من طبائع الاستبداد للكواكبي – الاستبداد والدين

طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

عبد الرحمن الكواكبي

الاستبداد والدين

 

تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب. والفريقان مصيبان في حكمهما بالنظر إلى مغزى أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الإنجيل؛ ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما، كما هم مخطئون إذا نظروا إلى أن القرآن جاء مؤيداً للاستبداد السياسي. وليس من العذر شيء أن يقولوا: نحن لا ندرك دقائق القرآن نظراً لخفائها علينا في طي بلاغته ووراء العلم بأسباب نزول آياته، وإنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبدِّيهم بالدين.

يقول هؤلاء المحررون: إن التعاليم الدينية، ومنها الكتب السماوية تدعو البشر إلى خشية قوة عظيِمة هائلة لا تدرك العقول كنهها، قوة تتهدَّد الإنسان بكل مصيبة في الحياة فقط، كما عند البوذية واليهودية، أو في الحياة وبعد الممات، كما عند النصارى والإسلام، تهديداً ترتعد منه الفرائص فتخور القوى، وتنذهل منه العقول فتستسلم للخبل والخمول، ثم تفتح هذه التعليمات أبواباً للنجاة من تلك المخاوف, نجاة وراءها نعيم مقيم, ولكن على تلك الأبواب حجاب من البراهمة (البراهمة: طبقة أو فئة رجال الدين عند الهندوس) والكهنة والقسوسة (قس: رتبة دينية مسيحية هي في الأصل بين الأسقف والشماس وتعتمدها البروتستانتية لكل من تكون له رتبة دينية عندها) وأمثالهم الذين لا يأذنون للناس بالدخول ما لم يعظِّموهم مع التذلل والصَّغار ويرزقوهم باسم نذر أو ثمن غفران, حتى إن أولئك الحجاب, في بعض الأديان, يحجزون فيما يزعمون لقاء الأرواح بربِّها ما لم يأخذوا عنها مكوس (مكوس: مال يأخذه من يتولون السلطة على الأسواق، أشبه بضريبة أو رسم يُجبى) المرور إلى القبور وفدية الخلاص من مطهر الأعراف. وهؤلاء المهيمنون على الأديان كم يرهبون الناس من غضب اللّه وينذرونهم بحلول مصائبه وعذابه عليهم, ثم يرشدونهم إلى أن لا خلاص ولا مناص لهم إِلاَّ بالالتجاء إِلى سكان القبور الذين لهم دالة بل سطوة على اللّه فيحمونهم من غضبه.

ويقولون إن السياسيين يبنون, كذلك, استبدادهم على أساس من هذا القبيل, فهم يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي والتشامخ الحسِّي, ويذللونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم, عاملين لأجلهم, يتمتعون بهم كأنهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون.

ويرون أن هذا التشاكل في بناء ونتائج الاستبدادين, الديني والسياسي, جعلهما في مثل فرنسا خارج باريس مشتركين في العمل كأنهما يدان متعاونتان, وجعلهما في مثل روسيا مشتبكين في الوظيفة كأنهما اللوح والقلم يسجلان الشقاء على الأمم.

ويقررون أن هذا التشاكل بين القوتين ينجرُّ بعوام البشر, وهم السواد الأعظم, إِلى نقطة أن يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحق وبين المستبد المطاع بالقهر, فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق مزيد من التعظيم, والرفعة عن السؤال وعدم المؤاخذة على الأفعال, بناء عليه لا يرون لأنفسهم حقاً في مراقبة المستبد لانتفاء النسبة بين عظمته ودناءتهم, وبعبارة أُخرى يجد العوام معبودهم وجبَّارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات, وهم هم, ليس من شأنهم أن يفرِّقوا مثلاً بين (الفعال المطلق), والحاكم بأمره, وبين (لا يُسأل عمَّا يفعل) وغير مسؤول, وبين (المنعم) وولي النعم, وبين (جلَّ شأنه) وبين جليل الشأن. بناء عليه يعظمون الجبابرة تعظيمهم للّه, ويزيدون تعظيمهم على التعظيم للّه لأنه حليم كريم ولأن عذابه آجل غائب, وأما انتقام الجبابرة فعاجل حاضر. والعوام, كما يقال, عقولهم في عيونهم, يكاد لا يتجاوز فعلهم المحسوس المشاهد, حتى يصحَّ أن يقال فيهم: لولا رجاؤهم باللّه وخوفهم منه فيما يتعلق بحياتهم الدنيا لما صلوا ولا صاموا, ولولا أملهم العاجل لما رجحوا قراءة الدلائل والأوراد على قراءة القرآن, ولا رجحوا اليمين بالأولياء المقربين كما يعتقدون على اليمين باللّه.

وهذه الحال هي التي سهلت, في الأمم الغابرة المنحطة, دعوى بعض المستبدين الألوهية على مراتب مختلفة حسب استعداد أذهان الرعية, حتى يقال إنه ما من مستبدٍّ سياسي إِلى الآن إِلاَّ ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها اللّه, أو تعطيه مقام ذي علاقة مع اللّه, ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خَدَمة الذين يعينونه على ظلم الناس باسم اللّه, وأقل ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم إِلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضاً, فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها فيخلو للاستبداد ليبيض ويفرِّخ, وهذه سياسة الإنكليز في المستعمرات لا يؤيدها شيء مثل انقسام الأهالي على أنفسهم وإفنائهم بأسهم بينهم بسبب اختلافهم في الأديان والمذاهب.

ويعللون أن قيام المستبد من أمثال (أبناء داود) و(قسطنطين) في نشر الدين بين رعاياهم, وانتصار مثل (فيليب الثاني) الإسباني و(هنري الثامن) الإنكليزي للدين حتى بتشكيل مجالس (إنكيزيسيون) وقيام الحاكم الفاطمي والسلاطين الأعاجم في الإسلام بالانتصار لغلاة الصوفية وبنائهم لهم التكايا, لم يكن إِلاَّ بقصد الاستعانة بممسوخ الدين وببعض أهله المغفلين على ظلم المساكين, وأعظم ما يلائم مصلحة المستبد ويؤيدها أن الناس يتلقون قواعدَه وأحكامَه بإذعان بدون بحث أَو جدال, فيودون تأليف الأمة على تلقي أوامرهم بمثل ذلك, ولهذا القصد عينه كثيراً ما يحاولون بناء أوامرهم أَو تفريعها على شيء من قواعد الدين.

ويحكمون بأن بين الاستبدادين, السياسي والديني, مقارنةً لا تنفك متى وُجد أحدهما في أمة جرَّ الآخر إليه, أَو متى زال زال رفيقه, وإن صلح, أي ضعف أحدهما, صلح, أي ضعف الثاني. ويقولون إن شواهد ذلك كثيرة جداً لا يخلو منها زمان ولا مكان. ويبرهنون على أن الدين أقوى تأثيراً من السياسة إصلاحاً وإفساداً, ويمثلون بالسكسون, أي الإنكليز والهولنديين والأميركان والألمان, الذين قبلوا البروتستينية, فأثر التحرير الديني في الإصلاح السياسي والأخلاق أكثر من تأثير الحرية المطلقة السياسية في جمهور اللاتين, أي الفرنسيين والطليان والإسبانيول والبرتغال. وقد أجمع الكتاب السياسيون المدقِّقون, بالاستناد على التاريخ والاستقراء, من أن ما مِِن أمة أَو عائلة أَو شخص تنطَّع في الدين, أي تشدد فيه, إلاَّ واختل نظام دنياه وخسر أولاه وعقباه.

والحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون أن السياسة والدين يمشيان متكاتفين, ويعتبرون أن إصلاح الدين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السياسي.

وربما كان أول من سلك هذا المسلك, أي استخدم الدين في الإصلاح السياسي, هم حكماء اليونان, حيث تحيَّلوا على ملوكهم المستبدين في حملهم على قبول الاشتراك في السياسة بإحيائهم عقيدة الاشتراك في الألوهية, أخذوها عن الآشوريين ومزجوها بأساطير المصريين بصورة تخصيص العدالة بإله والحرب بإله والأمطار بإله, إلى غير ذلك من التوزيع, وجعلوا لإله الآلهة حقَّ النظارة عليهم, وحق الترجيح عند وقوع الاختلاف بينهم. ثم بعد تمكن هذه العقيدة في الأذهان, بما أُلبست من جلالة المظاهر وسحر البيان, سهل على أولئك الحكماء دفعهم الناس إِلى مطالبة جبابرتهم بالنزول من مقام الانفراد, وبأن تكون إِدارة الأرض كإدارة السماء؛ فانصاع ملوكهم إلى ذلك مكرهين. وهذه هي الوسيلة العظمى التي مكنت اليونان أخيراً من إقامة جمهوريات أثينا وأسبارطة، وكذلك فعل الرومان، وهذا الأصل لم يزل المثال القديم لأصول توزيع الإدارة في الحكومات الملكية والجمهوريات على أنواعها إِلى هذا العهد.

إنما هذه الوسيلة, إي التشريك, فضلاً عن كونها باطلة في ذاتها, نتج عنها أخيراً ردُّ فعل أضرَّ كثيراً, وذلك أنها فتحت للمشعوذين, من سائر طبقات الناس, باباً واسعاً لدعوى شيء من خصائص الألوهية كالصفات القدسية والتصرفات الروحية, وكان قبل ذلك لا يتهجم على مثلها غيرُ أفراد من الجبابرة كنمرود إبراهيم وفرعون موسى ثم صار يدَّعيها البرهمي والبادري والصوفي. ولملائمة هذه المفسدة لطباع البشر في وجوه كثيرة, وليس بحثنا هذا محلها, انتشرت وعمت وجندت جيشاً عرمرماً يخدم المستبدين.

وقد جاءت التوراة بالنشاط، فخلصتهم من خمول الاتكال بعد أن بلغ فيهم أن يكلِّفوا الله ونبيه يقاتلان عنهم, وجاءتهم بالنظام بعد فوضى الأحلام, ورفعت عقيدة التشريك مستبدلة مثلاً أسماء الآلهة المتعددة بالملائكة, ولكن لم يرضَ ملوك آل كوهين بالتوحيد فأفسدوه. ثم جاء الإنجيل بسلسبيل الدعة والحِلْم فصادف أفئدة محروقة بنار القسوة والاستبداد, وكان أيضاً مؤيداً لناموس التوحيد, ولكن لم يقوَ دعاته الأولون على تفهيم تلك الأقوام المنحطة, الذين بادروا لقبول النصرانية قبل الأمم المترقية, أن الأبوة والبنوة صفتان مجازيتان يعبَّر بهما عن معنى لا يقبله العقل إِلا تسليماً؛ كمسألة القدر تلك التي ورثت الإسلامية التفلسف فيها عن أديان الهنود وأوهام اليونان. ولهذا تلقت تلك الأمم الأبوة والبنوة بمعنى توالد حقيقي لأنه أقرب إِلى مداركهم البسيطة التي يصعب عليها تناول ما فوق المحسوسات, ولأنهم كانوا قد ألفوا الاعتقاد في بعض جبابرتهم الأولين أنهم أبناء الله, فكبر عليهم أن يعتقدوا في عيسى عليه السلام صفة هي دون مقام أولئك الملوك. ثم لما انتشرت النصرانية ودخلها أقوام مختلفون, تلبَّست ثوباً غير ثوبها, كما هو شأن سائر الأديان التي سلفتها, فتوسعت برسائل بولس ونحوها فامتزجت بأزياء وشعائر وثنية للرومان والمصريين مضافة على شعائر الإسرائيليين وأشياء من الأساطير وغيرها, وأشياء من مظاهر الملوك ونحوها. وهكذا صارت النصرانية تعظِّم رجال الكهنوت إِلى درجة اعتقاد النيابة عن الله والعصمة عن الخطأ وقوة التشريع, ونحو ذلك مما رفضه أخيراً البروتستان, أي الراجعون في الأحكام لأصل الإنجيل.

ثم جاء الإسلام مهذِّباً لليهوديَّة والنصرانيَّة, مؤسَّساً على الحكمة والعزم, هادماً للتشريك بالكلية, ومحكِماً لقواعد الحرية السياسية المتوسطة بين الديموقراطية والأريستقراطية؛ فأسَّس التوحيد, ونزع كل سلطة دينية أَو تغلبيَّة تتحكم في النفوس أَو في الأجسام, ووضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لكل زمان وقوم ومكان, وأوجد مدنيَّة فطريَّة سامية, وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين التي لم يسمح الزمان بمثال لها بين البشر حتى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف؛ إِلاَّ بعض شواذ كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العباسي ونور الدين الشهيد. فإن هؤلاء الخلفاء الراشدين فهموا معنى ومغزى القرآن النازل بلغتهم وعملوا به واتخذوه إماماً, فأنشؤوا حكومة قضت بالتساوي حتى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمة في نعيم الحياة وشظفها, وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة اجتماعية (اشتراكية) لا تكاد توجد بين أشقاء يعيشون بإعالة أب واحد وفي حضانة أم واحدة, لكل منها وظيفة شخصية, ووظيفة عائلية ووظيفة قومية. على أن هذا الطراز السامي من الرياسة هو الطراز النبوي المحمَّدي, لم يخلفه فيه حقاً غير أبي يكر وعمر ثم أخذ بالتناقص, وصارت الأمة تطلبه وتبكيه من عهد عثمان إِلى الآن, وسيدوم بكاؤها إِلى يوم الدين إذا لم تنتبه لاستعواضه بطراز سياسي شوري؛ ذلك الطراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب؛ تلك الأمم التي, لربما يصح أن نقول, قد استفادت من الإسلام أكثر مما استفاد المسلمون.

وهذا القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوي حتى في القصص منه؛ ومن جملتها قول بلقيس, ملكة سبأ من عرب تبَّع, تخاطب أشراف قومها: ,قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ-.

فهذه القصة تعلِّم كيف ينبغي أن يستشير الملوك الملأ, أي أشراف الرعية, وأن لا يقطعوا أمراً إِلاَّ برأيهم, وتشير إِلى لزوم أن تحفظ القوة والبأس في يد الرعية, وأن يخصص الملوك بالتنفيذ فقط, وأن يكرموا بنسبة الأمر إليهم توقيراً, وتقبِّح شأن الملوك المستبدين.

ومن هذا الباب أيضاً ما ورد في قصة موسى عليه السلام مع فرعون في قوله تعالى: , قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ- أي قال الأشراف بعضهم لبعض: ماذا رأيكم؟ (قالوا) خطاباً لفرعون وهو قرارهم: ,قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيم- ثم وصف مذاكراتهم بقوله تعالى: ,فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم- أي رأيهم ,بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى- أي أفضت مذاكراتهم العلنية إلى النزاع فأجروا مذاكرة سرية طبق ما يجري إلى الآن في مجالس الشورى العمومية.

بناء على ما تقدم لا مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد مع تأسيسها على مئات من أمثال هذه الآيات البينات التي منها قوله تعالى : ,وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر- أي في الشأن، ومن قوله تعالى : ,يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ- أي أصحاب الرأي والشأن منكم، وهم العلماء والرؤساء على ما اتفق عليه أكثر المفسرين، وهم الأشراف في اصطلاح السياسين. ومما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى :,وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ- أي ما شأنه، وحديث (أميري من الملائكة جبريل) أي مشاوري.

وليس بالأمر الغريب ضياع معنى ,وَأُوْلِي الأَمْرِ- على كثير من الأفهام بتضليل علماء الاستبداد الذين يحرِّفون الكلم عن مواضعه، وقد أغفلوا معنى قيد ,مِنكُمْ- أي المؤمنين، منعاً لتطرق أفكار المسلمين إلى التفكير بأن الظالمين لا يحكمونهم بما أنزل الله، ثم التدرج إلى معنى آية ,إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ- أي التساوي، ,وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ- أي التساوي؛ ثم ينتقل إلى معنى آية : ,وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ-. ثم يستنتج عدم وجوب طاعة الظالمين وإن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعاً للفتنة التي تحصد أمثالهم حصداً. والأغرب من هذا جسارتهم على تضليل الأفهام في معنى (أمر) في آية : ,وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا- ، فإنهم لم يبالوا أن ينسبوا إلى الله الأمر بالفسق…تعالى الله على ذلك علواً كبيراً… والحقيقة في معنى (أمرنا) هنا أنه بمعنى أمرنا ـ بكسر الميم أو تشديدها ـ أي جعلنا أمراءها مترفيها ففسقوا فيها (أي ظلموا أهلها) فحق عليهم العذاب أي (نزل بهم العذاب).

والأغرب من هذا وذاك أنهم جعلوا للفظة العدل معناً عرفياً وهو الحكم بمقتضى ما قاله الفقهاء حتى أصبحت لفظة العدل لا تدل على غير هذا المعنى، مع أن العدل لغةً التسوية؛ فالعدل بين الناس هو التسوية بينهم، وهذا هو المراد في آية : ,إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ-، وكذلك القصاص في آية : ,وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ- المتواردة مطلقاً، لا المعاقبة بالمثل فقط على ما يتبادر إلى أذهان الأُسَراء الذين لا يعرفون للتساوي موقعاً في الدين غير الوقوف بين يدي القضاة.

وقد عدَّد الفقهاء من لا تقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم، فذكروا حتى من يأكل ماشياً في الأسواق؛ ولكن شيطان الاستبداد أنساهم أن يفسٌّقوا الأمراء الظالمين فيردٌّوا شهاداتهم. ولعل الفقهاء يُعذرون بسكوتهم هنا مع تشنيعهم على الظالمين في مواقع أُخرى، ولكن ما عذرهم في تحويل معنى الآية : ,وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ- إلى أن هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين؟ والمراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض؛ لا إقامة فئة تسيطر على حكامهم كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموافقة للخير؛ فخصصت منها جماعات باسم مجالس النواب وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية: السياسية والمالية والتشريعية، فتخلَّصوا بذلك من شآمة الاستبداد. أليست هذه السيطرة وهذا الاحتساب بأهم من السيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا، وعدوا كل معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟! [بل اعتبر بعض المعاصرين الخارجين عن إمام عدلهم المزعوم مستحقين لحد الحرابة وهو شيء لم يقله أحد من قبل].

اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت، فلا حول ولا قوة إِلاَّ بك!

كذلك ما أعذر أولئك الصوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياتهم أن يقولوا: لا يكون الأمير الأعظم إلا ولياً من أولياء الله، ولا يأتي أمراً إلا بإلهام من الله، وإنه يتصرف في الأمور ظاهراً، ويتصرف فيها قطب الغوث باطناً! ألا سبحان الله ما أحلمه!

نعم، لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب؛ حيث أرسل لهم رسولاً من أنفسهم أسَّس لهم أفضل حكومة أٌسست في الناس، جعل قاعدتها قوله: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) أي كل منكم سلطان عام ومسؤول عن الأمة. وهذه الجملة التي هي أسمى وأبلغ ما قال مشرِّع سياسي من الأولين والآخرين، فجاء من المنافقين من حرَّف المعنى عن ظاهره وعموميته إلى أن المسلم راع على عائلته ومسؤول عنها فقط، كما حرَّفوا معنى الآية : ,وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ- إلى ولاية الشهادة دون الولاية العامة. وهكذا غيروا مفهوم اللغة، وبدَّلوا الدين، وطمسوا على العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال، وعزَّة الحرية؛ بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمة نفسها بنفسها دون سلطان قاهر.

وكأن المسلمين لم يسمعوا بقول النبي عليه السلام : (الناس سواسية كأسنان المشط، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) ، وهذا الحديث من أصح الأحاديث لمطابقته للحكمة ومجيئه مفسراً الآية : ,إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ- ، فإن الله جل شأنه ساوى بين عباده مؤمنين وكافرين في المكرمة بقوله : ,وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ- ثم جعل الأفضلية في الكرامة للمتقين فقط. ومعنى التقوى، لغة، ليس كثرة العبادة كما صار ذلك حقيقة عرفية غرسها علماء الاستبداد القائلين في تفسير (عند الله) أي في الآخرة دون الدنيا؛ بل التقوى: لغةً، هي الإتقاء أي الابتعاد عن رذائل الأعمال احترازاً من عقوبة الله، فقوله : ,إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ- كقوله إن أفضل الناس أكثرهم ابتعاداً عن الآثام وسوء عواقبها.

وقد ظهر مما تقدم أن الإسلامية مؤسسة على أصول الحرية برفعها كل سيطرة وتحكُّم، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء، وبحضها على الإحسان والتحابب، وقد جعلت أصول حكومتها: الشورى الأريستوقراطية، أي شورى أهل الحل والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم، وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي، أي الاشتراكي، حسبما يأتي فيما بعد، وقد مضى عهد النبي عليه السلام وعهد الخلفاء الراشدين على هذه الأصول بأتم وأكمل صورها. ومن المعلوم أنه لا يوجد في الإسلامية نفوذ ديني مطلقاً في غير مسائل إقامة شعائر الدين، ومنها القواعد العامة التشريعية التي لا تبلغ مائة قاعدة وحكم، كلها من أجلِّ وأحسن ما اهتدى إليه المشرعون من قبل ومن بعد. ولكن وا أسفاه على هذا الدين الحر، الحكيم، السهل، السمح، الظاهرة فيه آثار الرقي على غيره من سوابقه، الدين الذي رفع الإصر (الإصر: العبء والحمل الثقيل) والأغلال، وأباد الميزة (الميزة: التمايز والفئوية)، والاستبداد، الدين الذي ظلمه الجاهلون فهجروا حكمة القرآن ودفنوها في قبور الهوان، الدين الذي فقد الأنصار الأبرار والحكماء الأخيار فسطا عليه المستبدون والمترشحون للاستبداد، واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيعاً، وجعلوه آلة لأهوائهم السياسية فضَّيعوا مزاياه وحيَّروا أهله بالتفريع والتوسيع، والتشديد والتشويش، وإدخال ما ليس منه فيه كما فعل قبلهم أصحاب الأديان السائرة, حتى جعلوه ديناً حرجاً يتوهم الناس فيه أن كل ما دوَّنه المتفننون بين دفتي كتاب ينسب لاسم إسلامي هو من الدين، وبمقتضاها أن لا يقوى على القيام بواجباته وآدابه ومزيداته، إِلاَّ من لا علاقة له بالحياة الدنيا؛ بل أصبحت بمقتضاها حياة الإنسان الطويل العمر، العاطل عن كل عمل، لا تفي بتعلم ما هي الإسلامية عجزاً عن تمييز الصحيح من الباطل من تلك الآراء المتشعبة التي أطال أهلها فيها الجدال والمناظرة؛ وما افترقوا إِلاَّ وكل منهم في موقفه الأول يظهر أنه ألزم خصمه الحجة وأسكته بالبرهان؛ والحقيقة أنَّ كلاً منهم قد سكت تعباً وكلالاً من المشاغبة.

وبهذا التشديد الذي أدخله على الدين منافسو المجوس انفتح على الأمة باب التلوُّم على النفس, واعتقاد التقصير المطلق, وأن لا نجاة ولا مخرج ولا إمكان لمحاسبة النفس فضلاً عن محاسبة الحكام المنوط بهم قيام العدل والنظام. وهذا الإهمال للمراقبة, وهو إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود, وبهذا وذاك ظهر حكم حديث: (لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أَو ليستعملن الله عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب) . وإذا تتبعنا سيرة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما مع الأمة, نجد أنهما, مع كونهما مفطورين خير فطرة, ونائلين التربية النبوية, لم تترك الأمة معها المراقبة والمحاسبة ولم تطعهما طاعة عمياء.

وقد جمع بعضهم جملة مما اقتبسه وأخذه المسلمون عن غيرهم وليس هو من دينهم بالنظر إِلى القرآن والمتواترات من الحديث وإجماع السلف الأول فقال:

اقتبسوا من النصرانية مقام البابوية باسم الغوثية, وضاهوا في الأوصاف والأعداد أوصاف وأعداد البطارقة, والكردينالية والشهداء والأساقفة, وحاكوا مظاهر القديسين وعجائبهم, والدعاة المبشرين وصبرهم, والرهبنات ورؤسائها, وحالة الأديرة وبادريتها, والرهبنات ورسومها, والحمية وتوقيتها, وقلدوا رجال الكهنوت والبراهمة في مراتبهم وتميزهم في ألبستهم وشعورهم, ولبس المسابح في الرقاب, وقلدوا الوثنيين الرومانيين في الرقص على أنغام الناي, والتغالي في تطييب الموتى, والاحتفال الزائد في الجنائز وتسريح الذبائح معها وتكليلها وتكليل القبور بالزهور وشاكلوا مراسم الكنائس وزينتها, والبِيَع واحتفالاتها, والترنحات ووزنها, والترنمات وأصولها, وإقامة الكنائس على القبور, وشد الرحال لزيارتها, والإسراج عليها, والخضوع لديها, وتعليق الآمال بسكانها. وأخذوا التبرك بالآثار: كالقدح والحربة والدستار, من احترام الذخيرة وقدسية العكاز, وكذلك إمرار اليد على الصدر عند ذكر الصالحين, من إمرارها على الصدر لأشارة الصليب. وانتزعوا الحقيقة من السر, ووحدة الوجود من الحلول، والخلافة من الرسم، والسقيا من تناول القربان، والمولد من الميلاد، وحفلته من الأعياد، ورفع الأعلام من حمل الصلبان، وتعليق ألواح الأسماء المصدرة بالنداء على الجدران من تعليق الصور والتماثيل، والاستفاضة والمراقبة من التوجه بالقلوب انحناءً أمام الأصنام. ومنعوا الاستهداء من نصوص الكتاب والسنة كحظر الكاثوليك التفهم من الإنجيل، وامتناع أحبار اليهود عن إقامة الدليل من التوراة في الأحكام. وجاؤوا من المجوسية باستطلاع الغيب من الفلك، وبخشية أوضاع الكواكب وباتخاذ أشكالها شعاراً للملك، وباحترام النار ومواقدها. وقلدوا البوذيين حرفاً بحرف في الطريق والرياضة، وتعذيب الجسم بالنار والسلاح، واللعب بالحيات والعقارب وشرب السموم، ودق الطبول والصنوج وجعل رواتب من الأدعية والأناشيد والأحزاب, واعتقاد تأثير العزائم ونداء الأسماء وحمل التمائم, إِلى غير ذلك مما هو مشاهد في بوذيي الهند ومجوس فارس والسند إِلى يومنا هذا. وقد قيل إنه نقله إِلى الإسلامية أمثال جون وست وسلطان علي منلا والبغدادي وحاشية فلان الشيخ وفلان الفارسي, على أن إسناد ذلك إِلى أشخاص معينين يحتاج إِلى تثبيت. ولفقوا من الأساطير والإسرائيليات أنواعاً من القربات, وعلوماً سموها لدنيَّات.

وكذلك يقال عن مبتدعي النصارى من أن أكثر ما اعتبره المتأخرون منهم من الشعائر الدينية حتى مشكلة التثليث لا أصل له فيما ورد عن نفس المسيح عليه السلام؛ إنما هو مزيدات وترتيبات قليلها مبتدع, وكثيرها متَّبع. وقد اكتشف العلماء الآثاريون من الصفائح الحفرية الهندية والآشورية, ومن الصحف التي وجدت في نواويس المصريين الأقدمين, على مآخذ أكثرها. وكذلك وجدوا لمزيدات التلمود وبدع الأحبار أصولاً في الأساطير والآثار والألواح الآشورية, وترقوا في التطبيق والتدقيق إِلى أن وجدوا معظم الخرافات المضافة إِلى أصول عامة الأديان في الشرق الأدنى مقتبسة من الوضعيات المنسوبة لنِحل الشرق الأقصى, وقد كشفت الآثار أن الاستبداد أخفى تاريخ الأديان وجعل أخبار منشئها في ظلام مطبق, حتى إن أعداء الأديان المتأخرين أمكنهم أن ينكروا أساساً وجود موسى وعيسى عليهما السلام, كما شوَّش الاستبداد في المسلمين تاريخ آل البيت عليهم الرضوان؛ الأمر الذي تولد عنه ظهور الفرق التي تشيعت لهم كالإمامية والإسماعيلية والزيدية والحاكمية وغيرهم.

والخلاصة أن البدع التي شوَّشت الإيمان وشوَّهت الأديان تكاد كلها تتسلسل بعضها من بعض, وتتولد جميعها من غرض واحد هو المراد, ألا وهو الاستبعاد.

والناظر المدقق في تاريخ الإسلام يجد للمستبدين من الخلفاء والملوك الأولين, وبعض العلماء الأعاجم وبعض مقلديهم من العرب المتأخرين, أقوالاً افتروها على الله ورسوله تضليلاً للأمة على سبيل الحكمة, يريدون بها إطفاء نور العلم وإطفاء نور الله, ولكن أبى الله إِلاَّ أن يتم نوره؛ فحفظ للمسلمين كتابه الكريم الذي هو شمس العلوم وكنز الحِكَم من أن تمسه يد التحريف وهي إحدى معجزاته لأنه قال فيه: ,إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ- فما مسَّه المنافقون إلاَّ بالتأويل وهذا أيضاً من معجزاته؛ لأنه أخبر عن ذلك في قوله: ,فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ-

وإني أمثِّل للمطالعين ما فعله الاستبداد في الإسلام بما حجر على العلماء الحكماء من أن يفسروا قسمي الآلاء والأخلاق من القرآن تفسيراً مدققاً, لأنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض الغفَّل السالفين أو بعض المنافقين المقربين المعاصرين, فيكفَّرون فيقتلون. وهذه مسألة إعجاز القرآن, وهي أهم مسألة في الدين لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث, واقتصروا على ما قاله فيها بعض السلف قولاً مجملاً من أنها قصور الطاقة عن الإتيان بمثله في فصاحته وبلاغته, وأنه أخبر عن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون, مع أنه لو فُتح للعلماء ميدان التدقيق وحرية الرأي والتأليف, كما أطلق عنان التخريف لأهل التأويل والحكم, لأظهروا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات من الإعجاز, ولرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه بصدق قوله: ,وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ- , ولجعلوا الأمَّة تؤمن بإعجازه عن برهان وعيان لا مجرد تسليم وإذعان.

ومثال ذلك أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوروبا وأمريكا؛ والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد به التصريح أَو التلميح في القرآن منذ ثلاثة عشر قرناً؛ وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إِلاَّ لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن شاهدة بأنه كلام ربِّ لا يعلم الغيب سواه؛ ومن ذلك أنهم قد كشفوا أن مادة الكون هي الأثير, وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال : ,ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ-, وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة والقرآن يقول : ,وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا- إِلى أن يقول: ,وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ-.

وحقَّقوا أن الأرض منفتقة في النظام الشمسي, والقرآن يقول: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}.

وحققوا أن القمر منشق من الأرض, والقرآن يقول: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} , ويقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}.

وحققوا أن طبقات الأرض سبع, والقرآن يقول: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}.

وحققوا أنه لولا الجبال لاقتضى الثقل النوعي أن تميد الأرض, أي ترتجَّ في دورتها, والقرآن يقول: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ}.

وكشفوا أن سرَّ التركيب الكيماوي بل والمعنوي هو تخالف نسبة المقادر وضبها, والقرآن يقول : {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}.

وكشفوا أن للجمادات حياة قائمة بماء التبلور, والقرآن يقول: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}.

وحققوا أن العالم العضوي, ومنه الإنسان, ترقى من الجماد, والقرآن يقول : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}.

وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات, والقرآن يقول: {خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} ويقول: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} ويقول: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}, ويقول: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}.

وكشفوا طريق إمساك الظل, أي التصوير الشمسي, والقرآن يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً}

وكشفوا تسيير السفن والمركبات بالبخار والكهرباء, والقرآن يقول, بعد ذكره الدواب والجواري بالريح : {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}.

وكشفوا وجود المكروب وتأثيره والجدري وغيره من الأمراض, والقرآن يقول {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} أي متتابعة مجتمعة {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} أي من طين المستنقعات اليابس, إِلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية. وبالقياس على ما تقدم ذكره يقتضي أن كثيراً من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون تجديداً لإعجازه بإخباره عما في الغيب ما دام الزمان وما كرَّ الجديدان؛ فلا بد أن يأتي يوم يكشف العلم فيه أن الجمادات أيضاً تنمو باللقاح كما تشير إِلى ذلك آية: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}.

كُتب في كتب, منائر | التعليقات على من طبائع الاستبداد للكواكبي – الاستبداد والدين مغلقة

وهم الحقيقة وجوائز الترضية – 2006-04-02

الجزء الأول من وهم الحقيقة وجوائز الترضية

\”يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمرحتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته \” ، هذه العبارات الفاصلة التي قالها سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم لعمه أبي طالب نحفظها جميعاً ولكني بدأت أفهم شموليتها منذ فترة قريبة ، وأحس بحاجة الأمة إلى إعادة وعيها ، وضرورة أن يبقى الحق كاملاً غير منقوص ، ولا تستبدل به أي جائزة ترضية كانت ، في زمن أصبحت به جوائز الترضية هي الأساس في أعمال أقوام نعيذهم بالله ونعوذ به معهم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

إن الله لايكلف نفساً إلا وسعها ، فإذا ضاق الوسع بقي الأصل ناراً تحرق وروحاً تمور وقد لانستطيع أن نجهر بالحق في كل صعيد ، ولكن علينا أن نبقي الحق متأججاً في كل نَفَسٍ يخرج منا وخفقة قلب وقطرة دم وتردد روح في جنباتنا.

ولكن ذلك الحق تعترضه آفات ثلاث :

الآفة الأولى : وهم الحقيقة الكلية في جزئياتها : هذا الدين دين عالمي شامل أدت ظروف ضعفه إلى الكلل عن إدراك استيعابه لكل مجال ، فنهض ببعض أجزائه رجال وفاتت أجزاء أخرى فإذا بالثغرات تأتي فلا يُفطن لها بل نحاول سدها بطرق جانبها السداد فنفتح ثغرات أخرى .

تكاد المرحلية تكون السمة العامة للحراك الإسلامي المعاصر والبناء البعيد نادر وحتى شديد الصعوبة، والضغوط اليومية تستهلكنا، وقلة أولئك الذين أدركوا مقاصد الإسلام البعيدة وسيره مع الفطر النقية فلم يغرق في المرحلية؛ ألم يكن مرحلياً التفكير بقتل ابن أبي سلول، و ألم يكن نظر النبي الهاديصلى الله عليه وآله وسلم أبعد غوراً فلم يأذن بقتله وقال كما جاء في الصحيحين: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) ومثلما يفعل التجار الماكرون عندما يواسون الخاسر في منافساتهم فيعطونه جائزة ترضية، فكذلك يفعل ذوو النظر الضيق مع فارق أنهم هم الذين يطلبون جوائز الترضية من أصحاب النفوذ ثم يفرون بها منتشين وكأن الدنيا قد حيزت لهم!

بعض جوائز الترضية أمرها هين ورغم الغبن فيها إلا أن وبالها يقع على فرد يعشقها ، أما الخطير في الأمر فهو عندما تتحول جوائز الترضية لتبتسر جزءاً من شمول الدعوة ومعاقد القوة في الأمة .

من أخطر الأمثلة على ذلك ماشاع بين الأمة من أن المسلم ليس له وطن ، وأن جنسية المسلم عقيدته ، ووطني وقومي حيث يدعى إلهيا ، وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددته عين أوطاني ، وهذا الكلام يتحدث عن حق بين وصواب ليس فيه شك ، فإن الله تعالى يقول : (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة-24. ويقول القرطبي في الآية : وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب.

وهذه الآية لاتنفي باقي المحبوبات بل تؤكدها ، والإشكال يحصل إن قدم المسلم أياً من محبوباته على محبة الله ورسوله ، ويقول العلامة القاضي فيصل مولوي: (فالله تعالى لم ينكر علينا هذه الروابط وماينشأ عنها من حب ، ولكنه أنكر علينا أن يكون هذا الحب أكبر من حبنا لله ورسوله … وحين التعارض فإن المسلم يغلب حبه لله والتزامه بأحكام شريعته على مقتضيات جميع الروابط الأخرى) .

إن هناك إشكالاً خفياً وهو أن يُظن أن انعدام تلك المحبوبات إنما هو عين التوفيق والصواب.

تقديم أي أمر على محبة الله ورسوله هو عين الضلال والخسران المبين ، ولكن محو المحبوبات الأخرى (والتي تأتي في ظلال محبة الله ورسوله) سبب خلل عظيم .

وإنني أزعم أن من أسباب استبداد الظالمين بالديار قلة حب الوطن في نفوس البعض ، وربما اعتقادهم أن فيه شيئاً لا يتفق مع الإسلام! وأخشى أن يظن البعض أن حب الأوطان بدعة غليظة وأن يكون فقه من لاوطن له قد طغى على فقه من له وطن.

لا أعرف أحداً قرأ ماكتبه علامة الشام الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته عن دمشق إلا وتأثر بذلك تأثراً شديداً ، ومن تابع فقرأ كتابه: دمشق ، صور من جمالها وعبر من نضالها ، فلن يملك عينيه من البكاء شوقاً إلى تلك الديار .

إن الأنظمة الثورية التي حكمت بعض دول العرب والمسلمين أتت لقيطة التاريخ مجهولة النسب فخنقت عن قصد كل نسب عريق في الأمة ، وجهلت الناس ببلادهم بل كرهتهم إياها ، فتركوها هجرة أو إهمالاً ، فتحس كأن جيشاً من المغول ، وجحافلاً من الجراد قد نزلت بها ، وعَلَكَت تلك الأنظمة كلمة الوطن والوطنية عَلْكاً فذهب الحس الوطني من الناس …

ياشام إن جراحي لاضفاف لها فمسِّحي عن جبيني الحُزن والتعبا

إن بعض الملتزمين من الشباب لم يذوقوا من الوطنية شيئاً ، بسبب أنه نشأ وربي في عهود محقت فيها الوطنية محقاً ، وتعمدت تلك الأنظمة أن تحطم في الناس مرجعياتهم بعد أن استولت على المرجعية السياسية بالحديد والنار وبانتخابات يعلم الكل كيف تدار وكيف تخرج نتائجها العجائبية، فصادرت المؤسسة الشرعية وصارت هي التي تعين من يتكلم بهواها ، بعد أن كان العلماء هم الذين يقدمون الصدور فيهم ، وصادرت المرجعية المهنية فوضعت يدها على كل نقابة وحرفة (كان في دمشق في العهد العثماني حوالي مائتي نقابة وزعيمها جميعاً نقيب النقباء وهو نقيب السادة أشراف أهل البيت ولم يكن حتى السلطان نفسه يستطيع خلعه) ، وصادرت المرجعية الاجتماعية فخلطت السكان خلطاً عجيباً وأصدرت قوانين أدخلت الحابل بالنابل فأصبح الناس غرباء في حيهم ، ولا كبير يجمعهم ، ثم أعانها البعض دون أن يدري في تفتيت المرجعية الأخيرة وهي المرجعية العائلية ، والتي لها الكثير من القوة ، فامتنع الكثيرون عن عميق الصلة مع أرحامهم ، بحجة أن هذا قليل التزام وذلك فيه طرف من ضعف ، وآخر امرأته سافرة ، ورابعهم شوهد يدخن ، فانفض سامر الأمة ، وتقطعت مزقاً ونتفاً ، ومادامت العقول لم تدرك الأثر الخطير لتفتت تلك المرجعيات فإنها بالتالي لم تفطن إلى أثر ذلك إلى أمر أعظم وهو انحسار الوطنية وقلة الغيرة على البلاد ، وفشو روح الإهمال والانتهازية بين الناس ، ونهبهم أموال بعض وكثرة شكاياتهم ضد بعضهم ، وملئهم المحاكم يرفعون فيها الظلم الصغير بالشكوى إلى ظالم أكبر.

لا أيها الإخوة والشباب ، ليس ذلك بالإنصاف إن لم ندر أغوار الأمور وعلاقة الأسباب بالنتائج ، فإن فقه التبسيط في عظائم الأمور ، وفقه التهويل في صغائرها أصاب الأمة أوكاد يصيبها بمقتل مفجع.

ولمن يريد الدليل على أن المؤمن يحب وطنه ، وأن الوطنية فيه لاتخبو ، تلك الأدلة التي اقتصرنا فيها على القليل ومن أراد الزيادة فليبحث:

– جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا) … وفي رواية حميد: (حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا ).

وقال المصنف ماخلاصته : قوله دَرَجَات (جمع درجة) أي طرقها المرتفعة، وللمستملي : دَوحات ، جمع دوحة وهي الشجرة العظيمة

وفي رواية جُدُرات وهو جمع جُدُر بضمتين جمع جدار … قال صاحب المطالع: جدرات أرجح من دوحات ومن درجات

قوله: (أوضع) أي أسرع السير

(من حبها) وهو يتعلق بقوله حركها أي حرك دابته بسبب حبه المدينة.

قال الإمام ابن حجر: وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه!

– جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري ، باب رقية النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الرُّقْيَةِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا وَرِيقَةُ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا) قال النووي: معنى الحديث أنه أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم وضعها على التراب فعلق به شيء منه ثم مسح به الموضع العليل أو الجريح قائلا الكلام المذكور في حالة المسح، قال القرطبي: فيه دلالة على جواز الرقى من كل الآلام، وأن ذلك كأن أمرا فاشيا معلوما بينهم، قال: ووضع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية.

وقال القرطبي أن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يتعلق بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله، وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك، أو لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة.

وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه ليأمن مضرة ذلك.

وقال النووي: قيل المراد بأرضنا أرض المدينة خاصة لبركتها، وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصا ، وفيه نظر.

– جاء في فتح الباري ، كتاب الحدود ، باب المحاربين من أهل الردة :

قول الله تعالى :(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ)

….. وقد قرنت مفارقة الوطن بالقتل قال تعالى (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم).

وقال الشافعي: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلانا وذلا.

– جاء في فتح الباري ، كتاب التعبير ، باب أول مابدئ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي :

( … فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ فَقَالَ وَرَقَةُ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا).

وخلاصة ماذكره ابن حجر : قوله (أو مخرجي هم) ؟ .. قال السهيلي: يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس فإنه صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك لحب الوطن وإلفه فقال ” أو مخرجي هم “؟ قال ويؤيد ذلك إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه فأشعر بأن الاستفهام على سبيل الإنكار أو التفجع، ويؤكد ذلك أن الوطن المشار إليه حرم الله وجوار بيته وبلدة الآباء من عهد إسماعيل عليه السلام ، [وتلك البقاع ولا شك من أعز البقاع على المسلم ].

– جاء في فيض القدير : حرف الهمزة : (إذا قضى أحدكم) أي أتم (حجه) أو نحوه من سفر طاعة كغزو (فليعجل) أي فليسرع ندباً (الرجوع إلى أهله) أي وطنه وإن لم يكن له أهل (فإنه أعظم لأجره) لما يدخله على أهله وأصحابه من السرور بقدومه لأن الإقامة بالوطن يسهل معها القيام بوظائف العبادات أكثر من غيرها، وإذا كان هذا في الحج الذي هو أحد دعائم الإسلام فطلب ذلك في غيره من الأسفار المندوبة والمباحة أولى. ومنه أخذ أبو حنيفة كراهة المجاورة بمكة وخالفه صاحباه كالشافعي. وفيه ترجيح الإقامة على السفر غير الواجب.

…. قال الذهبي في المهذب سنده قوي.

– وننقل خلاصة ماذكره العجلوني في كشف الخفاء ، حرف الحاء المهملة. الحديث رقم: 1102 : ( حب الوطن من الإيمان) : قال الصغاني موضوع ، ومعناه صحيح، ورد القاري قوله ومعناه صحيح بأنه عجيب، قال إذ لا تلازم بين حب الوطن وبين الإيمان، قال ورد أيضا بقوله تعالى (ولو أنا كتبنا عليهم – الآية) فإنها دلت على حبهم وطنهم، مع عدم تلبسهم بالإيمان، إذ ضمير عليهم للمنافقين، لكن انتصر له بعضهم بأنه ليس في كلامه أنه لا يحب الوطن إلا مؤمن، وإنما فيه أن حب الوطن لا ينافي الإيمان انتهى.

كذا نقله القاري ثم عقـّبه بقوله ولا يخفى أن معنى الحديث : حب الوطن من علامة الإيمان وهي لا تكون إلا إذا كان الحب مختصا بالمؤمن، فإذا وجد فيه وفي غيره لا يصلح أن يكون علامة، قوله ومعناه صحيح نظرا إلى قوله تعالى حكاية عن المؤمنين (وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا) فصحت معارضته بقوله تعالى (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا – الآية) ثم التحقيق أنه لا يلزم من كون الشيء علامة له اختصاصه به مطلقا، بل يكفي غالبا ألا ترى إلى حديث : (حسن العهد من الإيمان) وهو حديث صحيح .. مع أن حسن العهد يوجد حتى في الكافرين .

– ذكر ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر ، والخطابي في غريب الحديث قال قدم أُصيل – بالتصغير – الغفاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قبل أن يضرب الحجاب، فقالت له عائشة كيف تركت مكة؟ قال اخضرت جنباتها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وانتشر سلمها – الحديث، وروي أنه عليه الصلاو والسلام قال : حسبك يا أصيل لا تحزني، وفي رواية: ويهاً يا أصيل! تدع القلوب تقر

– في صحيح البخاري، باب: كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة :

عن عائشة رضي الله عنها : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:

كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله

وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته يقول:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل

وقال: اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة). قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، قالت: فكان بطحان يجري نجلا، تعني ماء آجنا.

قال الإمام ابن حجر : وقوله: ” كما أخرجونا ” أي أخرجهم من رحمتك كما أخرجونا من وطننا.

وهناك سبب آخر لذهاب الوطنية هو مناهج ضيقة لا تتسع لغير حاملها جردت الأمة (ولو بحسن نية) من كثير من معاقد قوتها زاعمة التجرد والإخلاص ، وفاتها أن الإسلام دين للعالم وليس لبقعة من الأرض ضيقة ولا تنحشر رايته في مذهب بعينه ، ولو أن المسلمين في أي بلد قطنوه رفعوا رايتهم وسبقوا الناس في رعاية أوطانهم لكان من وراء ذلك خير عميم.

اقرؤوا ياشباب الإسلام وبناته لوعات القاضي الشهيد محمد محمود الزبيري:

حَطِّميني ياريحُ ثم انثري أشلاءَ روحي في جوِّ تلكَ الجِنانِ

وزعيني في كل حقل على الأزهارِ بين القدودِ والأغصانِ

زفَراتي طوفي سماءَ بلادي وانهلي من شُعاعها الرَّيان

أطفئي لوعتي بها واغمسي روحي فيها وبرِّدي ألحاني

وصِلي جيرتي وأهلي وأحبابي وقُصي عليهِمو مادهاني

وانثري في ثَراهمو قبلاتي واملئي رَحبَ أفقهِم من جِناني

وسليهم ماتصنعُ الروضةُ الغنَّا وأدواحُها الطِّوالُ الدواني

هل رثاني هَزارها هل بكاني وُرقَها هل شَجاهُ ماقد شجاني

ليتَ للروضِ مُهجةٌ فلعل الدَّهرَ يُبكيهِ مثلَ ما أبكاني
وعش مع الأستاذ عصام العطار في غربته وحنينه إلى وطنه :

غريبٌ يقلبهُ الحنينُ على الغَضى ويُرمضُه شوقاً إلى كل شائقِ

تناءت به دارٌ وأوحشَ مَنزلٌ وظلَّلَهُ هَمٌّ مَديد السُرادِقِ

فلا راحةٌ حتى ولو لان مَضجَعٌ ولا رَوحَ حتى في ظلال البواسِقِ

ألامحُ من خلفِ الحدودِ منازلاً تلوحُ كما لاح الشِّراعُ لغارِقِ
وعرج على شجون الأستاذ سليم عبد القادر:

ومانسيتُ بلادي ، مازهدتُ بها يوماً ولا أبتغي من دونها بَلدا

ولست أمضي إلى أرض أغايرها شوقاً ودرباً وآمالاً ومُعتقدا

أرضي ستبقى بلادي رَغم من جَحَدوا حَقّي بها وسيُخزي اللهُ من جَحَدا

فيها من الذكرياتِ الخُضرِ حَقلُ هُدى في الرُّوح مُنطبعٌ لا ينمحي أبدا

مازالَ حُبي لها يشتَدُّ ، دافقةً عيونه ولهيبُ الوجد مابَردا

قالوا: جِراحُ النوى في القلبِ غائرةٌ ما يُبرِئُ الجُّرحَ أو ما يمسحُ الكَمدا

فقلتُ: يومانِ : في حمصَ وفي حلبٍ ورشفتانِ : من العاصي ومِن بَردى
روى الأصمعي : إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه.

العينُ بعدَ فراقِها الوطنا لا ساكِنا ألِفَتْ ولا سَكَنا

ليت الذينَ أحِبُّهُمْ علموُا وهم هنالِكَ ما لقيتُ هُنا

إِن الغريبَ مُعَذبٌ أبداً إِن حَلَّ لم ينعمْ وإِن ظَعنا
لقد كانت بعض الجمعيات الإسلامية في سورية تحتفل بيوم الجلاء إذ كان لأهل العلم والدين القدح المعلى في طرد الفرنسيين ، وجولة المحدث الأكبر وتلميذيه الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب للتحريض على الثورة شيء لايمحوه الزمان! بل إن أستاذ التاريخ الفاضل الدكتور شوقي ابو خليل وضع كتاباً كاملاً عن الإسلام وحركات التحرر العربية ، وقد منعت الطبعة الأولى من أن تكون عليها صورة للإمام المجاهد عز الدين القسام يحمل بندقية ليبقى الجيل الجديد قابعاً في المساجد ، غارقاً في الأحلام لا يحرر وطناً ، ولا يتوق إلى استقلال ، يرضى بقليل الدين عن واسع آفاقه.

يوم الجلاء في أي بلد مسلم يوم يجب أن نلقن فيه أولادنا معاني الكرامة والاستقلال ، وينبغي أن نوقد فيهم طباع الأحرار وعزة الإيمان .. كما ينبغي الانتباه والتأكيد على أن لانقع في مأزقين: مأزق الضن بالوقت والدم والمال والروح في سبيل الأوطان ، ومأزق التفكير المحدود باعتقاد أنه ببذل الدم وحده تنتصر الأمم ، بل إن حب الأمة والصدق في الانتماء إليها يوجب فتح بوابات الحياة لها ، وهو أمر أصعب بكثير من صد غارات الموت عنها ، أو بذل الدم في سبيلها ، والعمل لاقتلاع نظام سياسي مستبد من جذوره أجدى بكثير من دفقات دم يجود بها من لم يعد يطيق العمل الطويل… ومصعب بن عمير ربما لم يدرك كثيرون حتى الآن أنه كان السبب في حياة الدولة المسلمة الأولى ففي صمت عمل لها ، وأسس وبنى ….. كل ذلك أدوار حضارية كلها تؤدي الى أدوار استشهادية في المحصلة ان كان هناك فهم إيماني حضاري لما يقومون به..

وأعيد هنا ذكر قصة رويتها للناس في خطبة جمعة قبل أن يعزلني الظالمون عن المنابر تعبر عن روح حب الوطن والحكمة ضالتنا ولا يضرنا من أي وعاء خرجت : في إحدى دول العالم الواقعة على البحار شيدت سدود حجرية تصد البحر عن السكان الذين طالما عانوا من الأمواج وهجمات المياه وكان التفقد الدائم للسدود وسد أية ثغرة تحصل فيها مهمة أساسية لا يفرط بها بحال وإلا فهو الهلاك.. وفي أحد الأيام كان هناك طفل صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره يتمشى قبل الغروب عند أحد السدود ولاحظ أن هناك تسربا للماء من فتحة صغيرة.. ونظر الطفل حوله.. كان الظلام قد بدأ بالانتشار ولم يكن هناك أحد يسمعه.. واستيقظ حس الطفل للحفاظ على أمته وشعر بالخطر الجسيم الذي ربما سيحصل لو أن هذه الفتحة قد توسعت وتدفق منها الماء.. وربما كان الأمر أبسط مما تصوره الصغير ولكن روح الالتزام بحفظ أمته وبلاده وأرضه وشعبه أبت عليه مغادرة المكان.. واحتار الصغير ماذا يفعل وخيم الظلام.. وخطرت بباله فكرة.. مد يده تجاه الفتحة التي يتدفق منها الماء.. كانت الفتحة في حجم قبضته الصغيرة تماما.. ومد يده الى داخلها قدر استطاعته وتوقف تدفق الماء وابتسم الصغير وغمرت قلبه سعادة غامرة بأنه يشارك في الدفاع عن أمته ضد خطر الأمواج والغرق.. وتكور الطفل على نفسه والبرد يزداد ويزداد ويده تتجمد بالتدريج بسبب برودة المياه وبرودة الجو.. ومضت الساعات والطفل في موقعه.. كان البرد شديدا فلم يمر بالموقع أحد لتفقده.. وقلق أهل الطفل عليه.. ومع خيوط الفجر.. وجد حرس الشاطىء طفلا صغيرا وقد دفع بيده وذراعه بأقصى مايستطيع في فتحة كانت تتسرب منها المياه.. لم تكن هناك قطرة بإمكانها أن تمر .. وذهل الحراس لوجه الطفل البارد الشاحب.. وعندما وضع أحدهم يده على الطفل ارتد مذعورا لقد كان متجمدا من البرد وقد انطفأت فيه شعلة الحياة.. ولكن كانت ترتسم على وجهه أمارات الرضا والسعادة.. وتزينه ابتسامة وديعة تقول لمن بعده : لقد مت من أجل أن أهب لبلادي الحياة.

فيامسلم ويامسلمة.. أين دور الاستشهاد الحضاري لديكم ، والله تعالى يقول”فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”..

لقد استقلت هذه البلاد منذ مايقارب نصف قرن وانتهى الاحتلال العسكري فوق أراضيها ثم تحررت بلاد عربية وإسلامية كثيرة.. إلى أن عاد معسكر الكفر بحملة شرسة.. ماكان هدفها التراب اليوم بل هدفها النفط والماء والسيطرة على الجو والفضاء.. عاد معسكر الكفر.. يريد الاحتلال بالسياسة والاقتصاد وفرض الهيمنة الدخيلة في الفكر والثقافة والحياة الاجتماعية عاد معسكر الكفر.. يصول ويجول..

ويادعاة الهدى والحق معذرة فيم التفرق والطاغوت متحــد

إن كان من سبب واه لفرقتنـا فألف دعوة حق تهتف اتحــدوا

إن فرقتنا حدود لا بقاء لها يظل يجمعنا في الله معتقـــد
“ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين” (آل عمران 139).. نريد منكم معنويات مرتفعة.. ثباتا دائما.. حيوية متدفقة.. وعملاً طويل النفس لاتقنعه جوائز الترضية بل يبحث عن اليقين .

يا ابن الإسلام ويا ابنة الإسلام.. إن يوم الجلاء القادم ينبغي أن يكون لكل أمة العرب والمسلمين.. وعندما كنت صغيرا كان عندنا في المدرسة الابتدائية درس للنشيد وكنا في كل أسبوع نتعلم نشيدا مؤثرا يحرك الجبال.. فمن نشيد ثورة الجزائر إلى نشيد المقاومة المصرية ضد العدوان الثلاثي.. الى الكلمات المؤثرة للنشيد السوري.. تتحدث عن علم للحرية مرفوع :

أما فيه من كل عين سـواد ومن دم كل شهيد مــداد

من حق الأبطال من صنعوا فجر الاستقلال أن تتذكرهم الأمة.. وأن تعد العدة للاستقلال الأكبر ورفع الراية الكبرى راية الإسلام العظيم لتكون هدية منا إلى القائد الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذكرى ميلاده الأغر الأنور الذي به افتتح للإيمان الدرب واستقل به النور عن ظلمة الجاهلية.

تحية إلى رجالات سورية من كل أبناء الأمة الذين صنعوا الثورة التي طردت الفرنسي البغيض.. ألف رحمة للمجاهدين الذين قاتلوا عن ديار العرب والمسلمين في كل وقت وحين.. تحية الى أمة الاسلام تردد في كل وقت وحين نشيدها القرآني العظيم “ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” (الأنبياء 92)..

وللحديث بقية في العدد القادم

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على وهم الحقيقة وجوائز الترضية – 2006-04-02 مغلقة

موقف الإسلام من الديمقراطية

هناك مسائل شائكة ولابد لها من بيان ، وهي مفترق في المنهج ، والزخم العاطفي الذي يرافق أحدها أو يبتعد عنه ليس الضابط ولا الحكم فكم من أمور تبين مع الوقت أن لها وجهاً آخر ، وهذه وجهة نظر يجب على الدعاة أن يدرسوها ويتبيوا مافيها من الإيجابيات والسلبيات دون انفعال ، وفيما يلي سؤال وجهه أخ إلى فضيلة الدكتور القرضاوي ويتلوه الجواب ، وقد نقله لنا أحد الإخوة من موقع إسلام أون لاين ، ونظراً لحجب هذا الموقع عندنا فإننا نعيد نشره هنا.

نص السؤال: لا أخفي على فضيلتكم ما أصابني من الدهشة والعجب حين سمعت من بعض المتحمسين من المتدينين، ومنهم من ينتمي لبعض الجماعات الإسلامية : أن الديمقراطية تنافي الإسلام، بل نقل أحدهم عن بعض العلماء، أن الديمقراطية كفر !!وحجته في ذلك أن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، والشعب في الإسلام ليس هو الحاكم، بل الحاكم هو الله تعالى (إن الحكم إلا لله) (الأنعام : 57) وهذا يشبه ما قاله الخوارج قديمًا ورد عليه سيدنا علي كرم الله وجهه بقوله : \” كلمة حق يراد بها باطل \”. وقد أصبح شائعًا في أوساط الليبراليين ودعاة الحرية أن الإسلاميين أعداء الديمقراطية، وأنصار الديكتاتورية والاستبداد. فهل صحيح أن الإسلام عدو الديمقراطية، وأن الديمقراطية ضرب من الكفر أو المنكر، كما زعم من زعم ؟ .. .. أم أن هذا تقول على الإسلام، وهو منه بريء ؟ إن الأمر في حاجة إلى بيان حاسم من \” فقهاء الوسطية \” الذين لا يجنحون إلى الغلو ولا إلى التفريط، حتى توضع الأمور في نصابها، ولا يحمل الإسلام أوزار تفسيرات غير صحيحة، وإن صدرت عن بعض العلماء، الذين هم على كل حال بشر يخطئون ويصيبون ندعو الله أن يعينكم على تجلية الحق، وبيان الصواب، ورد الشبهة وإقامة الحجة، ودمتم مشكورين مأجورين.

التاريخ: 21/5/2005

ياسر – لبنان

نص الإجابة التي قدمها فضيلة الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي

بسم الله ؛ والحمد لله ؛ والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

يؤسفني كل الأسف أن تختلط الأمور، ويلتبس الحق بالباطل لدى بعض المتدينين عامة، ولدى بعض المتكلمين باسم الدين خاصة، إلى الحد الذي يكشف عنه سؤال الأخ السائل، شكر الله له ..حتى أصبح اتهام الناس بالكفر أو الفسق ـ على الأقل ـ أمرًا سهلاً على صاحبه، كأنما لا يعتبر في نظر الشرع جريمة كبيرة موبقة، يخشى أن ترتد على من ألصقها بغيره، كما جاء في الحديث الصحيح. وهذا السؤال الذي طرحه الأخ السائل الكريم، ليس غريبًا على، فطالما سُئلته من أخوة له في الجزائر مرات متعددة، وبهذه الصيغة الصارخة : هل الديمقراطية كفر ؟ ؟
الحكم على الشيء فرع عن تصوره

الغريب أن بعض الناس يحكم على الديمقراطية بأنها منكر صراح، أو كفر بواح، وهو لم يعرفها معرفة جيدة، تنفذ إلى جوهرها، وتخلص إلى لبابها، بغض النظر عن الصورة والعنوان. ومن القاعد المقررة لدى علمائنا السابقين : أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فمن حكم على شيء يجهله فحكمه خاطئ، وإن صادف الصواب اعتباطًا، لأنها رمية من غير رام، لهذا ثبت في الحديث أن القاضي الذي يقضي على جهل في النار، كالذي عرف الحق وقضى بغيره. فهل الديمقراطية التي تتنادى بها شعوب العالم، والتي تكافح من أجلها جماهير غفيرة في الشرق والغرب، والتي وصلت إليها بعض الشعوب بعد صراع مرير مع الطغاة، أريقت فيه دماء وسقط فيه ضحايا بالألوف، بل بالملايين، كما في أوروبا الشرقية وغيرها، والتي يرى فيها كثير من الإسلاميين الوسيلة المقبولة لكبح جماح الحكم الفردي، وتقليم أظفار التسلط السياسي، الذي ابتليت به شعوبنا المسلمة، هل هذه الديمقراطية منكر أو كفر كما يردد بعض السطحيين المتعجلين ؟؟
جوهر الديمقراطية ما هو؟

إن جوهر الديمقراطية ـ بعيدًا عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية ـ أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألا يساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها.. فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التشريد والتنكيل، بل التعذيب والتقتيل. هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقية التي وجدت البشرية لها صيغًا وأساليب عملية، مثل الانتخاب والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة وحرية الصحافة، واستقلال القضاء .. إلخ.

فهل الديمقراطية ـ في جوهرها الذي ذكرناه ـ تنافي الإسلام ؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة ؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذا الدعوى ؟
جوهر الديمقراطية يتفق مع الإسلام

الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام، فهو ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه، ولا يرضون عنه، وفي الحديث : \” ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرًا ..\” وذكر أولهم : \” رجل أم قومًا وهم له كارهون ..\” (رواه ابن ماجة (971) وقال البوصيري في الزوائد : إسناده صحيح، رجاله ثقات، وابن حبان في صحيحه ـ الموارد ـ (377) كلاهما عن ابن عباس) .كان هذا في الصلاة فكيف في أمور الحياة والسياسة ؟ وفي الحديث الصحيح : خير أئمتكم ـ أي حكامكم ـ الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ـ أي تدعون لهم ـ ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم \”. (رواه مسلم عن عوف بن مالك).
حملة القرآن على الحكام المتألهين في الأرض

لقد شن القرآن حملة في غاية القسوة على الحكام المتألهين في الأرض، الذين يتخذون عباد الله عبادًا لهم مثل \” نمرود \” الذي ذكر القرآن موقفه من إبراهيم وموقف إبراهيم منه : (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين). (البقرة : 258) فهذا الطاغية يزعم أنه يحيي ويميت، كما أن رب إبراهيم ـ وهو رب العالمين ـ يحيي ويميت.فيجب أن يدين الناس له، كما يدينون لرب إبراهيم ! وبلغ من جرأته في دعوى الإحياء والإماتة، أن جاء برجلين من عرض الطريق، وحكم عليهما بالإعدام بلا جريرة، ونفذ في أحدهما ذلك فورًا، وقال : ها قد أمته، وعفا عن الآخر، وقال ها قد أحييته ! ألست بهذا أحيي وأميت ؟!

ومثله فرعون الذي نادى في قومه (أنا ربكم الأعلى) (النازعات : 24)، وقال في تبجح : (يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري). (القصص : 38).

وقد كشف القرآن عن تحالف دنس بين أطراف ثلاثة خبيثة :

الأول : الحاكم المتأله المتجبر في بلاد الله، المتسلط على عباد الله، ويمثله فرعون.

والثاني : السياسي الوصولي، الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الطاغية، وتثبيت حكمه، وترويض شعبه للخضوع له ويمثله هامان.

والثالث :الرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطاغية، فهو يؤيده ببذل بعض ماله، ليكسب أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه، ويمثله قارون.

ولقد ذكر القرآن هذا الثالوث المتحالف على الإثم والعدوان، ووقوفه في وجه رسالة موسى، حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر : (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) (غافر :23، 24) .(وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين). (العنكبوت : 39) والعجيب أن قارون كان من قوم موسى، ولم يكن من قوم فرعون، ولكنه بغى على قومه، وانضم إلى عدوهم فرعون، وقبله فرعون معه، دلالة على أن المصالح المادية هي التي جمعت بينهما، برغم اختلاف عروقهما وأنسابهما.
ربط القرآن بين الطغيان والفساد

من روائع القرآن : أنه ربط بين الطغيان وانتشار الفساد، الذي هو سبب هلاك الأمم ودمارها، كما قال تعالى : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد.التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد.وفرعون ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد.فأكثروا فيها الفساد. فصب عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد). (الفجر : 6-12).

وقد يعبر القرآن عن \” الطغيان \” بلفظ \” العلو \” ويعني به الاستكبار والتسلط على خلق الله بالإذلال والجبروت.كما قال تعالى عن فرعون : (إنه كان عاليًا من المسرفين). (الدخان : 31). (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين). (القصص : 4). وهكذا نرى \” العلو \” و\” الإفساد \” متلازمين.
ذم القرآن للشعوب المطيعة للجبابرة

لم يقصر القرآن حملته على الطغاة المتأهلين وحدهم، بل أشرك معهم أقوامهم وشعوبهم الذين اتبعوا أمرهم وساروا في ركابهم، وأسلموا لهم أذمتهم، وحملهم المسئولية معهم. يقول تعالى عن قوم نوح :(قال نوح ربي إنهم عصوني واتبعوا ما لم يزده ماله وولده إلا خسارًا). (نوح : 21). ويقول سبحانه عن عاد قوم هود : (وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد). (هود : 59). ويقول جل شأنه عن قوم فرعون (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين) (الزخرف : 54) .(فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد.. يقدم قومهم يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد الورود) .(هو: 97، 98) .وإنما حمل الشعوب المسئولية أو جزءًا منها، لأنها هي التي تصنع الفراعنة والطغاة، وهو ما عبر عنه عامة الناس في أمثالهم حين قالوا قبل لفرعون : ما فرعنك ؟ قال : لم أجد أحدًا يردني !
جنود الطاغية وأدواته يتحملون الوزر معه

أكثر من يتحمل المسئولية مع الطغاة هم \” أدوات السلطة \” الذين يسميهم القرآن \” الجنود \” ويقصد بهم \” القوة العسكرية \” التي هي أنياب القوة السياسية وأظفارها، وهي السياط التي ترهب بها الجماهير إن هي تمردت أو فكرت في أن تتمرد، يقول القرآن : (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) (القصص : 8)، (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين). (القصص : 40).
حملة السنة على الأمراء الظلمة

السنة النبوية حملت كذلك على الأمراء الظلمة والجبابرة، الذين يسوقون الشعوب بالعصي الغليظة، وإذا تكلموا لا يرد أحد عليهم قولاً فهم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش. كما حملت على الذين يمشون في ركابهم، ويحرقون البخور بين أيديهم، من أعوان الظلمة. ونددت السنة بالأمة التي ينتشر فيها الخوف، حتى لا تقدر أن تقول للظالم : يا ظالم.

فعن أبي موسى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : \” إن في جهنم واديًا وفي الوادي بئر يقال له هبهب، حق على الله أن يسكنه كل جبار عنيد \”. (رواه الطبراني بإسناد حسن كما قال المنذري في الترغيب، والهيثمي في : المجمع 5 /197 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4 /332).

وعن معاوية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال \” ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم قولهم، يفاحمون في النار كما تفاحم القردة \”. (رواه أبو يعلي والطبراني، وذكره في : صحيح الجامع الصغير، برقم 3615).

وعن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لكعب ابن عجرة : \” أعاذك الله من إمارة السفهاء يا كعب \”.قال : وما إمارة السفهاء ؟ قال : \” أمراء يكونون بعدي، لا يهدون بهديي ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون على حوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني، وأنا منهم، وسيردون على حوضي \”. (رواه أحمد والبزار، ورجالهما رجال الصحيح، كما في : الترغيب للمنذري، والزوائد للهيثمي 5/247).

وعن معاوية مرفوعًا : \” لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف منها حقه من القوي غير متعتع \”. (رواه الطبراني ورواته ثقات، كما قال المنذري والهيثمي، كما رواه من حديث ابن مسعود بإسناد جيد 5/209 ورواه ابن ماجة مطولا من حديث أبي سعيد).

وعن عبد الله ابن عمرو مرفوعًا : \” إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم : يا ظالم فقد تودع منهم \”. (رواه أحمد في : المسند، وصحح شاكر إسناده (6521) ونسبه الهيثمي للبزار أيضًا بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح 7/262، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4/96).
الشورى والنصيحة والأمر والنهي

لقد قرر الإسلام الشورى قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية، وأوجب على الحاكم أن يستشير، وأوجب على الأمة أن تنصح، حتى جعل النصيحة هي الدين كله.. ومنها : النصيحة لأئمة المسلمين، أي أمرائهم وحكامهم.

كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة لازمة، بل جعل أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر، ومعنى هذا أنه جعل مقاومة الطغيان والفساد الداخلي أرجح عند الله من مقاومة الغزو الخارجي، لأن الأول كثيرًا ما يكون سببًا للثاني.
الحاكم في نظر الإسلام

إن الحاكم في نظر الإسلام وكيل عن الأمة أو أجير عندها، ومن حق الأصيل أن يحاسب الوكيل أو يسحب منه الوكالة إن شاء، وخصوصًا إذا أخل بموجباتها. فليس الحاكم في الإسلام سلطة معصومة بل هو بشر يصيب ويخطئ، ويعدل ويجور، ومن حق عامة المسلمين أن يسددوه إذا أخطأ ويقوموه إذا اعوج. وهذا ما أعلنه أعظم حكام المسلمين بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : الخلفاء الراشدون المهديون الذين أمرنا أن نتبع سنتهم، ونعض عليها بالنواجذ باعتبارها امتدادًا لسنة المعلم الأول محمد -صلى الله عليه وسلم-. يقول الخليفة الأول أبو بكر في أول خطبة له: \” أيها الناس، إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني .. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته، فلا طاعة لي عليكم \”. ويقول الخليفة الثاني عمر الفاروق : \” رحم الله امرأ أهدى إلي عيوب نفسي \”، ويقول : \” أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجًا فليقومني .. \”، ويرد عليه واحد من الجمهور فيقول : والله يا بن الخطاب لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفنا \” ! وترد عليه امرأة رأيه وهو فوق المنبر، فلا يجد غضاضة في ذلك، بل يقول : \” أصابت المرأة وأخطأ عمر \” !

ويقول على ابن أبي طالب كرم الله وجهه لرجل عارضه في أمر : أصبت وأخطأت ( وفوق كل ذي علم عليم). (يوسف : 76).
سبق الإسلام تقرير القواعد

إن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين، وفق أصول دينهم، ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم بحسب الزمان والمكان، وتجدد أحوال الإنسان.
مزية الديمقراطية

وميزة الديمقراطية أنها اهتدت ـ خلال كفاحها الطويل مع الظلمة والمستبدين من الأباطرة والملوك والأمراء ـ إلى صيغ ووسائل، تعتبر ـ إلى اليوم ـ أمثل الضمانات لحماية الشعوب من تسلط المتجبرين. ولا حجر على البشرية وعلى مفكريها وقادتها، أن تفكر في صيغ وأساليب أخرى لعلها تهتدي إلى ما هو أوفى وأمثل، ولكن إلى أن يتيسر ذلك ويتحقق في واقع الناس نرى لزامًا علينا أن نقتبس من أساليب الديمقراطية ما لابد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض.

ومن القواعد الشرعية المقررة : أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن المقاصد الشرعية المطلوبة إذا تعينت لها وسيلة لتحقيقها، أخذت هذه الوسيلة حكم ذلك المقصد.

ولا يوجد شرعًا ما يمنع اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي، من غير المسلمين، فقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الأحزاب بفكرة \” حفر الخندق \” وهو من أساليب الفرس. واستفاد من أسرى المشركين في بدر \” ممن يعرفون القراءة والكتابة \” في تعليم أولاد المسلمين الكتابة، برغم شركهم، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها. وقد أشرت في بعض كتبي إلى أن من حقنا أن نقتبس من غيرنا من الأفكار والأساليب ما يفيدنا .. ما دام لا يعارض نصًا محكمًا، ولا قاعدة شرعية ثابتة. وعلينا أن نحور فيما نقتبسه، ونضيف إليه، ونضفي عليه من روحنا : ما يجعله جزءًا منا، ويفقده جنسيته الأولى. (انظر : كتابي : الحل الإسلامي فريضة وضرورة، فصل :\” شروط الحل الإسلامي \” تحت عنوان :\” مشروعية الاقتباس وحدوده).
الانتخاب من الشهادة

إذا نظرنا إلى نظام كنظام الانتخاب أو التصويت، فهو في نظر الإسلام \” شهادة \” للمرشح بالصلاحية.. فيجب أن يتوافر في \” صاحب الصوت \” ما يتوافر في الشاهد من الشروط بأن يكون عدلاً مرضي السيرة، كما قال تعالى : (وأشهدوا ذوي عدل منكم) (الطلاق :2)، (ممن ترضون من الشهداء). (البقرة : 282). ومن شهد لغير صالح بأنه صالح، فقد ارتكب كبيرة شهادة الزور وقد قرنها القرآن بالشرك بالله، إذ قال : (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور). (الحج : 30). ومن شهد لمرشح بالصلاحية لمجرد أنه قريبه أو ابن بلده، أو لمنفعة شخصية يرتجيها منه، فقد خالف أمر الله تعالى : (وأقيموا الشهادة لله). (الطلاق : 2).

ومن تخلف عن أداء واجبه الانتخابي، حتى رسب الكفء الأمين، وفاز بالأغلبية من لا يستحق، ممن لم يتوافر فيه وصف \” القوي الأمين \” فقد كتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها.. وقد قال تعالى : (ولايأب الشهداء إذا ما دعوا) (البقرة : 282) .(ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه). (البقرة : 283). ومثل ذلك يقال في صفات المرشح وشروطه من باب أولى.

إننا بإضافة هذه الضوابط والتوجيهات لنظام الانتخاب، نجعله في النهاية نظامًا إسلاميًا، وإن كان في الأصل مقتبسًا من عند غيرنا.
حكم الشعب وحكم الله

الذي نريد التركيز عليه هنا هو ما نوهنا به في أول الأمر، وهو : جوهر الديمقراطية، فهو بالقطع متفق مع جوهر الإسلام، إذا رجعنا إليه في مصادره الأصلية، واستمددناه من ينابيعه الصافية، من القرآن والسنة، وعمل الراشدين من خلفائه، لا من تاريخ أمراء الجور، وملوك السوء، ولا من فتاوى الهالكين المحترقين من علماء السلاطين، ولا من المخلصين المتعجلين من غير الراسخين.

وقول القائل : إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، ويلزم منها رفض المبدأ القائل : إن الحاكمية لله ـ قول غير مسلم. فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو رفض الديكتاتورية المتسلطة، رفض حكم المستبدين بأمر الشعوب من سلاطين الجور والجبروت.

أجل كل من يعني هؤلاء من الديمقراطية أن يختار الشعب حكامه كما يريد، وأن يحاسبهم على تصرفاتهم، وأن يرفض أوامرهم إذا خالفوا دستور الأمة، .وبعبارة إسلامية : إذا أمروا بمعصية، وأن يكون له الحق في عزلهم إذا انحرفوا وجاروا، ولم يستجيبوا لنصح أو تحذير.
المراد بمبدأ الحاكمية لله

وأحب أن أنبه هنا على أن مبدأ \” الحاكمية لله\” مبدأ إسلامي أصيل، قرره جميع الأصوليين في مباحثهم عن \” الحكم الشرعي\”، وعن \”الحاكم \” فقد اتفقوا على أن \” الحاكم\” هو الله تعالى، والنبي مبلغ عنه، فالله تعالى هو الذي يأمر وينهى، ويحلل ويحرم، ويحكم ويشرع.

وقول الخوارج :\” لا حكم إلا لله \” قول صادق في نفسه، حق في ذاته، ولكن الذي أنكر عليهم هو وضعهم الكلمة، في غير موضعها، واستدلالهم بها على رفض تحكيم البشر في النزاع، وهو مخالف لنص القرآن الذي قرر التحكيم في أكثر من موضع، ومن أشهرها التحكيم بين الزوجين إن وقع الشقاق بينهما. ولهذا رد أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- على الخوارج بقوله : \” كلمة حق أريد بها باطل \” فقد وصف قولهم بأنه \” كلمة حق \”، ولكن عابهم بأنهم أرادوا بها باطلاً. وكيف لا تكون كلمة حق وهي مأخوذة من صريح القرآن :(إن الحكم إلا لله) ؟ (يوسف : 40).

فحاكمية الله تعالى للخلق ثابتة بيقين، وهي نوعان :

1. حاكمية كونية قدرية، بمعنى أن الله هو المتصرف في الكون، المدبر لأمره الذي يجري فيه أقداره، ويحكمه بسننه التي لا تتبدل، ما عرف منها وما لم يعرف، وفي مثل هذا جاء قوله تعالى : (أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب) (الرعد : 41)، فالمتبادر هنا أن حكم الله يراد به الحكم الكوني القدري لا التشريعي الأمري.

2. حاكمية تشريعية أمرية، وهي حاكمية التكليف والأمر والنهي، والإلزام والتخيير، وهي التي تجلت فيما بعث الله به الرسل، وأنزل الكتب، وبها شرع الشرائع وفرض الفرائض، وأحل الحلال، وحرم الحرام .. وهذه لا يرفضها مسلم رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولاً.

والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو إليها باعتبارها شكلاً للحكم، يجسد مبادئ الإسلام السياسية في اختيار الحاكم، وإقرار الشورى والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الجور، ورفض المعصية، وخصوصًا إذا وصلت إلى \” كفر بواح\” فيه من الله برهان.

ومما يؤكد ذلك : أن الدستور ينص ـ مع التمسك بالديمقراطية ـ على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين، وهذا تأكيد لحاكمية الله، أي حاكمية شريعته، وأن لها الكلمة العليا. ويمكن إضافة مادة في الدستور صريحة واضحة، إن كل قانون أو نظام يخالف قطعيات الشرع.فهو باطل، وهي في الواقع تأكيد لا تأسيس.

لا يلزم ـ إذن ـ من الدعوة إلى الديمقراطية اعتبار حكم الشعب بديلا عن حكم الله، إذ لا تناقض بينهما. ولو كان ذلك لازمًا من لوازم الديمقراطية، فالقول الصحيح لدى المحققين من علماء الإسلام : أن لازم المذاهب ليس بمذهب، وأنه لا يجوز أن يكفر الناس أو يفسقوا أخذًا لهم بلوازم مذاهبهم، فقد لا يلتزمون بهذه اللوازم، بل قد لا يفكرون فيها بالمرة.
تحكيم الأكثرية هل ينافي الإسلام؟

من الأدلة عند هذا الفريق من الإسلاميين، على أن الديمقراطية مبدأ مستورد، ولا صلة له بالإسلام : أنها تقوم على تحكيم الأكثرية، واعتبارها صاحب الحق في تنصيب الحكام، وفي تسيير الأمور، وفي ترجيح أحد الأمور المختلف فيها، فالتصويت في الديمقراطية هو الحكم والمرجع، فأي رأي ظفر بالأغلبية المطلقة، أو المقيدة في بعض الأحيان، فهو الرأي النافذ، وربما كان خطأ أو باطلاً.

هذا مع أن الإسلام لا يعتد بهذه الوسيلة ولا يرجح الرأي على غيره، لموافقة الأكثرية عليه، بل ينظر إليه في ذاته : أهو صواب أم خطأ؟ فإن كان صوابًا نفذ، وإن لم يكن معه إلا صوت واحد، أو لم يكن معه أحد، وإن كان خطأ رفض، وإن كان معه (99) من الـ(100) !

بل إن نصوص القرآن تدل على أن الأكثرية دائمًا في صف الباطل، وفي جانب الطاغوت.كما في مثل قوله تعالى : (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام : 116)، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (يوسف : 103)، وتكر في القرآن مثل هذه الفواصل القرآنية : (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الأعراف : 187)، (بل أكثرهم لا يعقلون) (العنكبوت : 63)، (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) (هود : 17)، (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) (البقرة 243).

كما دلت على أن أهل الخير والصلاح هم الأقلون عددًا، كما في قوله تعالى : (وقليل من عبادي الشاكرون) (سبأ :13)، (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم). (ص : 24).

وهذا الكلام مردود على قائله وهو قائم على الغلط أو المغالطة. فالمفروض أننا نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم أكثره ممن يعلمون ويعقلون ويؤمنون ويشكرون .ولسنا نتحدث عن مجتمع الجاحدين أو الضالين عن سبيل الله.

ثم إن هناك أمورًا لا تدخل مجال التصويت، ولا تعرض لأخذ الأصوات عليها، لأنها من الثوابت التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته، ولم يعد مسلمًا. فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع، وأساسيات الدين وما علم منه بالضرورة وإنما يكون التصويت في الأمور \” الاجتهادية\” التي تحتمل أكثر من رأي، ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها، مثل اختيار أحد المرشحين لمنصب ما، ولو كان هو منصب رئيس الدولة، ومثل إصدار قوانين لضبط حركة السير والمرور، أو لتنظيم بناء المحلات التجارية أو الصناعية أو المستشفيات، أو غير ذلك مما يدخل فيما يسميه الفقهاء \” المصالح المرسلة \” ومثل اتخاذ قرار بإعلان الحرب أو عدمها، وبفرض ضرائب معينة أو عدمها، وبإعلان حالة الطوارئ أو لا، وتحديد مدة رئيس الدولة، وجواز تجديد انتخابه أو لا، وإلى أي حد … إلخ فإذا اختلفت الآراء في هذه القضايا، فهل تترك معلقة أو تحسـم، هل يكون ترجيح بلا مرجح؟ أو لا بد من مرجح؟

إن منطق العقل والشرع والواقع يقول: لا بد من مرجح. والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية، فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد، وفي الحديث: \” إن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد \”. (رواه الترمذي في \”الفتن\”، عن عمر 2166، وقال: حديث حسن صحيح غريب. قال: وقد رُوي هذا من غير وجه عن عمر. رواه الحاكم (1/114) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي).

وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر: \”لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما\”. (رواه أحمد عن عبد الله بن غنم الأشعري (4/227) وفي سنده شهر بن وشب، وقال ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الإرسال والأوهام.

إذ معنى ذلك أن صوتين يرجحان صوتًا واحدًا، وإن كان هو صوت النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما دام ذلك بعيدًا عن مجال التشريع والتبليغ عن الله تعالى). كما رأينا -صلى الله عليه وسلم- ينزل على رأي الكثرة في غزوة أحد، ويخرج للقاء المشركين خارج المدينة، وكان رأيه ورأي كبار الصحابة البقاء فيها، والقتال من داخلها في الطرقات.

و أوضح من ذلك موقف عمر في قضية الستة أصحاب الشورى، الذين رشحهم للخلافة وأن يختاروا بالأغلبية واحدًا منهم، وعلى الباقي أن يسمعوا ويطيعوا، فإن كانوا ثلاثة في مواجهة ثلاثة، اختاروا مرجحًا من خارجهم وهو عبد الله بن عمر، فإن لم يقبلوه، فالثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. وقد ثبت في الحديث التنويه \” بالسواد الأعظم\” والأمر باتباعه، والسواد الأعظم يعني جمهور الناس وعامتهم والعدد الأكبر منهم، حديث رُوِي من طرق، بعضها قوي. (الحديث رواه الطبراني مرفوعًا عن أبي أمامة، وفيه: \”إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة – أو قال: اثنتين وسبعين فرقة – وإن هذه الأمة ستزيد على هم فرقة، كلها في النار، إلا السواد الأعظم\” المعجم الكبير جـ8 (8035) وذكره الهيثمي في: مجمع الزوائد، وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات 6/233، 234، وفي موضع آخر قال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير (7/258) ورواه الطبراني وأحمد في المسند موقوفًا على ابن أبي أوفى، قال: \”يا بن جهمان عليك بالسواد الأعظم\”، قال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات 65/232، كما رواه ابن أبي عاصم في السنة عن ابن عمر رقم 80 بلفظ: \”ما كان الله ليجمع هذه الأمة على الضلالة أبدًا، ويد الله على الجماعة، فعليكم بالسواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار\” وقال الألباني: إسناده ضعيف. ورواه الحاكم بنحوه من طرق عن المعتمر بن سليمان 1/115، 116 وقال: إن المعتمر أحد أركان الحديث وأئمته فلابد أن يكون له أصل بأحد هذه الأسانيد. ويؤيده اعتداد العلماء برأي الجمهور في الأمور الخلافية، واعتبار ذلك من أسباب ترجيحه، إذا لم يوجد مرجح يعارضه).

وقد ذهب الإمام أبو حامد الغزالي في بعض مؤلفاته إلى الترجيح بالكثرة عندما تتساوى وجهتا النظر. (انظر: الشورى وأثرها في الديمقراطية للدكتور عبد الحميد الأنصاري).

وقول من قال : إن الترجيح إنما يكون للصواب وإن لم يكن معه أحد، وأما الخطأ فيرفض ولو كان معه (99 من المائة)، إنما يصدق في الأمور التي نص عليها الشرع نصًا ثابتًا صريحًا يقطع النزاع، ولا يحتمل الخلاف، أو يقبل المعارضة وهذا قليل جدًا .. وهو الذي قيل فيه : الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك. أما القضايا الاجتهادية، مما لا نص فيه، أو ما فيه نص يحتمل أكثر من تفسير، أو يوجد له معارض مثله أو أقوى منه، فلا مناص من اللجوء إلى مرجح يحسم به الخلاف والتصويت وسيلة لذلك عرفها البشر، وارتضاها العقلاء، ومنهم المسلمون، ولم يوجد في الشرع ما يمنع منها، بل وجد في النصوص والسوابق ما يؤيدها.
الاستبداد السياسي المسبب الأول لما أصاب الأمة قديمًا وحديثا :

إن أول ما أصاب الأمة الإسلامية في تاريخها هو التفريط في قاعدة الشورى، وتحول \”الخلافة الراشدة \”إلى مُلك عضوض\” سماه بعض الصحابة \”كسروية\” أو \”قيصرية\” أي أن عدوى الاستبداد الإمبراطوري انتقلت إلى المسلمين من الممالك التي أورثهم الله إياها، وكان عليهم أن يتخذوا منهم عبرة، وأن يجتنبوا من المعاصي والرذائل ما كان سببًا في زوال دولتهم.

وما أصاب الإسلام وأمته ودعوته في العصر الحديث إلا من جراء الحكم الاستبدادي المتسلط على الناس بسيف المعز وذهبه، وما عطلت الشريعة، ولا فرضت العلمانية، وألزم الناس بالتغريب إلا بالقهر والجبروت، واستخدام الحديد والنار، ولم تضرب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، ولم ينكل بدعاتها وأبنائها، ويشرد بهم كل مشرد، إلا تحت وطأة الحكم الاستبدادي السافر حينا، والمقنع أحيانًا بأغلفة من دعاوى الديمقراطية الزائفة، الذي تأمره القوى المعادية للإسلام جهرًا، أو توجهه من وراء ستار.
الحرية السياسية أول ما نحتاج إليه:

لم ينتعش الإسلام، ولم تنتشر دعوته، ولم تبرز صحوته، وتعل صيحته، إلا من خلال ما يتاح له من حرية محدودة، يجد فيها الفرصة ليتجاوب مع فطر الناس التي تترقبه، وليُسمِعَ الآذان التي طال شوقها إليه، وليقنعَ العقول التي تهفو إليه.

إن المعركة الأولى للدعوة الإسلامية والصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية في عصرنا هي معركة الحرية، فيجب على كل الغيورين على الإسلام أن يقفوا صفًا واحدًا للدعوة إليها، والدفاع عنها، فلا غنى عنها ولا بديل لها.

ويهمني أن أؤكد أنني لست من المولعين باستخدام الكلمات الأجنبية الأصل \”كالديمقراطية ونحوها\” للتعبير عن معان إسلامية. ولكن إذا شاع المصطلح واستخدمه الناس، فلن نُصِمَّ سمعنا عنه، بل علينا أن نعرف المراد منه إذا أطلق، حتى لا نفهمه على غير حقيقته، أو نحمله ما لا يحتمله، أو ما لا يريده الناطقون به، والمتحدثون عنه، وهنا يكون حكمنا عليه حكمًا سليمًا متزنًا، ولا يضيرنا أن اللفظ جاء من عند غيرنا، فإن مدار الحكم ليس على الأسماء والعناوين، بل على المسميات والمضامين.

وكثير من الإسلاميين يطالبون بالديمقراطية شكلاً للحكم، وضمانًا للحريات، وصمامًا للأمان من طغيان الحاكم، على أن تكون ديمقراطية حقيقية تمثل إرادة الأمة، لا إرادة الحاكم الفرد وجماعته المنتفعين به.فليس يكفي رفع شعار الديمقراطية في حين تزهق روحها، بالسجون تفتح، وبالسياط تُلهب، وبأحكام الطوارئ تلاحق كل ذي رأي حر، وكل من يقول للحاكم : لم ؟ بله أن يقول : لا.

وأنا من المطالبين بالديمقراطية بوصفها الوسيلة الميسورة، والمنضبطة، لتحقيق هدفنا في الحياة الكريمة التي نستطيع فيها أن ندعو إلى الله وإلى الإسلام، كما نؤمن به، دون أن يزج بنا في ظلمات المعتقلات، أو تنصب لنا أعواد المشانق.
الشورى ملزمة وليست مجرد معلمة

بقى أن أذكر أن بعض العلماء، لا زالوا يقولون إلى اليوم : إن الشورى معلمة لا ملزمة، وأن على الحاكم أن يستشير، وليس عليه أن يلتزم برأي أهل الشورى ـ أهل الحل والعقد.

وقد رددت على هذا في مقام آخر، مبينًا أن الشورى لا معنى لها، إذا كان الحاكم يستشير ثم يفعل ما يحلو له، وما تزينّه له بطانته، ضاربًا برأي أهل الشورى عرض الحائط، وكيف يسمَّى هؤلاء \”أهل الحل والعقد\” كما عرفوا في تراثنا، وهم في الواقع لا يحلون ولا يعقدون ؟ !

وقد ذكر ابن كثير في تفسيره نقلاً عن ابن مردويه عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن العزم في قوله تعالى : (وشــاورهم في الأمـر فإذا عزمت فتوكـل على اللـه) (آل عمران: 159) فقال: مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم.

وإذا كان في المسألة رأيان، فإن ما أصاب أمتنا ـ ولا يزال يصيبها إلى اليوم ـ من وراء الاستبداد، يؤيد الرأي القائل بإلزامية الشورى.

[كان الإمام أبو الأعلى المودودي رحمه الله يقول بعدم إلزامية الشورى ثم تبنى وجهة النظر التي تقول بإلزاميتها ، وهو ماتقوم عليه أغلب الجماعات الإسلامية اليوم]

ومهما يكن من خلاف، فإذا رأت الأمة أو جماعة منها أن تأخذ برأي الإلزام في الشورى، فإن الخلاف يرتفع، ويصبح الالتزام بما اتفق عليه واجبًا شرعًا، فإن المسلمين عند شروطهم، فإذا اختير رئيس أو أمير على هذا الأساس وهذا الشرط، فلا يجوز له أن ينقض هذا العقد، ويأخذ بالرأي الآخر، فإن المسلمين على شروطهم، والوفاء بالعهد فريضة.

وحين عرض على سيدنا على ـ رضي الله عنه ـ أن يبايعوه على الكتاب والسنة وعمل الشيخين ـ أبي بكر وعمر ـ قبله، رفض هذا ـ أعني الالتزام بعمل الشيخين ـ لأنه إذا قبله يجب أن يلتزم به. وبهذا تقترب الشورى الإسلامية من روح الديمقراطية، وإن شئت قلت: يقترب جوهر الديمقراطية من روح الشورى الإسلامية.

والحمد لله رب العالمين. والله أعلم

كُتب في المناهج | التعليقات على موقف الإسلام من الديمقراطية مغلقة

الإسلام في الصين

(إطلالة واقعية ونظرة مستقبلية)

الصين بلد قليل قاصدوه من الدعاة العرب ، وقد أكرم الله تعالى الأخ الفاضل والداعية الموفق الأستاذ أحمد محمد سعيد السعدي بزيارته والدعوة إلى الله فيه.. فجزاه الله عنا ماهو أهله فقد سد ثغرة وأسقط جزءاً من فريضة الكفاية عن الأمة.

الأستاذ أحمد السعدي مدرس في العديد من المعاهد الشرعية في دمشق ، وخطيب وداعية متخصص في تعليم الإسلام والعربية ، وله مع الإخوة الصينيين جولات موفقة ، وقد أكرمنا بملخص عن جزء من رحلته ، فبارك الله فيه وأجرى الخير على يديه.

تمهيد :

يمتاز المسلمون الصينيون بتاريخ عريق امتد ما يزيد على ثلاثة عشر قرناً ، ويظهر من المراجع التاريخية الصينية والعربية أن المسلمين كانوا قد وصلوا إلى الصين أيام الأمويين ، وعلى الرغم من أن تحديد وقت دخول المسلمين لأول مرة إلى هذا البلد يحتاج إلى تحقيق قد لا يفضي إلى معرفة قطعية ، غير أن المؤشر المهم ها هنا هو عراقة الإسلام في الصين ، وأعني بالصين جنوبها وشمالها على حد سواء ، ذلك أن مسجد أبي وقاص والواقع جنوب الصين قد يبلغ عمره نحواً من أربعة عشر قرناً أو أقل قليلاً ، أما إقليم شينغ جانغ والذي يتبع الصين اليوم فإن المسلمين فيه يرجعون إلى عرق تركي ولا شك أن إسلامهم يعود إلى عهد الفتوحات الإسلامية في البلاد التي تقع شمال إيران ( ما وراء فارس ) . وعلى كلٍّ ينتشر المسلمون الصينيون اليوم في كل المقاطعات الصينية تقريباً ابتداء من منغوليا شمالاً ووصولاً إلى يونان جنوباً وهما مقاطعتان يقطنهما الكثير من المسلمين .

تعداد المسلمين الصينيين وتوزعهم في المقاطعات الصينية :

تتراوح تقديرات عدد المسلمين في الصين ما بين ثلاثين مليوناً ومئة مليون ، وإذا كان تحديد تاريخ دخول الإسلام إلى الصين صعباً أو متعذِّراً فإن إجراء إحصائية دقيقة لعددِ مَنْ ينتسبون إلى الإسلام أشد صعوبة في تقديري ، غير أن الملتزمين بالإسلام في حده الأدنى لا يتجاوز بضعة ملايين في اعتقادي ، ذلك أن جمهور من ينتسب إلى الإسلام لأن آباءهم أو أهليهم مسلمون لا يعلمون عن الإسلام شيئاً ، وقد أخبرتني طالبة صينية في جامعة شي آن حين زرت مدينة شي آن والتقيت باتحاد الطلبة المسلمين فيها بأن الكثير من المسلمين هنا لا يعقدون قلوبهم على إيمان صحيح وهي تعني جيل الشباب الجديد الذي قد يمارس بعض الطقوس المرتبطة بالعبادات الإسلامية تقليداً لا قناعة وإيماناً فبعض الشباب المسلم مثلاً يصوم في رمضان لأن أهليهم عودوهم ذلك ، وإذا كان هذا هو الحال في مدينة ينتشر فيها المسلمون فما بالك بالمدن الكبرى كبكين وشنغهاي ؟!!

على أن التزام المسلمين بدينهم بشكل عام يتأثر بجانب كبير في ناحيتين : الأولى المقاطعة التي يسكن فيها هؤلاء المسلمون ، والثانية : كونهم يسكنون في الريف أو المدينة . وإذا نظرنا من الناحية الأولى ألفينا نشاطاً بارزاً للمسلمين في بعض المقاطعات تبعاً لكثرة عديدهم هناك واذكر هنا أربعة مقاطعات زرت منها اثنتين وهي شانغ يانغ ( تركستان الشرقية ) وما زال المسلمون يشكلون فيها أغلبية رغم التهجير المنظَّم للصينيين غير المسلمين إليها ، ويونان في الجنوب وهي مقاطعة فرَّ إليها المسلمون في بعض الأدوار التاريخية ، وهما مقاطعتان لم أستطع زيارتهما إبان تجوالي في الصين ، والمقاطعتان اللتان اطلعت على أحوال المسلمين فيهما هما نين شياه وهي مقاطعة صغيرة لكن وجود المسلمين فيها كثيف قد يشكل أغلبية في بعض مدنها ، وكانسو وفيها مدينة لانجو حيث ينشط المسلمون هناك رغم كون المدينة تعج بمظاهر الحضارة المعاصرة . وإذا خرجنا باتجاه الجنوب أو الشرق فإن المسلمين لن يشكِّلوا مظهراً واضحاً في مقاطعات تغلب عليها الصبغة التجارية . وبهذا يكون وجود المسلمين أكبر في الشمال ( منغوليا مثلاً ) والوسط ( نين شياه وقانسو ) وباستثناء يونان في الجنوب فإن الإسلام يكاد يغيب عن جنوب الصين إلا في مدن العرب التجارية ككوانجو حيث تظهر بعض المظاهر الإسلامية لا نتيجة إسلام أهل المدينة بل لزائريها والمقيمين فيها من خارج الصين . وهناك ناحية تلفت النظر وهي كثرة المسلمين في المقاطعات ذات الثروات الطبيعية والباطنية الكبيرة ، وعلى سبيل المثال فإن النفط في تركستان الشرقية قد يفوق [بعض] ما لدى دول الخليج العربي ، وهذا يفسر لنا الضيق الذي يتعرض له المسلمون هناك ولا سيما أن بعضهم يطالب بالانفصال عن الصين.

أما الناحية الثانية فإن هناك قرى صينية تتمسك بالإسلام أكثر من تمسك المسلمين العرب في قراهم وقد ذهبت إلى قرية في نين شياه يظن الإنسان وهو يتجول فيها أنه في عهد الصحابة وذلك لما فيها من مظاهر تدين صادق مع سماحة وطيب قلب ومعاشرة . أما في المدن الكبيرة فإن المسلمين – لا سيما جيل الشباب – لا يلتزمون التزاماً حقيقياً ولا في الحد الأدنى من الالتزامات الشرعية . وقد أخبرني أحد الشباب المسلمين الصينيين أن الملايين من الشباب المسلم الصيني لا يعلمون من دينهم سوى حرمة لحم الخنزير .

انتعاش المسلمين مؤخراً في الصين :

تناوبت على المسلمين أحوال تقلبوا فيها بين العز والاضطهاد عبر سني التاريخ ، وقد وصلوا في بعض الأدوار إلى القيادات العليا في الدولة حتى إنهم فوتوا أكثر من فرصة ليحكموا هناك كما حكموا في الهند ، وإذا أردنا أن نقصر الحديث على القرن الماضي فمما لا شك فيه أن المسلمين ساءت أحوالهم زمن الحكم الشيوعي المتشدد ، وكانوا قد أنشأوا قبل الثورة الشيوعية عدداً كبيراً من الجمعيات الإسلامية مثل جمعية شبان الشعب الإسلامي الصيني والتي أنشأت سنة 1933م في بكين غير أن المسلمين عانوا زمن ماوتسي تونغ من الاضطهاد والقتل والتشريد ما حملهم على ثورات عدة كانت بدايتها مع الجنرال حسين مايوفان عام 1949م وقد نجم عن مجمل هذه الثورات مكاسب حصلها المسلمون لكن دون ما كانوا عليه قبل الحكم الشيوعي ، وعلينا هنا أن نفرِّق بين تركستان الشرقية والتي ما زالت تحت رقابة مشددة من قبل الحكومة الصينية حتى إن الرجل ليمنع من تعليم أولاده حروف الهجاء العربية داخل بيته وبين سائر الصين حيث حصل المسلمون على جملة من الحريات منها اعتراف الدولة بدين الإسلام اعترافاً رسمياً والسماح بممارسة العبادات كالصلاة والسفر بنية الحج مع الإذن المحدود في بعض مناطق المسلمين بإقامة مدارس ومعاهد دينية . وقد استفاد المسلمون الصينيون بلا شك من انفتاح الصين مؤخراً على العالم ، وسماحها ببعض الحريات التي كانت مسلوبة إلى عهد قريب مما حسَّن أوضاع الدعوة الإسلامية نوعاً ما داخل الصين عبر سفر بعض الشباب الصينيين إلى الدول العربية والإسلامية للتعلم والدراسة ، وسفر بعض الدعاة إلى الصين وإن بشكل محدود .

المساجد في الصين :

تنتشر المساجد في كثير من المقاطعات الصينية ، بعضها قديم يرجع إلى عهود الإسلام الأولى ، وبعضها جديد وقد كثر جداً في الآونة الأخيرة . وقد زرت عدداً من المساجد القديمة منها مسجدان في شي آن يرجع تاريخ أحدهما إلى أكثر من ألف عام في حين بني الثاني قبل نحو سبع مئة سنة ، ومن المدهش أن هذا المسجد قد نقشت على حيطانه آيات القرآن من الفاتحة إلى الناس باللغة العربية في الأعلى وترجمتها في الأسفل بحيث تقرأ على جدران المسجد المصحف كاملاً مع ترجمته إلى الصينية ، وهذا المسجد يعج بالسياح الغربيين لكن لا يكاد يدخله إنسان مسلم من خارج الصين وقد فوجئ بي الإخوة القائمين على المسجد وقالوا بنبرة التعجب : عربي يزورنا ؟!!

أما المساجد الجديدة فقد زرت بعضها في لينشيا في مقاطعة كانسو ، وهذه المدينة فيها من المساجد ما يفوق بعض المدن العربية فلا تكاد تسير نحواً من مئة متر حتى تجد جامعاً آخر بسعة الأول أو يزيد وبعض المساجد الجديدة هناك يتألف من ستة طوابق ويتسع للآلاف من المصلين . وقد اتجه المسلمون مؤخراً إلى البذخ في المساجد حتى سمعت أن مسجداً في مقاطعة يونان في الجنوب قد أنفق عليه ملايين الدولارات كما رأيت بنفسي بعض مساجد الصوفية وزواياهم وهي آية في الجمال ومثال على البذخ لا يقارن بمساجد العرب وزواياهم . وقد زرت قبة شيخ النقشبندية الخفية ( الخوفية ) في خون كان كان زي وقد بنيت هناك مبانٍ عظيمة متنوعة المشارب بعضها على الطراز العربي وبعضها مستفاد من العمارة الباكستانية والتايلندية بالإضافة إلى النموذج الصيني .

المعاهد الشرعية :

يهتم المسلمون الصينيون بمعاهد الإناث أكثر من اهتمامهم الذكور ، وهي سمة موجودة في بعض الدول الإسلامية وإنما ترجع لأسباب عامة لا تخص الصينيين وحدهم ، منها أن النساء في ظل الانفتاح الحضاري يلجأن إلى الدراسة الشرعية رغبة منهن أو من أهليهن في الابتعاد قدر الاستطاعة عن مجالات الفتن دون الانعزال عن المجتمع ، كما أن عاطفتهن الدينية تدفعهن لمحاولة بذل قصارى جهدهن في التقرب إلى الله ، بالإضافة إلى أن الجانب الأوسع لهذه الدراسة تتوافق مع ميول النساء الفطرية في التعلم . غير أن مشكلات حقيقة تواجه الفتاة الصينية التي ترغب في العلم الشرعي ، وقد حدثتني هناك بعض الطالبات عن أن كثيراً من الشباب يقولون لهن إنَّ طلبكن للعلم حرام بسبب السفر دون محرم إلى أماكن المعاهد التي لا تتوافر في كل منطقة من المناطق التي يكثر فيها المسلمون ، وقد تجد هذه المعارضة من أهلها حتى ولو كانوا متدينين ذلك أن المعاهد بشكل عام إنما تقام في المناطق النائية والقرى البعيدة عن المدن لأسباب تتصل بموقف الحكومة الصينية من التعلم الديني . ومع ذلك فقد رأيت بعيني إقبال الفتيات على المعاهد البعيدة هذه رغم مشقات البعد عن الأهل وشدة الأنظمة داخل بعض المعاهد مع ما تعانيه من حاجات مستمرة للمال مما ينعكس على راحة الطالبات ووضع طعامهن وكسائهن . وقد رأيت بعض الطالبات يقصدن المعهد دون حجاب حتى إذا درسن فيه التزمن الحجاب الكامل مع الثياب الفضفاضة . وهنا لا بد أن أسجل اهتمام البنات بدراستهن داخل المعاهد الشرعية أكثر من الذكور بكثير ، كما أن أعمارهن تتفاوت بين الصغيرات دون العشرين والأمهات فوق الأربعين ، وهذا أيضاً بخلاف الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين .

وتعاني المعاهد في الصين عامة سواء كانت للذكور أو للإناث من حاجة ماسة للمال ، على أن بعض هذه المعاهد يتلقى دعماً خارجياً يغنيه عن انتظار صدقات الصينيين ، وقد زرت عدداً من المعاهد التي بدت مكتفية إلى حد ما من الناحية المادية غير أن ما تصرفه راتباً للمعلم لا يكفي لعيشة أمثاله . ولربما أعطت بعض المعاهد رواتب مغرية لأساتذة اللغة الأجنبية مثلاً في حين تبخل على المدرسين الدينيين في المعهد نفسه . ويمكنني المقابلة ها هنا بين معهدين معهد للإناث زرته في قرية وي جو في مقاطعة نين شياه وواجهت مصاعب جمة في الوصول إليه ، ومعهد للذكور في لينشيا في مقاطعة كانسو حيث يبدو المعهد متناسباً مع القرن الحادي والعشرين الذي نعيشه بكل أدوات الحضارة من حواسيب واتصالات ومخابر لغوية وغير ذلك .

شيء آخر يتعلق بالمعاهد وهو قضية المنهاج ، فالمناهج هناك تفتقر إلى أبسط القواعد التربوية الحديثة في أساليب التدريس ، ففي حين ينتشر تدريس كتاب مثل درة الناصحين على طلاب لا يعرفون من العربية غير حروفها رغم ما في هذا الكتاب من أحاديث واهية لا يسندها سند ولا يؤيدها عقل في بلد ملحد رفع راية \” الدين أفيون الشعوب \” تغيب الكتب المعاصرة السهلة الواضحة ، وتنتشر الدراسة الفقهية والخلافات المذهبية في حين تختفي أو تكاد دراسة الأصول العقلية للعقيدة الصحيحة . يضاف إلى ذلك كله ضعف المدرسين حيث يتخرج الطالب من معهد لا تتجاوز الدراسة فيه ثلاث سنوات على الأغلب ليصبح مدرساً وهو لم يتقن بعدُ أهم الأساليب اللغوية العربية .

هذه الإشكالات التي تواجه المعاهد الشرعية بعد أن خفَّ الضغط الحكومي عليها إلى حد ما ، تحتاج إلى نظرة استراتيجية لإنهاضها يمكن أن ألخص بعض ركائزها الضرورية :

1- ينبغي أن يختار المكان الذي يراد بناء المعهد عليه قريباً من المواصلات العامة المنتظمة من جهة ، وبعيداً عن ما يسبب حساسية لسلطات المقاطعات من جهة أخرى .

2- يجب تأمين مورد مادي منتظم ودائم يغطي حاجة المعاهد من جهة القدرة على إيواء الطلاب وإطعامهم ، ومن جهة إسكان المدرسين ورواتبهم .

3- على المعهد أن يربط طلابه به ما استطاع لذلك سبيلاً ، وأن يؤمن لهم مصدر رزق يكفيهم بعيداً عن إغراءات كوانجو وغيرها من المدن التجارية التي تحتاج للمترجمين إلى العربية ، وذلك بعد تخرجهم من المعهد .

4- لا بد من إعادة النظر في جميع مناهج المعاهد الشرعية الصينية ، بحيث يكون التركيز على الحوار في اللغة ، والنحو الوظيفي المرتبط بأمثلة معاصرة ، والاستغناء عن تفاصيل علمية لا يحتاجها الطالب في حياته هناك ، مع إدخال مواد جديدة كعلوم القرآن والحديث إلى المناهج عامة ، وعلى المعاهد أن تتواصل لأجل توحيد مناهجها قدر الاستطاعة .

5- على المسلمين الصينيين الغيورين – وهم غير قلة – أن يتعاونوا لإنشاء معاهد عليا لتخريج الأساتذة ، استغناء عن السفر خارج الصين والذي يسبب أحياناً بعد الطالب عن محيطه وثقافته وكيفية التعامل مع مجتمعه .

6- إن من واجب العرب المسلمين ، وعلمائهم وطلاب العلم منهم ، أن يحاولوا قدر الاستطاعة مد جسور التواصل مع المسلمين الصينيين في أي صورة من صور التواصل الممكنة ، وكل مُقصِّرٍ سيلقى جزاءه إن لم يبذل جهده في سبيل إنهاض هذه الأمة التي دخلها الإسلام مبكراً ثم غاب عنها مؤخراً أو يكاد .

7- لا جرم أن الإخلاص ينبغي أن يدفع الدعاة الذين يتوجهون شمالاً لبذل جهدهم في الشرق في الصين واليابان وكوريا ، قاصدين وجه الله لا التمتع بملهيات الحضارة الغربية .

صوفية وسلفية :

تنتشر أربع طرق صوفية في الصين أهمها الطريقة النقشبندية وهي تقسم إلى فرعين خفية وجهرية ، وقد زرت إبان إقامتي في الصين مركزين للصوفية الخوفية ( النقشبندية الخفية ) وقد لاحظت أن الصوفية في الصين هم أغنى المسلمين الصينيين وأكثرهم ترتيباً وتنظيماً . غير أنهم فقراء من جهة العلم والتدين ، فلا يكادون يعلمون من الدين سوى تقديس الشيخ وتطبيق أوامره ، وفي المقابل عاد جماعة من الشبان من دول تنتشر فيها آراء الوهابية وهم مرفوضون تماماً من عامة المسلمين وعوامهم خاصة . ونتج عن عدم حكمة هؤلاء الشباب في طرح أفكارهم وما يعتقدونه صواباً في مجتمع لا يعرف من الإسلام سوى اسمه مصائب ليس أقل من تلك التي ظهرت حيناً في أوربا والذي يبدو لي – والله أعلم – أن دعاة الوسطية هم الأقرب لقيادة المسلمين وتوجيههم ، ولا أعني بالوسطية سوى الحكمة في طرح الأفكار لا تغيير الأحكام والعقائد باسم الوسطية .

عقبات وبوادر مشجعة لتجاوزها :

هناك بعض الشباب المسلم المتحمس في الصين والذي يريد أن يصنع شيئاً لأمته ، وهو مستعد لفداء الإسلام بروحه غير أن ذلك بحاجة إلى إزالة بعض المعوقات ، فمن ذلك انتشار الدعوات التنصيرية بين المسلمين ، ولا بد لهذه الدعوات من مواجهة بدعوة إسلامية معتدلة رشيدة تتعاون مع المخلصين من الشباب المسلم هناك . ومن ذلك الجهل الذي يعم أوساط المسلمين في المدن فلا ترى للإسلام أي صدى لدينهم في حياتهم وسلوكهم مع غياب قيادات إسلامية رشيدة تعمل في سبيل إعادة المسلمين لما كانوا عليه قبل اشتداد وطأة الحكم الشيوعي ويضاف إلى ذلك فقر الكثير من المسلمين حيث يعيش الكثير منهم في قرى فقيرة كأنها صحراء البدو العرب عندنا وقد ظهرت بوادر مساعدة تسهل تجاوز هذه الإشكالات والحمد لله حيث كثر العاملون في المجال الديني هذه الأيام – نوعا ما – وأنشأت عدة مواقع إسلامية باللغة الصينية على الأنترنيت يزورها الآلاف من الصينيين يومياً بالإضافة إلى إصدار الطلاب الصينيين في الخارج مجلات إسلامية يعملون على نشرها داخل الصين وهذا كله بحاجة لمساعدة عربية منظمة ومتعاونة مع المخلصين من الشباب المتحمس للوصول للنتائج المرجوة .

أحمد محمد سعيد السعدي

دمشق 17/1/2006م

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على الإسلام في الصين مغلقة

( مراد والتفاحة )

صادف أن مراد تغيب يوماً عن المدرسة ، فوجدها التلاميذ فرصة عظيمة ليقولوا للمربي : لقد كنا نظن أنه يوجد عدل هنا!

قال المربي: أيها الأحباب ، من أخبركم أن هذا غير صحيح؟

قال التلاميذ : أنت تهتم بمراد أكثر منا !

ابتسم الأستاذ : لأنه يسأل أكثر أعطيه وقتاً أكثر فيستفيد أكثر.

قال التلاميذ : لا دليل على أنه يستفيد أكثر.

تابع الأستاذ ابتسامته : التجربة هي الحكم.

صاح التلاميذ : نحن جاهزون

في اليوم الثاني قال الأستاذ للجميع : سوف أعطي كل واحد منكم تفاحة …

استغرب التلاميذ هذه الهدية المفاجئة!

تابع الأستاذ : أريد من كل منكم أن يأكل التفاحة في مكان لايراه فيه أحد … والموعد غداً!

سُرَّ التلاميذ بهذه الوظيفة التي لا تعب فيها … وانصرفوا …

في اليوم الثالث بدأ الجميع يومهم بانشراح شديد … فقد كانت وظيفة البارحة أسهل وظيفة أخذوها في تلك المدرسة!

سأل الأستاذ : هل أكلتم التفاح في مكان لم يركم فيه أحد؟ هل فعلتم الوظيفة؟

بثقة بالغة صاح الجميع : نعم … نعم ..

لوحده مراد تقدم ومعه تفاحة بيده … نظر رفاقه … إنها تبدو من نفس النوع الذي وزعه الأستاذ البارحة!

قال مراد : لقد فعلت الوظيفة كما طلبت يا أستاذ ، وهذه هي التفاحة!

فغر التلاميذ أفواههم وصاح مقدمهم : بالله عليك .. هل إحضار التفاحة غير مأكولة معناه أنك قمت بالوظيفة؟ هل تعني أننا جميعاً لم نفعل ماطلبه الأستاذ؟

بعينين تشعان بالحب قال الأستاذ : إشرح يامراد لإخوانك الأعزاء لماذا لم تأكل التفاحة؟

أجاب مراد والدموع تكاد تخرج من عينيه : لقد كانت أصعب وظيفة في حياتي.. قلت لنا أن نأكل التفاحة في مكان لايرانا فيه أحد … … حاولت كثيراً …فلم أستطع ….. لقد وجدت الله ينظر إليّ في كل مكان.

كُتب في تذكرة, منائر | التعليقات على ( مراد والتفاحة ) مغلقة

حتى لا تضيع القضية بيد المحامي – 2006-03-04

في باكورة شبابي ذهبت مع قريب لي إلى مكتب دفن الموتى لأخذِ إذن بدفن قريب ، وعلمت هناك أن الجنائز درجات! وعلى كثرة ما ابتدع الناس فيها فإن التمييز موجود ، فقماش النعش للدرجة الثالثة باهت قليل التطريز ، والتابوت في خشبه شقوق معيبة ، أما المؤذن المرافق فله صوت أجش غليظ كفيل بنقل من ليس بميت إلى مثواه الأخير لشدة الكآبة المعانقة له! وغير ذلك مما لايمت إلى كتاب ولا سنة ولا عقل رشيد …

اكتشفت مع الوقت أن الكثيرين يقومون بأعمالهم ضمن درجات مثل مكتب دفن الموتى تماماً ، وبدل أن يكون للإنسان على سبيل المثال مستوى من الإتقان لاينزل عنه لأن ذلك مبدأ في حياته ، نجده يسوق حسب السوق! وله مع كل حي مزاج وطريقة ، وعندما تصبح الأمانة نسبية يقوم الإنسان بالعمل ضمن حدوده الدنيا ، لا لأنه مرهق بل لأنه غير متقن ، ويستغل جهلك بما يمكن أداؤه ليعطيك الحد الأدنى ، فإن لاحظت ذلك رفع سوية العمل قليلاً فإن أشعرته أنك مدرك أن ذلك لايكفي قام بجهد أفضل بوجه بارد وقلب ميت … أو انفجر في وجهك متهماً لك بأنك تكلفه مالا يمكن ولا يطاق!

في الأوساط التي تحترم نفسها إما لشريعة تقودها أو لسبب دنوي محض تنهجه ؛ يقدم إليك العمل جاهزاً (على المفتاح) لأن تلك الأوساط لا ترضى بالنزول عن مستويات من الإتقان جعلتها في حياتها عقيدة وأساساً .. وعن ابن أبي مليكة أن امرأة مجذومة كانت تطوف البيت فمر بها عمر رضي الله عنه فقال: يا أمة الله : لوجلست في بيتك لا تؤذي الناس ، فجلست ، ثم مر بها رجل فقال : إن الذي كان نهاك قد مات فاخرجي! فقالت: ماكنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً!

تخلف الأمة لم يأت من العدم بل من سلوكيات حملها البعض دون إدراك لخطورتها .. وربما أعانته فورة المال بين يديه أو سلطة توفرت له أو ظروف قاسية مر بها على الشموخ بأنفه على كل رأي لغير عصبته ظاناً أن مخالفه في ضلال مبين ، والأسوأ من ذلك الانسياق القطيعي حسب السوق دون تبصر.

كان العلامة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ذا نظر ثاقب عندما وجه الأنظار إلى أن هناك غيورين على الإسلام لكنهم محامون فاشلون يزيدون القضايا تعقيداً ، وبدل أن تنتهي مسألتك في شهور تبقى في المحاكم عقوداً بسبب عدم إدراكهم كيف يكون الدفاع أو الهجوم .

من أخطر البدع التي تتسلل إلى المسلمين أخلاقيات الخصم ، وهي أخطر بكثير مما يدندن عليه بعضنا! وهناك مناهج جربت حظها في الجهاد والعلم والآن بعدما فقدت زخمها و سببت أفدح الخسائر بدأت تشتغل بالدعوة!

هذه المناهج تقوم ابتداء على نظر محدود وفكر صدامي أعانت عليه طفرة المال في السبعينات والثمانينات ، وهي تتجه إلى زج الأمة كلها في خضم حركتها التي يقوم بها من لكثير منهم –شهد الله- غيرة هائلة على الإسلام ولكن يفسدها نظر شديد الضيق في إدراك مقاصد الشرع ومآلات الأعمال ….

في محور الجهاد انطلقت تلك المناهج في حماسة جارفة ليس لها نظير وفاتها أن تنتدب طائفة للتأسيس الصحيح في الأمة ، وقدمت تلك المناهج نماذج مشرقة في البطولة التي تآكلت بعدما انتهى العمل العسكري أو قل بدأت تأكل نفسها بنفسها ، وأكبر مثال على ذلك حرب أفغانستان التي تحول النصر فيها إلى نكبة عندما بدأت فصائل المجاهدين تجاهد إخوة العقيدة والسيف ، ودفع المسلمون من دمائهم ومشرديهم ومعاقيهم وأيتامهم وقوداً لتلك الحرب أكثر مما دفعوه لإخراج الروس من بلادهم.

المفصل الأساس في الموضوع مايلي: هل القتال هدف أم وسيلة؟ (لأن الله تعالى ما أراد إفناء الخلق ، ولا خلقهم ليُقتلوا … ) كما يقول ابن الصلاح في فتاويه ، ومن يقرأ ماكتبه العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في كتابه : مجموعة الجهاد المشروع في الإسلام ، وماكتبه الأستاذ ظافر القاسمي في كتابه : الجهاد والحقوق الدولية العامة في الإسلام ، ومادندن عليه الشيخ فيصل المولوي في رسالته : مفاهيم أساسية للدعوة الإسلامية في بلاد الغرب .. من يقرأ ذلك يتبين له وجه الصواب ، وأن (القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال الله تعالى: ,وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين- كما يقول ابن تيمية رحمه الله في السياسة الشرعية.

ونظراً للعنت والتكبر العالمي فقد انطلق المجاهدون في غزوة كبرى كما يسمونها (ونعتقدها عين الخطأ) فأغاروا على مركز التجارة في نيويورك في حادثة قد لايُعلم حتى اليوم من خطط لها وأرادها بهذا الوجه ، وإن كان بعض [المجاهدين] قد تبنوها جهاراً نهاراً غاضين النظر عن الفكر الصدامي الذي قرروه معها ويحاولون زج الأمة كلها فيه ، وغير مقدرين للخسائر الهائلة التي سببوها في إحراق دروب الدعوة إلى الله ، (وما من مشتغل بالدعوة إلا ويعلم معنى هذا الكلام) و منطلقين من فكر أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو الصدام والقتال لا الدعوة والتعارف ، وأن الدنيا إما دار حرب وإما دار سلم ، وهو مصطلح فقهي تغير فحواه واختلطت أبعاده وليس ملزماً للأمة في شيء ، وكأنهم يريدون تغطية حديثة له ، دون أن يفطنوا إلى أن بلاد الكفار قدمت للمسلمين (حتى ماقبل الغزوة المباركة) من الاحترام لدينهم مالم يحصل في أكثر بلاد المسلمين التي يحكمها الأئمة الصالحون! رضي الله عنهم ، وناسين التمييز الدقيق بين شعوب أغلبها يعيش قريباً جداً من الفطرة رغم انحرافات عنده ، وأنظمة استكبارية ملأت الأرض نهباً وظلماً وفساداً ، وكان الإسلام المرشح الأول بل الأوحد لكسب تلك الشعوب وهدايتها إلى الله ، فدمر إخواننا المجاهدون تلك الجسور ، ومازالوا يحاولون زج تلك الشعوب كلها وراء أنظمتها ، وما أدركوا أن هداية إنسان إلى الله خير من حُمْر النَّـعم ، فكيف بهداية شعوب بكاملها ؛ الفطرة فيها كامنة كموناً لا يعلمه إلا من دعا إلى الله بينهم ، وإن ترددهم وقلة من يفتح قلبه منهم للإسلام إنما هو بسبب كسلنا وسوء القدوة الذي نقدمه لهم وليس بسبب رفض قطعي لمنهج الله في الحياة.

في فيلق إسلامي تابع للجيش البوسني المسلم ، وقف الرئيس علي عزت بيكوفيتش ليقول للجنود في أواخر الحرب التي ندر مثلها في الوحشية : (يكفيكم أمام التاريخ أنه لم تدمر على أيديكم كنيسة واحدة) فلقد كانت كل الكنائس التي خربت قد دمرت في القصف المتبادل بين الكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذوكس! ورغم مادمره الوحوش من مساجد المسلمين فلقد كان بيكوفيتش وجنوده قرة عين للإسلام في أخلاقياته الفريدة ، وكأنهم للتو سمعوا كلمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه يخطب في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة ….) إلى آخر وصيته الجليلة ، وأثبتوا أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

ثم بدأ الانحراف في الجهاد عندما صرنا نتبنى أخلاقيات الخصم الحربية وكأنها ليست بدعة وخروجاً عما أمر الله ، ومنذ متى كان المسلم يرضى أن يدمر مكاناً للعبادة مهما كان من فيه ، ومتى كان المسلم يفجر مخبزاً أو جنازة أو عرساً لأن صاحبه ليس على مذهبه مثلاً ، ومتى كان المجاهدون يدخلون في مضائق من أقلها ركوب قوات الاحتلال البغيض في العراق الموجَةَ ، واستثمارها فكراً في أدبيات بعض أفراده جواز الاعتداء والقتل حتى على مسلم يخالف توجهاتهم!

لقد كانت حركة حماس مثلاً قادرة على تفجير مدرسة للأطفال (الإسرائيليين) أوقتل نساء عزلاوات أو تدمير مشفى لكنها لم تفعل ، لا عجزاً ، بل لأن جذورها الإسلامية لا تسمح لها بذلك ، وكانت تستطيع أن تزهق روح كل من يمد يده عليه من الفصائل الأخرى ، لكنهم أعلنوا حرمة الدم الفلسطيني مهما كان ، ورغم كل الأذى الذي لاقوه لأن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المنهاج (لا يتحدثون أن محمداً يقتل أصحابه).

المحور الثاني محور العلم الشرعي ، فقد اختزل بعض إخواننا الأفاضل الإسلام كله في مذهب من مذاهبه ثم اختزلوا المذهب في أئمة محددين ثم اختزلوا أولئك الأئمة في مجموعة من الأمة صادرت العلم كله ضمن منظورها وإدراكها ورؤيتها التي [ومع الاحترام الشديد لإخواننا] لم تستطع أن تقرأ ظروف الأمة وواقعها ، وبقيت أسيرة محلية ضيقة ، وسيبقى ذلك النظر أسيراً مهما دعمه المال ونشرت لأجله ملايين الكتب والكاسيتات ومواقع الانترتيت والفضائيات حتى يصطلح مع نفسه أولاً ثم مع الأمة التي يقول أنه يعمل من اجلها!

لقد كان الإمام الغزالي (أحد أئمة الأشاعرة) من أوائل من قدح في القلوب أن الإسلام أوسع من أية راية حُملت من أجله ، عندما قال وبأصرح عبارة ممكنة في رسالته النافعة فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة : (فخاطب نفسك وصاحبك ، وطالبه بحد الكفر ، فإن زعم أن حد الكفر مايخالف مذهب الأشعري أو مذهب المعتزلي أو مذهب الحنبلي أو غيرهم فاعلم أنه غر بليد قد قيده التقليد ، فهو أعمى من العميان ، فلا تضيع بإصلاحه الزمان).

لقد قام الغزالي بنقد عام جعل مذهبه تحت نتائجه دون أن يأخذه التعصب إلى الغرق به ، والمشكلة الآن أن نتائج سنوات كثيرة من نشر التفكير الضيق والتعصب قد أحالت الساحة الغنية والدوحة الوارفة للإسلام من الفعالية إلى الهامشية والضياع في الجزئيات ، وماطرح سابقاً من فكر تكفيري للأمة توارى قليلاً على استحياء بعد أن أرسل مبعوثيه ومقدماته في التضليل والتبديع والتفسيق والإخراج من الملة مما يزيد في التشرذم ، ويمنع حقيقة من قيام كيان فعال يلم شمل الأمة.

نظرت يوماً إلى الأسماء التالية : (البنا ، الألباني ، القرضاوي ، ابن باز ، الترابي ،، إنعام الحسن ، البوطي ، النبهاني ، نجم الدين أربكان … وغيرهم) ، فوجدت أن كلاً منهم قد طعنت في سلامة دينه فئة من الناس وربما اتهمهم البعض بالعمالة وقد لا يخلو الأمر من تكفيريين يتسللون تحت مزاعم شتى ، وحتى لو لم يزعموا ذلك فإنهم يوصلون من يتبعهم إلى نفس النتيجة.

النتيجة أيها الإخوة الكرام والأخوات الغاليات أن كل علمائنا منحرفون ، أو عملاء ، وحتى كفار عند بعض ذوي العقول الخاصة ، والنتيجة أننا كلنا في النهاية منحرفون ضالون!!! سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم ، وإن الفكر التكفيري مرفوض جملة وتفصيلاً ، و(من قال لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما) كما جاء عن النبي الهادي عليه الصلاة والسلام.

في كتاب مولانا أبي الحسن الندوي: رجال الفكر والدعوة في الإسلام- المجلد الأول ، قام الندوي بنقد داخلي لعلل أصابت الفكر الأشعري ، ولكنه لا يوقد في قلبك احتقارا لهم ، ولا إخراجاً من الملة ، فقد كان علمه محفوفاً بالأدب الشرعي الذي وضح الشافعي رحمه الله بعض معالمه عندما قال: (الرجل يقول لصاحبه كفرت والصواب عندنا أن يقول أخطأت)!

إننا نرفض التكفير ولا نتعصب لأحد ولا نخجل من أحد في إبداء الصواب ، ومانعتقد مجانبته للصواب فواجبنا الشرعي أن نحذر الناس منه ، فديننا أغلى من كل أحد ،ولكننا نريد أن يكون في ألفاظنا خطوط حمراء من أدب الإسلام وروح البحث عن الحق والشجاعة في الاعتراف بالغلط والرجوع عنه ، وأن لايكون عملنا هو تدمير عمل غيرنا بل ترشيده ونصحه والحرص عليه!

مازالت بعض الفضائيات تقدم كل فترة حواراً حول حق المرأة في قيادة سيارة ، أو الإدلاء بصوتها في الانتخابات ، وليت المفتين يقولون : إن ظروفنا الاجتماعية لايناسبها الأمر ، إذاً لهان الخطب ولكنهم يجزمون بحرمة ذلك معتقدين أنهم أقاموا الدين الحنيف ، وينقلون بقوة المال تلك الفتاوى إلى الشرق والغرب ، ناسين أنهم قد ضيقوا بذلك واسعاً ، وزجوا بالباحثين عن الخلاص في بلاد المسلمين وراء نشاطات السفارات الغربية التي صارت هي الرافعة لحقوق الإنسان وكرامة المرأة!

إن كل منهج يعتقد أنه المنهج المعصوم يقوم باعتداء على الأمة ، والمنهج الذي لا يقوم بالنقد الداخلي لبنيته سوف يتأكل مهما ركب الظروف ، ولكن بعد أن يؤدي إلى أفدح الأضرار.

سمعت يوماً من أخ فاضل أحترمه أنه كان في مؤتمر إسلامي في الولايات المتحدة ، عقدته جماعة لاتنطبق أفكارها على مايظنه هو الصواب ، فقال بكل اعتزاز : لقد فرطت لهم المؤتمر!! ما أحلى البطولة في موقعها ، وما أسوأ فكر الصدام ، وما آلم قولة المنشد أحمد البربور رحمه الله :

في الصوفية سار فريق وزوى الآخر للسلفية

والإسلام يئن جريحاً يومي : إليَّ إليَّ إليَّ

أنفق كثيرون من المسلمين من الأموال والأوقات والجهود في تدمير أعمال إخوانهم أكثر مما بذلوه في هداية الناس إلى الله ، وهناك بلاد إسلامية كثيرة ، تنقصها المصاحف وكتب الحديث والعلم ولا يصلها من ذلك شيء بل تصلها كتب الحرب المذهبي والاختلاف المنهجي الشديد.. والطعن في باقي المسلمين.

المحور الثالث هو محور الدعوة : وأنا أضع يدي على قلبي وأسأل الله اللطف كي لايجتاحه بعض إخواننا الذين لا يدركون خطورة ما يفعلون ، ولقد فتحت مشكلة الرسوم المتطاولة على مقام النبي الهادي صلى الله عليه وسلم الباب للحديث الصريح في أمر الدعوة في ديار الغرب ، وليس من المناسب إغماض العيون عن ذلك .

لقد وضحنا في كلمة الشهر السابقة (وتوجد في الأرشيف) الموقف من التطاول على مقام نبي الله عليه الصلاة والسلام ، ولكن السلوك الصدامي ليس محموداً بحال ، وهناك من يصعد الأمور ، ونحن نقول: يجب أن نستثمر المقاطعة ونفعلها ونضغط بكافة الوسائل السلمية والقنوات السياسية والمد الإسلامي الشعبي من أجل قانون يمنع من التطاول على أنبياء الله جميعاً ، بل يمنع من إهانة أي عقيدة ، فإن القرآن الكريم أمر المسلمين (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عَدواً بغير علم) (الأنعام-108) ، ولكن إغلاق المنفذ كله لن يأتي بنتيجة سليمة ، والخطاب التصعيدي إنما هو كومة قش لها دفء عارم ولا شك ، ولكنها ليست بذات قرار مالم يتبعها سلوك قويم.

منذ ما يقارب السنتين قام مخرج هولندي بالتعاون مع امرأة صومالية مرتدة بإخراج فيلم شديد الإساءة للإسلام ، وحرك الأمر مشاعر المسلمين فقام شاب هولاندي المولد مسلم الأصل بإطلاق رصاصتين ثم تابع بالسكين الإجهاز على المخرج ، وكادت تنفجر الأمور بين مسلمين طعنوا في صميم عقيدتهم وغير مسلمين أحسوا أنه اعتدي على الحرية ضمن رؤيتهم الخاصة ، وتم تدارك الأمر من قبل الطرفين بعد أن أحرقت مساجد واعتدي على مدارس إسلامية ولقي كثير من المتدينين والمحجبات أذى كثيراً . قامت وزيرة شؤون الأقليات بزيارة مركز إسلامي لتخفيف الاحتقان ، ولتوجيه رسالة تعبر عن إدراك لمشاعر المسلمين ومدت يدها لتصافح الإمام فامتنع وأصرت فأصر والكاميرات تصور ، فعاد الاحتقان ، وألقى الأمر بظلال كئيبة على صورة المسلمين التي لايمكن لغربي أن يفهم منطلقات إمامهم الغيور.

قال لي أخ هل تريد من الإمام أن يصافحها؟ فقلت –وبصراحة- نعم ، فأعتقد أن الموقف السليم يقتضي ذلك ، ودخلنا في نقاش حسمه أحد إخواننا عندما قال: بغض النظر عما هو الصواب فإن امتناع الإمام أساء أكثر مما أفاد لسبب يتعلق ببنية المسلمين وليس بسبب الحكم الشرعي ، فالمسلمون في هولاندا تصل نسبتهم إلى حوالي أربعة ونصف بالمائة ولكن ستين بالمائة من السرقات! يقوم بها أبناء المسلمين! وتلك الشعوب ستحترم حتى أكثر جوانب الالتزام تعنتاً في نظرها عندما يكون لدينك وأتباعه سمعة حسنة ، وإلا فإن الأمر ينطبق على المثال الذي ذكره الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يوماً عن رجل اشترى ربطة عنق بألف ليرة وهو يمشي بلا بنطال … هذه أحوال كثيرين منا حقيقة ، ولن يفيد في تغيير تلك الصورة صياح ولا صراخ ولا استدعاء العدوانية ولا الهجوم على مسلم يحاول أن يجد منفذاً ولو فردياً فتتلقاه سهام إخوانه بأنه قليل الدين ويستعدون عليه عوام الناس ، وفي بالي مدرس يذكر أن الأكل في الطريق دناءة لكنه لم يتورع عن ابتلاع أموال للأوقاف والاعتداء على أعراض للناس! أما نجم الدين أربكان فقد اضطر للتحالف مع تانسو تشلر لإبعاد حزب علماني ماكر فصافح تلك المرأة فخرب دينه وسمعت من أخرجه من الإسلام ، لأن بعض أهل العلم فينا لم يزرعوا في عقل أتباعهم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حديث صحيح أن الله قد غفر لامرأة بغي من بني إسرائيل لأنها سقت كلباً شربة ماء.

الله أكبر .. شربة ماء تغفر لمومس ، ورجل أفنى حياته في إرساء الإسلام في بيئة علمانية شرسة لا يغفر له بعض المسلمين ، ولو كانت نيته سقاية الأمة كلها لترتوي من الإسلام.

حذرنا في المقالة الماضية من الاستهلاك السياسي الذي يزداد وضوحاً ، وقد كانت إهانة المسلمين جميعاً بإلقاء المصاحف في بيوت الخلاء في (غوانتينامو) أشد بكثير من الرسوم الدانيماركية ، ولم يتحرك أحد! ونحذر اليوم من الاستهلاك الإعلامي ، فهل يتصور أحد حقيقة أن المجتمع الدانيماركي أو الغربي المحقون والذي نزيده حقناً سيصغي بأدب إلى ما نقول ، وهل سينشد إلى كلامنا عن عظمة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم دون أن يكون هناك تعميق لروح الإسلام في نفوس المسلمين أولاً ، وقدوة حسنة لا يقدمها أفراد منا بل روح عامة ننشرها بمجموعنا! ويصنعها كل فرد منا دون أن يأتي أحد فيحصد في لحظات جهود آلاف منا بذلوا بصمت ودون دعاية ودون أن يريدوا من أحد جزاء ولا شكوراً .

في مدينة فرانكلين قرب ديترويت وبعد أحداث أيلول بأشهر كنت ألقي درساً للأخوات في المسجد ، وقالت أخت مصرية يعمل زوجها طبيباً هناك ، أن أسرتهم في الأيام التالية لحادثة نيويورك ؛ قد قبعت في البيت وقد عراها خوف شديد ، وكان الأخ الطبيب يذهب بحذر ويرجع كذلك ، والزوجة وولد وبنت قريبان من العاشرة يبقيان مع الأم وقد أغلقوا الأبواب والنوافذ بإحكام .

كان للأسرة المسلمة جيران أميركيون على الفطرة ، وعندهم ولدان قريبا العمر من أعمار الأولاد المسلمين وبنت في السادسة عشرة ؛ قالت الأخت : كنت أعامل أولاد الأميركيين مثل أولادي وكنت أدعوهم وهما يلعبان في حديقة منزلهما للأكل مع أولادي أو شرب العصير أو الحليب في كل مرة كنت أقدم لأولادي شيئاً منها ، باختصار كنت أمهما الثانية! ، وفي أيام الخوف الشديد سمعت طرقاً عنيفاً على الباب ، ونظرت من وراء ستارة الباب فوجدت جارتي تضم أولادها الثلاثة وهي تصرخ بشكل هستيري ، وظننت أن لصا قد نزل ببيتها ففتحت لها الباب فإذا بها تدخل فتحتضنني وتبللني بدموعها وهي تصرخ : لا .. لا .. لستم أنتم من يفعل ذلك .. وبعد جهد هدأت قليلاً لتخبرنا أنها بعد تفجير نيويورك بدأت الآلة الإعلامية الجهنمية توجه الأنظار إلى المسلمين ، وأيقظت كل روح عدوانية ضدهم ، وصارت تلك الجارة في صراع نفسي شديد ، لم يدعها تنم الليل حتى ذهبت إلى طبيبها النفسي قائلة له : أكاد أجن من الكره الذي ولده الإعلام ضد المسلمين ، إنني أعرفهم جيداً ، أعرف جارنا الطبيب الفاضل الذي يعامل الجيران مثل إخوته ولم تشرد عيناه إلى أية امرأة فقد كان أليف المسجد الذي هو مقر أساسي له مع المشفى والبيت ، وأعرف زوجته الطاهرة النقية التي أيقظت في قلبي الأمومة أكثر و أكثر … وأعرف الأولاد المهذبين … لايمكن لدين أن يخرج من أتباعه من يفعل هذا وذاك …

حتى الطبيب النفسي كانت لديه فطرة فقال لمريضته : إن كان هذا ما تعتقدينه فاذهبي إلى جارتك المسلمة وبوحي لها بذلك …

وأتت الجارة … وتابعت تقول: لايمكن لكم أيها المسلمون أن تكونوا سبب إهلاك الحرث والنسل ، وأنتم الذين يأمركم دينكم أن تكونوا رحمة للعالمين ، لايمكن أن تكونوا من يدمر ويقتل وينسف ، وأنتم الذين جعلتم حينا واحة طمأنينة وسكينة بسكنكم فيه …. لايمكن ..لايمكن .. أن يخرج من نفس الدين تصرفان متناقضان … ومن بين زفراتها أمسكت بابنتها وقالت هذه ابنتي أيها الجارة المسلمة ، خذيها فربيها كما تريدين أريدها أن تكون مسلمة مثلك … أريد أن تكون أخلاقها مثل أخلاقك … علميها الصلاة وضعي لها الحجاب .. بل ربي كل أبنائي على دينكم الرفيع.

قصة حزينة في زمان الصدام واستنفار العدوان في غير محله …

وبالله عليكم أيها الدعاة اقرؤوا التاريخ لتعلموا أن الذي سبب دمار العالم الإسلامي قبل سقوط بغداد الأول ليس المغول ، بل المحامي عن الإسلام الملك المسلم خوارزم شاة الذي قتل التجار ثم رسل ملك المغول ، ودفعت الأمة الثمن ، وأن الذي سبب سقوط الأندلس ليس الجواري المسكينات بل المحامون عن الإسلام من ملوك الطوائف الذين مزقوا الأمة ، وأن الذي يجتاح المسلمين اليوم ويشوه صورتهم ليس تلك الأنظمة الاستكبارية رغم استكبارها بل الفكر الصدامي الذي لم يدرس وأخشى أنه لن يدرس عواقب الأمور..رغم أنه نصب نفسه حامياً لحمى الإسلام.

بالله عليكم أيها الدعاة ميزوا بين الأنظمة الاستكبارية التي لايخفى على أحد فسادها وبغضها للإسلام وأهله ومحاولتها احتلال بلاد المسلمين أرضاً ونفطاً واقتصاداً وثقافة وتشريعاً (وما تخفي صدورهم أكبر) وتلك الشعوب العطشى إلى الإيمان ، وريها ليس بيد أحد غيركم.

اجعلوا أدوات الإعلام تحت أيديكم وإياكم والغرق في بريق أضوائها … أما محبة هذه الأمة لنبيها الهادي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه فبالله عليكم لا تخمدوها ولا تستهلكوها في غير مكانها المناسب ، اجعلوا منها روحاً دفاقة تتبع سنة الهادي المصطفى في كل شؤونه وتحقق فينا ماأخبر عنه ربنا تعالى في حق نبيه العظيم : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

اللهم هل بلغت … اللهم فاشهد

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
أحمد معاذ الخطيب الحسني

وظيفة : نطلب من الإخوة والأخوات المقيمين في بلاد إسلامية تدارس موضوع : الاستبداد والعلم لعبد الرحمن الكواكبي وهو موجود في فقرة : منائر ، ثم قسم: كتب.

نطلب من الإخوة المقيمين في بلاد غير إسلامية تدارس رسالة: مفاهيم أساسية للدعوة في بلاد الغرب للقاضي الشيخ فيصل مولوي ، وهي موجودة في ركن الدعوة.

كما نطلب من الإخوة نقل هذه الأفكار إلى من حولهم وتدارسها لتبين الصواب ونرحب بل نرجو من كافة الإخوة والأخوات أن يكرمونا بنصائحهم.

ملاحظة : تفضل أخ كريم بإبداء نصيحة حول عبارات قال أن وقعها شديد ويمكن استبدالها بما هو ألطف ، وقد استجبنا له ونسأل الله أن يبارك فيه رغم أننا لم نذكر ذلك من دون داع قوي ، ولكن تأليف القلوب أولى

ملاحظة 2:كلمة حُمْـر النََّـعَم تضبط بضم الحاء وسكون الميم وقد كان فيها خطأ مطبعي فلزم التنويه

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على حتى لا تضيع القضية بيد المحامي – 2006-03-04 مغلقة

من طبائع الاستبداد للكواكبي – الاستبداد والعلم

عبد الرحمن الكواكبي
الاستبداد والعلم

ما أشبه المستبد في نسبته إِلى رعيته بالوصي الخائن القوي, يتصرف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا ضِعافاً قاصرين, فكما أنه ليس من صالح الوصي [الفاسد] أن يبلغ الأيتام رشدهم, كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم.
لا يخفى على المستبد, مهما كان غبياً, أن لا استعباد ولا اعتساف إِلاَّ ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء, فلو كان المستبد طيراً لكان خفاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل, ولو كان وحشاً لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل, ولكنه هو الإنسان يصيد عالِمَهُ جاهِلُهُ.
العلم قبسة من نور الله وقد خلق الله النور كشافاً مبصراً, ولاَّداً للحرارة والقوة, وجعل العلم مثله وضَّاحاً للخير فضَّاحاً للشر, يولِّد في النفوس حرارة وفي الرؤوس شهامة, العلم نور والظلم ظلام ومن طبيعة النور تبديد الظلام, والمتأمل في حالة كل رئيس ومرؤوس يرى كل سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته.
المستبد لا يخشى علوم اللغة, تلك العلوم التي بعضها يقوِّم اللسان وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان, نعم لا يخاف علم اللغة إذا لم يكمن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الأولوية, أَو سحر بيان يحل عقد الجيوش, لأنه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيراً من أمثال الكميت وحسان أَو مونتيسكيو وشيللار.
وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد المختصة ما بين الإنسان وربه, لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة, وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم حتى إذا ضاع فيها عمرهم, وامتلأتها أدمغتهم, وأخذ منهم الغرور ما أخذ, فصاروا لا يرون علماً غير علمهم, فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمَن شر السكران إذا خمر. على أنه إذا نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره ومجاراة هواه في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم, ويسدُّ أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد؛ وكذلك لا يخاف من العلوم الصناعية محضاً لأن أهلها يكونون مسالمين صغار النفوس, صغار الهمم, يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز؛ ولا يخاف من الماديين لأن أكثرهم مبتلون بإيثار النفس, ولا من الرياضيين لأن غالبهم قصار النظر.
ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية, والفلسفة العقلية, وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع, والسياسة المدنية, والتاريخ المفصل, والخطابة الأدبية, ونحو ذلك من العلوم التي تكبِّر النفوس وتوسِّع العقول وتعرِّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها وكيف الطلب, وكيف النوال, وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أَو الكتابة وهم المعبَّر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: ,أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ- , وفي قوله: ,وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ-, وإن كان علماء الاستبداد يفسرون مادة الصلاح والإصلاح بكثرة التعبد, كما حوَّلوا معنى مادة الفساد والإفساد: من تخريب نظام الله إِلى التشويش على المستبدين.
والخلاصة أن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين, لا من العلماء المنافقين أَو الذين حفر رؤوسَهم محفوظاتٌ كثيرة كأنها مكتبات مقفلة!
كما يبغض المستبد العلمَ لنتائجه يبغضه أيضاً لذاته, لأن للعلم سلطاناً, فلا بد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينيه على من هو أرقى منه علماً, ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوق عليه فكراً, فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله ” فاز المتملقون” , وهذه طبيعة كل المتكبرين بل في غالب الناس, وعليها مبنى ثنائهم على كل من يكون مسكيناً خاملاً لا يُرجى لخيرٍ ولا لشر.
وينتج مما تقدم أن بين الاستبداد والعلم حرباً دائمة وطراداً مستمراً: يسعى العلماء في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها, والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا, وإذا خافوا استسلموا, كما أنَّهم هم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا.
العوام هم قوَّة المستبد وقُوتُهُ, بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم, فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم, فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض, فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم, يقولون كريماً؛ وإذا قتل منهم ولم يمثِّل, يعتبرونه رحيماً؛ ويسوقهم إِلى خطر الموت, فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة.
والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة, فإذا ارتفع الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف, وأصبح الناس لا ينقادون طبعاً لغير منافعهم, كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه, وعند ذلك لا بد للمستبد من الاعتزال أَو الاعتدال. وكم أجبرت الأمم, بترقيها, المستبد اللئيم على الترقي معها والانقلاب, رغم طبعه, إِلى وكيل أمين يهاب الحساب, ورئيس عادل يخشى الانتقام, وأب حليم يتلذذ بالتحابب. وحينئذ تنال الأمة حياة رضية هنيئة, حياة رخاء ونماء, حياة عزٍّ وسعادة؛ ويكون حظ الرئيس من ذلك رأس الحظوظ, بعد أن كان في دور الاستبداد أشقى العباد, لأنه كان على الدوام ملحوظاً بالبغضاء ومحاطاً بالأخطار, غير أمين على رياسته, بل وعلى حياته طرفة عين؛ ولأنه لا يرى قط أمامه من يسترشده فيما يجهل لأن الواقف بين يديه مهما كان عاقلاً متيناً, لا بد أن يهابه فيضطرب باله فيتشوش فكره ويختل رأيه فلا يهتدي إِلى الصواب, وإن اهتدى فلا يجسر على التصريح به قبل استطلاع رأي المستبد, فإن رآه متصلباً فيما يراه فلا يسعه إلاَّ تأييده رشداً كان أَو غيَّاً؛ كل مستشار غيره يدَّعي أنه غير هياب فهو كذاب؛ والقول الحق إن الصدق لا يدخل قصور الملوك؛ بناء عليه لا يستفيد المستبد قط من رأي غيره بل يعيش في ضلال وتردد وعذاب وخوف, وكفى بذلك انتقاماً منه على استعباده الناس وقد خلقهم ربهم أحراراً.
إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه, لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم؛ وخوفهم ناشئ عن جهل؛ وخوفه عن عجز حقيقي فيه, وخوفهم عن توهم التخاذل فقط؛ وخوفه على فقد حياته وسلطانه, وخوفهم على لقيمات من النبات على وطن يألفون غيره في أيام؛ وخوفه على كل شيء تحت سماء ملكه, وخوفهم على حياة تعيسة فقط.
كلما ازداد المستبد ظلماً واعتسافاً زاد خوفه من رعيته وحتى من حاشيته, وحتى من هواجسه وخيالاته. وأكثر ما تُخْتَم حياة المستبد بالجنون التام. قلت التام لأن المستبد لا يخلو من الحمق قط لنفوره من البحث عن الحقائق, وإذا صادف وجود مستبد غير أحمق فيسارعه الموت قهراً إذا لم يسارعه الجنون أَو العته؛ وقلت إنه يخاف من حاشيته لأن أكثر ما يبطش بالمستبدين حواشيهم لأن هؤلاء هم أشقى خلق الله حياة, يرتكبون كل جريمة وفظيعة لحساب المستبد الذي يجعلهم يمسون ويصبحون مخبولين مصروعين, يجهدون الفكر في استطلاع ما يريد منهم فعله بدون أن يطلب أَو يصرِّح. فكم ينقم عليهم ويهينهم لمجرد أنهم لا يعلمون الغيب, ومن ذا الذي يعلم الغيب, الأنبياء والأولياء؟ وماهؤلاء إِلاَّ أشقياء؛ أستغفرك اللهم! لا يعلم غيبَك نبيٌّ ولا وليٌّ, ولا يدَّعي ذلك إِلاَّ دجَّال, ولا يظن صدقه إِلاَّ المغفَّل, فإنَّك اللهم قلت وقولك الحق: ,عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا- وأفضل أنبيائك يقول: لو علمت الخير لاستكثرت منه.
من قواعد المؤرخين المدققين أن أحدهم إذا أراد الموازنة بين مستبدين, كنيرون وتيمور مثلاً, يكتفي أن يوازن درجة ما كانا عليه من التحذر والتحفظ, وإذا أراد المفاضلة بين عادلين, كأنوشروان وعمر الفاروق, يوازن بين مرتبتي أمنهما في قوميهما.
لما كانت أكثر الديانات مؤسَّسة على مبدأي الخير والشر كالنور والظلام والشمس وزحل, والعقل والشيطان, رأت بعض الأمم الغابرة أن أضرَّ شيء على الإنسان هو الجهل, وأضرَّ آثار الجهل هو الخوف, فعملت هيكلاً للخوف يُعبد اتقاء لشره.
قال أحد المحررين السياسيين: إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه: فالملك الجبار هو المعبود, وأعوانه هم الكهنة, ومكتبته هي المذبح المقدَّس, والأقلام هي السكاكين, وعبارات التعظيم هي الصلوات, والناس هم الأسرى الذين يقدِّمون قرابين الخوف؛ وهو أهم النواميس الطبيعية في الإنسان, والإنسان يقرب من الكمال في نسبة ابتعاده عن الخوف, ولا وسيلة لتخفيف الخوف أَو نفيه غير العلم بحقيقة المخيف منه, لينكشف للإنسان أن لا محل فيه للخوف منه, وهكذا إذا زاد علم أفراد الرعية بأن المستبد امرؤ عاجز مثلهم زال الخوف منه وتقاضوه حقوقهم.
ويقول أهل النظر إن خير ما يستدل به على درجة استبداد الحكومات هو تغاليهم في شنآن الملوك وفخامة القصور وعظمة الحفلات ومراسيم التشريفات وعلائم الأبهة [وكثرة المباهاة بالأفعال ، والمن على الأمة المسكينة ، وعدم قدرة الضعيف على استنقاذ حقه ، وتولية المناصب بميل النفس والمزاج ، وبالباطنية في إدارة الأمور ، وكثرة سرقات الحاشية وإدعاء أن كبيرهم لايعلم تنزيهاً له وتقديساً في عقول الصبيان], ونحو ذلك من التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم عوضاً عن العقل والمفاداة, وهذه التمويهات يلجأ إليها المستبد كما يلجأ قليل العز للتكبر, وقليل العلم للتصوف, وقليل الصدق لليمين, وقليل المال لزينة اللباس.
ويقولون إنه كذلك يستدل على عراقة الأمة في الاستعباد أَو الحرية باستنطاق لغتها هل هي قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية مثلاً, أم هي غنية في عبارات الخضوع كالفارسية وكتلك اللغة التي ليس فيها بين المتخاطبين أنا وأنت بل سيدي وعبدكم.
والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان, فكل إِدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم, وحصر الرعية في حالك الجهل. والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحياناً في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس, والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكِّلون بهم, فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره, وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام, عليهم الصلاة والسلام, وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلَّبوا في البلاد وماتوا غرباء.
إن الإسلامية أول دين حضَّ على العلم, وكفى شاهداً أن أول كلمة أُنزلت من القرآن هي الأمر بالقراءة أمراً مكرراً, وأول مِنَّة أجلَّها الله وامتن بها على الإنسان هي أنه علَّمه بالقلم, علَّمه به ما لم يعلم. وقد فهم السلف الأول من مغزى هذا الأمر وهذا الامتنان وجوب تعلم القراءة والكتابة على كل مسلم, وبذلك عمت القراءة والكتابة في المسلمين أَو كادت تعم, وبذلك صار العلم في الأمة حرَّاً مباحاً للكل لا يختصُّ به رجال الدين أَو الأشراف كما كان في الأمم السابقة؛ وبذلك انتشر العلم في سائر الأمم أخذاً عن المسلمين! ولكن قاتل الله الاستبداد الذي استهان بالعلم حتى جعله سلعة يُعطى ويُمنح للأميين ولا يجرؤ أحد على الاعتراض؛ أجل, قاتل الله الاستبداد الذي رجع بالأمة إِلى الأمية فالتقى آخرها بأولها, ولا حول ولا قوة إِلاَّ بالله.
قال المدققون إن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم أن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة, وأن يعرفوا النفس وعزها, والشرف وعظمته, والحقوق وكيف تُحفظ, والظلم وكيف يُرفع, والإنسانية وما هي وظائفها, والرحمة وما هي لذاتها.
أما المستبدُّون الشرقيون فأفئدته هواء ترتجف من صولة العلم, كأنَّ العلم نار وأجسامهم من بارود. المستبدون يخافون من العلم حتى من علم الناس كلمة (لا إله إِلاَّ الله) ولماذا كانت أفضل الذكر, ولماذا بني عليها الإسلام. بني الإسلام بل وكافة الأديان [الحق] على (لا إله إِلاَّ الله), ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقاً سوى الصانع الأعظم؛ ومعنى العبادة الخضوع ومنها لفظة العبد, فيكون معنى لا إله إِلاَّ الله : ( لا يستحق الخضوعَ شيءٌ غيرُ الله). وما أفضل تكرار هذا المعنى على الذاكرة آناء الليل وأطراف النهار تحذراً من الوقوع في ورطة شيء من الخضوع لغير الله وحده. فهل, والحالة هذه, يناسب غرض المستبدين أن يعلم عبيدهم أن لا سيادة ولا عبودية في الإسلام ولا ولاية فيه ولا خضوع, إنما المؤمنون بعضهم أولياء بعض. كلاَّ لا يلائم ذلك غرضهم, وربما عدوا كلمة (لا إله إِلاَّ الله) شتماً لهم؛ ولهذا كان المستبدون ولا زالوا من أنصار الشرك وأعداء العلم.
إن العلم لا يناسب صغار المستبدين أيضاً كخَدَمة الأديان المتكبرين وكالآباء الجهلاء والأزواج الحمقاء وكرؤساء كل الجمعيات الضعيفة. والحاصل أنه ما انتشر نور العلم في أمة قط إِلاًّ وتكسَّرت فيها قيود الأسر, وساء مصير المستبدين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين.
[رحم الله الإمام الشافعي إذ يقول:
إن أنا عشت لست أعدم قوتاً وإن أنا مِتُّ لستُ أعدم قَبرا
همتي همــــــة الملـوك ونفسي نفس حـر ترى المذلــة كُفرا ]

كُتب في كتب, منائر | التعليقات على من طبائع الاستبداد للكواكبي – الاستبداد والعلم مغلقة

شيء من الصراحة في عمل المرأة الدعوي

المتتبع للعمل الدعوي سواء أكان في المساجد أم في خارجها يجد قصوراً ملحوظاً في القسم النسائي، وبعض الجماعات الإسلامية لا تُفرد قسماً خاصاً بالنساء، الأمر الذي أدَّى إلى ندرة الداعيات اللائي اشتهرن، وإذا الواحد منَّا أراد أن يتذكر أسماءهن فلا يتذكر إلا <زينب الغزالي> في مجال الدعوة\”، و<عائشة عبدالرحمن بنت الشاطئ> في مجال العلم والثقافة، وفي المقابل نجد كثرة في جانب الرجال تفوق ـ بنسبة كبيرة جداً ـ على عدد النساء، وقد تصل نسبة النساء الداعيات إلى 1% أمام الرجال الدعاة·
في حين تعج السيرة النبوية بأسماء الصحابيات اللواتي كان لهن دور كبير في خدمة الإسلام في نواحيه المختلفة كالدعوة والعلم والجهاد، فالمرأة المسلمة في العصر الأول لم تجلس مكتوفة الأيدي، ولم تدع للرجل أن يأخذ نصيب الأسد في خدمة هذا الدين، لأن الأمر الإلهي موجّه لكلا الجنسين سواء بسواء، وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم> التوبة:71، فالخطاب القرآني هنا ردٌّ طبيعي وعمل مضاد على أعوان الشر الذين وصفهم الله تعالى بقوله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف) التوبة:68·
فالشر يدعو إليه أصحابه من الرجال والنساء، والخير ينبغي أيضاً أن يدعو إليه أصحابه من الرجال والنساء، وأي تقصير في أحد الجنسين سيؤدي إلى غلبة الفريق الآخر·
وقد قدمت المرأة المسلمة في العصر الأول أنموذجات رائعة في خدمة الدين ونشره، فمن يُنكر دور عائشة رضي الله عنها في توصيل العلم النبوي إلى الناس، ومن يُنكر دور أم عمارة، وخولة بنت الأزور في الجهاد، ومن يُنكر دور أسماء بنت أبي بكر في الهجرة؟ وتروي كتب السيرة أن أبا طلحة الأنصاري كان الذي دعته إلى الإسلام إحدى النساء الأنصاريات التي أصبحت فيما بعد زوجته·
أما المرأة المسلمة اليوم فقد غُيِّبت عن العمل الإسلامي في كل نواحيه، ففي جانب العمل المسجدي لا نرى لها دوراً ملحوظاً، وفي جانب العلم والثقافة نرى قصوراً واضحاً، وفي جانب الجهاد لا نرى شيئاً أبداً، وعلى سبيل المثال لم نرَ ولم نسمع عن مجاهدة واحدة في الجهاد الأفغاني السابق، ولا في الجهاد الفلسطيني الحالي الذي تتزعمه حركة حماس، اللهم إلا في الآونة الأخيرة حين اشتد الحصار في مدينة رام الله، حيث ظهرت بعض الاستشهاديات، ولكن لم يتجاوز عددهن الثلاث· فلماذا هذا الغياب والتغييب لدور المرأة المسلمة؟ هل عصرنا لا يحتمل وجود داعيات وعالمات ومجاهدات؟ أم أن الأمر يعود للخلل الفكري في تصورنا لدور المرأة المسلمة؟
أنا أرى أن الخلل الفكري الذي أصاب تصورنا هو السبب الرئيس، بل هو السبب الأوحد لذلك، وأعود بالقارئ إلى بدايات القرن العشرين، فعندما فتحت الجامعة المصرية أبوابها للطالبات لم يقبل الأزهر أن يفتح المجال لهن، فتخرجت في الجامعة المصرية دفعات كثيرة من الطالبات اللواتي تثقفن على الطريقة الغربية في التعليم، ثم بعد عشرين سنة قَبِل الأزهر أن يفتح قسماً خاصاً بالطالبات، ولكن بعد أن أخذت المرأة التي تخرجت في الجامعة المصرية الأماكن الحساسة في المجتمع، وبعد أن أصبحت الفئة المثقفة من النساء هُن ممن يحملن الأفكار الغربية بدءاً بهدى شعراوي، وانتهاء بنوال السعداوي، وحدث في الدول العربية والإسلامية مثلما حدث في مصر تماماً، وكانت النتيجة الطبيعية أن تخرجت أجيال نسائية تربّت على أفكار هذه الفئة من النساء، فتحولت المرأة المسلمة في عموم حياتها عن منهج الإسلام وتعاليمه، اللهم إلا من رحم ربي وهن قليل، وانتشر السفور بشكل كبير بحيث أصبحت المتحجبات قلة في المجتمع·
وقد تنبّه إلى هذا الخلل الكبير الذي أصاب مجتمعنا الإسلامي بعض العلماء وبعض المفكرين، فراحوا يُعيدون النظر في دور المرأة المسلمة في بناء المجتمع الإسلامي السليم بشكل عام، وفي دورها في العمل الدعوي بشكل خاص، فيقول الشيخ محمد الغزالي ـ يرحمه الله ـ في هذا الشأن: <المسلمون في العصر الحديث حرموا المرأة حق العبادة في المساجد، ويوجد في مصر نحو سبعة عشر ألف مسجد لا ترحب بدخول النساء، ولم يُبنَ في أحدها باب مخصص للنساء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بنى مسجده بالمدينة المنورة، وهم رفضوا أن يكون للمرأة دور في إحقاق الحق وإبطال الباطل، وصيانة الأمة بنشر المعروف وسحق المنكر، ولم تدخل المرأة الأزهر إلا بعد تطويره الحديث مع أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل طلب العلم فريضة على الرجال والنساء، وعندي أن إفلات النهضة النسائية في قيود الإسلام الحقيقية يرجع إلى هذا العجز والغباء>(1)·
ويقول الدكتور ماهر حتحوت في هذا الشأن أيضاً: <لقد أسقطوا المرأة تماماً من حسابات الحركة الإسلامية سواء في تكوينها أو في مجالات النشاط المتاحة لها أو في أسلوب معاملتها، ورغم أنه أُفلت من هذا الحصار قليلات من الأخوات الفاضلات المناضلات، إلا أن العموم كان على غير ذلك تماماً وعلى نقيض، ولا أنسى يوم دُعيت لتجمع عربي مسلم وطلب مني أن أتحدث عن حقوق المرأة في الإسلام، وجالت عيني في القاعة فإذا هي خالصة للرجال دون امرأة واحدة، وتساءلت عن حقوق أي امرأة تتحدثون؟ وما جدوى حديث الحقوق إذا أُلغي الوجود؟>(2)·
وفي المقابل، فقد قامت المرأة التي تربّت على الثقافة الغربية بنشاط ملحوظ ومدروس في كل مرافق المجتمع، فوجدت في المراكز الثقافية والمؤسسات الاجتماعية والمنتديات والمؤتمرات، وشاركت في المهرجانات والوسائل الإعلامية المختلفة كأي عنصر فعَّال في المجتمع، ولم تدع مجالاً يمكن أن تؤدي فيه دوراً إلا ووضعت بصمات لها فيه·
في حين تراخت المرأة المسلمة الداعية، واقتصر نشاطها على بعض المساجد ضمن حدود ضيقة جداً، فأفسحت ـ بتقصيرها ـ للمرأة التي تربّعت على الثقافة الغربية أن تأخذ حصة الأسد في توجيه الأجيال النسائية، وقد كان التقصير بسبب بعض الحجج الواهية التي لا سند لها في الشرع، وأقول ـ صراحة ـ والحزن ملأ نفوسنا لو كان للمرأة الداعية دور فعّال كدور المرأة العلمانية لكان حال الأجيال النسائية اليوم يختلف تماماً عمّا هو عليه الآن·
وأنا هنا أفتح باب المصارحة مع بعض العاملين في الحقل الإسلامي ممن يخافون خوفاً ـ لا داعي له ـ على المرأة الداعية من مشاركتها في بناء المجتمع ظناً منهم أنهم يطبقون شرع الله في ذلك، فأقول لهؤلاء: إن ديننا دين رجال ونساء، وقد أعطى لكل منهما دوراً في الحياة، وإن دور المرأة المسلمة ليس في بيتها فقط، وإنما في كل مرافق المجتمع، ولكن بالقدر الذي حدده لها الشرع، بحيث تقوم بتأدية دورها ضمن سياج شرعي، ولكن حين لا يقوم المجتمع بتوفير هذاالسياج الشرعي، فلا يعني أن تحبس المرأة نفسها في بيتها، وإنما تسعى ـ كما يسعى الرجال المؤمنون ـ إلى إيجاد المجتمع الإسلامي ضمن مراقبة ذاتية·
فديننا الحنيف يسمح للمرأة أن تشارك في بناء المجتمع الإسلامي السليم، ولا سيما حين تكون هذه المشاركة لأجل الدعوة· فلا يوجد مانع شرعي من أن توجد المرأة الداعية في المساجد والمراكز الثقافية وفي كل مرفق من مرافق المجتمع، فتقوم بمهمة الدعوة بين جيل النساء، وتشارك في الندوات والمؤتمرات والمهرجانات المختلفة وغير ذلك من التجمعات الثقافية والاجتماعية·
وستضطر المرأة الداعية إلى كثرة الخروج من البيت، وقد يكون خروجها على حساب بعض المهام البيتية، ولا حرج ولا غضاضة في ذلك مادام خروجها لأجل الدعوة، ولكيلا تحدث خلافات في البيت تحاول الزوجة الداعية أن تتفاهم مع زوجها على مواعيد الخروج من البيت، فكما أن كثيراً من النساء يخرجن من البيت من أجل الرزق والعمل برضا الزوج، فلا مانع أن تخرج المرأة الداعية لأجل الدعوة، وعلى الزوج أن يتفهَّم ذلك، وما المانع من أن يضغط الزوج ـ في حال كونه من الإسلاميين ـ على نفسه قليلاً فلا يتضايق إذا رجع إلى البيت فلم يجد الطعام جاهزاً، إذا كان السبب هو خروج الزوجة للعمل الدعوي؟ ألسنا نرى بعض الدعاة يسمح لزوجته بالعمل الوظيفي لزيادة الدخل المالي للعائلة؟ فلماذا يتضايق عندما تُطرح عليه فكرة خروج الزوجة من البيت للدعوة؟ هناك يسمح لها من أجل المال، وهنا لا يسمح لها من أجل الدعوة·
وبعض الإسلاميين لا يجد حرجاً أبداً من إرسال ابنته إلى الجامعة <وهي في الأغلب جامعة مختلطة>، فيحدث احتكاك كبير بين الطلاب والطالبات ولا سيما في المختبرات والمعامل العلمية، ثم تجده يعترض على ابنته إذا أرادت الخروج إلى المسجد للمشاركة في الأعمال الدعوية، وذلك بحجة أن هذا الزمن زمن الفتن، وأن الأولى للمرأة أن تجلس في بيتها، أليست هذه المفارقات تحتاج إلى ألف استفهام عليها؟ وألا تدل هذه المفارقات على ضبابية في التفكير والتصور؟
ودعوتي إلى خروج المرأة من البيت للدعوة المقصود منه المرأة الداعية، ولا أقصد المرأة المسلمة العادية، لأن المرأة الداعية تكون ـ عادة ـ متسلحة بالثقافة الإسلامية ومشحونة بالإيمان الذي تكتسبه من العبادات المختلفة، ولديها الهمّ الدعوي الذي يحولها إلى صخرة صلبة أمام الفتن والمغريات، فتختلط بالمجتمع ونصب عينيهما هدف تغيير هذا المجتمع إلى مجتمع إسلامي·
ولا أعني أن تقوم المرأة الداعية بدعوة الشباب والرجال، وإنما تترك هؤلاء إلى إخوانها الدعاة، فتتجه هي إلى النساء، فتحاول ـ ما استطاعت ـ أن تنزوي بهن عن التجمعات التي يكثر فيها الذكور فتقيم معهن حوارات ومناقشات وصداقات لتعريفهن بأمور الدين·
وأركّز هنا على الصداقات النسائية، والمثل يقول: <الصاحب ساحب> لأن اللقاءات السريعة في التجمعات الثقافية لا تعطي نتائج مرضية، فلا بد من جلسات مطولة ولقاءات مركّزة، ويمكن أن تتعاون الأخوات الداعيات على صحبة واحدة ـ مثلاً ـ أو على صحبة مجموعة صغيرة، ومن خلال اللقاءات المتعددة بهن يمكن الوصول إلى الهدف المنشود·
وقدوة المرأة الداعية في هذا الاختلاط الصحابيات الجليلات اللواتي وجدن في كل مكان وُجد فيه الرجال كالمسجد والهجرة والغزوات، فقد كانت المرأة الصحابية تحضر دروس العلم في المسجد النبوي، وتشارك في الهجرة، وتخوض المعارك، وتقاتل المشركين وجهاً لوجه، ولم يمنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، بل لم يعتريه صلى الله عليه وسلم خوف لا داعي له عليها جراء هذا الاختلاط الشديد بين الصحابية والمشركين، مع أنه كان من المحتمل أن تشتبك الصحابية بالأيدي مع المشركين في حال وقوع السيف من يدها، وكان من المحتمل أيضاً أن تقع في الأسر، وتتعرض للاغتصاب، ومما يروى عن خولة بنت الأزور <وهي صحابية جليلة> أنها كانت تخترق صفوف الروم في معركة اليرموك، وتصل إلى نهاية جيشهم، ثم تعود إلى أوله، وفعلت ذلك مراراً، حتى أن خالد بن الوليد رضي الله عنه ذُهل من بطولتها وجرأتها وشجاعتها، ومع ذلك لم يمنعها ولم يعتره خوفٌ عليها كخوف الإسلاميين اليوم على المرأة المسلمة الداعية من اختلاطها بالمجتمع·والمشكلة تكمن في كون النساء يُشكِّلن نصف المجتمع، وترك هذا النصف من دون دعوة يسبب مشكلات جمة، بدءاً من كون المرأة سلاحاً خطيراً في حال استغلال أعداء هذا الدين لأنوثتها وجسدها، وانتهاء بكون المرأة مربية للأجيال، ومادام الرجال الدعاة لا يقومون بدعوة النساء، كان من الضرورة بمكان أن تتكفَّل النساء الداعيات بدعوتهن·
أما أن يخبئ كل واحد منَّا زوجته، وأخواته، وبناته الكبريات في البيت، ثم ننتظر بعد ذلك أن يتغير المجتمع، فهذا بعيد المنال، وبعيد عن المفهوم الصحيح لمهمة المسلم والمسلمة في الحياة، ولا سيما في هذا العصر الذي تكالب الأعداء علينا فيه من كل حدب وصوب·
وأنا لا أدري من سيقوم بدعوة النساء إذا فقدت المرأة الداعية في البيت؟ ومن الغريب في الأمر أن بعضهم يقول: إنه يكفي على المرأة الداعية أن تقوم بتربية أولادها على التدين، فأقول إن تربية الأولاد هو جزء من العمل الدعوي للمرأة ولابد أن يرافقه دعوة الناس·
ويرى الشيخ فيصل مولوي في كتيبه: <دور المرأة في العمل الإسلامي> أن خروج المرأة المسلمة من البيت للدعوة فرض عليها وليس مندوباً أو مستحباً أو غير ذلك فيقول: <إن الإسلام اليوم معرّض للخطر، وإن الشعوب الإسلامية كلها في خطر، وإن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، كل ذلك من أهم الواجبات الشرعية المطلوبة من الأمة كلها رجالاً ونساء، وللمرأة دور كبير في هذا المجال، يعرض عليها الخروج من منزلها، ويفرض على زوجها أن يأذن لها بذلك لتُسهم بدورها في بناء مجتمع نسائي مسلم يكون جزءاً من المجتمع الإسلامي المنشود>(3)·
فالإسلام اليوم يحتاج إلى تضحيات كبيرة، وخروج المرأة الداعية من بيتها للدعوة هو جزء من هذه التضحيات، وعلينا سواء أكنا آباء أم أزواجاً أم إخوة أم أبناء أن نتفهم ونعي هذا الأمر جيداً، وأن نعمل على حض نسائنا على الخروج من البيت لأجل الدعوة·

الهوامش
1 ـ كتاب <حصاد الغرور> محمد الغزالي، دار الثقافة، ط23، 1985م، صفحة 257 وما بعدها·
2 ـ مقال: <قل للمؤمنين والمؤمنات> نُشر في مجلة <نوافذ> اليمنية، العددان السابع والثامن، شباط وآذار سنة 1998م·
3 ـ فصل <المرأة والرجال أمام التكاليف الشرعية> صفحة 25·

بقلم: نجدت كاظم لاطة
رقم العدد:- 444 -الشهر: 10 السنة- 2

الوعي.أوقاف.نت

Alwaei.awkaf.net

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على شيء من الصراحة في عمل المرأة الدعوي مغلقة

التيارات الفكرية السائدة في العالم الإسلامي

د. أسامة القاضي*
إن هذه العجالة تدرك مُقدماً صعوبة التقسيمات الحدية فيما يخص الشأن المعرفي، فالتداخل في الأفكار والمنظومات الابستمولوجية يستحيل معها بناء حواجز دقيقة يتميز بها تيار على آخر، وتستعصي عندها الدراسات الكمية التي يمكنها أن تعطي تصوراً شبه مادي عن اتساع رقعة تيار على حساب آخر، وهذه قاعدة لا تشذّ عنها التيارات الفكرية في العالم الإسلامي. ورغم هذه الصعوبات إلا أن الكثير من المفكرين خاضوا هذا الغمار بجرأة، ولايستطيع أحد أن يقدم تقسيماً على آخر بدعوى الصواب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولكن هي في معظمها مقاربات تسعى لإعطاء تصور أفضل عن التضاريس المعرفية في العالم الإسلامي، مما يتيح فهماً أعمقاً لها ويرشد للطرق الأنجع للتعامل معها. فأحال المفكر المغربي عابد الجابري هذه التيارات إلى ثلاث عوالم: البيان والبرهان والعرفان كما أحالها المفكر البحريني جابرالأنصاري إلى ثلاث عوالم أخرى: السلفية والتوفيقية والرفضية، وغيرهم كثير.
أريد أولاً التأكيد على أن هذه الورقة تتحدث عن المهتمين بالمسألة الثقافية أو المنتمين طوعاً للذات الحضارية والذين يشعرون بالهمّ الحضاري، ولكن ليس بالضرورة أنها تتحدث عن “اللامنتمين” للذات الحضارية أو غير الجادّين، أو غير المهتمين أصلاً بهذا الجدال المعرفي.
إن هذا البحث يؤمن أن التيارات الفكرية التي تقتسم الخارطة المعرفية في العالم الإسلامي طبقاً لتركيبتها المفاهيمية لا تعدوعن كونها واحدة من خمسة تيارات ينبثق عنها تيارات متفرعة تصل إلى اثني عشر وهي تختلف بحسب أدواتها المعرفية، وأدوات التغيير التي تتبناها، وأساليب الدعوة التي تطبقها، ودرجة الفهم، وتصورها للحلول، ونوعية القراءة، وتعاملها مع الآخر، وأخيراً تعاملها مع الواقع المعاش.

1-“التيار الخوارجي” أو ” تيار نفي الآخر”
ويتمثل في إقصاء الآخر سواء كان هذا الآخر من داخل أو من خارج الإطار المعرفي الإسلامي.
ورغم أن فرقة الخوارج تاريخياً بدأت كفرقة ظهرت أواخر العقد الرابع من القرن الأول للهجرة عقب خروجهم على عليّ كرم الله وجهه إثر قبوله بالتحكيم في شأن الخلافة التي آلت لمعاوية، وتبنت هذه الفرقة فهماً سقيماً نصيّاً، سِمَته العنف والإقصاء الجسدي، لكنه انسحب بعدها الحكم بالـ “خوارجية” على كل من خرجَ على الحاكم وكل من كّفره.
هذه العجالة تعتبر العقلية الخوارجية هي كل عقل يخرج على حدود الموضوعية ويقرر إلغاء الآخر بل تصفيته جسدياً بغير وجه حق، ويقسر الآخر بالعنف على تبني رأيه.
إن أساليب التغيير التي يتبناها هذا التيار هي ثورية بالدرجة الأولى، وتباشر التغيير بـ”اليد” التي هي أقوى الايمان، وسمة دعوتهم الأساسية هي المباشرة بالتصريح، وليس التلميح، أو النمذجة المقنعة.
أُقفل باب الاجتهاد لدى هذه المدرسة بأغلظ الأقفال، وعندهم السلف لم يترك شيئاً للخلف، ولا حاجة لإضاعة الوقت في إعمال العقل الذي يجب أن يهتم في تصحيح عقيدة الأمة طبقاً لفهمهم، وهم يتمتعون بأعلى درجات الرضا عن النتاج المعرفي التاريخي، لذا فإنه من الطبيعي أن تكون قراءاتهم تراثية محضة، ويتميزون بإقصاء مخالفيهم من حيث القراءات التراثية، فلديهم انتقائية واضحة في التعامل مع المقروء التاريخي، ومن باب أولى المعاصر.
بالنسبة للتعامل مع الواقع المعاش فإنهم يتأرجحون مابين “جلد الذات” وتكريس إحساسهم بمسؤوليتهم عن فشل الأمة في ماضيها وحاضرها، إلى “قتل الذات” واتباع كل أساليب التغيير الجذري والثوري، وأما الآخر المخالف فهو يمكن أن ُينعت بنعوت تبتدأ بالتكفير ولا تتوقف عند الاستغراب والعلمانية والاعتزالية. أصعب ما يلاقيه أبناء هذا التيار هو في التعامل “بواقعية” مع الواقع المعاش، ويكون ذلك في الغالب باعتزال العالم وإنشاء نماذج غير جديرة بالحياة أو النمذجة، تحيا بعيدة عن أي تيارات فكرية أو تجديدية في العالم.

2-التيار الوجداني (صوفي)
هذا التيار له تقاليدٌ في تقديم الوجدان وما تهواه القلوب على ماصح عقلاً ونقلاً، وأصحابه يؤمنون بأن “المقبول قلبا”ً مقدمٌ على “المقبول عقلاً”، والمقاربات تجري باستمرار ما بين المقبول شرعاً والمقبول قلباً. ورغم الشذوذ أحياناً والشطط أحياناً أخرى، إلا أن اصحاب هذا التيار لا يستغنون عن الغطاء الشرعي الضعيف “نصاً” أحياناً والهزيل “سنداً” في أحيان أخرى، وذلك في سبيل إرضاء القلوب المتعطشة “للحب الإلهي”، وعندهم كل شيء يهون طالما أنه يعين المريد على طريق “الفناء” في الذات الإلهية.
التغيير الواقعي للمؤسسات السياسية والاقتصادية والفلسفية ليس هدفاً يُسعى إليه، فهُمْ غير ثوريين بالطبيعة، لأن العبد إذا حقق العبودية المطلوبة من الإكثار من الأذكار، وتواصل العبادة فإن أمره في خير، وما على المريد إلا أن يؤمن بالشعار القائل “سلّم الأمر إلينا فنحن أولى بك منك”، لذا فإن درجة الثورية شبه منعدمة في هذا التيار وإن الطرق السلمية، والدعاء حتى للمستبد، هو أمر محمود على أمل أن يهديه الله ويرده إلى صوابه، فدعوى التغيير لديهم غير مباشرة، أو مباشرة بلطف الموعظة.
لذا تجد أن معظم أنواع السلطات المستبدة في العالم الإسلامي تُشجع ازدياد عدد الحلقات والزوايا والتكايا، لا لحبهم للمتفانين في “الحب الإلهي” ولكن لأن أهداف هذه المجموعات محض أخروية وتحّملها ومصابرتها على الظلم عالية جداً لما تأمله من الثواب في الدار الآخرة.
باب الاجتهاد عند هؤلاء إما مغلق نهائياً أو أنه محصور بما قيل، وإعمال العقل واستحداث آراء جديدة هو “خروج عن الأدب” ومنهي عنه، اللهم إلا أن يكون هامشاً على تفسير، أو قراءة تُضيف البركة والإعجاب بما سبقها من أقوال، خالية من أي نقد للمطبوعات “المنـزهة عن النقد” أو التحليل الجديد، فما قد قيل اكتسب قدسية التاريخ والتي في الغالب تحمل صفة “الكمال”. والقارئ المعاصر بما يحمله من آثام، والتي في غالبها يعود سببه إلى أنه يعيش خارج الإطار التاريخي المقدس “شبه الخالي من الآثام” وبسبب انغماسه في “المعاصر” لذا فقد “تلوث بآثام اللاتاريخ أو المعاصرة”، ذنبه أنه يعيش عصره لا عصر غيره من “المقدَسين”.
إن هذا الإحساس المفرط بعقدة الذنب والإحساس بالابتعاد عن الكمال الذي “حظي به السلف” والشعور بالتفريط في جنب الله، يتصدر أولويات “الوعي” عند هذا التيار، و “جلد الذات” مقدمٌ على “فهم الذات” الذي يكون ديدنه البحث في العمق عما يعيق الأمة عن تقدمها في محاولة الخروج من أزماتها.
يسعى أرباب هذا التيار إلى إفهام الُمريد “المُخلص” أن مدخل تغيير العالم ليس الأخذ بأسباب نجاح الأمم، وأن “الله يمد هؤلاء وهؤلاء وما كان عطاء ربك محظورا”، آيةً تفيد معنى الاستدراج لهذه الأمم، وأن على المريد ألاينبهر بـ”زخرف الدنيا” عند من أخذ بأسبابها، أو يُؤخذ لبّه بما يرى من فارق مدني، وصناعي، وزراعي هائل بين العالم الإسلامي وغير الإسلامي، فجنّة العبد هي قلبه، وليس هذه التمظهرات البائدة إلا حجّة على أصحابها، وأن التركيز كلّه يجب أن ينصبّ على “المدخل التربوي” لتغيير العالم.
يتم تصوير الإشكالية الأساسية في الإجابة عن أسئلة من مثل “لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم” لأتباع هذا التيار على أنها هي مشكلة “الأدب مع الله” لا الأخذ بأسبابه في الأرض، رغم أنه يصحّ عقلاً مراعاة الحفاظ على الأدب مع الأخذ بالأسباب، فلا تعارض بالضرورة بينهما، ولا يوجد داع لخلق نوع من “التناقض المفتعل” بينهما كأنه انعدمت سبل التقريب، لكن الحقيقة أنه هو نوع من “التثبيط ” غير المقصود في كثير من الأحيان عن القيام بإعمار “المباني ” على حساب بناء “المعاني”.
لا شك أن طبيعة قراءات أتباع هذا التيارهي القراءة التراثية المحضة ما بين قراءات تُعين المريد على “التخلية” وأخرى تفيد “التحلية”، فهي مطبوعاتٌ إما تاريخية أو “تاريخوية” بمعنى أنها تعيد قراءة التراث بروح وأدوات معرفية تراثية مُنبتّة عن المعاش، فكأنها طبعة جديدة من الكتب الصفراء.
السمتُ العام لهذا التيار هو الانكفاء على “الذات الحضارية” و الاكتفاء بـ”عبق التاريخ” عن “لوثة الحاضر” بما فيه من آثام وشرور، وإنشاء جزر منعزلة عن الواقع ترفض الانتماء إليه، اللهم إلا في مسألة تربية أبنائه “العُصاة”. لعل أبناء هذا التيار يُفوّتون الكيثر من الفرص على الأمة لو أنهم أحسنوا المقاربة بين المدخل العلمي والتربوي في التغيير، وشمّروا السواعد للنـزول إلى ساحة المعاش ليصححوا فيه وليسددوا ويقاربوا، فالأذكار والأوراد لا تتنافى مع الأخذ بأسباب الله في الأرض، والنصوص الثابتة -وما أكثرها بحمد الله- تغني عن الاستعانة بالموضوعات من الأحاديث وأخبار “الصفوة” التي يشوبها الكثير من الخلط ولا يعلم لها القارئ إسناداً صحيحاً. والصحاح من الأصول الثابتة تحض على التعامل الموضوعي مع الواقع، وتقويّ من عزيمة المؤمن، ولا تحيلهُ إلى “جبريّة” ساكنة تنتظر الموت كي تلتحق بمن سبق من “المباركين” بروح رومانسية تهمّش “العقلانية الدينية”.

3- التيار النَصّي (سلفيين)
أبناء هذا التيار –الذين يُسموّن سلفيين أحياناً- على عكس “الوجدانيين” أعملوا عقولهم في أسناد النصوص، ومحّصوا فيه، وهم من ألّد أعداء التيار الثاني، والذين تتراوح ُتهمهم ما بين مبتدع وكافر مروراً بالشرك.
يشنّ أصحاب هذا التيار “ثورة بيضاء” ضد المبتدعة، وسلاحهم التغيير باليد، والمطبوعة التي تتجرأ على التكفير ولا تتوانى عن مهاجمة “المبتدعة” وملاحقتهم لو أمكن، ولا مكان للـ”الآخر” المبتدع لأن تصوراتهم ذات بُعد عقديّ لا يسمح فيه للآخر بالمخالفة، فهو إما “ولاءٌ” وإما “براءٌ” ولايوجد منـزلة بين المنـزلتين، لذا فإن دعوتهم تحمل نفس الجهاد المقدس بـ”اللسان”. لكن هذه الثورة “النصية” تظل ثورة بيضاء إلى أن يتبناها نظام سياسي يريد خدمة مصالحه، والتي هي محض ذاتية، فيقوم بتثوير هذا التيار ليريق دم غيره بحجة الخلاف “العَقدي” مع الآخر، والضحية في الغالب هو مسلمٌ مخالف في النهج الفكري.
إن الفارق بين التيار”النصي” و “الخوارجي” هو في درجة الثورية، فالـ”نصي” لا يلجأ للتصفية الجسدية لكنه لا يتوانى عن تصفيته “دينياً وشعبياً” وتصنيف الآخر “الضّال الُمضّل” على احتلال أسفل درك من النار حتى تطمأن نفسه بأنه انتصر في حربه “المقدسة” وضمنَ بهذا الجهاد الأبيض مكاناً علياّ لأنه نافحَ عن “فهمه” لدين الله.
يؤمن أرباب هذا التيار أن الأصل في الأشياء التحريم و ليس الإباحة، فلا بد للمسلم أن يحفظَ أكبر كمية من النصوص التي تعينه على “شرعنَةَ” كل حركاته وسكناته، وليس فقط ما شكّ في شرعيته أو “حاكَ في صدره” من المستجدات، وبذلك يدخل في منطقة المكروهات عند الشارع من ” كثرة السؤال”.
باب الاجتهاد لا يمكن فتحه إلا بـ “مفاتيح القدماء” فهم من أغلقوه- على الأقل حسب فهم هذا التيار- ولا يمكن لهذه المغاليق أن تفتح إلا بشقّ الأنفس، وبضمانات عدم الحياد عما انتهجه السلف الذي لم يترك شيئاً للخلف، وضمان عدم استخدام أدوات معرفية جديدة “ابتداعية” أو “استغرابية كافرة”، وباب الاجتهاد محصور في استقدام “المجتهد الأريب” للأدلة التاريخية لعلماء عاشوا تاريخهم- رغم أنهم هم أنفسهم اختلفوا في كيفية التعامل مع الحادثة الواحدة وفي فهم النص- وما على هذا “المجتهد المشبع اتباعاً” إلا أن يستعير من حوادث التاريخ، ويجتهد ولو على حساب “لوي عنق النص” والتمادي في استخدام أساليب “القياس”، ولو اضطر الأمر أن يثبت صحة وحلّية بناء البنوك وإنشاء سوق أوراق مالية وتعاملات نقدية بحادثة عابرة منذ أكثر من 14 قرناً أو الإستدلال على الصلاة في الطائرة بفتوى للأحناف فيما يسمى “المعقول الفقهي” فيمن صلى في الهواء، وعلى الـ”مجتهد” أن ينسى كل الفوارق المدنية، وتطور الدلالات الاصطلاحية، والمعرفية، ويهمّش تاريخية الحادثة، ولا يعطي الواقعة التاريخية حقها من “الفهم الواقعي للتاريخ” ومن أسباب النـزول، بما فيها من أساليب الانتاج والاستهلاك، والاتصال، والفهم المعرفي، ومايفرضه الواقع الصحراوي، ودرجة المدنية، والأهم من ذلك الفهم المقاصدي للنص.
إن أحفاد أبو الفرج الحنبلي (795 هـ) الذي يؤمن بفضل السلف الذي يعيش في الأزمان الفاسدة كما يسميها على الخلف يتبنون مقولته: “وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة”.
إن هذا الأسلوب في الفهم المعرفي لايفيد “فهم الذات” ولا يعيد طرح “الذات الحضارية” مرة أخرى بالزخم المطلوب. بل إنها تُقسر العقل والروح على العيش في “عقدة ذنب أبدية”، لأنه ببساطة لن يقدر الرجل مهما أوتي من “سعة الحافظة” أن يسع بالنصوص المحفوظة كل الكم الخيالي من التطورات اليومية والاقتصادية والتبدلات الفلسفية في السياسة والاجتماع وعلوم الإنسان والتكنولوجيا والفلك والطب.

4- التيار المعتدل (الوسطي، المقاصدي)
تتوجه الموصلة المعرفية لهذا التيار نحو المقاصد الشرعية واستنباط علل الأحكام للوصول إلى غاية الشارع، ويلخص هذا المبدأ الابستمولوجي قول ابن رشد (520-595 هـ) في “فصل المقال”: “كما أن المعقولية في العلوم الطبيعية والعلوم الالهية الفلسفية مبنية على مبدأ السببية فإن المعقولية في الشرعيات مبنية على قصد الشارع، ولذلك كله من الضروري بناء الاستدلال في الدين، وبالتالي البرهان على الظاهر من العقائد التي قصد الشارع حمل الجمهور عليها”.
وأصحاب هذا التيار يحصرون في الغالب توجههم نحو السعي للنمذجة وللأسلوب غير الفج في الدعوة للإسلام كتابة وشفاهاً، من خلال الحوار مع التيارات الأخرى في محاولة جادة لـ”فهم الذات” الحضارية ومن خلال استيعاب المشتركات مع التيارات الأخرى.
إن قراءات هذا التيار متنوعةٌ، غير مقتصرة على التراث، بل هناك سعي جاد لهضم التاريخ وقراءة الكتابات المعاصرة وانتاج خطاب إسلامي بأدوات معرفية إسلامية قابلة للحياة، لا يقصي الآخر، ومن باب أولى لا يؤمن بتصفيته الجسدية على الطريقة “الخوارجية”، ويتعامل مع العلوم الحديثة على أنها مفرٌز عصري له ايجابياته ولا يخلو من سلبيات، ويسعى لحوار جاد مع كل التيارات الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية بنَفَس تجديدي يبتعد عن الشطط، وينأى بنفسه عن نعت المخالف “الآخر” بنعوت “لاعلمية” أو عاطفية، ولكن يسعى لتحديد مساحات الخلاف والاشتراك مع كل “المحيط المعرفي” ويتقيد بوصف الشيء على ما هو عليه ما أمكنه ذلك.
إن باب الاجتهاد عند أصحاب هذا التيار مفتوحٌ، بل واجب لمن ملك الباءة المعرفية، وأن السلف ترك إرثاً عظيماً وقد استوعب زمانه أيما استيعاب، وحان دور المسلم والمجتهد المعاصر أن يبحث عما ينفع الأمة من أمور محدثة، ويبتكرُ حلولاً منضبطة بالنص والمقصد مع الاستئناس بمن سبقهم من أقوال السلف من غير حجر على الفكر، ومع الاعتراف بهامش الحرية للمجتهد المعاصر وحقه الشرعي في الاختلاف.
لا يجد أصحاب هذا الفكر في الغالب مشكلة في “الاندماج الايجابي” مع المجتمع والعالم، وهم يقاومون أي إفناء لـ”ذاتهم الحضارية” أو تذويب هويتهم بحجة “العولمة” أو “اتباع المغلوب للغالب”، بل إنها مرحلة أخرى من البحث عن دور”الشهود الحضاري” التي ينتظر فيها العالم من المسلمين أن يدلو بدلوهم، رغم أنهم حالياً في الدرك الأسفل من سّلم الانتاج الحضاري. كل ذلك دون تكريس “عقدة الذنب” الحضارية، بل عبر الإشارة للأمراض المعرفية والإشكالات الفكرية الخاطئة، كي يتم تجنبها وأخد “العقارات المعرفية” اللازمة للشفاء على الرغم من مرارتها أحياناً، فـ “كل مرّ شفاء” كما جاء في الأثر.
وينبّه تيار الاعتدال إلى أنه من الصعب على أصحاب التيار النصي أو الوجداني -ومن باب أولى الخوارجي- استيعاب فكرة أن تاريخنا مليءٌ بالعظماء لكن صنّاعه ليسوا ملائكيين، بل لديهم أخطاء من حيث الأسلوب أو من حيث التطبيق، وأحياناً أخرى من حيث المنهج، وأن تفصيل الأمر يضيف “صبغةً إنسانية على التاريخ” وينـزع عنه الصفة الملائكية، وعندها فقط يستطيع الباحث التعامل معه بأريحية، والأهمّ أنه لا يستطيع تجنب ما وقع فيه الأولون –ولا ينقص هذا من مكانتهم العالية- ويعيد طرح المشروع الإسلامي بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل واقعي، ولا يبقى مكانٌ لمن يريد أن يتذرع –سواء شخص عادي أو حاكم مستبد – عندما يُسأل عن أن ينهج نهج بعض السلف من الصحابة أو التابعين ليستعجلك بالإجابة أنه لا يستطيع أن يصل للدرجة “الملائكية” التي وصلها فلانًٌ بعظمته. إن هذا التصوير الملائكي و “اللامعقول” و المنافي للواقعية التاريخية للمجتمعات والعلماء والعظماء في تاريخنا، يُبعد الأمة عن تاريخها أكثر مما يقربها.
إن أصحاب هذا التيار يعتقدون أن عدم إغفال السياق التاريخي، وطرح التاريخ دون تحريف “ملائكي”، وتذويق “رومانسي”، ُيقرب أجيال الأمة من تاريخها ويجعل الأمة تستفيد من تجارب التاريخ.*
ويؤمن الذين خرجوا من عباءة هذا التيار بفلسفة “البدائل”، فلا يستعجل أحدهم التحريم قبل أن يبذل وسعه لايجاد البدائل “الواقعية الشرعية”، وإن لم توجد فهي دعوة للقائمين على الأمر لتأمينها، وعندها ينتقل الشعور بالذنب من العامة إلى السلطة التي حَجبت مناخ الحلال فاستشرى بعدها الحرام، وبذلك يتم النقل الشرعي لـ “عقدة الذنب” من الجمهور إلى أولياء الأمور الذين حُرموا رؤيته فترة طويلة، لأن دأب السلطان على الدوام هو إشاعة مناخ يوحي بالتصريح أو بالتلميح عن مسؤولية الجمهور عن المآسي والذنوب التي يرتكبوها، ويقوم بعض أصحاب الوعظ من الجهلة أو المأجورين بتعميق ذلك، فالاستدانة من المصارف الحكومية بفائدة لشراء منـزل للسكن علّته فساد الدين والدنيا، والحل الناجع رجوع المواطن إلى الله وتركه الحرام، وليس الضغط على الحاكم لفتح بنوك إسلامية، أو السماح لها بالتواجد على الأقل، والأزمة الاقتصادية سببها تكاثر السكان، أو الابتعاد عن الله جل وعلا، وليس سوء توزيع الثروة والاستيلاء على مواردها من قبل سلطة محلية أو عالمية، وإن استشراء الفساد سببه كثرة المرتشين وضعاف النفوس الذين ابتعدوا عن الإسلام، وليس ضيق ذات اليد عند عّمال الدولة وعدم إشاعة مناخ التعليم الديني، وملاحقة الواعين من أبنائه، وانتشار المحسوبية التي أشاعها السلطان والتي بها أفسد نظام الأمة.
إن علاج الأمة المريضة لايتم بقتل الأمة “المريض”، والإمعان في “جلد الذات”، ولكن بالإشارة لأمراضها بجرأة وواقعية وبَنفَس إصلاحي، على طريق “فهم الذات”.
إن المتبنّين لهذا التيار لا تنطلي عليهم “التخريجات السلطانية” للإشكالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية رغم الاستعانة بـ”الخبراء الدينيين” للتغطية والتعْمية على حقائق الأمور، ولكنهم وبنَفَس إصلاحي يواجهون الحاكم الذي استأسد بالسلطان بوقائع الفساد وأسبابه الحقيقية، وبالحاجة للاصلاحات المؤسسية، كما كان الدور السياسي للأئمة الأربعة ومن بعدهم.
إن كل هذه الإصلاحات المؤسساتية يجب أن تتم بالتدريج ضمن آلية للتغيير تحترم النص الديني وتفهمه وتؤصل لرؤية واقعية هي “الأكثر نموذجية” برأي هذا التيار لتمثيل الفهم الحقيقي للمقاصد الشرعية، لأن هذا التيار أعطى للعقل حقه من التقدير، وأعطى لروح التاريخ والأصول حقّها من الرعاية، دون إغفال المستجدات من الحوادث.
كما أنهم لا يؤمنون بغلق باب الاجتهاد متمثلين قول الشوكاني (1250-1173هـ) فيما يخص اختصاص سلف هذه الأمة بإحراز فضيلة السبق في العلم دون خلفها ودعوته للتحرر من “عرى التقليد”: “تعذر وجود مجتهد بعد المائة السادسة مقولة مخذولة وحكاية مرذولة تنذر بضياع الشريعة…فالله تفضل على الخلف كما تفضل على السلف”.

5- التيار اللاديني (علماني-حداثي-عقلاني)
يحسنُ بداية القول أن نزع صفة العقل على هذا التيار لا يعني بالضرورة نفيه عن باقي التيارات، لكن قُصد منه اتخاذ العقل كمرجعية فكرية ومعرفية دون الرجوع لأي معطىً معرفيّ آخر. يلتقي هذا التيار مع التيار الخوارجي في ثوريته وحّدته في الطرح، فهو يريد إقصاء “النص” واستبعاد الأدوات المعرفية الأصولية، فهو تيار همّه “نفي الذات” كما كان همّ “الخوارجيين ” الأساسي “نفي الآخر” بحجة احتكار الحقيقة والحفاظ على نقاء “المناخ المعرفي”. يصف البعض هذا التيار بأنه علماني وبأنه حداثوي أو أية صفة أخرى، ولكن لا مشاحّة في الاصطلاح إنما الأولى بالاهتمام هو تفصيل المكونات المعرفية لهذا التيار.
يتبّع أبناء هذا التيار أساليب ثورية في التغيير سواء في التغيير السياسي أو المعرفي، فمن محاربة أعداء “الوطن” في عوالم السياسية، إلى استئصال شأفة “أعداء العقل” من النصيين والوجدانيين. ولعل ضيق صدر أبناء هذا التيار وإصرارهم على تجاوز التاريخ وعدم موضوعيتهم أحياناً في تناول”الذات الحضارية” بل نسفهم لأصولها النصية أحياناً كثيرة ونفيهم لأحقيتها في لعب دور في تشكيل المستقبل، ُيشكّل عائقاً حقيقياً أمام أي حوار بنّاء مع التيارات الثلاثة الأولى، وبشكل أخف مع التيار المعتدل وذلك لسعة صدر الأخير.
يتمتع أبناء هذا التيار بحساسية عالية ضد كل ما هو تراثي، ولا يتوانون عن كيل التهم للتاريخ بحق وبغير حق، في محاولة لنـزع “الشرعية” و”المرجعية” عنه، لذا فإن تناولهم للتراث ولوقائع التاريخ يكون بقصد النقد الذي قد يُفهم منه “الهدم” لا “البناء”، أو بعبارة أخرى بقصد “قتل الذات”، و”أنسنة” المعارف.
إن أدواتهم المعرفية غربيةٌ في الغالب، مستوحاة من أنساق معرفية غريبة على التراث الإسلامي، فتارة يُلجأ للنظم التفكيكية، وتارة البنيوية وأخرى بالألسنية أو ربما حتى بالقراءة الماركسية، فيصور مثلاً أبو ذرٍّ أنه إمام الاشتراكية في الإسلام، مما ينفي صفة الموضوعية على خطابهم. لا غرابة إذن في أن شعبية هذا التيار ضعيفة بسبب الأساليب الغريبة والمصطلحات المقعرة التي تزيد بعدهم عن العامة، وما يزيد هذه الهوة عُمقاً هو تحييدهم للخطاب الديني “الأكثر شعبية”. وكردة فعل يلجأ أصحاب المنابر الدينية من التيارات الثلاثة الأولى إلى تعميم أسمائهم كونهم “أعداء الله” وتثوير العامة ضدهم باعتبارخطرهم على “صفاء العقل المسلم”، فما أكثر مايُكّفَرون وُيّفًسقون و يُطلّقون من نسائهم بفتاوى شرعية، أو يُجرى اغتيالهم في حالات أخطر.
* * *
الواقع أننا لو استثنينا التيار المعتدل فإن مايتبقى من الحوار هو تبادل للاتهامات، وكيل الشتائم، فالتيار النصي يكفّر الأشاعرة وأصحاب المذاهب الفقهية، ولديه مشكلة مع التيار المعتدل لأنه مفرطّ ومبتدع ٌ كونه يدعو للتجديد، ومن البدهي أن مشكلته مع “المتصوفة” وأصحاب التيار الوجداني أكبر لأنهم “مشركون” بالله. أما أبناء التيار العقلاني فلديهم مشكلة مع كل التيارات، الوجدانية منها والنصّية لأنهم “لاحداثويين”.
إن الحل الناجع بالنسبة للأمة هي تكثير سواد أرباب التيار المعتدل الذي لديه الرصيد الأقل من الأعداء مع باقي التيارات، والذين لديهم من السعة بما يكفي لإتاحة الفرصة للآخر دون مصادرة للرأي، ودون استعداء المخالفين، والنموذج المطروح من قبلهم هو الأكثر قابلية للنمذجة في مجتمعات يستحيل أن تنتظم إلا ضمن تراثها ومن خلاله، وبأدواته دون إفراط أو تفريط.
المشكلة القائمة في عالم التيارات الفكرية في العالم الإسلامي – وأحياناً يجري تصديرها للعالم غير الإسلامي كأمريكا مثلاً – هي مشكلة نوعية الانتاج معرفي. فربما يُغرق سوق الكتاب بمطبوعات التيارات الثلاثة الأولى، وهذا ليس دليل عافية معرفية بالضرورة، وقد تجد مطبوعات التيار العقلاني والذي لا يجدّ قراءً بالحجم التجاري الكافي فيجري تحييده، وتكون مهمته إعطاء مادة فكرية وإعلامية للتيار الخوارجي والأصولي للنقد وكيل التهم، وكذلك هي “مشكلة استهلاك” ومشكلة “من ُتقلد” لا “ماذا ُتنتج” بسبب حالة الإشباع التاريخي من كثرة المطبوعات للعلماء الأوائل، فتظل طباعتها تتكرر ويعاد تغليفها فيصرف الجهد على التذويق الفني والمطبعي، مالا يُصرف عُشرهُ على تحليل وقراءة ما بين دفتي الكتاب التراثي قراءة متأنية.**
وبسبب هذه التخمة التاريخية فإنّ القارئ – على ندرة وجوده مع ارتفاع نسب الأمية في دول العالم الإسلامي– في الغالب يجد نفسه ميّالاً للكتب التاريخية، فهو ينصاع للحملة الإعلامية التي يقودها الخطباء، فينتقي ما يلائمه تبعاً للتيار الذي يميل إليه، فالصوفي يقتني الرسالة القشيرية وإحياء علوم الدين والسلفي يقتني ابن تيمية وابن قيم.
الملاحظ أن مطبوعات التيارات الثلاثة الأولى هي الكتب الأولى “شعبية” وهذا شيء غير مستبعد إذا علمنا أن التيارات الثلاثة الأولى هي التيارات “الأكثر رعاية” من قبل ولاة الأمر، وإن كان بدأ الإمداد ينحسر عن التيار الأول لأن الخوارجية بدأت تطال ولاة الأمر أنفسهم فهذا الدعم اللامحدود وتهيء المناخ “الأكاديمي” الذي يخدم انتشار التيار الثاني على وجه التحديد يخلق طلباً على تلك الكتب، وأما التيار الوجداني فهو الأكثر مقبولية لدى العامة لقلة الحاجة للعلم وإجهاد العقل لفهمه، والمرء يميل إلى السهولة كما لايخفى أنه مستساغ من ولاة أمر لما فيه من تحييد العنصر السياسي من محاولات الإصلاح، فمهمة المريد “طاعة ولي الأمر”ولو كان عبداً ذا زبيية، والزهد فيما هو سياسي أقرب للحق لأنه يقسي القلب ويجعل المريد ينغمس في الدنيا تحت شعار “السياسة نجاسة”.
إن التيار المعتدل فيما يبدو هو المرشح لتقديم المخزون التاريخي كتجربة رائدة مرة أخرى وكمنطلق لتجديد أمر هذا الدين، وبذلك تعود الحياة للمعارف الإسلامية، دون استثاراة لـ “النعرات المعرفية” بين التيارات، ولذا يلزمه عنصر الانتشار المقروء والمسموع، حتى تصل الأمة إلى مرحلة الشهود الحضاري وتستفيد الأمة من طاقة كل أبنائها.
لكن للأسف هو تيار غير مأمون جانبه من قبل السلط الحاكمة لأنه لا يفتئ يستثير العقل “مسبب المتاعب” لأن نهضة العقل والحوار البناء سيفرض على الحاكم أن يكون إما مادة للحوار أو طرفاً فيها، وهذا ما لايرضاه في العموم الغالب الحاكم المستبد لأنه “منـزّه عن السؤال” وبنفس الوقت لا يقبل هذا التيار التدجين لصالح سلطة، وهذا يجعل أمر التعامل معه أكثر صعوبة؛ فهو بحق الأكثر قدرة على استيعاب بقية التيارات لكنه بحواره الهادئ لا يتوانى عن النقد البنّاء الذي يطال الجميع بغاية الإصلاح. لكن للأسف فإن المستبد بالسلطة في أحسن أحواله يريد إصلاحاً مهمته استقرار ملكه لا الإشارة للمرض ومعالجته بمبضع معرفي ملائم لأنه ببساطة قد يكون هو وبطانته أحد أهم اسباب المرض وهيهات أن يقبل العلاج.
أما التيار الخامس اللاديني فقد استخدمت السلطات المستبدة بعض أبنائه كأداة لتدجين الشعوب وقمعها أحياناً، تارة باسم القومية وأخرى باسم الماركسية حتى أفقدتها قاعدتها الشعبية. ولكن هذا التيار يعمل أحياناً كذراع للـ”الآخر” السياسي في المنطقة، فيشنُّ الحاكم على روادها حرباً شعواء، والتاريخ المعاصر مليء بالأمثلة على اضطهاد الشيوعيين ومؤخراً الليبراليين بتهم تتراوح بين “عملاء الاستعمار” إلى “عملاء الامبريالية” وتشويه “السمعة الوطنية”. أما على الصعيد الشعبي فقراءة مطبوعاتهم تحتاج إلى ثقافة من نوع خاص لأنها تحفل باصطلاحات “إفرنجية” أو فلسفية أحياناً مما يجعل معه انتشار كتبهم بين العامة أمر شبه مستحيل خاصة إذا علمنا أن الخطباء على المنابر يحذرّون “أبناء الأمة ” من قراءة كتبهم أو الاختلاط بهم كونهم “شرذمة” من “العلمانيين” و “الضالين” و “المطرودين من رحمة الله”، فيشكل هذا حصاراً لا يستهان بحجمه يمنع من انتشار”عدواهم المعرفية” للقّراء المولعين بالتاريخ.
إن هذه العجالة لن تكفي لإعطاء الموضوع مايستحق من أهمية لأنه يحتاج لدراسات أكثر عمقاً وتتطلب إحصائيات تفيد معرفة الفئات العمرية من أبناء كل تيار وعدد مطبوعاتهم وحصر المفكرين ضمن تياراتهم، وبعدها إجراء الدراسات الرقمية- بأخذ عينات عشوائية – التي تفيد حجم انتشار كل تيار عبر الزمن لنقارن مثلاً معه حجم انتشار أي من هذه التيارات ومناطق “نفوذها”، وليدرس الباحثون الاجتماعيون الأسباب الرئيسية وراء انتشار هذا التيارأو ذاك وكيفية ضبطه أودعم انتشاره، وذلك بالاستعانة بالمفكرين الاسلاميين وغير الإسلاميين وعلماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة والنفس والتاريخ، كي يتم تشخيص حقيقي لكل تيار، وعندها فقط تتحقق ثمرة هذا البحث بالشكل المطلوب.***
________________________
*ليس هناك فائدة من ذكر أن علياً كرم الله وجهه حمل باباً كمتراس أثناء القتال ولم يستطع سبعين رجلا حمله بعد الانتهاء منه، أو أن رابعة العدوية بكت حتى انسدت مجاري بغداد! أو غيرها من محاولات إسباغ نوع من “الاسطورية” على عظماء الأمة لا يحتاجونها حقيقةً، لأن عظمتهم واضحة بالنص التاريخي الصريح والموثقّ، ولايحتاج لأي إضافات “للتثوير الشعبي”.
**لازالت الأمة – بحجة التقليد والامتثال لظاهر النص دون مقصده – مشغولة في مسألة اختلاف المطالع، ويصوم ويفطر المسلمون في كل بلد بشكل مختلف – ولو استطاعوا لأدّوا الحج بمواقيت مختلفة – ولو ضمن منطقة جغرافية واحدة بحجة الرؤية العينية، وكأن لدى الأمة أكثر من قمر، أو أن الرعيل الأول رضوان الله عليهم كانت لديهم المراصد الفلكية ووّفروها وزهدوا في الأقمار الصناعية في تحديد ولادة القمر بالثانية، فمالذي يعيق وحدتهم اللهم إلا الانتماء إلى إحدى التيارات الآنفة الذكر التي تلغي “الذات الحضارية” من حيث هي تتباكى على إعادة الحيوية لها، وتكرس “تحييد العقل” بحجة أننا أمةٌ “أميةّ”، وكأن الإقرار بأن أمة الرعيل الأول كانت أميّةّ دليل على “مباركة الجهل” حاشى الرسالة السماوية، وليس دافعاً لـ “محو الجهل”.
***للأسف فإن هذا لايتم إلا برضى الحاكم والذي قد لاتكون له كبير مصلحة في السماح أو دعم هذه الدراسات فتبقى هذه الدراسات معطّلة حتى تنالها عين السلطان بالرعاية، ويظل العالم الإسلامي في تخبط لايدرك كيفية تشكل التيارات المعرفية فيه ولا حتى كيفية توظيفها توظيفاً يرفع شان الأمة حتى يسمح المناخ السياسي.

جدول العلاقات بين التيارات الفكرية الخمسة في العالم الإسلامي:

 

التيارات الخمسة التي تقتسم العالم الإسلامي*

*تتفرع عن هذه التيارات تيارات سبعة :خوارجي وجداني، خوارجي نصي، وجداني معتدل، وجداني لاديني، وجداني نصي، نصي معتدل، لاديني معتدل.
نقلاً عن مجلة الرشاد

كُتب في المناهج | التعليقات على التيارات الفكرية السائدة في العالم الإسلامي مغلقة

المهندس نجاد برانكوفيتش

خطب مدلهم أسود , ليل كثيف قاتم يجثم على الأيام والأحداث , وفي صدر الأمة الإسلامية العاري تشخب الجروح دماً , وهناك جرحٌ مازال ينز , والقلب منه يئن رغم مرور بضع سنين , هل أبصرته؟ إنه شلال الدماء في البوسنة!

حدق بالجرح ملياً ففيه يعشش الموت وحوله تنتثر المأساة , لكن,حدق ثانيةً بعمق , ففي أغوار الموت هناك مَن يضيء مشاعل للحياة , هناك مَن يصنعها بصمت ويغذيها بإخلاص تاركاً بصماتٍ مسلمةً على جدار السنين , واضعاً لبنةً إبداعيةً إسلاميةً وبصمة تفوق لا تمحى على جبين الأمجاد , نعم , إن من أعظم المبدعين رجالٌ يجيدون الإعمار في جحيم الخراب , ومن رحم الموت يصنعون الحياة. ويبدو الشاهد في هذه القصة جلياً ، ولا يظننها أحدٌ ضرباً من خيالٍ وإن بدت كذلك , ففيها يتتأجج لهيب الحرص على الأمة ويتدفق الإيمان ويتقد العقل وتظهر عظمة الأيدي التي تقاوم وتبني ولا تعرف المستحيل.

تبدأ قصتنا من جسر نهر (درينا) القريب من قرية (فيتشوجراد) بالبوسنة , فهناك طفل صغير وقف يرقب صفحة النهر و الجسر يظللها بعينين دامعتين , كان يعلم أن مياهه اختلطت بدماء المسلمين سنين عديدة , لقد أخبروه وهو صغير أن اثنا عشر ألف مسلم ذبحوا في قرية (فوتشا) وألقيت جثثهم في النهر! لكنه يحس بالمرارة اليوم أكثر , فلقد فقد أباه! قتله الصرب في سراييفو حيث أُرسل إلى العاصمة في مهمة ولم يعد منها , فبقي الطفل وحيداً مع أمٍ وأخٍ شقيق كتب عليهم أن يصارعوا الحياة وحدهم , وتمر الأيام مسرعة ليغدو ذاك الطفل (نجاد برانكوفيتش) مهندساً من ألمع المهندسين , إنه يتخصص في بناء الجسور ويبرع في مجاله ويشارك وهو مازال مهندساً ناشئاً في بناء سبعة وثلاثين جسراً على التوالي مما أكسبه خبرة عريضةً في ذلك , لقد انتقل إلى سراييفو وحصل على منزل متواضعٍ مناسبٍ لعائلته الغضة بعدما أنجب ابنه (عدنان) إنه يحبه جداً , لكن الصغير يبكي وينتفض برعبٍ ويصرخ في أهله : “لماذا أنجبتموني لأعيش في هذا الجحيم؟” عن أي جحيمٍ تتحدث أيها الصغير؟ إنها الحرب التي اندلعت شرارتها فأرعبت الصغير و أذهلت الشيخ الكبير ؛ انفجارات وحرائق وقذائف تهز الأبنية وتخترق جدرانها ونوافذها فتقتل الأهل والجيران والأحباب, لكن تلك العبارة تطن في أذن نجاد وتزق نياط قلبه , لقد انفجر باكياً وهو يحتضن ابنه ويقول له : “إن الله معنا ولن يتخلى عنا!”.

نجادٌ جنديٌ اليوم في الجبهة مع كل أقرانه من الموظفين المدنيين الذين تحولوا إلى جنودٍ يدافعون عن سراييفو والبوسنة التي لم يكن لها جيش! وحين دمر الصرب خطوط السكة الحديد المؤدية إلى مدينة (موستار) , كان (نجاد) في مقدمة الذين طلب منهم ترميم تلك الجسور , غير أنه فوجئ ذات يوم بالجنرال (رشيد زورلاك) -قائد الإمدادات- يستدعيه ، ويصدر إليه الأمر بإعداد تصميمٍ لنفقٍ سريٍ تحت مدرج المطار يصل ما بين منطقتي (دوبرينا) في شمال سراييفو و (بوتميرا) الواقعة في منطقةٍ يسيطر عليها المسلمون وراء الخطوط الصربية. إن (سراييفو) تختنق , وما لم يتوافر منفذٌ يوصل المؤن والأغذية للمدينة فإنها لن تستطيع الاستمرار في المقاومة! لم ينم نجاد ليلته تلك ,كان صوت ابنه يطن في أذنيه حاثاً له , وطيف أبيه يشد على يده مؤيداً ، وجسر نهر(درينا) المصبوغ بدماء الأبرياء يلوح من يعيد وتلوح معه الفكرة , إن عليه أن يعاين الموقع بنفسه ليحدد مكان النفق , لكن المشكلة أن المطار والمدرج ضمناً يقعان تحت سيطرة القوات الصربية والدولية , والمنطقة مليئة بالأسلاك الشائكة والصرب يطلقون النار على كل من يحاول عبور المدرج ، و(نجاد) لا يتعين عليه قطع المسافة من (دوبرينا) إلى الجهة الأخرى والبالغة أربعمائة وخمسين متراً فقط , بل يجب أن يعود من حيث ذهب , مما يضاعف المغامرة! وأخيراً وجد الحل وعرضه على المهندس (باقر) ابن الرئيس (علي عزت بيكوفيتش) , لصلة ٍسابقةٍ معه , إنهم سيركضون بثياب الرياضة بين النقطتين كمن يقوم برياضة الصباح , ولقد فعلوها أربعاً وعشرين مرة , وفي كل مرةٍ كانوا يتعرضون لإطلاق النار! لكن الله كان يحرسهم ولم يتخل عنهم . خلال شهر كان قد انتهى من تصميم النفق وإعداد الدراسات اللازمة واقترح أن يتم الحفر من الجانبين في وقت واحد ليلتقي في نقطة معينة , وألا يكون النفق مستقيماً وإنما منحرفاً في شقٍ منه للتمويه على الصرب , لكن متخصصين آخرين شككوا في إمكانية نجاح الفكرة. استمع الرئيس (علي عزت) إلى كل الآراء وأخيراً أيد رأي المهندس نجاد , وفي الثاني عشر من كانون الثاني عام 1993صدر الأمر بالبدء في حفر النفق , كان الأمر حافلاً بالصعوبات , فالأمن والتخفي هي المشكلة الأولى , إخفاء الأتربة التي يستخرجونها من بطن الأرض والتي قدرت بثلاثة آلاف مترٍ مكعبٍ ونقص الإمكانات هو المشكلة الثانية , وكل ما توافر هو وسائل بدائية ، وإضافةً إلى ذلك مشكلات التنفس والتهوية والإضاءة , وإمكانية وقوع مفاجآت مثل ظهور المياه أو الاصطدام بالصخور , والعاملون معظمهم من كبار السن لأن الشبان الأقوياء كانوا على الجبهة , لكن المسألة كانت مسألة صمودٍ أو هزيمة! بل بقاءٍ أو فناء! كان عليهم أن يحفروا مسافةً بطول خمسمائة متر بين نقطتي الدخول والخروج , وأن يكون ذلك تحت سطح الأرض بثمانين سنتمترا ًو أن تنجز المهمة في أربعة أشهر ٍ, لكي يتم ذلك يجب الحفر في كل يوم خمسة أمتار ، وهذا يعني تواصل العمل طيلة أربعٍ وعشرين ساعةً وهو ما حدث بالفعل , قام به مائة وعشرون جندياً , ستون على كل جانب , ولم يكن ما جرى خارج النفق أقل إثارةً فقد هرب أحد الجنود الصرب الذين كانوا يعملون مع اللواء الميكانيكي البوسني وأخبر الصرب بخبر النفق , ولكن من رعاية الله أن العمل كان في أوله فاستطاعوا أن يعرفوا موضع الحفر دون وجهته , فما كان منهم إلا أن أمطروا نقطة البدء في (دوبرينا) بالقاذفات ، ولم يصيبوا الهدف لكفاءة التخفي في الجانب المسلم , وظهرت حسنة (نجاد) باقتراحه جعل النفق مائلاً عندما أحضر الصرب الجرافات التي ظلت تدق الأرض في النقطة الواصلة يشكلٍ مستقيم مع بداية النفق والواقعة تحت سيطرتهم في منطقة المدرج ولكن دون جدوى , ولفتة ٌطريفةٌ كريمةٌ أخرى من (نجاد) ظهرت في مخطط النفق , ذلك أنه كان بعرض مترٍ واحدٍ وارتفاع 160سم من (دوبرينا) و180سم من الناحية الأخرى من (بوتميرا) مما يسمح للشخص العادي بالمرور, لكنه عندما يريد الخروج من الطرف الثاني فلا بد أن ينحني قليلاً وحين سئل نجاد عن سبب ذلك قال ضاحكاً :”لكي يحني كل واحدٍ رأسه وهو داخلٌ إلى سراييفو”. اقتربت اللحظة الحاسمة في السادس والعشرين من تموز , يوم اللقاء المفترض للحفر , وعلا وجيب قلب نجاد وهو يستمع لدقات الحفر على الجانب الآخر ويتخيل الرئيس علي عزت في جنيف ، وانتظاره للخبر الذي سيحدد مصير المفاوضات , كان يتصل باستمرار ليستعلم النبأ , لكن اليوم المرتقب قد حل ولم يلتق الطرفان , من يحمل مثل قلب نجاد يدرك أي ألم يعتصره الآن , إنه يدخل في النفق يقف عند آخر نقطةٍ يتأملها و يفكر ثم يخرج , ثم يدخل ثانيةً , طيلة أربعة أيام مرت كالدهور صارع خيبة الأمل التي كادت تمزقه ، وأقلقه وقض مضجعه تعلق مصير المفاوضات-التي تعمد الرئيس علي عزت إطالتها في جنيف- بنجاح عمليته , لكنه في مساء اليوم الرابع لاح له الأمل مع قطعة السيخ التي اخترقت التراب من الجانب الآخر , إذاً لقد نجحوا!

طار (نجاد) على جناح البشرى ليزفها للرئيس , لقد اخترقوا بعون الله حصار سراييفو , واتخذ الرئيس علي عزت موقفاً متشدداً رافضاً التنازلات , الفرحة والدهشة تعم العاملين في النفق , فقد كان اللقاء في النقطة المحددة تماماً دون أن يحيد ولو سنتمتراً واحداً , وهو ما يعد معجزة هندسية في حفر يتم من اتجاهين , وبسرعة وهمة مدت القضبان الحديدية في النفق ومضت عليها العربات تحمل الذخيرة والمؤن والنجاة لسراييفو , تلك النجاة التي عبرت على جسد (مجيد عاريفوفيتش) أحد الحفارين الذي بدأ العمل بحماسة من (دوبرينا) وكله أمل برؤية زوجه وابنه الذي ولد بعيداً عنه في (بوتميرا) لكن قذيفةً صربية أوصلته إلى الجنان ، وأشعلت بروحه الطاهرة وجثته الممزقة , نار العزيمة والتصميم العنيد في (سراييفو) وبثت روح المقاومة والثبات في مئات الآلاف من المحاصرين والجياع! أ فتخفى على الناظر لبنةٌ مضيئةٌ كهذه اللبنة وآلاف غيرها مازال المبدعون المسلمون يعمرون بها صرح الحياة ، ويصنعونها بإخلاص مذهل وصمت عجيب

الكاتب : الأخت الفاضلة ريم نقلاً عن مجلة وا إسلاماه

كُتب في مقالات القراء, منائر | التعليقات على المهندس نجاد برانكوفيتش مغلقة