيما يلي بيان اتحاد علماء المسلمين ، والذي يشكل الحد الأدنى (وفقط الحد الأدنى) من الموقف في وجه العدوان اللئيم على مكانة الرسول الهادي صلى الله عليه وآله وسلم.

 

بيان

بشأن موقف بابا الفاتيكان من الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.

فقد تابع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين متابعة مستمرة المواقف التي صدرت عن بابا الفاتيكان منذ ألقى محاضرته في إحدى الجامعات الألمانية بتاريخ 19 من شعبان 1427هـ = 12/9/2006م.

ولاحظ الاتحاد أنه على الرغم من إتاحته الفرصة للبابا لحذف الكلام الباطل المسيء للمسلمين ولدينهم، ولكتابهم، ولنبيهم صلى الله عليه وسلم، وإعلان الاتحاد على لسان رئيسه فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي وأمينه العام الأستاذ الدكتور محمد سليم العوَّا عدة مرات عدم الحاجة إلى اعتذار البابا، لأن الاعتذار بعد الإساءة لا يقدم ولا يؤخر، والاكتفاء بحذف الكلام المذكور من النص الرسمي للمحاضرة، فإن هذه الدعوة لم تجد أذنًا صاغية.

واكتفى البابا في كل مرة تكلم فيها بالإشارة إلى أسفه لسوء فهم كلامه أي إنه يتهم المسلمين، الذين غضبوا لدينهم ولكتابهم ولنبيهم صلى الله عليه وسلم، بعدم الفهم. وكرر غير مرة أن النص المنقول عن إمبراطور بيزنطي أرثوذكسي (يعتبره البابا غير مسيحي) لا يعبر عن وجهة نظره، مع أن المحاضرة كلها مبنية من أولها إلى آخرها على كلام هذا الإمبراطور؛ الأمر الذي يقطع بأن البابا يقصد تبني ما نقله عنه والبناء عليه وتأكيد معانيه الفاسدة في أذهان سامعيه وهم العالم الكاثوليكي كله.

وقد لاحظ الاتحاد أن جميع أحاديث البابا التي تناولت موضوع محاضرته وما جاء فيها من إساءة للإسلام أشار فيها إلى الأديان، وأشار إلى المسلمين، ولم يذكر ولو مرة واحدة دين الإسلام. وإذا كان الاتحاد يفهم موقف الكاثوليكية من سائر الأديان والمعتقدات فإنه لا يمكن أن يتقبل إخراج الإسلام وحده من زمرة ديانات العالم الكبرى (التي لا تؤمن الكاثوليكية بأنها أديان) ثم ذكر هذه الأديان على سبيل الجمع وذكر المسلمين كجماعات وشعوب لا كأصحاب دين ولو أنكره الفاتيكان.

وقد فوجئ الاتحاد بأن البابا، عندما التقى أمس الاثنين 2 من رمضان 1427هـ = 25/9/2006م بسفراء الدول الإسلامية المعتمدين لدى الفاتيكان، لم يذكر محاضرته بكلمة، واكتفى بالدعوة إلى الحوار باعتباره ـ كما يزعم ـ ضرورة للمستقبل.

والاتحاد يعلن، في ضوء ما سلف كله، أن الحوار الذي يدعو إليه البابا غير ممكن ولا معقول، إذ إن القرآن الكريم يقول: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت: 46]. ونحن ظُلمنا على لسان البابا ظلماً شديداً لا يرفعه ما قاله في لقائه مع السفراء.

بل إن القرآن الكريم ينهى المسلمين عن الجلوس مع من يسخر من كتابهم فيقول:﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ﴾ [النساء:140].

لذلك قرر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عدم إجراء أي اتصال من أي نوع مع الفاتيكان، أو المؤسسات الممثلة له، أو مندوبيه لدى الدول العربية والإسلامية، وفي سائر أنحاء العالم، إلى أن يصدر من البابا موقف جديد يجعل احتمال الحوار البناء المجدي قائمًا، والاتحاد يعلن هذا القرار للعالم الإسلامي داعيًا المسؤولين الدينين والسياسيين إلى اتخاذ الموقف الذي يمليه عليهم دينهم وضميرهم وكرامة أمتهم واعتزازهم بالانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه. وهذه المقاطعة الثقافية هي أقل ما يجب على المسلمين عمله إزاء الإصرار المستمر على عدم الرجوع إلى الحق، والاستكبار الواضح عن حذف العبارات الباطلة المسيئة للمسلمين من محاضرة البابا.

ويهم الاتحاد أن يذكِّر البابا، والمسيحيين كافة، بما وصف به القرآن الكريم أحبار النصارى وعوامَّهم في قوله تعالى ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة: 82-83].

إن أقل ما يتوقعه المسلمون من المسيحيين هو مثل هذا الإنصاف الذي بغيره لا يمكن أن تقوم علاقة صحيحة بين الفريقين، ولا أن يؤدي أي حوار إلى ثمرة صالحة.

والحمد لله رب العالمين،

الأمين العام رئيس الاتحاد

أ.د. محمد سليم العوَّا           أ.د. يوسف القرضاوي

 

استمع إلى جديد الموقع من الأناشيد : أهواك يابلادي ، أخي في فؤادي ، وهدية خاصة بعنوان : عدت إلى رحابك ، وهي للشاعر والمنشد الكبير الأستاذ السرميني وهي من تفريداته الرائعة والقديمة جداً.

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على وإن تتقوا وتصبروا لايضركم كيدهم شيئاً – 2006-10-06 مغلقة

في الطريق إلى البناء

كثيرون من الإخوة يسألون عن الأهداف التفصيلية التي قد تكون ضرورية للحركة الراشدة ، ولا شك أن من أسهل الأمور (رغم صعوبتها) وضع بعض الأفكار على الورق ، إذ أن الحركة الصحيحة بالمنهج هو المعيار في نجاحه ، ويواجهنا اليوم أمر عسير وهو كثرة المتغيرات ، ولم يعد المسلم بمنجاة عن التأثيرات المحيطة من أدنى أطراف العالم إلى أقصاه ، وبالتالي فإن إعداد الدعاة ليس بالأمر السهل وحتى الآن فإن الجهود الخاصة (فردية أو جماعية) عليها المعول في الحركة إذ لا تتوفر لدينا مؤسسات تعتمد أساليب البحث العلمي ورغم ذلك فلا بد من السير نخفف من وعورته ما استطعنا ، وفيما يلي محاولة أولية لوضع خطوط عامة ، ورغم بساطتها فهي جهد طويل ومعاناة وتجربة حاولت أن تستدرك الثغرات وتعطي التوازن ، ونرجو أن ينفع الله بها مع الآمل بتكرم الإخوة والأخوات المهتمين ببذل المشورة والنصح الواجب ، علماً أن هناك مواد عديدة خاصة بالمناهج تحت الصياغة لإخراجها إلى إخواننا وأخواتنا الأفاضل ليعم النفع بها.

نعتمد في بناء المسلم على عدة أهداف نقتصر على ذكرها الآن ، ولكل منها مفردات واسعة ومواد خاصة ، وقد قسمنا الأهداف إلى ثمانية محاور:
أهداف البناء الإيماني :

1- الحب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

2- الإخلاص لله والخضوع له في كل أمر وتجنب المعاصي وتجديد التوبة والبعد عن الرياء.

3- الاقتداء بنموذج الكمال الإنساني عليه الصلاة والسلام.

4- الاعتزاز بالإسلام والشعور بالتفوق به.

5- الصحبة الطويلة للقرآن الكريم وحسن تلاوته وحفظ قسط منه.

6- حسن أداء الفرائض والحرص على السنن والارتباط بالمسجد والمحافظة على الجماعات.

7- المداومة على الأذكار والأوراد الصحيحة وتعود الدعاء والتفكر والتدبر.

8- تحويل العادات إلى عبادات وحمل النية الصالحة في كل عمل.

9- الاقتداء بالعلماء الصالحين واحترام المعاصرين والغابرين منهم.

10- تعلق القلب بالله تعالى في طلب الحاجات ، مع اتخاذ ما أمر الله به من الأسباب.

11- ربط القلب بمعاني أسمائه الحسنى تعالى ومعرفة الدلائل العملية والسلوكية لذلك.

12- شمول معنى الأخوة الإيمانية ، والتفقه بحقوق الأخوة والقيام بمقتضياتها.

13- الإدراك الواعي لدور المرأة المسلمة وإعطاؤه حقه الشرعي المهضوم.

14- تشكيل الأسرة المؤمنة وإخراج جيل صالح

15- الانتماء إلى أمة الإسلام ، وعدم التفريط بالهوية الإسلامية.

16- الحياء من الله تعالى ومراقبته في السر والعلن.

17- استحضار مرضاة الله تعالى في كل أمر ، وطلب جنته والحذر من عقابه.

 
أهداف البناء الأخلاقي :

1- القيام بالواجبات تجاه الآخرين وعدم بخسهم حقهم.

2- الابتعاد عن خصال النفاق وآفات اللسان ومفسدات القلب.

3- تحري الآداب الشرعية قدر الإمكان في سائر الحالات.

4- استشعار الأمانة في حمل هذا الدين.

5- تحقيق القدوة الصالحة .

6- الشعور بالكرامة البشرية ، والنأي بالرجل والمرأة عن الاستهلاك والتبذل والانحطاط.

7- الانتماء الصالح إلى المجتمع الذي نعيش فيه ، وإمداده بعوامل الهداية والتوازن والاستقرار.

8- بناء إرادة حرة تقاوم الرغبات والشهوات الآنية في سبيل الأهداف الأسمى.

9- أن يكون المسلم مصلحاً في الأرض.

 
أهداف البناء المعرفي :

1- بناء قاعدة عامة مبسطة حول العلوم الشرعية ( وتوابعها) تشمل مايلي :

أ- علوم القرآن بما فيها التفسير والتجويد.

ب- السيرة النبوية المطهرة وتضم الشمائل.

ج- علم الحديث والمصطلح .

د- التاريخ الإسلامي (حياة آل بيت النبوة – حياة الصحابة – أعلام المسلمين)

هـ- الفقه (حسب المستوى والحاجة) والإلمام بأصول الفقه.

و- اللغة العربية.

ز- نظام الإسلام وخصائصه.

ح – تاريخ الدعوة المعاصر.

2- مبادئ عامة فيما يلي :

أ- العلوم السياسية

ب- علم النفس

ج- علم الاجتماع

د- علوم الاتصال والإعلام

هـ- الاقتصاد

و – التربية

ز – الأديان والفرق.

3- مقتطفات مما يلي :

أ- الأدب العربي والإسلامي والشعر.

ب- الآداب والفلسفات الغربية .

ج- الثقافة العالمية.

 

أهداف البناء الفكري :

1- تشكيل العقل القادر على فهم آليات الحركة البشرية.

2- إدراك النسب والعلاقات بين الأمور.

3- تخليص الأفراد من الأوهام والمعتقدات والأفكار الخاطئة.

4- القدرة على الحركة في سائر الظروف.

 
أهداف البناء الجماعي :

1- التأهيل النفسي والتدريب العملي على العمل الجماعي.

2- فقه آداب العمل والتحقق به.

3- الوقاية الفردية والجماعية من فتن العمل ومزالقه ، والاكتشاف المبكر لها.

4- تربية الكوادر التي ترفد العمل .

5- تفعيل الذات والآخرين.

6- تعميق النضج النفسي والعاطفي.

7- القدرة على تحمل المسؤولية.

8- البحث عن أصحاب القابليات الجماعية العليا ورعايتهم.

 
أهداف البناء الدعوي:

1- تربية المسؤولية الفردية في الدعوة إلى الله.

2- الالتزام الطوعي ببذل الجهد والوقت والمال في سبيل الدعوة إلى الله.

3- التحقق بأخلاق الدعاة.

4- إدراك السمات الجماعية والعمل على التقريب بين العاملين.

5- إقامة نماذج صالحة على المستوى الفردي والجماعي.

6- دراسة التاريخ الدعوي والاستفادة من تجارب الدعاة.

7- القيام بالدراسات الدعوية اللازمة.

8- الإيمان بعالمية الدعوة وشمول الرسالة وأنها رحمة للعالمين.

 
أهداف البناء الحضاري :

1- الانفتاح على إيجابيات الثقافات الأخرى والاستفادة من تجاربها.

2- تكوين المسلم البنَّاء للحضارة الإنسانية.

3- إدراك عوامل القوة والضعف في الثقافات والحضارات المختلفة ، وتمييز الزيف الحضاري.

4- المعرفة العميقة بالآخرين والتعامل المناسب معهم.

5- بناء المؤسسات المالية ، وحيازة القدرات الإعلامية ، وإعداد الكوادر العلمية والتقنية الدقيقة.

6- احترام البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية والاستخدام الراشد لمصادر الطاقة.

7- المشاركة في الرقي الإنساني ودعم العدل وحقوق الإنسان.

8- بناء المسلم العالمي.

 

أهداف في بناء الشخصية :

1- التعلم المستمروالتطوير الدائم للذات.

2- بناء الحس الجمالي والذوقي.

3- تنمية الإبداع والإتقان

4- المحافظة على اللياقة وممارسة الرياضة.

5- امتلاك الاتصال الفعال ( يتفرع عنه فن النصيحة)

6- التعود على القراءة المثمرة.
اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً .

كُتب في المناهج | التعليقات على في الطريق إلى البناء مغلقة

كافر ثمانين عاماً

في الزمن القديم لم يكن يوجد في الدنيا رجل أفقر من دينار ، وهو عجوز عمره أكثر من ثمانين عاماً ، وكانت فيه علة معيبة جداً وهو أنه كان لا يعبد الله !

توقف دينار عند رجل تبدو في وجهه علامات الإحسان والكرم ، وقال :

هل يمكن لسيدي الفاضل أن يعطيني شيئاً من الطعام فإنني أكاد أموت من الجوع!

نظر الرجل إلى دينار متفحصاً شكله الغريب ، وسأله : من أين أنت؟

قال دينار : من بلاد النار !

دهش الرجل وقال : لعلك لست على دينهم الفاسد ، فقد سمعت أنهم كفار هناك!

باحترام شديد قال دينار : يؤسفني يا سيدي أن أضايقك ، ولكن الحقيقة أنني من الكافرين1

اقشعر جلد الرجل من كلام دينار ، وارتجفت شفتاه وهو يقول: أستغفر الله … أستغفر الله ..

ثم تابع بحذر : إنني آسف أيها الكافر أيضاً ، فإنني لا أرغب أن أعطي طعاماً لغير المؤمنين الصالحين!

شحب وجه دينار وقال بيأس وكأنه يعرف الجواب : أرجوك يا سيدي ، إنني أكاد أموت من الجوع!

أجاب الرجل وهو يشيح بوجهه : لايمكن أبداً حتى تؤمن بالله!

انصرف دينار حزيناً ، دون أن يظفر بلقمة واحدة !

في المساء رأى الرجل المؤمن في حلمه ملاكاً قال له : إن الله عاتب عليك جداً ، ويقول لك : أنت تفعل أموراً عجيبة اليوم ، ولم ترض أن تطعم ذلك العجوز الكافر لقمة واحدة حتى يؤمن ، مع أنني أطعمه منذ ثمانين عاماً .

دمشق : أحمد معاذ الخطيب الحسني

كُتب في تذكرة, منائر | التعليقات على كافر ثمانين عاماً مغلقة

قبل أن تضيع المفاتيح – 2006-09-01

لفت نظري فتاة غربية كانت تتحدث وتدافع عن الإسلام بحماس في حلقة دراسية عُقدت في دولة أوربية، وفاجئني أخ ملتزم بذكر أنها مسلمة ، ثم أتيحت لي فرصة الكلام معها فأخبرتني بأنها بقيت ثمانية أعوام ملتزمة بالحجاب ثم خلعته! فرغبت حقاً بمعرفة السبب فقالت أنها لم تتحمل سلوك القضاة الذين حولها ، فقد جعل كل الملتزمين أنفسهم قضاة عليها في كل صغيرة وكبيرة ، بحيث أصبح الإسلام عبئاً هائلاً يواجهها بدل أن يكون عامل سكينة واطمئنان! وقالت الأخت بأسف أنه خلال كل تلك السنوات ألقيت إليها مئات النصائح والتوجيهات والأحكام ، ولكن لم يسألها أحد عن الصعوبات التي تواجهها ، وما إن كانت تحتاج إلى أية مساعدة ، ولم يعرض أحد عليها خدمة تخفف من الضغط الماحق الذي يحيط بها ، ولقد اختارت الأخت لنفسها اسماً خاصاً (ابتسام) وقالت أنه لتذكير الملتزمين بحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم من أن تبسمك في وجه أخيك صدقة ، لأنهم لا يبتسمون في وجه أحد! ويحظى من حاز على نتف من العلم منهم على مسحة مميزة من التجهم والعبوس كفيلة بإلقاء الخوف أو القلق داخل النفوس ، وفي أقل الحالات زرع الحيرة في التعامل مع دين الإسلام العظيم.

لا شك أن تلك الأخت لها معاناة خاصة لا يمكن تعميمها على الجميع ، ولكنني أخذت أستعرض صوراً من المحاكمات القاسية التي يتحرك البعض بها ، وعادت إلى ذاكرتي صورة أخت بوسنية كانت تدرس عندنا في الشام (في أحد المعاهد الشرعية) وأصابها ألم شديد فجلست على طرف الرصيف (داخل المعهد) تتلوى من الألم ، ومر بها أحد المدرسين ، وبعدما تجاوزها بأمتار توقف ثم رجع إليها بغضب شديد، وخرج من فمه كلام غير مهذب ، غايته أنها قليلة الأدب لأنها لم تقف احتراماً لأستاذها الجليل الذي ينبغي الوقوف له تعظيماً لحقه الشريف! (لقد مارس دور القاضي الذي يقدم المتهم إلى المحاكمة لا لمصلحة عامة ضرورية بل لمصلحة خاصة هزيلة )!

وتذكرت طلاباً يتحدثون عن فلان من الأساتذة وأنه لم يبادر طلابه بالسلام مرة قط ، وآخر لا يرد السلام! أصلاً! ولو بادره بذلك التلامذة الأوفياء! اللهم إلا إذا مر به أحد الظالمين أو أذنابهم فهناك يكون السلام والأشواق وطيب اللقاء والمحيا! وتذكرت وتذكرت …

ترى ماهي القدوة الحسنة التي زرعها أولئك الملتزمون حولهم ، وهل هم قادرون على فتح مغاليق القلوب للإسلام ، بعد أن أحكموا سد الدروب إليه بسلوكهم الفظ الغليظ الذي ينقلك إلى أجواء سورة الحجرات ، وماعابته على أولئك البدائيين ، ثم ماطلبته من رقي يليق بأتباع الأنبياء!

إن المسلمين لم ينكسروا بسبب هجوم الأعداء الخارجيين عليهم فقط ، بل لأن النزعة الخاصة مازال لها في بعض النفوس حظاً ليس بالقليل ، والشعور بالانتماء إلى الأمة واهٍ عند البعض بحيث يتكسر عند العصبيات الضيقة!

إن العالم الإسلامي اليوم معرض إلى خطرين شديدين: خطر داخلي وخطر خارجي.

أما الخطر الداخلي فما ذكرناه عينة متواضعة منه ، وليس همنا حشد الأمثلة السلبية عن ذلك ، وقد كان بالإمكان ذكر العشرات من أهل العلم والفضل ممن يعوضون بصدورهم الرحبة ووجوههم المشرقة نزيف الخلق عند البعض ، ولكن الأمور ليست بحشد السلبيات أو الإيجابيات ، فمما لايكاد يختلف اثنان عليه أن هناك أزمة أخلاقية داخلية نعاني منها ولا بد من بحث عن حل لها وإزالة أسبابها!

ما سنذكره لاحقاً محاولة صغيرة لتجاوز سد صغير وعائق من عوائق الحركة الصحيحة.

في أصول الفقه تعلمنا أن هناك أحكاماً خمسة تتناول كل مايحيط بنا ، وهذه الأحكام الخمسة هي الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة ، وكل شيء فله موقع أساسي من هذه الأحكام ، وربما تحرك الموقع لظروف طارئة ولكن مآبه لامحالة إلى الموقع الرئيس.

موقع الصلاة هو الوجوب (بمعنى الفرض) ، ولكن سقوط إنسان في بئر (بل حتى كلب) يوجب قطع الصلاة لإنقاذه ، ويمتنع المصلي من الإتمام لتحقيق مقصد أهم من مقاصد الشريعة في تلك اللحظة وهو حفظ النفس.

وحكم الخمر هو الحرمة ، ولكن ذلك الحكم يتحرك إلى إباحة شربها لدفع الهلاك عن النفس إذا فقد الماء، وحمل الخمر حرام ، ولكن يجب حملها إذا أمسك مخبول بإنسان مهدداً بقتله إذا لم تجلب له الخمر ، ولكن حكم الخمر يرجع إلى قاعدته الأساسية وهي الحرمة.

وحكم أكل التفاح هو الحل (الإباحة) ، ولكنه يصبح مكروهاً شرعاً إذا طلب الطبيب عدم الإكثار منه ، ويصبح حراماً إذا أخبر الطبيب الثقة أنه يسبب حساسية قاتلة للمريض ، ويصبح مندوباً إذا كان يعين على الشفاء ويصبح واجباً إذا لم يكن ثمة دواء غيره.

هذه المرونة واليسر في الإسلام ضاق مع الوقت ، وأصبح بعض المسلمين غير قادر على الحركة الصحيحة مع تحقيق المصلحة الشرعية المطلوبة ، ولقد سافرت مرة إلى بلد بعيد ، وكان الوقت في رمضان ، وأحسست أنني إذا أفطرت فإنني أرتكب إثماً لأننا تعودنا على الحالة الأساسية ، ولانستطيع بسهولة الانتقال إلى الحالة الأخرى (وهي إباحة الفطر للمسافر) ، كما قرأت مرة مقالة عن أخت مسلمة لاحقها الظالمون فدلها رجل حكيم على طريقة للهرب ، وهي أن تخلع الحجاب عند حاجز أقامه من يتعقبونها (وقال الحكيم لها: إذا اعتقلت لا سمح الله فكوني على ثقة أن ماسيكشف أخطر بكثير من الحجاب!)، ففزعت من الأمر لأنها لم تستطع الانتقال من الحالة الأساسية وهي وجوب الحجاب إلى حالة أنه ربما يباح لها لدفع الأذى عن نفسها ، وربما الوجوب إذا كان الأمر يتعلق بأرواح المجاهدين ، وذلك أن الشريعة كلها تقوم على رعاية خمسة مقاصد : وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، وضمن هذا الترتيب وكل مقصد تحته ثلاث طبقات من الضرورات ثم الحاجيات ثم الكماليات ( التحسينيات).

ومما مر معي من الأخبار أن مجموعة من المجاهدين منذ ستين عاماً دمرت سور سجن للمحتلين وأخرجت من الأسر مجاهداً كبيراً وبعد سير ساعات وضع يده على رأسه فوجد أن عمامته قد سقطت أثناء الهروب وأصر على الرجوع لأن العرف عندهم أن خالع عمامته مثل خالع ثيابه ، وأمام الإصرار رجعت المجموعة للبحث عن العمامة فسقطت كلها بيد دوريات الاحتلال التي خرجت تتعقب الفارين!

إن إدراك الحكم الأساسي ثم التفريعات الناشئة عنه ضرورية لحركة الإسلام في عالم اليوم ، ولقد عانى الفكر الغربي من التناقض الشديد فابتداء كان هناك نزاع خرافي بين آلهة مزعومة! فمن آلهة للخير إلى أخرى للشر ، وإله للحب وآخر للحرب ، وقد يتحالف فلان مع فلانة من الآلهة! في وجه إله ثالث … وذلك التناقض والصراع بقي في الفكر الغربي حتى اليوم ، ولا منقذ منه إلا فكر توحيدي صافٍ ، كما أن الكنيسة وجهت الناس إلى أن الميل الجنسي خطيئة ، والطهارة إنما تحصل بالاستعلاء عنه ، وباعتبار أن البشر يقعون في الخطيئة المزعومة ، فلا بد من قربان ومخلص ، فكان يسوع هو الفداء! كما حاربت الكنيسة في بعض فتراتها العلم وأحرقت من أصحاب العقول النيرة ما لايعلمه إلا الله .

كل ذلك أقام التناقض في أعماق النفس البشرية وجنى عليها جنايات عظيمة حتى أن مانشهده من فساد اليوم إنما هو نتيجة من ذلك الفكر المضطرب الذي لم ينسجم إلا في الظاهر وبقي في أعماقه يمور بنزاع شديد.

هناك خطورة حالية شديدة في أن يتحول الإسلام إلى التناقض الداخلي والتآكل الذاتي !

لفتت نظري كلمة للدكتور حسان حتحوت أحد آباء الصحوة الإسلامية ، وتلميذ الإمام حسن البنا وأحد بناة الطب في الكويت ثم الداعية النادر في لوس أنجلوس ، إذ يقول في كتابه (بهذا ألقى الله) أنهم أخذوه إلى أكثر من مركز إسلامي كان في الأصل كنيسة اشتراها المسلمون ، وسألوه عن شعوره؟ فقال : إنه شعور الخوف والقلق والإشفاق …. (لأنه) من الوارد بل المتوقع إن انكسرت حلقة الإسلام بين جيل وجيل أن يكون مآل مراكزكم ومساجدكم أن تطرح في السوق للبيع بعد جيل أو جيلين!!

ويقول في آخر كتابه : (فلو أدرك المسلمون أبعاد ما يدور في العالم الآن والآفاق التي يتجه إليها لما هنأ لهم زاد ولا طاب لهم رقاد!).

إن هناك توجهاً غير مباشر وغير مقصود ، وبكامل حسن النية من قبل قليل أوكثير من المسلمين إلى خلق صراع داخلي قاتل ، وهو ليس بين السنة والشيعة مثلاً (رغم خطورته) ، أو بين الأنظمة الجائرة والشعوب المغلوبة ، وليس بين الشرق والغرب ، بل بين مفردات الإسلام العميقة ، وبسبب عدم وجود استيعاب مرن يجعل مصالح المسلمين متناغمة متوافقة ذات مرونة تمنع من تكسرها.

عجبت مرة من جملة أسئلة أتتني من مركز إسلامي في ألمانية ذكر أصحابه أنهم جميعاً من الألمان المسلمين وثلثيهم من النساء (وهي حال أكثر الدول الغربية إذ تُقبل النساء فيه على اعتناق الإسلام أكثر من الرجال!) وكان آخر سؤالين منهما : هل يجوز للمرأة المسلمة أن تحصل على شهادة قيادة السيارة ، والسؤال الثاني إذا حصلت المرأة على تلك الشهادة فهل يجوز لها أن تقود السيارة؟ مع الدليل!

واحترت في البحث عن دليل يجيز للمرأة المسلمة قيادة السيارة ، ومع يقيني القطعي بأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه إلا أنني لم أتوقع وجود دليل ، وكنت أهم بالتعليل أن الأمر من الأفعال المباحة والتي يكون الحل هو الأصل فيها ، إلا أنني دهشت لشمول هذا الإسلام عندما وجدت في صحيح البخاري الحديث التالي: \”خير نساءٍ ركبن الإبل صالح نساء قريش\” (فتح الباري ، الحديث 5365- 9/421) وفي رواية عن قتادة : \” لو علمت أن مريم بنت عمران ركبت الإبل ما فضلت عليها أحدا\” ، وحملت (كاميرا فيديو) وذهبت عند فقيه الأحناف الجليل الشيخ أديب الكلاس حفظه الله وعافاه سائلاً فقال : أنا آمر كل شاب مسلم أن يعلم زوجته قيادة السيارة!

هذه مسألة صغيرة ولكنها بداية تشقق وصراع داخل العقل المسلم بين فتوى تجيز ، وفتوى تمنع ، والحل ردها إلى الأحكام الخمسة ، ومعرفة الأصل من الاستثناء.

وفي سهوب مدينة جوس في نيجيرية قادنا الداعية الموفق الأستاذ محمد علي البحري إلى قرية نائية دخل سكانها في الإسلام حديثاً ، واجتمع الكل في ظلال دوحة باسقة ، وكان أول سؤال لهم: هل عمل المرأة حرام أو حلال؟ لأن هناك دعاة أتوا وأخبروهم أن عمل المرأة حرام! (حتى في غابات أفريقية) خشية الفتنة والتبرج! وضحك أحد الدعاة الذين معنا من الألم! لأن القرية البدائية من أولها إلا آخرها لاتوجد فيها مِرآة! وربما لاترى المرأة شكل وجهها لتتبرج أصلاً! اللهم إلا عند فيضان المياه وتشكل البحيرات الصغيرة ، إضافة إلى أن القبائل هناك سوف تموت فعلاً إذا لم تعمل النساء! لأن طبيعة الحياة قد قسمت الأعمال بين الرجال والنساء ، والقسم المهم من حياة القبيلة يعتمد على أعمال النساء! ورجعنا ثانية لنجد الحديث الصحيح عن النبي الهادي صلى الله عليه وسلم إذ يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه :\” ُطلقت خالتي. فأرادت أن تجِد نخلها (تقلمه) فزجرها رجل أن تخرج. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

.\”بلى. فجِدِّي نخلك. فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا\”

إن من الخطورة بمكان أن يتوجه العقل المسلم إلى الآلية في التفكير والنظر من نافذة واحدة ، وعدم إدراك خصائص الزمان والمكان والظرف والضرورة، ومن الخطورة الشديدة مصادرة مفاتيح الإسلام التي مكنته من الامتداد في الأرض مثل شعاع الشمس، ومن الإجحاف بحقه أن نسلبه آليات الحركة وقابلية التأثير والتفعيل لكل ماحوله! وإن الإسلام بكل امتداداته ومذاهبه المعتبرة وعلمائه لابد أن يتحرك ليحقق تقدماً في عالم اليوم ، وما الحصار الذي يقيمه البعض على الإسلام ، بل الوصاية والهيمنة إلا بداية تفكيك داخلي له أخطر من أي مكر خارجي.

لفت نظري ذلك الضيق الذي صار يحيط بفكرنا نحن المسلمين ، وكما يقول العلامة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله : أصبحنا وثائق إدانة للإسلام.

كثير من الموجهين الدينيين لا يعرفون إلا قولة : حرام أو حلال ، وقد أراحوا أنفسهم من تتبع الحالة المعروضة ليروا ماهو التوصيف الدقيق لها.

قال لي تلميذ لي هاجر إلى دولة غير مسلمة: هل تذكر عندما كنا في المرحلة الثانوية ، وكنت تشدد علينا في رؤية مايعرض في التلفزيون من مسلسلات عربية وأفلام، وتحاول أن تشغلنا عنه بأمور أخرى؟ قلت : نعم! قال : بالله عليك : لا تذكر مثل ذلك هنا ، لأنه أمام كثرة المفاسد والمغريات والانحلال والإباحيات الموجودة هنا ، فإنه لاينظر إلى القنوات العربية إلا مشفق على نفسه من الذوبان ، وربما كان من يتفرج على الأفلام العربية (والتي كنا ولا زلنا نؤكد على فسادها وهبوطها) يجدد من خلالها صلته مع دينه! ولغته! ووطنه! وتدمع عينه لصوت أذان يسمعه ، ومشهد ركعة يصليها بطل أو أم بطلة الفيلم العربي الفاسد! فقلت سبحان الله أفدتني خبرة ماكنت أعرفها!

ومما هو أكثر إشكالاً أسئلة تواجهك مثل السيف الصارم أينما ذهبت: ماهو موقف الإسلام من العلمانية والديمقراطية؟ ورأيت أن أكثر إخواننا قد أراحوا أنفسهم ، فأغلبهم صاحب أحد جوابين : حرام ..حرام وهو بذلك يفوت على الجاليات المسلمة خيراً وفائدة في بعض الأحيان، وقد لايكتفي هؤلاء ببيان رأيهم ولكنهم يخرجون مخالفيهم من رحمة الله ويدعون عليهم بالكفر! ، وآخرون جوابهم أن الديمقراطية والعلمانية عين الإسلام وقلبه وروحه! فهم يضعون المنهج الإسلامي كله على كف عفريت ويفتحون باب ذوبان مخيف.

قلت لأحد الإخوة : لماذا ليس عندكم تفصيل والأمور كلها على حد السيف! لماذا لا تقولون للناس: إن كان عناك عدل وحرية ، وهناك صيغة لحل المشكلات تعتمد على أن ترسل كل مجموعة من الناس مندوبين يمثلونهم تبعاً لحجمهم لحل المشاكل والأمور ، ولك الحق أن تطرح ماتشاء من رؤيتك ولا يجبرك أحد على رأيه ، ويسمونها ديمقراطية فما مشكلتك؟ قال : وإذا تبنوا رأياً لايوافقني كمسلم؟ قلت وهل تستطيع العمل بحرية بحيث يمكنك إقناع الناس بما تعتقد صوابه؟ قال نعم ، فقلت فما مشكلتك إذاً إلا الكسل … وإن كان أي مجتمع يفتح لك بابه ليسمع رأيك ولا يقسرك على رأيه ، وإن كان قانون ذلك المجتمع كله لا يعجبك فتستطيع أن تقول رأيك فيه ثم تنام قريراً في فراشك ، ثم بعد ذلك تستطيع أن تدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة إلى رأيك ، وإذا اقتنع الناس برأيك فلا حظر ولا منع ، وإذا كثروا فلهم حق التغيير! فما مشكلتك إلا إن كنت تعتقد أن واجبك الشرعي هو الإكراه في الدين والقسر في الاعتقاد وتحب الهيمنة والوصاية على الناس بما لم يأمرك به الله!

لقد التبس الأمر في عقول الناس بين مايجري في بلاد العرب والمسلمين من انتخابات مزورة لاشك عندي في حرمة المشاركة بها لأنها تعين الحكام الظلمة على تبييض صحائفهم ، ومع مايفعله أبو الديمقراطية في العالم (النظام الأميركي) من ظلم وكذب وتسويق فاسد ، التبس كل ذلك مع حالات أخرى فصار هناك سيف قاطع ورد فعل انعكاسي في وجه أي أمر لم نعتد عليه.

والعلمانية إن كان القصد منها إقصاء الدين عن الحياة وإبعاد الأمة عن ربها وخالقها، ومحق المتدينين وتخريب هوية الأمة وإجبارها على مناهج الضلال والفساد (كما تفعل معظم الدول العربية الظافرة في معارك التحرير والصمود والبناء) ونزع دينها منها فهو الكفر المحض الذي ليس فيه امتراء ، إما إن كانت العلمانية هي منع تغول أصحاب الديانات المختلفة على بعضهم وعدم السماح بافتراس بعضهم لبعض فما المشكلة؟

لقد حملنا معاناتنا من أنظمتنا ثم طفنا بتلك المعاناة في بلاد الله الواسعة فنقلنا الأمراض السياسية والاجتماعية التي حمَّلنا معظمها حكامنا العظماء ، ونكاد نميل بالمركب مرة أخرى فندمر في كل مكان مرتكزات الأمان والاستقرار والتوازن لنا ولغيرنا!

ولقد أطلق الفقهاء يوماً مصطلحي دار الحرب ودار الإسلام ، فما عدنا نستطيع الخروج منهما! وأدى ذلك إلى إرتكاسات خطيرة لا يحس أكثرنا بأوائل أسبابها ولكننا في النهاية ندفع جميعنا ثمناً باهظاً لها، فمن ذا يقول أن الأنظمة التي تحكمنا هي أنظمة قائمة على الحق! فهل يجعل ذلك بلادنا دار حرب سواء كفر الحكام أم آمنوا وسواء حكمتنا أنظمة ضالة أم مستقيمة! إن بلادنا تبقى دار إسلام إلى ماشاء الله ، وهناك بلاد أخرى أهلها لايعلمون عن الإسلام قليلاً ولا كثيراً ولكن المسلمون فيها لا يظلمون ويمكنون من شعائرهم والدعوة إلى الله فهل يجعلها ذلك دار حرب؟ اللهم لا ، ولقد كان الإمام الماوردي بعيد الغور فنقل عنه الإمام ابن حجر في فتح الباري 7/230 : إذا قدر المسلم على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر ، فقد صارت البلد به دار إسلام ، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يُترجى من دخول غيره في الإسلام.

أما الإمام فخر الدين الرازي فقسم الأرض إلى دارين: دار دعوة بدلاً من دار الحرب ، ودار إجابة بدلاً من دار الإسلام. (التفسير الكبير 8/191).

في داخل العقل الباطن أن كل دار فيها غير مسلمين فإنما هي دار حرب ، وليس الموضوع أمراً نظرياً فنتيجته العملية قاسية ومنها صراع داخلي دائم في نفوس المسلمين المقيمين في بعض بلاد الغرب ، وهو صراع قديم فاقمه ازدياد الكراهية للمسلمين ولم ينشأ مع زيادة العنصرية والتعصب ضدهم ، وخلاصته أنهم لم يبنوا أنفسهم ليرجعوا إلى أوطانهم ، ولم يبنوا أنفسهم ليثبتوا الإسلام في أراض كانت مفتوحة لهم بل غرق أكثرهم في الدنيا غافلا عن دينه وأمته ووطنه ، وفي عقله الباطن سد متين (اسمه بلاد الكفر) منعته من رؤية النعم التي كان يمكن له الاستفادة منها، أما من عملوا ونجوا من هجوم الدنيا فالعديد منهم عملوا بالطريقة الحدية مع ضيق في التفكير وضحالة في العلم فأوقعوا الأمة في حرج عظيم بل خسائر مرعبه وأعانهم تدفق المال من بعض الجهات في السبعينات والثمانينات فركبهم الغرور وظنوا أن المال هو الذي يثبت المناهج أو يعطيها الحياة حتى إذا مرت عاصفة أيلول تهدم كل شيء.

يتضايق الكسالى دائماً من الحقائق المرة ، والبعض يعتقد العصمة فلا يراجع نفسه! وإلا فقل لي عن المراجعات الشرعية الواسعة التي نقوم بها لتصحيح المسار!

حدثني إمام مسجد أن سيدة في الخمسينات أتته ومعها حزمة سميكة من الكراسات وقالت له لقد كنت مسلمة وفي كل يوم كانت تأتيني كتيبات جديدة لايشرح واحدها عن الإسلام شيئاً بل كل واحدة تبين ضلال وفساد الجماعات الأخرى ، وقد تعبت من كل ذلك ، وقد يكون دينكم جيدا ولكنني لا أستطيع أن أفهمه فالمعذرة إن تركته!! وفي دولة أخرى لم يتجاوز عدد المسلمين خمسة بالمئة من السكان ولكن السرقات هناك لأبناء المسلمين نسبة ستون بالمئة منها! لماذا لا نتدبر في ذلك ، ولا نفكر في المحاور والأفكار بل التدريس الأعوج لبعض الأمور والتجهم العام الذي نتعامل به مع أهل الأرض وقد غابت الابتسامة من وجوهنا ، تماماً مثل حالة الأخت ابتسام التي نعممها دون قصد.

ويتكلم جفري لانغ (حتى الملائكة تسأل (رحلة إلى الإسلام في أميركا) ص282-283).والذي هداه الله

إلى الإسلام عن الصراع بين الجماعات المختلفة: )وكنت أشعر في بعض الأحيان أن كلاً منها كان يحاول جذبي إلى صفوفهم ؛ ففي كثير من الأحيان كان بعضهم يأخذني جانباً ويهمس في أذني محذراً بالقول : ألاّ أقترب كثيراً من هؤلاء الإخوة. وكانت كل فرقة تخبرني أن الفرقة الأخرى ضالة عن الإسلام ، وعند ذلك في الواقع لم أكن قادراً على تحديد موقفي … وفي كل مرة كانت كل مجموعة تسألني عما قالته المجموعة الأخرى ، ثم تقوم بتصحيح بعض الأشياء التي تعلمتها من تلك المجموعة ، وسرعان ماتولد لدي انطباع وهو أنه بالرغم من أن الإسلام ينهى عن الغيبة والنميمة فإن المسلمين نمامون ومغتابون بالعادة ، وأن ذلك هو الشغل الشاغل للجالية الإسلامية( .

لقد نسي أولئك الإخوة أخلاقيات الإسلام ومفاتيحه ، ولم يعودوا قادرين على التمييز بين الحالات المختلفة حتى على المسويات البسيطة فأساءوا ليس إلى أنفسهم فقط بل وضعوا الإسلام كله ديناً وعقيدة وسلوكاً في دائرة الاتهام ، لذا كان الإمام الشاطبي شديد التنبيه إلى هذا الأمر وضرورة الإحاطة بالإسلام خشية تمزيقه فقال في الاعتصام 245: (فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذاً صورت صورة مثمرة. وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما أي دليل كان عفواً وأولياً ، وإن كان ثم مايعارضه من كلي أوجزئي ؛ فكأن العضو الواحد لايعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكماً حقيقياً ؛ فمتبعه متبع متشابه ، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ كما شهد الله به).

القرار في أيدينا فإما أن نفتح أبواب الإسلام للعالمين وإما أن نغلقها ، ولكن علينا بالإسراع قبل أن تضيع المفاتيح .
أحمد معاذ الخطيب الحسني

9 شعبان المعظم 1427هـ/ الأول من أيلول 2006
– في كلمة الشهر القادم حديث عن الخطر الخارجي ، وإضاءة حول كتاب الباحث الدكتور أحمد خيري العمري الصادر عن دار الفكر باسم : الفردوس المستعار والفردوس المستعاد ، وهو بحث خطير عن تسلل العقلية الأميركية إلى المسلمين ، أو (أسلمة التأمرك) أي جعل كل شيء أميركي ذا غطاء إسلامي ، كما أن في الكلمة محاولة متواضعة للبحث عن مخرج من الحصار الذي سيزداد!

– يرجى من الإخوة الكرام الإطلاع في قسم المناهج علىموضوع (في الطريق إلى البناء) وهو نواة لمنهج أوسع.
PLEASE SEE : Ramadan Preparation Program 2006 / 1427h

IN LIGHTS OF ROAD SECTION

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على قبل أن تضيع المفاتيح – 2006-09-01 مغلقة