ثمار (النهضة).. كيف تنمو والبذور نائمة في جيوبنا!!

بقلم الفاضلة : ريما الحكيم

حين نسمع بتجارب بعض الناجحين، فإن – سلبيتنا في التعامل مع الأمور – للأسف؛ تجعلنا ننظر إلى نجاحاتهم بانبهارٍ يعمينا عن رؤية الحقائق التي بإمكاننا عن طريقها أن نسير على طريق النجاح مثلهم.. تلك الحقائق التي جعلها الله سنناًً كونية لا يمكن الوصول إلى النجاح دونها..
ولكي أُقَرِّب الفكرة التي أريد طرحها إلى الأذهان، سأطرح فكرة نجاح (رجب طيب أردوغان) رئيس الوزراء التركي، في تحقيق نهضة محتملة للإسلام في بلاده مع أنها كانت طوال حوالي 100 عام بلاداً علمانية، الإسلام فيها مُحاربٌ ومنبوذٌ من قِبل النظام والحكومة، مع كونه موجوداً وبقوة في الساحات الشعبية والفردية بين الناس..
يقول البعض: نجح (رجب طيب أردوغان) في إعادة المحجبات إلى الجامعات بعد أن كُنَّ يُمنعن من دخول الحرم الجامعي لمجرد كونهن محجبات.. أو يقول: نجح (أردوغان) في إعادة اللغة العربية لغةً تُدرس في الجامعات بعد أن منع (مصطفى كمال أتاتورك) الناس من التعامل بها مطلقاً بشكل رسمي.. أو نجح (أردوغان) في إعادة أماكن تحفيظ وتدريس القرآن إلى العمل بعد أن كانت لا تمارس دورها إلا في الخفاء منذ أعوام طويلة جداً، أي منذ أن أغلقتها الحكومة الأتاتوركية عام 1930م، حيث لم يتم فتحها بعد ذلك إلا عام 1947م ولكن دورها كان خجولاً وبسيطاً…
كلامهم كله صحيح، وانبهارهم بنجاح هذا الرجل الطيب انبهارٌ متوقَّعٌ في ظل الأزمات التي نمر بها، والتي تحاول الإطاحة بهويتنا الإسلامية..
لكن المشكلة تكمن في حالة الانبهار المزمن التي نعاني منها.. حالة الانبهار الذي يشلنا عن تحليل المقدمات وتفكيك الأساليب للوصول إلى النتائج.. هنا تكمن مشكلتنا..

لقد نجح (أردوغان) في تحقيق صورة الرجل المسلم الطموح الفعال الإيجابي، الذي يعمل من أجل دينه ووطنه معاً، والذي استطاع أن يصل إلى منصبٍ حكوميٍ تمكن من خلاله من تحقيق العديد من الأمور التي كان يطمح لفعلها المسلمون الأتراك.. نجح أردوغان في كل ذلك.. ونجح في جعل العيون ترنو إليه وتنظر إليه بإعجاب كونه تمكن من تحقيق حلم طالما حلمنا به..
ولكن.. لماذا ننظر إليه على أنه رجلٌ فرد تمكن من كل ذلك؟؟
لماذا نسمع البعض يقول: إنه أول من تمكن من ذلك بعد عقود من السيطرة العلمانية التركية المحاربة للدين في البلاد؟؟!!
هل هو الأول فعلاً؟؟ هل كان الوحيد فعلاً؟؟
إن قراءتنا لقصة صعود أردوغان إلى منصبه الحالي تخبرنا عن الأسس التي قامت عليها النهضة الإسلامية الحالية في تركيا..
فالنجاح الحالي ليس وليد الأعوام القليلة السابقة فقط، إنما هو وليد عمل وجهد استمر منذ أكثر من 90 عاماً..
فبعد السقوط المروع للخلافة العثمانية عام 1924م، وبعد استلام (أتاتورك) للحكم وسيطرته على البلاد ومحاربته للإسلام، بدأت تظهر بذور النجاح التي نراها في وقتنا حين ظهر المجدِّد العظيم بديع الزمان سعيد النورسي، الذي أعلن بوضوح رفضه لمبادئ العلمانية التي أتى بها أتاتورك، فنُفِي وظل في المنفى طيلة حياته حتى مماته، وذلك من سنة 1925م إلى سنة 1960م (35 سنة متصلة)، ومع ذلك فرسائله إلى أتباعه في داخل تركيا لم تنقطع، والتي عرفت بعد ذلك باسم (رسائل النور)، ومؤلفاته لم تتوقف، وهو أحد أهم أسباب انتشار الإسلام في تركيا، وهو من العلامات الفارقة في تاريخ الأمة الإسلامية؛ فقد كانت كلماته تنفذُ إلى القلب والعقل، فتثبِّتُ المسلمين في تركيا على الرغم من القهر الشديد لأتاتورك وأتباعه.. وآثاره الحميدة على الشعب التركي ما زالت موجودة إلى الآن….
ثم في سنة 1950م حدث تغيرٌ مُهِمٌّ في الحكومة التركية صعد على إثره عدنان مندريس إلى رئاسة الوزراء في تركيا، وظل في منصبه إلى سنة 1960م، ولم يكن عدنان مندريس إسلاميًّا [؟] ولكنه كان وطنيًّا يُظهِر إمكانية التعامل مع كافة القوى من أجل مصلحة تركيا. وفي هذه الظروف نشط الاتجاه الإسلامي نسبيّاً، وبدأت هناك بعض المطالبات بحريات أكثر وأكثر للتيار الديني، وزادت أعداد مدارس الأئمة والوعاظ، وبرز دور علماء الدين بشكل أوضح. فقام الجيش بانقلاب دموي رهيب في سنة 1960م، ونفذوا حكم الإعدام في عدنان مندريس، وكذلك في جلال بايار (مؤسس الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه عدنان مندريس) وفي عدد من أتباعه، مع التصدي بمنتهى العنف للتيارات الإسلامية المتنامية، وكانت هذه صدمة كبيرة للحركة الإسلامية في تركيا، خاصةً أنها جاءت في وقت متزامن مع وفاة العلاّمة بديع الزمان النورسي رحمه الله تعالى..
إن صدمةً من هذا النوع عادة توقف العمل وتجمد الأفراد كما رأينا وشاهدنا من أمثلة في تاريخنا الإسلامي، لكنها لم تفعل ذلك في تركيا، وظل الوضع على صورته القاتمة هذه إلى أن برزت شخصية محورية في تاريخ تركيا، وهو القائد الإسلامي نجم الدين أربكان، الذي قام بتأسيس حزب السلامة سنة 1972م، وكان ينادي بإقامة “النظام العادل”، ويبرز آفات العلمانية التركية المتشددة..
وبعد تأسيس هذا الحزب الجديد التقى نجم الدين أربكان مع رجب طيب أردوغان، وأعجب به إعجاباً شديداً وضمَّه إلى حزبه السلامة؛ ليبدأ أردوغان خطواته السياسية مع أربكان. وقد قام النظام التركي العلماني بحلِّ حزب السلامة في سنة 1980م، وظنُّوا أن الأمر انتهى بهذا القرار، فعاد أربكان وأنشأ حزباً آخر سنة 1983م أسماه حزب الرفاه، والتي كانت توجهاته إسلامية بشكل واضح.. في هذا الحزب الجديد لمع نجم أردوغان بسرعة، وصار أردوغان رئيساً لفرع الحزب في إسطنبول سنة 1985م (وكان عمر أردوغان آنذاك 31 سنة فقط)… وبعد ذلك تأسَّس حزب الفضيلة عام 2000م، ومن ثم حزب العدالة والتنمية عام 2001م..

وبعدها توالت الأحداث حتى وصل أردوغان إلى أن يصبح (رئيس وزراء تركيا) صاحب المنصب التنفيذي والتشريعي والسلطوي الأعلى في البلاد…
إننا بقراءتنا السريعة لتلك الأحداث نعلم أن حزب العدالة والتنمية لم يكن وليد عام 2001 فقط، بل كان ثمرة لبذرةٍ زُرِعت منذ كان سعيد النورسي في سجنه يكتب رسائل النور لطلابه ويبث روح الأمل للمسلمين المقهورين في تركيا جراء النظام العلماني التركي الظالم لهم، بدأ النورسي بزرع البذور وسقيها.. لم يهمه أن يرى النتيجة حالاً، لم ينتظر أن تنمو البذور بعد عام أو عامين، لم يكن يكتب لطلابه وهو موقن أنه سيخرج ليجدهم قد حققوا حلمهم بالانتصار على من يعادي الدين.. لا.. كل ذلك لم يكن من همومه..
إنما كان همه الأول هو البذرة الأولى.. البذرة التي أوصلت تركيا، إلى تركيا 2010 التي نراها في يومنا الحالي.. تركيا المسلمة التي استطاع رئيس وزرائها أن يعيد الإسلام للظهور على ساحتها الفاعلة من جديد، وبشكل حضاري متسامح بعيد عن التعصب والانغلاق..
تركيا أردوغان اليوم.. هي ثمرة تركيا النورسي عام 1925.. مروراً بمندريس رحمه الله، وأربكان.. وصدماتٍ عديدة، وجولاتٍ خاسرة متعددة، وأحزابٍ حُلَّت، وأحزابٍ نشأت.. وأفراد قتلوا، ومشاريع فشلت..
والنتيجة: تركيا المسلمة التي نعيش اللحظة انبهارنا بها دون أن نأخذ منها الدروس والنتائج والعبر كي نسير على طريقها الناجح…

لنكن منطقيين…
ولنترك التفاؤل (الغبي) لأهله…
إننا ما دمنا ننظر بهذا الانبهار فستعمى عيوننا مع الأيام ولن نستطيع مواصلة الطريق..
وما دمنا أولاد اللحظة فقط، وما دمنا ننتظر النتائج الصغيرة، وما دمنا لا نفعل أي أمر حتى نضمن حدوث النتيجة في حياتنا.. فلن ننجح.. نعم لن ننجح..
أنا لا أتكلم بتشاؤم.. لكنني أرفض التفاؤل (الساذج) الذي يجعلنا نعيش أحلامنا بالنجاح دون أي فعل عملي وتطبيقي كي ننجح..
أتكلم من الواقع الذي يحيط بنا، بمقارنته مع ماضينا، لنستنتج النتائج الموصلة..
إن الله سبحانه قد وضع سنناً كونية للحياة، ولن يخرق هذه السنن لأجل (عيون) أحد، حتى لو كنا نحن (المسلمين) الذين ننظِّر بأننا نريد تحقيق النهضة المنشودة ونسعى وراء ولادتها.. و(الطفرات) ليس موجودة بشكل دائم، ولا يجوز لنا انتظار واحدة منها ترفعنا إلى القمة من العدم.. و(الخوارق والمعجزات) انتهت بوفاة آخر الرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم…
وإن لم نعمل.. فنحن ها هنا قاعدون..
الإسلام محفوظ.. نعم..
والله سيحمي أهل دينه.. نعم..
لكن المشكلة أننا بتنا نتكل على هذه الأقوال دون الإيمان بها حقيقة (وحقيقة الإيمان هي التطبيق العملي لا مجرد وجود الفكرة في الذهن).. نتكل على وجودها ونترك تحقيق النهضة للأيام… دون أي عمل..
وإن بقينا هكذا.. يؤسفني أن أقول.. بصدق.. أننا: لن ننهض…
لا.. لن ننهض.. لن ننهض!!!!
وسنبقى على حالنا هذه أجيالاً بعد أجيال..
الأجيال السابقة لم تزرع لنا.. فبقينا كما كانوا..
ولأننا لا نرى بشائر لثمارنا، فإننا لا نزرع للأجيال القادمة.. فسيبقون كما نحن الآن..
وسنبقى على هذه الحالة.. جيلاً بعد جيــل….
لا نحن نزرع.. ولا هم زرعوا..
والبذور تموت في العقول..
والحساب يوم القيامة…
نسأل الله العافيـــة!!!!
………………….
ومضـــة:
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) [العنكبوت:69].
لقد ربط الله هداية الإنسان إلى السبيل الصحيح بالجهاد، والجهاد المقصود هو الفعل، لا مجرَّد القول والاقتناع بفكرة ما، فلكل منا طريقته في العمل كي يُهدى إلى السبيل المستقيم، ولكل منا دوره في صناعة النهضة..
وحركة التاريخ [كما يقول مالك بن نبي رحمه الله]
إنما تصنعها آلاف الجهود الصغيرة التي لا نلقي لها بالاً…
ريما الحكيم

كُتب في المناهج | التعليقات على ثمار (النهضة).. كيف تنمو والبذور نائمة في جيوبنا!! مغلقة

سؤال التجديد في الخطاب الإسلامي

مختصر كتاب :

يقدم هذا الكتاب رؤية للخطاب الإسلامي المعاصر كما في نصه وتعبيراته بهدف طرح سؤال التجديد وصياغته وبلورته على نحو يتفق مع أهمية هذا المطلب وإلحاحه، ومحاولة الوصول إلى نظرية محددة للتجديد تكون أشبه بالنظام المعرفي تساعد على التواصل مع العالم

ربما يكون أمين الخولي أول من طرح مفهوم التجديد في الدين بمعنى الإصلاح والتغيير، وذلك في عام 1933 في مجلة الرسالة المصرية، وقبله استخدم السيوطي مصطلح التجديد بمعني الاجتهاد.

وارتبط المصطلح أيضا بمعنى الإحياء، كما في كتاب المفكر الهندي وحيد الدين خان “تجديد علوم الدين” وقبله الكتاب الشهير “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي.

وحفلت الحياة الفكرية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالرد على المستشرقين حول إمكانية التجديد في الدين وملاءمته لكل زمان ومكان، وربما يكون كتاب عبد المتعال الصعيدي “المجددون في الإسلام” وكتاب محمد إقبال “تجديد الفكر الديني في الإسلام” من أهم ما يعبر عن هذه المرحلة.

وفي سياق العمل على إصلاح الواقع العربي والإسلامي المأزوم قامت محاولات لإعادة النظر في التركيبة الفكرية والاجتماعية والسياسية لهذا الواقع، ونشأت جماعات ومؤسسات وبرامج تتمحور حول نفس الفكرة أي التجديد.

الخطاب الإسلامي المعاصر

يعرض المؤلف مجموعة من الرؤى والاجتهادات في مجال التجديد، محمد عابد الجابري ونظام القيم في الثقافة العربية والإسلامية، وسيد قطب وكتابه معالم في الطريق، ومحمد أركون في نقد العقل الإسلامي، ولؤي صافي في تجديد الخطاب بإعمال العقل، وعبد المجيد الصغير في المعرفة والسلطة وإشكالية التأسيس الأصولي، وعبد الجواد ياسين في نقد العقل الفقهي السلفي، وطه عبد الرحمن في فلسفة الدين أو خطاب القول الإنشائي، وهشام جعيط في إشكالية العلاقة بين الإسلام والحداثة، ونصر حامد أبو زيد في تأويل التراث في التوظيف الأيديولوجي، وأبو يعرب المرزوقي في النهضة المستحيلة، قراءة المستقبل بعيون الماضي.

الإسلام والحداثة السياسية

“مع بداية الاستقلال ونشوء الدول الوطنية نشأ فكر آخر يؤسس لفكر الدولة الإسلامية، بدءا بمقولات “الحاكمية” أو “الحل الإسلامي” أو “الصحوة الإسلامية”، وتبدو هذه المرحلة في نهايتها اليوم”

مر الفكر الإسلامي بمراحل عدة تبعا لموقفه من الغرب، ففي بداية الاتصال العربي الإسلامي – الغربي شهد الفكر الإسلامي حالات من الانكفاء على الذات والمراجعة، وهو الفكر الذي سمي الإصلاحي، ومن رواده رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ويمر هذا المسار بعدد كبير ينتهي بسيد قطب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) ومصطفى السباعي (اشتراكية الإسلام).

ومع بداية الاستقلال ونشوء الدول الوطنية نشأ فكر آخر يؤسس لفكرة الدولة الإسلامية، بدءا بمقولات “الحاكمية”، أو “الحل الإسلامي” أو “الصحوة الإسلامية” وموجة الأسلمة، الأدب الإسلامي، والمسرح الإسلامي، والإعلام، وتبدو هذه المرحلة في نهايتها اليوم، وهي متجهة إلى فكر المصالحة الذي يدور في فلك الشورى والديمقراطية وحقوق الإنسان.

لقد شكل الإسلاميون منذ ظهورهم وزنا جماهيريا يصعب تجاهله أو اعتباره هامشيا لا قيمة لوجوده ولا أهمية لوزنه، وامتلك خطابهم قدرة هائلة على الحشد والتجييش وجمع الأنصار، مما استدعى دراسة هذا الخطاب وتحليله ومقارنة معطياته بالمفاهيم السياسية الحديثة كالديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان.

يعتبر هيثم مناع في كتاب (الأصوليات الإسلامية وحقوق الإنسان) أن الأصوليات الإسلامية جميعها استمدت مرجعيتها من أبو الأعلى المودودي، إذ يمثل الأب الروحي لهذه الحركات، وبناء على ذلك فإنه يستحضر المودودي دائما في قراءته لعلاقة الإسلاميين بحقوق الإنسان، فالإخوان المسلمون وعلى رأسهم الخطاب المتميز لسيد قطب يجد جذورا له لدى المودودي.

وتقوم الأيديولوجية المودودية كما يسميها على قاعدتين أساسيتين، الأولى اعتبار الثوابت الفطرية للإنسان، فالإنسان مخلوق ولخلقه حكم إلهية لذلك فهو بطبعه مفطور على التبعية، وأما القاعدة الثانية فهي الإلوهية، فالإنسان من منطلق العجز والتبعية يحتاج إلى من يعرفه على نفسه ومصلحته.

وبناء على ذلك يبنى المودودي تصوره عن الدولة الإسلامية التي تنحصر في أربع نقاط، الأولى: اعتبار الدولة الإسلامية دولة فكرية كل إنسان فيها يقبل بالإسلام. والثانية: أنها دولة توتاليتارية. والثالثة: أنها دولة تقوم على الحاكمية لله والخلافة للإنسان الذي يتمتع بحاكمية مقيدة تحت سلطة الله القاهرة، والرابعة هي الشمولية المودودية كما يسميها مناع، وتعني ربط السلطات الثلاث بالحاكم، ورهن السلطة القضائية بالاعتقاد، وإلغاء حق الدفاع ومهنة المحاماة.

لذلك يعتبر أن دولة المودودي المنشودة لا تقدم أية ضمانات على صعيد الحريات والحقوق السياسية والمدنية والثقافية وتعتبر القسر وسيلة تربوية رادعة وتؤمم الحقيقة، وهي إضافة إلى ذلك تلبس طبيعتها التوتاليتارية ثوب القدسية والإسلام.

وأما الباقر العفيف في كتابه “حقوق الإنسان في فكر الإسلاميين” فيصنف الإسلاميين إلى فئات متعددة بناء على موقفها من حقوق الإنسان.

فهناك المنهج الإخفائي، ويمثله المودودي، والترابي، ومحمد عمارة، فهؤلاء يؤمنون بالسيادة المطلقة للمبادئ الإسلامية حسبما جرى شرحها وتقعيدها بواسطة الفقهاء الكلاسيكيين على جميع المبادئ الأرضية الأخرى.

والمنهج الاعتذاري، ويمثله محمد أحمد سعيد، يوافق الإخفائيين، لكنهم لا يتفادون القضايا التي تثير الجدل، بل يواجهون الأسئلة المحرجة ويحاولون الإجابة عليها، كحق المرء في تغيير دينه، وحق المسلمة في الزواج من غير المسلم، وتفسير تعدد الزوجات.

والمنهج الثالث هو الدفاعي الذي لا يبدو أصوليا، لكنه يستخدم هذا المنهج في دراساته عن الإسلام، والمنهج الرابع هو الصريح، ويعبر عنه سلطان حسين طبندة الذي يطابق طرحه مع موقف الفقه التقليدي في قضية الردة وتعدد الزوجات وغيرها من حيث كونها أمورا لا يجب الخروج عليها.

ولذلك يرى أن النقاش مع أصحاب هذه المنهج أيسر وأنفع من النقاش مع الآخرين، والمنهج المراوغ يعيش أتباعه أزمة نفسية شائكة لم يجدوا معها وسيلة تبقيهم على السطح سوى المراوغة.

إن دراسة الخطاب الإسلامي وعلاقته بحقوق الإنسان بحاجة إلى توسيع لشريحة النصوص أكبر مما تقوم به النخب الأكاديمية العلمانية، وحيادية في التناول تمنع من التصنيف المبسط المتبع.

الحركة الإسلامية والمصالحة مع الديمقراطية

تبدو لدى عدد من المفكرين العرب والغربيين ثمة قطيعة بين الإسلام والديمقراطية وأنهما لا يمكن أن يلتقيا وتبدو للآخرين شقيقة الشورى الإسلامية، وتنبعان (الشورى والديمقراطية) من مشكاة واحدة.

وفي كتابهما “الإسلام والديمقراطية” يحاول جون إسبوزيتو وجون فولي قراءة الحركات الإسلامية في ضوء علاقاتها الاجتماعية والسياسية، وضمن بيئتها وظرفها الاقتصادي مجتنبا قدر الإمكان إطلاق تعميمات خرافية كتلك التي تحاول أن تنفي الدين عن طريق رفض تطبيقه.

يرى إسبوزيتو أن الحركات الإسلامية تتميز بكونها عناصر فاعلة تبادر إلى الفعل بدلا من أن تستجيب بردود أفعالها إلى مبادرات الآخرين، وهي تمثل ظهور بديل اجتماعي سياسي جدير بالثقة.

كما أنها تعكس الطموحات المزدوجة للكوادر الحائزة على التعليم الحديث في المجتمعات الإسلامية، فهي من جهة تطمح إلى المشاركة في العمليات السياسية، وتريد من جهة أخرى أن تتوضح السمة الإسلامية المميزة لمجتمعاتها.

وبناء على ذلك فلا يكفي النظر إلى الحركات الإسلامية ببساطة باعتبارها حركات رفضية أو معارضة ثورية، بل من المهم أن نرى كيف تعمل كأجزاء من نظام متنافر داخليا، وما هي النتائج التي تتبع وصولها إلى السلطة.

ويدرس إسبوزيتو نماذج متعددة للحركات الإسلامية ليتابع مدى قدرتها على التكيف الديمقراطي في مجتمعاتها، فيبدأ من إيران التي يرى أن الأبعاد التشاركية السياسية للجمهورية الإسلامية لا تمثل ما يمكن أن نسميه الديمقراطية، بل إن ممارسات النظام الإسلامي في العديد من المجالات لا تتفق مع تأكيداته الخاصة على الحرية والحقوق الدستورية، لكن الجمهورية الإسلامية في إيران تمكنت من تحقيق قدر أدني من حق المشاركة السياسية، وحق التعبير عن الرأي.

إضافة إلى ذلك فإن التجربة الإيرانية لا تقدم إجابات محددة على الأسئلة المتصلة بالعلاقة بين الإسلام والديمقراطية، لكنها تظهر إلى أي حد أصبحت قضايا الإجماع والمشاركة الشعبية جزءا من الأفق السياسي، وكيف تم توظيفها من قبل كل من الحكومة والمعارضة، وتظهر التجربة أيضا إمكانية تعريف الديمقراطية بطرق مختلفة، فتؤكد بالنسبة إلى بعضهم إمكانية إنشاء ديمقراطية إسلامية.

وتقدم السودان مثالا هاما على صعود الأحزاب الإسلامية إلى السلطة بالانتخابات، وعدم مبادرتها إلى إنهاء التعددية.

لا يقوم الصراع في السودان بين الإسلام والديمقراطية، فطالما شارك الإسلاميون في السياسات الديمقراطية في السودان، وعرفوا نظامهم السياسي المرغوب بواسطة مصطلحات ديمقراطية، لكن الصراع يقع بين الخيارات المختلفة لتعريف وتحديد العلاقة بين الإسلام والديمقراطية في المحيط السوداني.

“سؤال الديمقراطية متوجه بالأساس إلى أنظمة الحكم، فالشكوك تحيط بجدية الحكومات والأنظمة السياسية الحاكمة وتبنيها للديمقراطية أكثر مما تحيط بالحركات الإسلامية”

فبعد فشل الطائفية وضياع فرص العلمانية يبدو الخيار الباقي في السودان هو في نظام غير طائفي متطابق مع الإسلام ويشارك فيه العلمانيون وغير المسلمين، وقد حققت الجبهة الإسلامية القومية بالفعل تقدما في تغيير الطابع الطائفي لسياسات التشارك، لكنها لم تنجح في إدماج العلمانيين وغير المسلمين.

وفي باكستان التي أسست على أساس الإسلام، ونص دستورها على أنها دولة إسلامية ديمقراطية تنفي تجربتها السياسية الصفة الاستبدادية عن الحركات الإسلامية، بل إنها اندمجت في العملية السياسية.

وفي ماليزيا كشفت الأحزاب الإسلامية عن رغبتها واستعدادها في المشاركة السياسية ضمن النظام القائم، وفي أكثر أوقاتها تشددا وفي مواجهتها مع الحكومة لجأت إلى صناديق الاقتراع لتحقيق أهدافها السياسية.

وفي الجزائر أثبتت جبهة الإنقاذ الإسلامية في أثناء نشاطها السلمي أنها مهتمة بالحكم المحلي وإجراء التحسينات والقضايا الرمزية كاللباس والكحول والقمار بدلا من الاهتمام بالتغييرات الجذرية في الدولة والمجتمع والاقتصاد، ولم تكن ضد الديمقراطية أبدا، بل أثبتت التزامها المستمر بالإجراءات الديمقراطية.

ولذلك فإن إسبوزيتو يدعو إلى ضرورة النظر إلى موقف إسلاميي الجزائر تجاه الديمقراطية ضمن سياق أوسع من ردود الأفعال تجاه الغرب والاعتماد على المؤسسات الغربية، وهو يرد الكرة إلى ملعب الحكومة الجزائرية التي ألغت الانتخابات وأنهت الديمقراطية وانقلبت عليها، فاستقرار الدولة لم يكن مهددا كما يرى جون أنتليس وإنما استقرار النظام العسكري الذي كان على طريق الزوال.

إن التجربة الجزائرية طرحت سؤالا مهما حول طبيعة النخب العلمانية وجديتها في تطبيق الديمقراطية والتزامها بها، وقد أكدت أنها تريد ديمقراطية تؤمن مصالحها فقط.

وفي مصر أثبتت الحركة الإسلامية على قدرتها على التعامل مع الديمقراطية إذا سمح لها بذلك.

فسؤال الديمقراطية متوجه بالأساس إلى أنظمة الحكم، فبقدر ما تلتزم هذه الأنظمة بعملية تحول ديمقراطية تكون الاستجابة لها من قبل أغلب الأطراف السياسية ومنها الحركة الإسلامية، فالشكوك تحيط بجدية الحكومات والأنظمة السياسية الحاكمة وتبنيها للديمقراطية أكثر مما تحيط بالحركات الإسلامية.

المؤلف: د.رضوان زيادة

عدد الصفحات: 396

الطبعة: الأولى 2004م

الناشر: بيروت: المدار الإسلامي

كُتب في المناهج | التعليقات على سؤال التجديد في الخطاب الإسلامي مغلقة

تجربتي مع المفكر محمد أركون ….. مقال للدكتور حسان طيان

بكلِّ ما فيه من غَطرَسة وتَعالٍ وصَلَفٍ، صدَّني الأستاذ الدكتور محمد أركون- المفكر الجزائري المسلم- عن مُتابَعة دراستي العُليَا في السوربون؛ حيث كنت موفدًا من مركز الدراسات والبحوث العلميَّة في دمشق لنَيْل درجة الدكتوراه في اللسانيَّات Linguistic في تلك الجامعة الفرنسيَّة العريقة سنة 1986.

وكان الفرق كبيرًا، والبون شاسعًا بينه وبين أستاذي المشرف الأستاذ الدكتور جورج بواس – الباحث الفرنسي المسيحي – الذي منحَنِي مُوافَقته على الإشراف عليَّ، واعدًا بمعادلة شَهادة الماجستير التي نلتُها من جامعة دمشق آنَذاك، ثم استَقبَلنِي في بيته بباريس، واستَضافَني فيه بكرمٍ مُنقَطِع النَّظِير، وقدَّمَني إلى البروفسور محمد أركون- المشرف على برامج الدراسات العُليَا في السوربون – تقديمًا مشرِّفًا، يَلِيق به وبعِلمِه ومعرفته، ويَلِيق بي وبإنجازاتي العلميَّة التي كنتُ قد أنجزتها طِيلَة السنوات السبع التي قضَيْتُها في مركز البحوث دارسًا وباحثًا ومحققًا.

وكنتُ قد قطَعتُ شوطًا لا بأسَ به في تعلُّم الفرنسيَّة؛ إذ قضيتُ نحوًا من ثلاثة أشهر في مدينة فيشي الفرنسيَّة منتسبًا إلى واحدٍ من أشهر مَعاهِد تعليم الفرنسيَّة في العالم، وهو معهد كافيلام cavilam، وأذكُرُ أنِّي عكَفتُ في ذلك الوقت على تعلُّم الفرنسيَّة عُكوفَ العابد في صومَعتِه، والناسِك في معبده، لكنَّ المدَّة لم تكن كافيةً لإتْقان اللغة إتقانًا يُمَكِّن صاحبَه من دراسة فقه اللغة، وعلم اللغة، وأصوات اللغة، أو ما يُدعَى بـ”اللسانيات” Linguistiqu.

فلمَّا قابَلتُ الدكتور أركون مع الأستاذ بواس، اقتَرحتُ أنْ أنتَسِب إلى دبلوم الدراسات العُليَا (DEA) بصفة مستمع لمدَّة عام؛ أتقن فيه الفرنسيَّة من جهة، وأتمكَّن من بعْض مقرَّرات اللسانيَّات من جهةٍ أخرى؛ ليُتاح لي في العام المقبل تسجيل أطروحة الدكتوراه، وما أنْ أتممت كلامي، حتى انبَرَى الدكتور أركون بلهجةٍ جافيةٍ قاسية مُتَغطرِسة يقول: “إذًا أنت لا تُتقِن لغة أجنبية! فاسمَح لي أنْ أشكَّ في كلِّ علمك ما دُمتَ لا تتقن لغة أجنبية، وإنْ كنت تتقن لغة قريش العربيَّة الأعرابيَّة”.

ثم أردَفَ قائلاً: “لا بُدَّ لك من تعلُّم اللغة عامًا كاملاً، ثم ننظر في أمر قبولك في دبلوم الدراسات العليا (DEA)، وقد نُلزِمك بإعادة بعض مُقرَّرات الإجازة قبل ذلك”.

كانت صدمتي عنيفةً، وخيبة أملي قاسيةً؛ لأنَّني كنتُ مُقبِلاً على دراسة هذه اللغة الأجنبية، فأنا ما ارتَحلتُ عن بلدي إلا لهذا، ولكن متى كان العلم حكرًا على هذه اللغة أو تلك؟! وبأيِّ حقٍّ يكون العارف بالفرنسيَّة عالمًا، والعارف بالعربيَّة جاهلاً؟! ثم ما دخْل الفرنسيَّة بعلْم أسرار العربيَّة؟! ومتى كانتْ معرفتها شرطًا من شروط العلم عند أهل العلم؟! فكم من عالمٍ بالعربيَّة وآدابها وعلومها في عالمنا وعالم مَن سبَقَنا، لا يَعرِف أيَّ لغةٍ أجنبيَّة، وهو حُجَّة في علمه، ومرجعٌ في تخصصه، وقبلةٌ لطلاب المعرفة في فنِّه! وأنا هنا لا أُماري في ضرورة تعلُّم اللغة الأجنبيَّة، وفي أهميَّة المعرفة باللغات الأجنبيَّة، ولكنَّني أُناقِش المبدأ عند واحدٍ من أدعِيَاء التنوير والموضوعيَّة والفكر الحر السليم!

إذ هو يُجرِّد العربيَّة من أيِّ نوعٍ من أنواع المعرفة أو العلم! مع أنها كانت وما زالت وستبقى لغةَ العلم، برغم ما أصابها على يد أركون وأمثاله من تَرَدٍّ وضعْف وذُلٍّ؛ نتيجة الذوبان في الآخَر، والافتِتان والشُّعور بالدونيَّة أمام كلِّ ما هو غربي، والولع “بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيِّه، ونحلته وسائر أحواله”؛ كما قال عالمنا ابن خلدون منذ أكثر من ستمئة عام، وكم ذلَّ أقوامٌ بذلِّ لغات!

ويبدو أنَّ هذا الذوبان والافتِتان والوَلَع بالاقتِداء بهؤلاء، لم يُغنِ أركون فتيلاً، كما يؤكِّد الأستاذ جورج طرابيشي، حيث يقول في كتابه: “من النهضة إلى الردة”، ص 133-134: “إنَّ (محمد أركون)، بعد نحوٍ من عشرة كتب وربع قرن من النشاط الكتابي، قد فشل في المهمَّة الأساسيَّة التي نذر نفسه لها كوسيطٍ بين الفكر الإسلامي والفكر الأوربي”.

فأركون لم يَعجِز فقط عن تغيير نظرة الغرب “الثابتة” “اللامتغيرة” إلى الإسلام، وهي نظرة “من فوق”، و”ذات طابع احتقاري”، بل هو قد عجز حتى عن تغيير نظرة الغربيين إليه هو نفسه كمثقَّفٍ مسلم، برغم أنَّه مضى إلى أبعد مَدَى يمكن المُضِي إليه بالنسبة إلى مَن هو في وَضْعِه من المثقَّفين المسلمين في تبنِّي المنهجيَّة العلميَّة الغربيَّة، وفي تطبيقها على التراث الإسلامي، يقول أركون في كتابه “الإسلام – أوربا – الغرب”، (ص105، 106):

“على الرغم من أنِّي أحدُ الباحثين المسلِمين المعتَنِقين للمنهج العلمي والنقد الراديكالي للظاهرة الدينيَّة، إلا أنَّهم- أي: الفرنسيين- يستمرُّون في النظر إليَّ وكأنِّي مسلمٌ تقليدي! فالمسلم في نظرهم- أيُّ مسلم- شخصٌ مرفوضٌ ومَرمِيٌّ في دائرة عقائِدِه الغريبة، ودينه الخالص، وجهاده المقدَّس، وقمعه للمرأة، وجهله بحقوق الإنسان وقِيَم الديمقراطيَّة، ومُعارَضَتِه الأزليَّة والجوهريَّة للعَلمَنة… هذا هو المسلم ولا يمكنه أنْ يكون إلاَّ هكذا! والمثقَّف الموصوف بالمسلم يُشار إليه دائمًا بضَمِير الغائب: فهو الأجنبي المُزعِج الذي لا يمكن تمثُّله أو هضمه في المجتمعات الأوربيَّة؛ لأنَّه يستَعصِي على كلِّ تحديث أو حداثة”؛ (من مقال: “اعترافات محمد أركون”؛ للأستاذ: سليمان بن صالح الخراشي).

أمَّا أنا، فقد اتَّخذتُ قرارًا لا رجعة فيه عدتُ إثره إلى بلدي لأكمل دراستي في جامعة دمشق، غير آسِفٍ على السوربون ومَن فيها، لا رغبةً عنها، ولا كرهًا لها؛ بل لأنَّ الموقف الذي صدَر عمَّن يَدَّعِي الموضوعيَّة والتنوير الفكري فيها، كان أبعد ما يكون عن هذه الموضوعيَّة، وعن ذاك التنوير!

رجعت إلى بلدي لأجد فيه الخيرَ الكثير، والعلمَ الوفير، والحضنَ الدافئ، والملاذَ العاصم، ولسانُ حالي يُردِّد لأركون:

وَإِنِّي وَتَرْكِي نَدَى الأَكْرَمِينَ
وَقَدْحِي بِكَفَّيَّ زَنْدًا شَحَــاحَا
كَتَـارِكَةٍ بَيْضَهَــا بِالعَــــرَاءِ
وَمُلْبِسَةٍ بَيْضَ أُخْرَى جَنَاحَا
نقلاً عن موقع الألوكة: http://www.alukah.net/Culture/0/26037/

كُتب في المناهج | التعليقات على تجربتي مع المفكر محمد أركون ….. مقال للدكتور حسان طيان مغلقة

العلاقة السورية الأميركية حتى نهاية الحرب الباردة (القسم الثاني والأخير)

بتاريخ 14 تشرين الثاني 1956  وفي مواجهة ما ظنته الولايات المتحدة إستراتيجية سوفيتية في الشرق الأوسط برز مبدأ  أيزنهاور “الذي أعلن للعالم أجمع أن الولايات المتحدة قد أخذت على عاتقها القيام بمسؤوليات جديدة في الشرق الأوسط”[1]، وربما يكون أحد مؤشراته مرور عدة بوارج حربية أميركية[2] أمام مرفأ اللاذقية، وقد زاد توتر الولايات المتحدة بعد زيارة الرئيس شكري القوتلي في تشرين الثاني 1956 للاتحاد السوفييتي، إذ صرح فوقها: “أن آلاف المسلمين السوفييت قد أعلنوا عن استعدادهم للمجيء إلى الشرق الأوسط لكي يخلصوا الأراضي المقدسة من  المعتدين والمستعمرين”[3].

أكمل قراءة التدوينة

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على العلاقة السورية الأميركية حتى نهاية الحرب الباردة (القسم الثاني والأخير) مغلقة

دروس يتعلمها الحكام وأخرى يتجاهلها المعارضون

هذا من تصلب معظم القوى المعارضة
لم تنجح قوة معارضة عربية في تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي واحد منذ أن بدأت موجات التحول الديمقراطي في سبعينيات القرن العشرين، وذلك لأسباب متعددة منها القوة الأمنية الضاربة للأنظمة، ومنها عدم إيمان النخب الحاكمة بالديمقراطية، ومنها الدعم الخارجي وارتهان مصالح النخب بمصالح قوى وشركات دولية وغير ذلك.

سأكتب اليوم عن عامل آخر أراه مهما في الحالة العربية، وهو تعلم الكثير من الحكام دروس الآخرين في كيفية تجنب نجاح الإصلاح الديمقراطي، وعدم استيعاب القوى المعارضة -من أحزاب وجماعات- دروس حالات الانتقال الديمقراطي.

الدروس سنن كونية
تأتي أهمية هذا العامل من حقيقة أن طبيعة النظم العربية تشبه إلى حد كبير طبيعة النظم الشمولية التي كانت قائمة في أفريقيا وبعض الدول الأخرى، والتي لم تتغير إلا بثورة شعبية أو حرب عصابات. فالمباراة كانت صفرية بين الحكومات ومعارضيهم الذين شنوا حرب عصابات أو حركات عصيان مدني ضد حكامهم لإزاحتهم عن السلطة، وذلك كما حدث في إيران وكوبا وزائير ورومانيا والبرتغال.. وفي هذه الحالات جاءت أنظمة حكم جديدة لكن غير ديمقراطية..

ولتجنب هذا المصير، ونظرا لأننا لا نريد لدولنا تغييرا دمويا يؤدي إلى أنظمة جديدة غير ديمقراطية، فلابد من الاستفادة من تجارب الآخرين في عمليات الإصلاح السلمي. فما نريده هو إصلاح سلمي يؤدي إلى انتقال هذه الأنظمة إلى الديمقرطية التي تعني تقوية الحكومات بشعوبها عن طريق وجود حكومات ديمقراطية منتخبة من الشعب وتعمل من أجله ويمكن محاسبتها.

ولتحقيق هذا هناك سنن كونية للتغيير، تتطلب أولا التخلي عن أفكار تسود في أوساط المعارضة العربية، وأهمها الاعتقاد الزائف بأن الأوضاع في بلدانهم ليس لها مثيل، وعدم جدوى التعلم من الآخرين.
بالطبع هناك الكثير من الصعوبات أمام التغيير، غير أنه لا بد من إدراك أن زرع روح الاستسلام والعجز هو في حد ذاته أحد أساليب محاربة أنصار الإصلاح، ولا بد من إدراك أن الأوضاع كانت أكثر سوءا في دول أخرى شهدت عمليات انتقال ناجحة.

فالفلبين كان بها ماركوس، رجل أميركا في جنوب آسيا، وصاحب نظام يفوق في تجبره ما نشاهده من حولنا.. والمكسيك شهدت نظاما للحزب الواحد المسيطر (يشبه إلى حد كبير الأحزاب الحاكمة العربية) ظل قائما لأكثر من سبعين عاما، متجاوزا حروبا أهلية وأزمات عالمية مثل أزمتي الكساد العظيم والديون ومعاصرا لحربين عالميتين.

 

ما الذي لم تتعلمه المعارضة؟
من سنن التغيير أن الأنظمة الشمولية لا تسقط من تلقاء نفسها، وإنما تضعف وتتغير عندما تجد أمامها معارضة صلبة، فالقوة لا يوقفها إلا القوة. ولهذا فتطور الانفتاح السياسي الموجود الآن يعتمد بدرجة كبيرة على طبيعة قوى المعارضة الديمقراطية (الحقيقية لا الشكلية) وتوافقها على قواسم مشتركة، وعلى طبيعة تحركات تلك القوى وأساليبها..

ففي شأن التكتل هناك درس إسباني واضح، فبعدما كانت كل التيارات منقسمة على نفسها، وبعدما كان الشيوعيون يعادون الاشتراكيين، وبعد الخصام بين اليسار واليمين، توحد كل تيار، ثم تكتل الشيوعيون والاشتراكيون، ثم اتفق اليمين واليسار على قواسم مشتركة.

والأهم هنا هو إدراك أن القواسم المشتركة تتطلب تجاوز خلافات المصالح والأيدولوجيا “مؤقتا” والاتفاق “إستراتيجيا” على قواعد اللعبة الديمقراطية (الإجراءات والقيم)، وليس على نتائجها (السياسات).. ولهذا تمحورت القواسم حول أمور محددة، كإجراء انتخابات ديمقراطية (الفلبين وكوريا)، وتحقيق التعددية السياسية (دول شرق أوروبا)، والحكم المدني وإعادة العسكر إلى ثكناتهم (البرازيل)، وإنهاء العنصرية وتحقيق المواطنة (جنوب أفريقيا)..

بالطبع هناك نوع من القواسم المشتركة في بعض الدول العربية، ففي مصر هناك المطالب السبعة عند البرادعي والجمعية الوطنية، لكن حدث أول شرخ للتوافق بإعلان معظم القوى السياسية دخول الانتخابات. وفي اليمن نشأ تكتل حقيقي هو الأفضل عربيا (اللقاء المشترك) ضم معظم القوى الرئيسية، لكن لا يزال الطريق طويلا في ضوء أساليب الحكومة تجاهه وموقف الخارج منه.

وهناك درس آخر يقول إن التكتل يحتاج إلى عمليات تعبئة شعبية لصالح التغيير، ولهذه العمليات سنن كونية، أهمها التركيز على هدف محدد والتنظيم الجيد والمداومة. كما أن أعداد المتظاهرين من العوامل الحاسمة، فلم تنجح المعارضة في أي دولة بمظاهرات يسير فيها مئات أو حتى ألوف من الناس فقط.

في شرق أوروبا وفي الفلبين وفي جنوب كوريا وأوكرانيا وجورجيا سار الملايين في الشوارع، وفي جنوب أفريقيا مثلت التعبئة وسيلة لظهور سلوك جماعي مناهض للعنصرية ولبلورة قيادة معارضة، الأمر الذي رفع تكلفة بقاء النظام ودفعه دفعا إلى التفاوض حول الديمقراطية.

وبرغم أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة تقريبا التي تشهد مظاهرات شعبية من أجل الإصلاح، فإن هناك حاجة إلى ضبط هذه التحركات والتركيز على المطالب السبعة للتغيير، وتحديد الشعارات بدقة وربطها بأهداف محددة، ونبذ فكرة أن المباراة صفرية مع الحكومة حتى يتم جذب المزيد من المتظاهرين.

ولا شك أن التكتل والتعبئة يتطلبان نوعية معينة من السياسيين، ففي الدول متعددة الأعراق -كالهند وماليزيا- كان لتوافق الآباء المؤسسين على الديمقراطية كنظام للحكم وعلى إنشاء منظمة عابرة للأعراق والأديان، بالغ الأثر في خروج البلدين من الحكم الاستعماري إلى الحكم الديمقراطي مباشرة.

كما ساهم انفتاح سواريز واعتداله في إسبانيا، ومهارات فاونسا التفاوضية في بولندا، واعتدال وحكمة مانديلا ودي كليرك في جنوب أفريقيا، وإصرار أكينو واعتدال قادة الجيش في الفلبين والبرازيل.. في استكمال الانتقال في دولهم. هذه النوعية من السياسيين هي التي تحتاجها دولنا في الحكومات وفي المعارضة.

 

وهناك ظاهرة أكثر سوءا يجب تجاوزها، وهي ترفع الكثير من المستقلين عن العمل السياسي وتأكيدهم على استقلالهم عن كافة القوى. إن الوقت وقت التقدم والاصطفاف مع قوى التغيير وتقديم النصح وتصويب الأخطاء، وكم كان مارتن لوثر كينغ حكيما حين قال إن المصيبة ليست في ظلم الأشرار بل في صمت الأخيار.

 

دروس أخرى من إسبانيا والفلبين وكوريا تتعلق بخطاب المعارضة تجاه الخارج، فتغيير مواقف القوى المؤثرة كان بسبب وجود بديل ديمقراطي معتدل، يتواصل مع منظمات المجتمع المدني في الخارج، ولا يخلط قضية الديمقراطية في الداخل مع القضايا الإقليمية والدولية.

 

وهناك درس هندي لم تستوعبه المعارضة العربية، وعلى الأخص الإسلامية، فحزب المؤتمر آمن بعبثية الانفراد ومحاولة فرض أجندة ضيقة على الآخرين، واختار قادته تشكيل حزب مفتوح أمام الجميع بغض النظر عن دياناتهم وأعراقهم وأيدولوجياتهم، وبهدف مشترك هو خلق هوية هندية جامعة وبناء مؤسسات هندية ديمقراطية تسع الجميع.

أما الدرسان التركي والماليزي فيقولان لنا إن استعصاء الآخر على التغيير لا بد أن يقابله قدرات أكبر على المناورة وخيال أوسع من قبل المعارضين، وذلك بالعمل على تغيير أنفسهم ووسائلهم حتى يمكنهم تغيير الواقع بعد ذلك. فأمام تصلب العلمانيين الأتراك واستهدافهم الإسلاميين، راح الإسلاميون يغيرون من إستراتيجيتهم وأعينهم على الهدف بدلا من الوسائل، فكان أن تجاوز حزب العدالة أساليب أسلافه، لا تخليا عن قناعاته وأهدافه، وإنما لإدراكه أن الفشل في إنجاز الأهداف يعني أن الوقت حان لأساليب أخرى أكثر براغماتية وأكثر قبولا من المجتمع التركي والجماعة الدولية.

وفي ماليزيا آمنت حركة أمنو بأن سياسة بريطانيا لتغيير التركيب السكاني وزرع أقلية صينية لا ينبغي أن تقابل بعد الاستقلال بسياسات انتقام، فكان البديل بتعاملهم مع الأمر الواقع وبناء مؤسسات ديمقراطية تسع الجميع ونظام اقتصادي يقوي الأغلبية ولكن ليس على حساب الأقلية.

وفي النهاية ليس الوضع مثاليا في ماليزيا، لكنه ليس كارثيا كما في معظم دولنا، فماليزيا دولة صناعية كبرى وهي نموذج يحتذى به في التنمية وفي الدمج بين الإسلام والمدنية.

 

أين هذا من تصلب معظم القوى المعارضة في بلادنا وراء أهداف تاريخية، ومن تحجر طرق تفكيرها وراء شعارات وأساليب عمل يرفضها الواقع؟

دروس يتعلمها الحكام
في المقابل تعلم الحكام أن تآكل شرعية أنظمتهم لا يمكن أن يستتبعه انفتاح سياسي حقيقي، لأن هذا الطريق أدى إلى ديمقراطية حقيقية في دول مثل المجر وبولندا والبرازيل والمكسيك وكوريا وإسبانيا وغيرها، وذلك عندما استغلت قوى المعارضة الانفتاح وكثفت من ضغوطها لخلخلة تماسك الحكومات ودفعها دفعا إلى التنازل.

ولتفادي نفس المصير لجأت حكومات عربية إلى ترميم شرعيتها المتآلكة بتبني انفتاح سياسي محدود انقلب إلى انغلاق سياسي -كما كتبت باحثة غربية- وإلى تعددية حزبية شكلية تحجب الشرعية عن قوى بعينها.

والانتخابات الديمقراطية خط أحمر عندهم، فكم من حاكم شمولي غير عربي ظن أن الانتخابات الديمقراطية ستثبته في الحكم فكانت المفاجأة بهزيمته. لهذا كان رد فعل المؤسسة العسكرية الجزائرية حاسما بإلغاء انتخابات 1990 أمام انتصار جبهة الإنقاذ، وبنفس المنطق كان رد فعل الحكومة المصرية بعد الجولة الأولى من انتخابات 2005 وانتصار الإخوان المسلمين بتزوير الجولتين التاليتين وكل انتخابات جرت بعد ذلك.

أما المشكلات الاقتصادية وأثرها السلبي على شرعية الأنظمة فقد ووجهت بعمليات ترهيب وترغيب ليس لها مثيل أفسدت الإنسان ذاته وجعلته شعلة فساد وإفساد بدلا من أن يرفض الظلم ويحاربه بكل ما أوتي من قوة.

ومن جهة أخرى أدرك الحكام أن كف المؤسسات العسكرية والأمنية -أو جناح منها– عن دعم النظام من العوامل التي أضعفت تماسك حكومات شمولية كثيرة، ولهذا كان إحكام السيطرة على هذه المؤسسات الوطنية وإقحامها في خصومة مع الشعوب وخلق حالة من المصالح المتبادلة بين الفئات الحاكمة وفئات متنفذة داخل هذه المؤسسات.

وللأسف ساعد جو التسطيح والتجهيل العام للنخب والمثقفين في هذا الأمر وصار من المحرمات الحديث عن دور وطني لهذه المؤسسات ضد الفساد والاستبداد، وصار هناك ربط زائف بين تغيير الأنظمة وعدم استقرار البلاد.

وتعلم الحكام أن لا أمان أمام أي تكتل سياسي معارض جاد، ولهذا تعاظمت الاختراقات الأمنية والقمعية وتواصلت عمليات الترهيب والترغيب تجاه فئات كثيرة في المجتمع بدءا من أساتذة الجامعات وانتهاءً بالمشاهير من فنانين ورياضيين وغيرهم خوفا من انضمامهم إلى المعارضة.

ولأن الحركات الديمقراطية في شرق أوروبا والفلبين وغيرها نجحت في وضع قضية التعددية السياسية على الأجندة الأميركية والأوروبية حاصلة بذلك على دعم خارجي قوي، فقد تعلم الحكام عندنا ضرورة الهجوم على كل من يقترب من الخارج بوضع معادلة في غاية التناقض، ففي الوقت التي تربط النخب الحاكمة مصالحها وثروات بلادها بالخارج، تصف كل من يتصل بالخارج لكسر هذه المعادلة بالعمالة وعدم الوطنية!

تتبقى عبرة أخيرة هي أن دوام الحال من المحال، فكم من نظم مستبدة زالت وصارت من ودائع التاريخ. إن التغيير يصنعه -بعد إرادة الله- الإنسان، وللتغيير سبل وآليات أهمها تقدم الإصلاحيين الصفوف ونبذهم اليأس وتكتلهم وامتلاكهم للإرادة وتركيزهم على الأهداف النهائية.
المصدر: الجزيرة

كُتب في المناهج | التعليقات على دروس يتعلمها الحكام وأخرى يتجاهلها المعارضون مغلقة

في ضرورة التطبيع مع التاريخ والجغرافيا – فهمي هويدي – المقال الأسبوعي

صحيفة الشرق القطريه الثلاثاء 25 ذو القعدة 1431 – 2 نوفمبر 2010

http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2010/11/blog-post_02.html

من غرائب زماننا وعجائبه أنه صار بمقدورنا أن نتعرف على معالم الرؤية الإستراتيجية لبلد مثل تركيا، في حين يستشكل علينا ذلك بالنسبة لمصر، بحيث لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون؟!
(1)
قبل أسبوعين كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في أثينا وطرح على نظيره اليوناني السؤال التالي:

لماذا لا نعيد النظر في علاقات بلدينا بحيث يتحول التنافس بينهما من مباراة لكرة السلة إلى مباراة للكرة الطائرة؟.

كان أردوغان يتحدث عن تفكيك بعض العقد التي تحكم علاقات الجارين، بحيث يكفان عن تدافع الأكتاف بينهما كما في كرة السلة، ويتجهان إلى إقامة منطقة عازلة بينهما، كما في الشبكة التي تفصل بين اللاعبين في لعبة الكرة الطائرة.
الاقتراح استهدف تخفيف التوتر العسكري المستمر بين البلدين وتذويب بقايا الصراع القائم بينهما منذ سنوات الدولة العثمانية وحتى بعد قيام الجمهورية في القرن الماضي. وهو نموذج تطبيقي للموقف المبدئي الداعي إلى طي صفحة المشاكل مع الجيران، اهتداء بسياسة «زيزو مشاكل»، التي أصبحت تعد حجر الزاوية في السياسة الخارجية لحكومة حزب العدالة والتنمية.

ذلك أن ثمة خلافا بين تركيا واليونان حول الحدود البحرية والجوية والبرية في بحر إيجه الفاصل بين البلدين، وهو يتصاعد بين الحين والآخر بسبب المناورات العسكرية المستمرة لمقاتلات البلدين، الأمر الذي يكلفهما مبالغ طائلة واشتباكا دبلوماسيا مستمرا.

ولحل ذلك الإشكال حمل أردوغان معه حزمة من المقترحات التي دعت إلى ترك مسافة أو مساحة بين الحدود المقترحة والمتنازع عليها بين البلدين.
ثمة تفاصيل للمقترحات التركية لا مجال للخوض فيها. لأن ما يهمنا هو الفكرة الأساسية في الموضوع التي تمثلت في الإلحاح على تهدئة المحيط الإستراتيجي (كانت تلك زيارته الثانية إلى أثينا خلال خمسة أشهر). والهدف المرتجى من ذلك أن تصبح تركيا دولة صانعة للسياسات وليست طرفا في المشكلات.
(2)
خلال شهر أكتوبر المنقضي تلاحقت إشارات أخرى محملة بالدلالات التي ترسم معالم الرؤية الإستراتيجية وأهدافها المتوخاة. من تلك الإشارات ما يلي:
* عقد مؤتمر في اسطنبول لدول آسيا الوسطى التي تتحدث اللهجات التركية، والتي تصنف في أدبيات الجغرافيا السياسية بحسبانها تنتسب لغويا وتاريخيا إلى «العالم التركي». وهى التي تتوزع بين آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان، وتمثل كتلة بشرية تصل إلى 250 مليون نسمة يعيشون فوق مساحة من الأرض تصل إلى 11 مليون كيلو متر مربع.

غابت عن المؤتمر اثنتان من دول آسيا الوسطى هما أوزبكستان وطاجكستان، لكن ذلك لم يغير من الرسالة التي لخصها الرئيس التركي عبدالله جول حين قال «إننا ست دول ولكننا أمة واحدة».

تستطيع أن تتصور الخلاصات التي انتهى إليها المؤتمر والتي ركزت على تعميق الروابط الثقافية (اتفقوا على اعتبار الثالث من أكتوبر من كل عام يوم اللغة التركية). والسعي إلى تحقيق التكامل الاقتصادي من خلال المشروعات المشتركة.
* عقد القمة التركية الخليجية بالكويت، الذي يعد اللقاء الاستراتيجي الثالث بين الطرفين خلال ست سنوات. وهو ما تعتبره تركيا إسهاما في تعزيز أمن الخليج واعتبار استقرار ذلك الأمن داخلا في إطار الأمن الإقليمي وصلته وثيقة بالعمق الإستراتيجي لتركيا،

وهذه اللقاءات استصحبت عقدها سلسلة من التفاهمات والاتفاقات التجارية، التي تخدم المصالح المشتركة وتعد تجاوزا للفكرة التقليدية التي طرحت منذ عقدين من الزمان، وتحدثت عن معادلة «المياه التركية مقابل النفط العربي»،

وإذا أضفت إلى الجسور التركية الممتدة إلى الخليج، تلك الخطوات التي اتخذت لإلغاء تأشيرات الدخول بين تركيا وخمس دول عربية أخرى (سوريا ولبنان والأردن والعراق وليبيا)، فستدرك أن انفتاح أنقرة على الشرق وصل إلى مدى لم يخطر على بال أحد من قبل.
عقد المؤتمر الرابع عشر لرجال الأعمال في العالم الإسلامي، الذي اشترك فيه 3200 رجل أعمال قدموا إلى اسطنبول من أطراف ذلك العالم، كما اشترك فيه 32 وزيرا يمثلون تلك الدول. وشهده رئيس الجمهورية التركي ورئيس الوزراء.

وعلى هامشه عقد مؤتمر لرجال الأعمال الفلسطينيين اشترك فيه 300 شخص مهم. الأمر الذي يعطي انطباعا مباشرا بقوة الحضور الاقتصادي لتركيا في العالم الإسلامي، الذي بات يحتل موقعا متقدما في أولويات الإستراتيجية المرسومة، يدل على أن السياسة التركية تركز على تبادل المصالح باعتباره حجر الزاوية في علاقتها بالعالم العربي والإسلامي.

فقد أدى ذلك إلى مضاعفة حجم التبادل التجاري بين تركيا والعالم العربي لأكثر من أربع مرات منذ سنة 2002 وحتى العام الحالي، بحيث تجاوز 50 مليار دولار، نصيب مجلس التعاون الخليجي منها 20 مليارا.
* وفي منتصف الشهر واجهت تركيا موقفا دقيقا. ذلك أنها باعتبارها عضوا في حلف الأطلنطي طلب منها المشاركة في مشروع الحلف للدرع المضادة للصواريخ. وهى منظومة دفاعية أمريكية موجهة ضد إيران، تبناها حلف الأطلنطي ويفترض أن تدخل حيز التنفيذ في عام 2015..

وقد تحفظت أنقرة على هذه الخطوة لأنها لا تعتبر إيران عدوا يجب التحسب له. ورغم أن الأمر يفترض أن يحسم قبل اجتماع قمة «الناتو» في لشبونة بعد أسبوعين (في 19 و20 نوفمبر)، إلا أن مسؤولا تركيا قال إن بلاده حريصة على تأمين وحماية أراضيها كلها، وليس فقط تلك القريبة من إيران.

وهذا الموقف التركي المتردد اعتبرته دوائر عدة نوعا من التمرد على الهيمنة الأمريكية.
(3)
شاءت المقادير أن يختتم المشهد بحدثين وثيقي الصلة بالمؤشرات سابقة الذكر، هما:
* أن مجلس الأمن القومي التركي، أعلى هيئة استشارية في البلاد أدخل تعديلات جوهرية على تعريف المخاطر الداخلية والخارجية، وصفت بأنها الأضخم والأشمل في وثيقة الأمن القومي التركي منذ حقبة الحرب الباردة.

وهذه الوثيقة تعرف باسم «الكتاب الأحمر». وتتضمن تحديدا للرؤية الإستراتيجية للنظام القائم إزاء مختلف الملفات الداخلية والخارجية. وبمقتضى التعديل الجديد تم إخراج الجماعات الدينية من خانة التهديد الداخلي، وكانت أنشطة تلك الجماعات تعد قبل التعديل «رجعية» وتهمة سياسية يعاقب القانون كل من يثبت انتسابه إليها.

واكتفى التعديل بحصر التهديد الداخلي في الأحزاب اليسارية الثورية والكردية الانفصالية والدينية المتطرفة التي تلجأ إلى العنف. وإزاء ذلك أصبح من حق الجماعات الدينية أن تمارس أنشطتها العادية طالما أنها ظلت بعيدة عن التطرف والعنف.
من ناحية أخرى اعتبرت الوثيقة أن التخطيط لانقلاب عسكري أو السعي إليه بمثابة تهديد للأمن القومي. وهو ما يعزز موقف الحكومة في اتجاهها إلى محاكمة العسكريين الذين اتهموا في القضايا الانقلابية.
فيما يخص التهديد الخارجي، فإن الوثيقة أخرجت إيران وروسيا وسوريا من خانة العدو. ووضعت روسيا وسوريا في مرتبة الدول التي يجمعها مع تركيا تعاون وثيق. وتلك خطوة أزالت تماما آثار الحرب الباردة من الوثيقة. في الوقت ذاته أثار الانتباه أن التعديلات الجديدة اعتبرت السلاح النووي الإسرائيلي تهديدا حقيقيا للأمن القومي التركي.
وفي الوقت ذاته شددت على ضرورة إخضاع البرنامج النووي الإيراني “للمتابعة الحثيثة”، حيث اعتبرت الوثيقة أن امتلاك إيران للسلاح النووي ــ إذا ما تحقق ــ من شأنه أن يخل بالتوازن الإستراتيجي في المنطقة.
* الحدث الثاني أن الدكتور أحمد داود أوغلو مهندس السياسة الخارجية لحكومة حزب العدالة والتنمية صدرت له في الأسبوع الماضي (عن مركز الجزيرة للدراسات) طبعة عربية منقحة لكتابه «العمق الإستراتيجي» الذي تحدث عن موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية.

وهو الكتاب الذي ينظر للجمهورية التركية الثانية (ما بعد الكمالية)، وقد صدر حتى الآن في 50 طبعة، كما أنه ترجم إلى عدة لغات.
و من الأفكار المحورية التي وردت فيه أن التاريخ والجغرافيا يمثلان العنصرين الأساسيين اللذين تبنى عليهما الإستراتيجية. وهما ثابتان، في حين أن المتغير الذي يجب العمل عليه هو كيفية قراءتهما. وفي رأيه أن تركيا انتزعت عنوة من محيطها بعد الحكم العثماني وخلال سنوات الحرب الباردة. حيث لم يكن من الطبيعي أن توجد تركيا المنتمية إلى حلف الناتو على حدود سوريا المتحالفة مع الاتحاد السوفييتي. وهو أيضا حال تركيا مع العراق وكذلك مع جورجيا وبلغاريا.
في رأيه أيضا أنه لا نهوض لتركيا دون أن تتواصل مع عمقها الإستراتيجي الذي يمتد باتجاه العالمين العربي الإسلامي والقوقاز وأرمينيا وإيران، وأيضا أوروبا. أي أن عليها أن تمتد غربا كما تمتد شرقا وفي كل الاتجاهات. وهو ما تؤهله لها حدودها المتعددة وهويتها المركبة بين آسيا وأوروبا. وتركيا حين تتصالح مع جيرانها فإنها تستثمر الجغرافيا وصولا إلى «تطبيع التاريخ»، بمعنى أن تسير في الاتجاه الطبيعي للأمور وليس على العكس من المعطيات الحاضرة.
من الأفكار المثيرة للانتباه في الكتاب أن الدكتور أوغلو لا يرى أن العلاقة بين تركيا وإسرائيل حققت إيجابية تذكر، وإنما كان تأثيرها سلبيا لأنها همشت تركيا وأبعدتها عن لعب دورها الأساسي في المنطقة، خصوصا أن تلك العلاقة لم تسهم في تحقيق السلام المنشود. أما العلاقة مع إيران فهي في رأيه أكثر أهمية بل هي جوهرية لتركيا من أكثر من زاوية، الأمر الذي يستدعي تنسيقا دائما بين البلدين.
(4)
الذي يقرأ الوقائع والمشاهد التي تحدث على الأرض، ويتابع متغيرات وثيقة الأمن القومي، والأفكار التي طرحها الدكتور أوغلو في كتابه، يدرك أن هناك سياقا مفهوما وخطوطا واحدة، إذ يجد المرء نفسه بإزاء إرادة مستقلة لقيادة امتلكت رؤية واضحة، وضعت المصالح العليا للبلد ودوره في المقام الأول، واهتدت في ذلك بسياسة التطبيع مع التاريخ والجغرافيا.
لا يستطيع المرء أن يطالع هذه الصورة دون أن يقارنها بما يحدث في مصر الآن، التي تعيش في ظل اللايقين واللامشروع. الأمر الذي يحير كل من يحاول أن يتعرف على معالم رؤيتها الإستراتيجية. فمستقبل الحكم في مصر محاط بالغموض وتذهب فيه التكهنات مذاهب شتى. ثم إن موقفها غير واضح سواء في انتمائها العربي ودورها الأفريقي (الانتماء المتوسطي دخل على الخط مؤخرا).
وفي حين أن تركيا فرقت في النشاط الديني بين ما هو سلمي وما هو متطرف ويلجأ إلى العنف، فإن هذه التفرقة ليست معتمدة ولا واضحة في مصر. بنفس القدر،

فالموقف غير واضح إزاء انفصال جنوب السودان، ولا إزاء القضية الفلسطينية أو سوريا ناهيك عن إيران.

وقد أبدى بعضنا استغرابا لدخول مصر في تحالف استراتيجي مع العدو الإستراتيجي (المستشار طارق البشري)، في حين أن نسبة غير قليلة من الناس لم تعد تعرف بالضبط من هو الصديق ومن هو العدو. وهل صحيح أن إسرائيل أقرب إلينا من سوريا؟،

وهل صحيح أن العالم العربي والخليج تحديدا مهدد من إيران وليس من إسرائيل؟.
الأسئلة كثيرة في شأن الرؤية الإستراتيجية، حيث لا يعرف أغلبنا معالمها، في حين أن بعضنا يتساءلون عما إذا كانت تلك الرؤية موجودة أم لا. لكن القدر الثابت أن توفر الإرادة المستقلة يعد مفتاحا مهما لتطبيع العلاقات مع التاريخ والجغرافيا، بمعنى الاتساق مع الثقل التاريخي وإدراك عبقرية المكان وذلك التطبيع المنشود لا يتم في غياب الديمقراطية.

وفي ظل غياب الرؤية المنشودة انقلبت الآية، بحيث وجدنا أنفسنا قد تورطنا في التطبيع مع إسرائيل، وأدرنا ظهورنا تلقائيا للتطبيع مع التاريخ والجغرافيا.

كُتب في المناهج | التعليقات على في ضرورة التطبيع مع التاريخ والجغرافيا – فهمي هويدي – المقال الأسبوعي مغلقة

هل يـُطرد المسلمون من أوربا خلال سنوات قليلة؟

يؤكد مفكرون إسلاميون مثل راشد الغنوشي أن المسلمين قادرون على العيش كمواطنين في الدول الغربية وعليهم التمسك بقوانين تلك الدول. بينما يرى جيرالد سيلانتا مؤشرات للتصادم بين المسلمين والشعوب الأوربية.. ويتوقع سيناريو قاتماً: تطهير عرقي وطرد جماعي للمسلمين.
هل تعتقد أن مثل هذه السيناريو القاتم الذي يتوقعه سيلانتا يمكن أن يتحقق في أوربا قريبا؟ ولماذا؟

أكمل قراءة التدوينة

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على هل يـُطرد المسلمون من أوربا خلال سنوات قليلة؟ مغلقة

فيلم حول الأسلمة يحقق أعلى مشاهدة على اليوتيوب

تقرير: محمد أمزيان- إذاعة هولندا العالمية/ من خط بياني لآخر. موسيقى عربية كخلفية ولا أثر لكائن حي في الصورة. رعب سمج، ممل وقاتل. هذا ما يمكن قوله عن فيلم يتداوله زوار الإنترنيت، شاهده ملايين من الناس عبر العالم. قد يكون ذلك بسبب رسالته المستفزة، وادعائه بأن نصف سكان أوربا سيصبحوا في العام 2050 مسلمين.

“تغير العالم ولن تبقى الثقافة العالمية والإرث الثقافي لأحفادنا كما كانا في السابق. ما العمل الآن؟ أنت الشاهد هنا على التحولات السكانية عبر العالم”.

أكمل قراءة التدوينة

كُتب في ركن الدعوة | التعليقات على فيلم حول الأسلمة يحقق أعلى مشاهدة على اليوتيوب مغلقة

نحو إستراتيجية حكيمة لمواجهة القاعدة بموريتانيا

الأستاذ محمد بن المختار الشنقيطي

توحي عملية الجيش الموريتاني الأخيرة على أراضي جمهورية مالي المجاورة بأن المواجهة بين القيادة الموريتانية وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي بدأت تسير مسارا خطرا وتنحو منحى الحرب الشاملة المفتوحة، وهو أمر لا يخدم المصلحة الموريتانية، ولا يتناسب مع إمكاناتها ومسؤولياتها.

وهذا ما يحتِّم على الحكماء من الموريتانيين من صناع القرار وأهل الرأي والقلم أن يبحثوا عن أنجع السبل لمواجهة القاعدة في موريتانيا، بالطريق الأسلم والأحكم التي تعصم الدماء والأموال، وتحفظ استقلال القرار الوطني، وتجنِّب الانزلاق إلى بعض المزالق السيئة التي وقعت فيها دول من قبل.

فلن يكون من الحكمة ولا من الواقعية في شيء محاولة القيادة الموريتانية الآن خوض حرب شاملة ضد هذا التنظيم، وقد فشلت في ذلك دول أقوى وأغنى، وأرسخ قَدما في التقاليد الحربية والتدابير الأمنية.

ومع احترامي العميق للقيادة السياسية والعسكرية الموريتانية، فإني لا أرى وجها لسعيها إلى التسكيت والتبكيت في هذه الظروف، وتهديدها الضمني باتخاذ “إجراءات عقابية” ضد الأصوات المنتقدة لأدائها السياسي أو العسكري، بدعوى الوقوف صفا واحدا في وجه الإرهاب.
فالخلاف حول الصواب خير من الإجماع على الخطأ. وحق التعبير عن ذلك الخلاف حق دستوري وواجب أخلاقي. وكم نجحت الدكتاتوريات في جعل الناس يقفون صفا واحدا، لكن في الموقف الخطأ، والمعركة الخطأ. وهذا هو مكمن الضعف القاتل في التنظيمات السلفية الجهادية، فهي تخوض حروبا خاطئة في مَواطن كثيرة، مع حسن النية والاستعداد للتضحية.

وقد لخص الكاتب فهمي هويدي هذه المفارقة في عنوان كتابه “طالبان: جند الله في المعركة الخطأ”.

وهذه ملاحظات حول الطريقة التي أراها أنسب لموريتانيا في مواجهتها مع تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، بما يحقق المصلحة في السياق الموريتاني بأقل كلفة من الدماء والأموال.

ولست أدعي أن ما أسطره هنا يصلح لبلاد أخرى، وإنما هذه رؤية منطلقة من واقع الحال في موريتانيا، وهي رؤية خاضعة لظروف الزمان والمكان والإمكان، ولكل حادثة حديث.

إن طريقة الحرب الدفاعية المحدودة هي الأنسب لموريتانيا. أما الحرب الهجومية الشاملة، فهي تحمل بين جنبيها مخاطر جمة على موريتانيا ومستقبلها.

ومن المهم للقادة الموريتانيين أن يدركوا أن القاعدة ظاهرة عالمية، تجندت في سبيل مواجهتها أعتى الجيوش وأغنى الدول، فلم يكسر ذلك من شوكتها حتى الآن. بل هي تتمدد وتتجذر يوما بعد يوم، وما الاختراق الكبير الذي حققته في الأعوام الأخيرة في منطقة الصحراء الكبرى، واكتسابها عددا معتبرا من الشباب الموريتانيين إلا دليل على هذا الامتداد والتوسع. لأن منبع وجود القاعدة ابتداء هو الغضب على استباحة الأمة الإسلامية من طرف أعدائها، واستكانة قادتها لإملاءات الغير، وهو منبع لن ينضب في الأمد المنظور.

ليس من ريب أن القاعدة صرفت هذا الغضب الإسلامي العارم أحيانا كثيرة في الاتجاه الخطأ، ووجهت الرمية في الاتجاه الغلط. وتلك خطيئة تقع فيها التنظيمات السلفية المسلحة في كل مكان، لأنها لم تتزود بفقه شرعي رصين يعصم من الزلات، ولا بحس إستراتيجي عميق ينير الأولويات.

وكان من مظاهر هذا التسديد السيئ استهداف القاعدة للجنود الموريتانيين في “لمغيطي” و”تورين” و”الغلاوية” خلال الأعوام 2005-2009.

لكن ليس من ريب أيضا في أن موريتانيا دولة هشة لا تملك بنية إدارية متكاملة ولا قوة عسكرية ضاربة، وهي لا تزال في بداية النقاهة من ليل الحكم الطائعي البهيم الذي نهب الثروات وقمع الأحرار وتحالف مع إسرائيل، ومزَّق لحمة المجتمع.

وأسوأ ما قد تواجهه موريتانيا اليوم هو الدخول في حرب تَنزِف فيها الدماء الزكية، وتُستنزَف فيها الموارد الشحيحة، وهي في هذه المرحلة الانتقالية. فلسنا نملك الموارد لمعركة شاملة مع القاعدة، وليس لدينا مصلحة في ذلك.

ولا يبدو أن استهداف موريتانيا من أولويات تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي حتى الآن، كما تدل على ذلك أدبيات التنظيم. فلهذا التنظيم أهداف أصلية وأخرى عرَضية. ومن هذا النمط الأخير موريتانيا التي يستهدفها التنظيم لما يعتقد من أنها حاجز بينه وبين أهدافه الأصلية.

لكن فتح معركة ثأر وثأر مضاد بين موريتانيا والقاعدة سيجعل موريتانيا هدفا أصليا لا عرَضيا، بل سيجعلها أولوية على قائمة الاستهداف.
وليس من مصلحة الشعب الموريتاني أن يتحول دروعا بشرية لحماية من تستهدفهم القاعدة من الغربيين. فالدول الغربية أولى بمواجهة تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي وأقدر على ذلك، وهي التي عليها دفع ضريبة القتال ضد القاعدة عبر العالم كله، لأنها هي التي أوجدت القاعدة بمظالمها الفاحشة، وتدخلها السافر في مصائر الشعوب المسلمة.

ويسَع موريتانيا في هذا المجال ما وسِع دولا أخرى مجاورة. فجمهورية مالي التي يتخذ تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي من أرضها قاعدة انطلاق وإمداد، لم تدخل في مواجهة معه حتى الآن، استنقاذا للفرنسيين أو الكنديين أو الإسبان. بل هي تعيش في هدنة غير معلنة مع التنظيم، حافظت بها على أرواح جنودها ومواطنيها، وعلى أرواح العديد من الرعايا الغربيين المختطَفين.

ويراقب الجيش المالي المعركة الدائرة بين الجيش الموريتاني والقاعدة على أرضه منذ أيام بحياد تام، وكأن الأمور لا تعنيه من قريب أو من بعيد.

بل إن قادة فرنسا -وهي المستهدف الأول بعمليات التنظيم- لم يحاولوا قط التدخل العسكري المباشر ضد القاعدة في مجاهيل الصحراء الكبرى، ضنًّا منهم بدماء جنودهم، وخوفا من الفشل أمام الرأي العام في بلدهم، على الرغم من وجود قواعدهم العسكرية في العديد من دول غرب أفريقيا، حيث تحمي الدكتاتوريات التابعة لفرنسا هناك منذ عقود.

واكتفى الفرنسيون -حتى الآن- بمحاولة إغراء قادة الدول الصغيرة في غرب أفريقيا بالتدخل نيابة عنهم، ومدهم بفتات من مال وسلاح لا يساوي ضريبة الدم الذي ستدفعها شعوب تلك الدول.

ويتأسس الموقف الفرنسي على ازدواجية مكشوفة، حيث تتبنى فرنسا التدخل المحلي إذا نجح، وتتبرأ منه إذا فشل. وقد تبرأ وزير الخارجية الفرنسي من العملية الموريتانية الأخيرة ضد القاعدة في صحراء مالي، ونفى أية صلة لها باختطاف الفرنسيين الخمسة في النيجر، وهو ما يدل على فشل العملية في تحقيق الهدف الفرنسي، لا أكثر ولا أقل.

ومهما يقل الوزير الفرنسي فمن الواضح أن الهجومين الوحيدين اللذين خاضهما الجيش الموريتاني ضد القاعدة في المغرب الإسلامي خارج أرضه كانا لحساب فرنسا، فالأول كان محاولة لاستنقاذ الرهينة جرمانو -وهو مواطن فرنسي اختُطف على أرض جمهورية مالي- والثاني هو الهجوم الحالي لاستنقاذ الرهائن الفرنسيين الذين اختطفوا في النيجر.

ومهما يحاول القادة الموريتانيون إقناعنا بغير ذلك، فإن كل الدلائل تزكي هذا الطرح، وإلا لماذا لا يهجم الجيش الموريتاني على مقاتلي القاعدة في المغرب الإسلامي حينما قتلوا الجنود الموريتانيين غيلة وغدرا عام 2005 و2007 و2009؟ ولماذا لم نر الطائرات والسلاح الثقيل آنذاك كما نراهما الآن استنقاذا للفرنسيين الخمسة؟

من البديهي أن موريتانيا لا تستطيع غض الطرف إذا استهدفت القاعدة في المغرب الإسلامي جنودها أو مواطنيها أو الرعايا الأجانب على أرضها، ولا تستطيع دولة تحترم ذاتها أن تغض الطرف عن ذلك، لكن جوهر الخلاف هنا هو السبيل المناسب للرد على استفزاز القاعدة في المغرب الإسلامي، وليس في الاختيار بين المواجهة والخنوع.
فمنهج الحرب الدفاعية المحدودة هو الذي يناسب الإمكان والمصلحة الموريتانية في التعاطي مع هذا التنظيم الآن. ومن مقتضى ذلك أن تتخذ موريتانيا موقفا دفاعيا، وألا تهاجم خارج حدودها، وألا تبالغ في تحويل الأمر إلى معركة وجودية بالعنتريات الإعلامية، مثل القول إن رئيس الجمهورية يقود المعركة بنفسه.

ويقتضي منطق الحرب الدفاعية المحدودة تغليب الجانب الأمني القانوني على الجانب العسكري القتالي، وتجفيف منابع الإرهاب داخل البلاد، بالحوار والحرية والاحتواء.

وقد قطعت موريتانيا شوطا حسنا في موضوع الحوار مع الشباب السلفيين وتحييد العديد منهم، وكان آخر ذلك العفو الذي أصدره رئيس الجمهورية عن السجناء السلفيين في عيد الفطر المبارك. وهذا المنحى الاحتوائي هو الذي ينبغي التركيز عليه، وجعله أولوية الأولويات، مع تبني سياسات اجتماعية رشيدة تراعي الاهتمام بحاجات الشعب، وتطلعات الشباب الباحث عن رسالة في الحياة ومكانة في المجتمع.

فالحرب على الفساد التي أعلنها الرئيس محمد ولد عبد العزيز -مثلا- أهم ثمرة، وأنكى في الإرهاب، من الحرب في صحراء مالي.

تستطيع القيادة الموريتانية إسكات الأصوات الإعلامية الحرة في الداخل، وسحب التراخيص من الفضائيات الخارجية، كما هدد بعض ساستها، ولكن ذلك لن يكون بديلا عما تحتاجه اليوم من رؤية إستراتيجية رصينة، تتأسس على المصالح الوطنية، وعلى الإمكان والواقعية السياسية.

ففُتات المال الذي يمنحه الأوروبيون والأميركيون، والمعدات العسكرية الصدئة الخارجة من الخدمة التي يتبرعون بها لا يساويان قطرة دم من دماء جنودنا.

إن إشعال الحرب أمر سهل، لكن كسبها ليس كذلك، وجدير بقادة موريتانيا أن يفكروا مليا قبل أن يحولوا بلدنا الطيب الوديع إلى ساحة حرب إقليمية ودولية طاحنة، بين الباحثين عن الذهب واليورانيوم واستعباد الشعوب، وبين الباحثين عن الموت في مظانِّه.

المصدر: الجزيرة

كُتب في المناهج | التعليقات على نحو إستراتيجية حكيمة لمواجهة القاعدة بموريتانيا مغلقة

العلاقات السورية الأميركية حتى بداية الحرب الباردة (الجزء الأول)

كانت سورية ولا تزال أشبه بمفتاح للعالم “وقد كان فضلها على رقي البشرية من الناحيتين الفكرية والروحية أجَلَّ شأناً من فضل أي بلد آخر…. وربما كانت سورية أكبرَ بلد صغير على الخريطة، فهي صغيرة جداً في حجمها ولكنها عالمية في تأثيرها…. وازدحمت في أرضهم الضيقة [أي السوريين] أحداث تاريخية وثقافية تتسم بزهوها وفعاليتها أكثر مما ازدحمت به أي أرض أخرى بنفس المساحة”[1]، كما أن موقعها الجغرافي جعلها قلباً حياً يتدفق منه العطاء والتواصل بين قارات العالم، وإذا أضفنا إلى ذلك إمكانياتها الذاتية ونسيجها السكاني المدهش وتنوعه اللامحدود أدركنا لماذا صارت محط أنظار أمم الأرض في كل زمان. لذا فإن دراسة علاقاتها مع مختلف الدول أمرٌ مهم، وخصوصاً عندما يتعلق بدولة عظمى مثل الولايات المتحدة، أي العلاقة بين أهم  أرض وأعظم دولة، وخلال فترة خاصة تبدأ من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الحرب الباردة[2]،  وهو ما سيطرح في هذا المبحث المختصر، مع مقدمة بسيطة للعلاقات التاريخية السابقة.

أكمل قراءة التدوينة

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على العلاقات السورية الأميركية حتى بداية الحرب الباردة (الجزء الأول) مغلقة