من فأر إلى نمر عظيم ..ماذا فعل مهاتير محمد لبلاده……..

« بلد » مساحته «٣٢٠ ألف كيلو متر مربع » … وعدد سكانه ٢٧ مليون نسمة ، أي مثل عدد سكان السعودية ومثل ثلث عدد سكان مصر…
كانوا حتى عام 1981 يعيشون فى الغابات ، ويعملون فى زراعة المطاط ، والموز ، والأناناس ، وصيد الأسماك …
وكان متوسط دخل الفرد أقل من آلف دولار سنوياً … والصراعات الدينية « ١٨ ديانة » هي الحاكم …
حتى أكرمهم الله برجل أسمه «mahadir bin mohamat‏» ، حسب ما هو مكتوب في السجلات الماليزية .. أو « مهاتير محمد » كما نسميه نحن .. فهو الأبن الأصغر لتسعة أشقاء … والدهم مدرس ابتدائي راتبه لا يكفي لتحقيق حلم ابنه « مهاتير » بشراء عجلة يذهب بها إلى المدرسة الثانوية .. فيعمل « مهاتير » بائع « موز » بالشارع حتى حقق حلمه ، ودخل كلية الطب فى سنغافورة المجاورة … ويصبح رئيساً لإتحاد الطلاب المسلمين بالجامعة قبل تخرجه عام 1953 … ليعمل طبيباً فى الحكومة الإنكليزية المحتلة لبلاده حتى استقلت « ماليزيـا » في عام 1957، ويفتح عيادته الخاصة كـ « جراح » ويخصص نصف وقته للكشف المجاني على الفقراء … ويفوز بعضوية مجلس الشعب عام 1964 ، ويخسر مقعده بعد خمس سنوات ، فيتفرغ لتأليف كتاب عن « مستقبل ماليزيا الإقتصادي » في عام 1970 … ويعاد انتخابه «سيناتور» في عام 1974 … ويتم اختياره وزيراً للتعليم في عام 1975 ، ثم مساعداً لرئيس الوزراء في عام 1978 ، ثم رئيساً للوزراء في عام 1981 ، أكرر فى عام 1981 ، لتبدأ النهضة الشاملة التي قال عنها في كلمته بمكتبة الإسكندرية إنه استوحاها من أفكار النهضة المصرية على يد محمد علي ..

فماذا فعل « الجراح الماليزي » ؟

أولاً : رسم خريطة لمستقبل ماليزيا حدد فيها الأولويات والأهداف والنتائج ، التي يجب الوصول إليها خلال ١٠ سنوات .. وبعد ٢٠ سنة .. حتى عام 2020 !!!
ثانياً : قرر أن يكون التعليم والبحث العلمي هما الأولوية الأولى على رأس الأجندة ، وبالتالي خصص أكبر قسم في ميزانية الدولة ليضخ في التدريب والتأهيل للحرفيين .. والتربية والتعليم .. ومحو الأمية .. وتعليم الإنكليزية .. وفي البحوث العلمية .. كما أرسل عشرات الآلاف كبعثات للدراسة في أفضل الجامعات الأجنبية .. فلماذا « الجيش » له الأولوية وهم ليسوا في حالة حرب أو تهديد ؟ ولماذا الإسراف على القصور ودواوين الحكومة والفشخرة والتهاني والتعازي والمجاملات والهدايا ؟

ثالثاً : أعلن للشعب بكل شفافية خطته واستراتيجيته ، وأطلعهم على النظام المحاسبي الذي يحكمه مبدأ الثواب والعقاب للوصول إلى « النهضة الشاملة » ، فصدقه الناس ومشوا خلفه ليبدأوا « بقطاع الزراعة » .. فغرسوا مليون شتلة « نخيل زيت » فى أول عامين لتصبح ماليزيا أولى دول العالم فى إنتاج وتصدير « زيت النخيل » !!!
ففي قطاع السياحة .. قرر أن يكون المستهدف في عشر سنوات هو ٢٠ مليار دولار بدلاً من ٩٠٠ مليون دولار عام 1981 ، لتصل الآن إلى ٣٣ مليار دولار سنوياً .. وليحدث ذلك ، حّول المعسكرات اليابانية التي كانت موجودة من أيام الحرب العالمية الثانية إلى مناطق سياحية تشمل جميع أنواع الأنشطة الترفيهية والمدن الرياضية والمراكز الثقافية والفنية .. لتصبح ماليزيا « مركزاً عالمياً » للسباقات الدولية فى السيارات ، والخيول ، والألعاب المائية ، والعلاج الطبيعي ، و… و… و….

وفي قطاع الصناعة .. حققوا فى عام 1996 طفرة تجاوزت ٤٦٪ عن العام السابق بفضل المنظومة الشاملة والقفزة الهائلة فى الأجهزة الكهربائية ، والحاسبات الإلكترونية.
وفي النشاط المالي .. فتح الباب على مصراعيه بضوابط شفافة أمام الاستثمارات المحلية والأجنبية لبناء أعلى برجين توأم فى العالم .. بتروناس .. يضمان ٦٥ مركزاً تجارياً فى العاصمة كوالالمبور وحدها .. وأنشأ البورصة التي وصل حجم تعاملها اليومي إلى ألفي مليون دولار يومياً.
وأنشأ أكبر جامعة إسلامية على وجه الأرض ، أصبحت ضمن أهم خمسمائة جامعة فى العالم يقف أمامها شباب الخليج بالطوابير ، كما أنشأ عاصمة إدارية جديدة putrajaya‏ بجانب العاصمة التجارية «كوالالمبور» التي يقطنها الآن أقل من ٢ مليون نسمة ، ولكنهم خططوا أن تستوعب ٧ ملايين عام 2020 ، ولهذا بنوا مطارين وعشرات الطرق السريعة تسهيلاً للسائحين والمقيمين والمستثمرين الذين أتوا من الصين والهند والخليج ومن كل بقاع الأرض ، يبنون آلاف الفنادق بدءًا من الخمس نجوم حتى الموتيلات بعشرين دولار فى الليلة !!!
بإختصار .. إستطاع الحاج «مهاتير» من عام 1981 إلى عام 2003 أن يحلق ببلده من أسفل سافلين لتتربع على قمة الدول الناهضة التي يشار إليها بالبنان ، بعد أن زاد دخل الفرد من ١٠٠٠ دولار سنوياً في عام 1981 عندما تسلم الحكم إلى ١٦ ألف دولار سنوياً .. وأن يصل الإحتياطي النقدي من ٣ مليارات إلى ٩٨ ملياراً ، وأن يصل حجم الصادرات إلى ٢٠٠ مليار دولار ، فلم يتعلل بأنه تسلم الحكم فى بلد به ١٨ ديانة ، ولم يعاير شعبه بأنه عندما تسلم الكرسي فى عام 1981 كان عددهم ١٤ مليوناً والآن أصبحوا ٢٨ مليوناً ، ولم يتمسك بالكرسي حتى آخر نفس أو يطمع فى توريثه لأبنائه …

في عام 2003 وبعد ٢١ سنة ، قرر بإرادته المنفردة أن يترك الجمل بما حمل ، رغم كل المناشدات ، ليستريح تاركاً لمن يخلفه « خريطة طريق » و« خطة عمل » اسمها « عشرين .. عشرين » .. أى شكل ماليزيا عام 2020 والتي ستصبح رابع قوة إقتصادية فى آسيا بعد الصين ، واليابان ، والهند.

لهذا سوف يسجل التأريخ .. « أن هذا المسلم » لم ترهبه إسرائيل التي لم يعترفوا بها حتى اليوم ، كما ظل ينتقد نظام العولمة الغربي بشكله الحالي الظالم للدول النامية ، ولم ينتظر معونات أمريكية أو مساعدات أوروبية ، ولكنه اعتمد على الله ، ثم على إرادته ، وعزيمته ، وصدقه ، وراهن على سواعد شعبه وعقول أبنائه ليضع بلده على « الخريطة العالمية » ، فيحترمه الناس ، ويرفعوا له القبعة !!!
وهكذا تفوق « الطبيب الجراح » بمهارته وحبه الحقيقى لبلده واستطاع أن ينقل ماليزيا التى كانت « فأراً » إلى أن تصبح « نمراً » آسيوياً يعمل لها ألف حساب !!!

كُتب في الأعلام, المعاصرون, منائر | التعليقات على من فأر إلى نمر عظيم ..ماذا فعل مهاتير محمد لبلاده…….. مغلقة

ثقافة المناظرات والمباهلات بين الحقيقة والوهم…

(نشر هذا المقال على حلقات في صفحة منتدى القراء في جريدة الشرق القطرية ، وقد حذفت أجزاء منه لأسباب تتعلق بضيق المساحة، وفيه وجهة نظر هامة إن لم تكن كلها صواباً ففيها من الصواب الكثير)

الحمد لله مُوْلي النعم ودافع النقم ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة لجميع الأمم ، وعلى آله وأزواجه وأصحابه ذوي الفضل والنجابة والكرم ، فقد تابعنا على مدى أسابيع ما أمطرتنا به بعض القنوات الفضائية من مناظرات ومباهلات ، بعد أن قام أحد السفهاء المخبولين بإقامة “احتفال” بذكرى وفاة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها ، تنافس فيه جمع من الأوباش على سب السيدة المطهرة من فوق سبع سماوات في قرآن يتلى إلى يوم القيامة ، وما كان لهذا الاحتفال أن يذكر بهذا الشكل أو يكون له مثل هذا الحضور ، لولا الدور الذي قامت به تلك القنوات في نشر أخباره على مسمع ومرأى من الملأ ، وشحن الناس لمتابعته .
وسأحاول في هذه المقالة – بإذن الله – أن أحلل ما حدث من وجهة نظري القاصرة ، والتي أرى أنها قد لا تتفق مع وجهة نظر الكثير من الأفاضل الذين تحمسوا وحملوا الأمر على أنه من باب الانتصار لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، لا لأنني أرى أن ما سأكتبه هو القول الفصل في هذا الأمر ، ولكن من باب إعطاء الفرصة للناس للنظر إلى الأمر من زاوية أخرى ، وتحفيزهم على الاستفادة من الآراء المختلفة بذهن مفتوح ، ولنبدأ على بركة الله .
نقطة البداية
لا شك عندي أن إقامة هذا الاحتفال البغيض بذكرى وفاة السيدة عائشة رضوان الله عليها – فوق كونه زندقة – فهو ينم عن تشوه خطير في العقل ، ولكن هذا الحدث وما نجم عنه من ردود أفعال يحتاج إلى أكثر من وقفة لاستخلاص العبر ، بعد أن هدأ الغبار الذي أثارته هذه الضجة ، فأصبح من المتعين على العاقل أن ينظر حوله لمعرفة ما جرى وما يجري على أرض الواقع ليكوِّن فكرة شاملة عن المشهد ، لا أن يقتصر في إصدار حكمه على جزء صغير من الصورة ، وقد أفضى لي كثير من الفضلاء العقلاء بمدى استيائهم من هذه المناظرات منذ بداياتها الأولى وقبل أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه ، لما رأوه فيها من الإسفاف والاستخفاف بعقول الناس فضلا عن اطِّراحهم لمناهج العلماء التي تضبط إقامة مثل هذه المناظرات ، ولكن التيار جارف ، والناس متلهفون في البحث عن أي شيء يوهمهم بالنصر على عدوٍّ ما ، ولو كان على شاشات التلفاز ، فلعل ما أكتبه هنا يكون محفزا لطائفة من الناس كي يكونوا أكثر حذرا مما ينصب لهم من الفخاخ مستقبلا ، وإن كنت على يقين أن ما سأكتبه سيثير استياء البعض ، لأنهم رأوا فيما حدث انتصارا لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وكل من خالفهم فهو إما أن يكون مع أعدائهم ، أو متخادلا مخذِّلا لأخوانه ، وهؤلاء – وإن كان أكثرهم من الطيبين ذوي النوايا الحسنة – إلا أنني أرجو أن يسمحوا لي بمخالفتهم فيما ذهبوا إليه ، وأن تتسع صدورهم لمن ينظر للأمر من زاوية مختلفة عنهم .
ما هي المباهلة ؟
ترددت هذه الكلمة أخيرا على الأفواه ، ولاكتها الألسن ، وربما لا يعرف كثير من الناس معناها ، وإن استشعروه ، وهي كلمة جديدة على معظمهم ، وربما طرقت أسماعهم لأول مرة بعد هذه الهوجة الهوجاء ، ولنبدأ بتعريفها ، فالمباهلة لغة من بَهَلَهُ بَهْلًا ، أي لَعَنَهُ ، واسم الفاعل بَاهَلَ ، والأنثى بَاهِلَة ، وبها سميت القبيلة ، والاسم البُهْلَة بضم الباء وفتحها، وبَاهَلَهُ مَبَاهَلَةً أي لَعَنَ كل منهما الآخر وجَدَّ في التضرع إلى الله تعالى .
وجاء في الموسوعة الفقهية : بَاهَلَهُ مُبَاهَلَةً ، لعن كل منهما الآخر وابتهل إلى الله : ضرع إليه ، وبَهَلَهُ بَهْلا : لَعَنَهُ ، ومنه قول أبي بكر : من ولي من أمر الناس شيئا فلم يعطهم كتاب الله فعليه بهلة الله ، أي لعنته ، وباهل بعضهم بعضا : اجتمعوا فتداعوا فاستنزلوا لعنة الله على الظالم منهم ، وفي أثر ابن عباس رضي الله عنهما : من شاء باهلته أنه ليس للأَمَةِ ظِهَار .
ومعناها في الاصطلاح غير بعيد من معناها لغة .
وقد جاء ذكر المباهلة في القرآن الكريم في قوله تعالى : {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَة اللهِ عَلَى الْكَاذِبِين}[آل عمران:61]
وسبب نزول هذه الآية عندما طلب النبيُّ صلى الله عليه وسلم المباهلةَ مع وفد نصارى نجران في أمر المسيح عليه السلام ، فأبوا منها ورضوا بالجزية بعد أن أَعْلَمَهُم كبيرُهم أنهم إن باهلوه اضطَرَم عليهم الوادي نارا ، فإن محمدا نبيٌّ مرسل ، ولقد تَعْلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى ، فتركوا المُباهَلَة وانصرفوا إلى بلادهم على أنْ يؤدوا فِي كل عام ألف حُلَّة في صفر ، وألف حلة في رجب ، فصالَحَهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بدلا من الإسلام . انظر تفسير القرطبي .
لماذا الآن ؟
الأحداث لا تنشأ من فراغ ولا تتمدد في الفراغ ، فلا بد للعاقل أن يفطن لتوقيت الأحداث التي تجري من حوله ، حتى يمكنه أن يفسرها تفسيرا ينفذ به إلى ما دون السطح ، وبالتالي يتمكن من الحكم على الأمور وتقدير العواقب ، وإلا لما كان لبني الإنسان فضل على سائر العجماوات .
وأول سؤال ينبغي أن نسأله لأنفسنا إزاء هذا الحدث هو : لماذا الآن ؟
قد يقول قائل بأن ما حدث ما كان ليحدث لولا قيام ذلك السفيه بقذف السيدة عائشة رضي الله عنها ، فكان من المتعين الدفاع عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذب عن أمنا عائشة رضي الله عنها.
ولكن في المقابل نعلم جميعا بأن هناك طوائف من المنتسبين للإسلام ديدنهم سب الصحابة وأمهات المؤمنين منذ قرون ، بغض النظر عن مبرراتهم التي يسوغون بها هذا الفعل الشنيع ، فما الجديد في الأمر ؟
وما الذي يجعل هذه القنوات تتسابق إلى الإعلان عن هذا الأمر وكأنهم يكتشفونه لأول مرة في التاريخ ؟ وكأنهم ما كانوا ليعلموا به لولا أقدام ذلك السفيه عليه .
دفاع عن السيدة عائشة .. أم دفاع عن النفس ؟
إن ما حدث – في ظني – يكشف حالة الأزمة التي تعيشها بعض التيارات التي تسمي نفسها إسلامية ، فأرادت هذه التيارات أن تظهر نفسها أمام العامة بأنها هي المدافعة عن مقدسات الإسلام ، وهي التي تمثل الإسلام الصحيح النقي ، كما هو معروف في خطابها ، بعد أن لطخوا صورة الإسلام بتعصبهم الأعمى وساعدوا أعداء الإسلام – بجهلهم تارة وعنادهم تارة – على تصوير المسلمين على أنهم من غير جنس البشر ، بل هم للوحوش أقرب ، وما نجم عن أفكارهم في بلاد المسلمين في العراق والصومال واليمن وغيرها ، دليل شاخص على ذلك ، فقتلوا المسلمين بأدنى شبهة ، واستحلوا دماءهم وأموالهم بحجة أنهم مشركون ، وهدموا المساجد ونبشوا القبور بحجة صيانة جناب التوحيد ، ولم يكتف بعضهم حتى تمنى أن يأتي اليوم الذي تهدم فيه القبة الخضراء في المسجد النبوي ، واتهموا كل من خالفهم أدنى مخالفة بالزيغ والضلال ، حتى لو كان منهم ، كل ذلك وأكثر جعل هذا الفكر محاصرا بأفعاله ، ومنقسما على نفسه ، ووضعه في موضع التهمة أمام الناس ، وقد لاحظوا مؤخرا أن الناس بدأوا يتبرمون بأفعالهم ويعرضون عنهم لتشددهم وغلظتهم ، فبدأ بعض دعاتهم مؤخرا يركب موجة التهريج والإسفاف طمعا في أن يستميل قلوب العوام إليه .
ثم لاحت الفرصة أمام أعينهم بهذه المناظرات الهزلية ، واتسعت دائرتها وانخرط فيها جمع كبير منهم ، وبعدها حدث من ذلك السفيه ما حدث ، فوجدوها نُهزة لترويج بضاعتهم الكاسدة وليستعيدوا قواعدهم المفقودة ، وليثبتوا لأتباعهم ومن يجهلون حقيقتهم بأنهم هم المخلصون في الدعوة إلى الإسلام ، وأن من عداهم متقاعسون مداهنون على حساب العقيدة الحق بزعمهم ، حتى رأينا بعضهم في خضم هذه الهوجة يسأل : أين جماعة كذا من الدفاع عن عرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أين فلان وعلان من الذب عن أم المؤمنين ؟؟ وكأنه يريد أن يقول: ليس على الساحة غيرنا ، فانتقلت المعركة من كونها دفاعا عن عرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى أن أصبحت فرصة سانحة لتصفية الحسابات مع المخالفين لهم من التيارات الأخرى ، والربط على قلوب الأتباع وجلب المزيد من المؤيدين لفكرهم ، وهنا تنكشف حقيقة النوايا ، ويظهر المحرك الحقيقي لهذه الغضبة المُضَرية ، فبان أنهم غير معنيين بالدفاع عن السيدة عائشة بقدر ما هم معنيون بالدفاع عن أنفسهم وتلميع صورتهم ولو على حساب الدين .
الدكاكين الفضائية .. والدجاجة التي تبيض ذهبا!
لا يغيب عنا أن الثورة الإعلامية التي يشهدها العالم أفرزت عشرات القنوات – أو الدكاكين – الفضائية ، فانتشرت كالوباء من كل لون ونوع ، وأخذت تعبث بكل شيء تطاله يدها تحت مسمى الحرية الإعلامية والفضاء المفتوح ، وابتكرت أساليب شتى في الاحتيال لأكل أموال الناس ، تخاطب غرائزهم تارة ، وأحلامهم تارة أخرى ، وتلعب على كل الحبال وتعزف على كل الأوتار ، وظهرت بعض القنوات التي صبغت نفسها بصبغة إسلامية ، يديرها خليط غير متجانس من الهواة الذين لا تتخطى معرفة أكثرهم بالإعلام صحفَ الحائط والإذاعةَ المدرسية ، فمنهم من هو محمل بأفكار جاهزة للتفجر في وجه المجتمع ، ومنهم من يحمل بين كتفيه رأسا لا تكاد توجد فيه مسكة من عقل أو حكمة ، ومنهم صاحب أغراض مشبوهة ، ومنهم من لا يهمه سوى رؤية طلعته البهية على الشاشة ، ولكن كل ذلك لا يهم أصحاب تلك الدكاكين ما دامت برامجهم تدر الأموال وتتخم أرصدتهم .
ومما يندى له جبين كل حر عفيف أن ترى بعض هذه القنوات – الدكانية – تبث تلاوات للقرآن الكريم طوال اليوم ، وشريط الإعلانات الذي يلتهم الشاشة مشحون بالدعاية لمستحضرات طبية لعلاج الأمراض التناسلية!!! وفي أحسن الحالات تعلن عن اكتشافات وأدوية لم يسمع بها غيرهم لعلاج “جميع” الأمراض المستعصية !! بداية بتبييض البشرة إلى جميع أنواع السرطان ، فيا لها من استهانة بالقرآن الكريم ؟ .
وعندما وقعت هذه الفتنة وافقت هوى عند بعض أرباب الدكاكين الفضائية ممن امتهنوا الإثارة لاحتلاب الأموال من جيوب مشاهديهم السذج بشتى الطرق ، لكي يتخموا أرصدتهم المتخمة أصلا بالأموال ، وهم يعلمون أن كثيرا من هؤلاء المشاهدين المتحمسين لو سألتهم عن أسماء الخلفاء الراشدين لاحتاروا في الجواب ، والنابه منهم قد يحسب أن صلاح الدين الأيوبي كان من الخلفاء الراشدين ، ولو سألتهم عن خالد بن الوليد رضي الله عنه لظنوه لاعب كرة قدم ، فمثل هذا الجمهور الذي يجهل دينه هذا الجهل المُردي ، لا بد أن يقع صيدا سهلا ، وفريسة يسيل لها لعاب تجار الدكاكين الفضائية .
كيف وقد جاءتهم هذه الفرصة على طبق من ذهب ، وبمعاونة أناس عرفوا بالنزق وقصر النظر ، واستعدادهم لأن يقولوا أي شيء وكل شيء بدعوى بيان الحق وكشف الزيف بلا مداهنة ، ولسهولة الاحتيال على هذه العقول الساذجة ، أوهموهم بأنهم أوقفوا قنواتهم على الدفاع عن مقدسات الإسلام ، وبأنهم يقفون معهم على خط الدفاع الأول في مواجهة الفرق والطوائف والعقائد المنحرفة والمحرفة ، فنصبت الخيام ، ورفعت الأعلام ، ونودي : هل مِن مبارز ؟؟
وتقاطر جهابذة الفضائيات يستعرضون عضلاتهم في لقلقة اللسان والزهو الزائف ، ووضعوا أمامهم تلالا من الكتب ، ونهشوا أوقات الناس وعقولهم ، يلقون على مسامع العوام قضايا خطيرة ، وتناظروا في مشكلات عويصة في علوم العقائد مما قد تقصر عنه أفهام الخائضين فيها والمستمعين لها على السواء !!
علما بأن بعض من يشاركون في هذه المناظرات ربما رأوا في هذا الفعل مخالفة لمنهج السلف الذي يتشدقون به ، هذا إذا كان من شارك في هذه المناظرات منتميا لتيار مخالف لهم ، أما وقد سنحت الفرصة لهم وأناخت ركابها ببابهم فأنى لهم أن يفلتوها ؟؟ فلا بأس أن يتغافلوا قليلا عما نسبوه إلى منهج السلف في سبيل تبليغ الحق للناس!!! حتى وصل الأمر ببعضهم إلى مداهنة اليهود والنصارى على حساب مخالفيه من المسلمين ، وفي المقابل فإن أصحاب الدكاكين الفضائية لا يلقون بالا لمنهج سلف أو خلف ما دام الأمر يجلب لهم الأموال الطائلة على حساب البُلْه من المشاهدين الذين فغروا أفواههم وجيوبهم ، وسلموهم أسماعهم وعقولهم يعبثون بها بحجة المناظرات العلمية تارة وتصحيح العقيدة أخرى ، ولا يهم بعد ذلك ما يجره هذا الفعل على الأمة من ويلات وفتن .
لقد فتحت هذه القنوات أبوابها مشرعة لكل ناعق من الفريقين ، وأصبح سب الصحابة يطرق الأسماع ليل نهار ، والتشكيك في القرآن الكريم ، وهل هو محرف أو محفوظ ، على كل لسان ، وانطلق كل فريق يدلي بحجته ، ولم يبق جاهل ولا متعالم ولا دَعِيّ إلا أدلى بدلوه ليكون له نصيب في هذه المعركة التاريخية الفاصلة
فَلَم يَبْقَ مِن كَلبٍ عَقُوْرِ وكَلْبَةٍ
في الحَيِّ إِلا جَاءَ بالعَمِّ والخَالِ
وصار كل فريق يدعي أنه الممثل الشرعي للإسلام ، وضاع عامة الناس في خضم هذه الفتنة العمياء .
لقد نقل عن ذلك الأخرق أنه صرح لقناة (بي بي سي) أن هدفه هو تعويد الناس على سماع شتم الصحابة !!
فَيَا لهُ مِن عملٍ صالحٍ
يَرفعُه اللهُ إلى أسفَلِ
فإن كان ما نقل عنه صحيحا فلا شك أنه نجح في هذه المهمة المخزية أيما نجاح ، وشاركه كبر هذا العمل أبطالُ الفضائيات والدكاكين الفضائية ، وتعوَّد المسلمون على سماع هذه البذاءات وانقضى الأمر ، فلو خرج علينا أحدهم غدًا يسب أجلاء الصحابة فلن يكون له نفس التأثير ، لأن النفوس أَلِفَت سماعه ، ومثل هذا حدث في الماضي القريب جدا ، عندما قام أحد المجرمين برسم صور مسيئة للنبي – صلى الله عليه وسلم – فثارت ثائرة المسلمين في الشرق والغرب ، وأحرقت الأعلام وهوجمت السفارات وألقيت الخطب العصماء ودبجت القصائد ، وخفقت رايات الحرب الألكترونية والاقتصادية … ثم ماذا كان ؟
لا شيء ، سوى أن المسلمين بعد أن هدأت سورة الغضب بدأوا يتعودون سماع الإساءة لدينهم ومقدساتهم ، وأصبح كل سفيه يريد أن يجاري الموجة لا يكلفه ذلك سوى أن يرسم رسما ، أو يخرج فيلما ، أو يكتب كتابا ، حتى تنطلق الجموع المنددة تحرق وتكسر ، ويكتفي هو بالفرجة والضحك ، ثم فَتَرَت هذه الحماسة عند المسلمين حتى أصبح مثل هذا الخبر عاديا لا يرف له جفن ، والسبب أن ذلك الغضب كان غضبا أهوج .. كان غضبا لأجل الغضب فقط ، دون أن يكون هناك من يدل هذه الجموع أو يرشدها إلى ما يجب أن يفعلوه لنصرة دينهم بالفعل لا بالقول ، أو يستثمر حماستهم في أمر ينفع الإسلام والمسلمين ، وما كان لله دام واتصل!
وجاءت المباهلة ..
بعد أن اشتبكت الأطراف المتنازعة وخمش كل منها وجه صاحبه ، وسالت الدماء من أنوفهم ومزقوا ثيابهم ، كان لا بد لهذه الدكاكين الفضائية أن تستثمر في بلاهة الزبائن ، فجاءت اللحظة الحاسمة لتفصل في هذه المنازلة .. جاءت المباهلة كحل أخير ونهائي ، فبعد أن أعيتهم الحيل مع بعضهم البعض ، أصبح من المتعين أن تكون هناك ضربة قاضية ، فتنادوا للمباهلة واستمطار اللعنات على الكاذب منهم!
ومرة أخرى يؤذوننا بسماع لعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على لسان ذلك الرقيع وأمثاله ، وكأن كل ما حدث من قبل لم يكفهم .
وبدأ كل فريق يتربص بصاحبه أن يقع عليه العقاب الإلهي الموعود ، وحتى تكتمل الإثارة في المشهد ، ولأن الأعصاب لا تطيق الانتظار كثيرا لأننا في عصر السرعة !! خرج علينا أحدهم يبشرنا بأنه رأى رؤيا تؤيد فريقه ، فتصايحوا مكبرين مهللين متمنين أن تتحقق الرؤيا ، وقام بعض أصحابه بالاتصال به هاتفيا ليتأكد منه شخصيا طلبا لعُلوِّ السند ، وقاموا بتسجيل المكالمة وتواصوا ببثها لكي يسمعها العالم كله!! ويرى عجائب قدرة الخالق عز وجل!! تعالى الله عن عبثهم علوا كبيرا .
ولم ينس صاحب الرؤيا أن يظهر بمظهر المتحقق من الأمر ، فسأل أحد مفسري الأحلام المشهورين ، ليكتمل المشهد ويصل إلى ذورته الدرامية بالتأكيد على أن هذه رؤيا حق وليست حلما شيطانيا أو حديث نفس ، فهي واقعة لا محالة!!
ولم يسأل أي فريق منهما نفسه : ماذا لو هلك صاحبهم ، هل سيرجعون عما هم عليه ويتحولون إلى الطرف الآخر ؟؟
طبعا لا أنتظر الجواب منهم .
هل هناك شيء وراء الأكمة ؟
أشرت في بداية مقالتي إلى ضرورة النظر إلى المشهد كاملا كي نحسن فهم الواقع ، فربط الأمور بظرفيها الزماني والمكاني أمر في غاية الأهمية ، ففي الوقت الذي ينشغل فيه المسلمون – وخصوصا العرب منهم – بمتابعة هذه المناظرات والمباهلات ، نجد أن الكيان الصهيوني يتلذذ بممارسة هوايته في قضم أراضي فلسطين وهويتها ليلا ونهارا ، والمستوطنات تستشري على أرض الضفة بتواطؤ المتواطئين وصمت الصامتين ، والأقصى تنخر عظامه حفريات اليهود وقد ينهار بين فينة أو أخرى ، ولا يبدو على المسلمين أنهم سيكترثون كثيرا لو انهار الأقصى ، لأنهم أصبحوا لا يخشون إلا من انهيار سوق الأوراق المالية ، والمعركة مع الصهاينة مؤجلة لحين انتهاء المناظرات وما تسفر عنه المباهلات ، وبعدها قد ننظر في أمر الأقصى ، هذا إذا بقي الأقصى أصلا ، ثم إذا التفتنا نحو العراق نجده يغرق في مستنقعات الأحزاب السياسية المتناحرة على الفتات ، ويزداد تمزقه يوما بعد يوم ، ويقتتل الناس فيه على الهوية ، فلا يعرف القاتل فيم قَتل ، ولا المقتول فيم قُتِل ، ونرى السودان ينفصم شماله عن جنوبه وتجار الحروب متحفزون لحرب تلوح في الأفق بين شطريه ، أما الصومال المسكين فقد راجت فيه تجارة الحروب والقرصنة منذ سنين ولا يبدو أن أحدا يأبه به ، واليمن ممزق بين الحوثيين والحراك الجنوبي والقاعدة كل منها يفري لحمه ويقطع أوصاله ، ومصر قلب العروبة والإسلام تئن تحت ثقل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والطائفية ، ولبنان يحاول أن يتمسك بأهداب الأمل كي لا تتفلت الأمور من عقالها ويخرج مارد الحرب الأهلية من قمقمه ، ودول الخليج تسير وسط أشواك المشاريع الدولية المختلفة ، الإيرانية والأمريكية والأوروبية ، وتذوي هويتها العربية يوما بعد يوم تحت لهيب التغريب الذي يلفحها بأنفاسه الحارقة ، وبلاد المغرب ليست أفضل حالا من الباقين فلها من كل ما سبق نصيب .
نحن إذن أمام مشهد حالك السواد ، وفتن تدع الحليم حيران ، ثم تأتي هذه الفتنة في هذا الوقت ، وبسبب أمر ليس بجديد ، وعلى يد بعض النكرات ، ونجد المسلمين فجأة نسوا أو تناسوا كل شيء ، ولم يعد يهمهم في هذا العالم إلا متابعة هذه المناظرات والمباهلات وما قد ينجم عنها ، وكأننا انتهينا من مشاكل الحاضر فذهبنا نصفي مشاكل الماضي ، والمحزن في الأمر أن نجد شخصيات كبيرة لها تاريخها في الدعوة والعلم قد استجابت لضغوط هذه الفئة القليلة التي اختطفت الإسلام والمسلمين في هذه الظروف العصيبة وبتحريض من الدكاكين الفضائية ، وفيضان العواطف عند العامة ، لكي تشارك في هذه الزفة ، ولم يسألوا أنفسهم : ما الجديد في الأمر ، وما الذي يمكن أن يترتب عليه ؟
الكل يعلم – لا سيما العلماء – بما بين الفرق المختلفة من الاختلافات في العقائد ، ولو ذهبنا نتباهل على كل ما وقع بيننا وبينهم من اختلاف لما انتهينا إلى يوم الدين ، فكان الأحرى بالعقلاء أن يُعْرضوا عمن يقوم بهذه الأفعال الصبيانية ، ويضربوا على أيدي من يعبثون بعقل الأمة بحجة الدفاع عن المقدسات ، وعيونهم على حطام الدنيا ، وحالهم كما قال القائل :
أظْهَرُوا للنَّاسِ نُسْكًا
وعَلى الدِّينَارِ دَارُوا
فما هي الفائدة التي جنيناها من تهييج الناس وتأليبهم على بعضهم البعض ؟
لا شيء سوى مزيد من التمزق والتفكك ، وإعطاء الفرصة لتغول المشاريع المعادية للأمة وتمددها في طول البلاد وعرضها ، ونحن مشغولون عنهم بمعارك يفتعلها السفهاء وترتهن الأمة لهم ولخطابهم الساذج وعقولهم الضعيفة .
لقد فرح بعض الطيبين بهذه المناظرات ، لأنهم رأوا فيها نصرة للحق كما قلت في بداية كلامي ، مع أنها لا ينطبق عليها وصف المناظرات بالمعنى العلمي ، فالمناظرات علم له أصوله وضوابطه ، وضعت فيه كتب وألفت مؤلفات ، وليس الأمر سبهللا كما تصوره تلك الدكاكين ، أو صراع ديكة لا يخرج منه المتابع بشيء (( كَسَرَابٍ بِقِيْعَة)) .
ثم إن المناظرات لا تجري هكذا على الملأ وعلى أسماع من يفقه ومن لا يفقه بلا ضوابط ، فكيف إذا كانت تناقش قضايا علمية دقيقة تتطلب جوابا علميا منضبطا من كلا الطرفين ، لا ما نراه من مماحكات فارغة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا ، فمن آداب المناظرة كما يقررها أهل العلم أن لا يتكلم فيما لا يعلم ، ولا بموضع يهابه المتكلم ، ولا جماعة تشهد بالزور لخصمه ويردون كلامه ، وتجنب الاضطراب من الجوارح ما عدا اللسان ، والاعتدال في رفع الصوت وخفضه ، وحسن الإصغاء إلى كلام صاحبه ، وأن يجعل الكلام مناوبة لا مناهبة ، والثبات على الدعوى إن كان مجيبًا ، والإصرار على السؤال إن كان سائلاً ، والاحتراز عن التعنت والتعصب والضحك واللجاج .. إلى آخر ذلك.
وقد نظم بعض العلماء أبياتا تحتوي جملة من هذه الآداب فقال :
ويُشْرَعُ الجدال للإظهارِ
للحق أو ردِّ ضلالٍ جاري
بشرط عِلْمِ كلِّ ما في المسألهْ
وضَبْطِ توجيهِ كَمِثْلِ الأسئلهْ
وفي السؤال يُطلب التحسينُ
وفي الجواب الطِّبْق والتبيين
ودَعْ تحرُّكًا كإبراز اليدِ
ورفعِ صوتٍ سِيَّما في المسجد
كذا المغالطةُ والمعاندهْ
أو المشاغبة دون فائدهْ
فانظر أيها القارئ الكريم إلى ما قرره علماؤنا الأعلام وقارن ، هل فيما يقوم به سفهاء الفضائيات شيء من هذا الكلام ؟ أم أن آداب المناظرة التي يذكرها أهل العلم في كتبهم شيء وما يقوم به أولئك المهرجون شيء آخر ؟ فليس فيها إلا صراخ وزعيق ونهيق ومكابرة ومعاندة ، فضلا عن التدليس والغش في النقل وبتر كلام الخصم ليوهم الناس بباطله ، فتكون نتيجة مثل هذا العبث أن تتشوش الأفكار وتتزلزل العقائد وتزيغ القلوب ، وصدق من قال : (( الجدال في الدين مَطْرَدَةٌ لليقين )) وإن نجح كل فريق في اجتذاب أفرادٍ من الطرف الآخر ، فلن يستطيع أن يقضي على المنهج الآخر قضاء لا قيام له بعده ، فالأفكار لا تموت وإن مات أصحابها أو تحولوا عنها ، فسيأتي من يتبناها وينافح عنها ، وهذه سنة جارية في الخلق ، وبعض السذج ظنوا أنهم بمناظرة تلفزيونية هزلية يمكنهم أن يقضوا على مخالفيهم ، فلما أعيتهم الحيلة هبّوا للمباهلة ، ثم تتابعت الأحداث إلى أن منعت كثير من هذه الدكاكين من البث ، وأُخذ الصالح بالطالح ، وأعطوا بسلوكهم الفج ذريعة للمُعادين لكل ما يمت للدين بصلة لكي يتشفوا ويشمتوا بالمسلمين بسبب غباء وجشع هذه القنوات التي اختطفت الإسلام ، فرجعوا يعضون أصابع الندم ، بعد أن توقف ذلك المدد من أموال المشاهدين السذج ، وعادت الحرب التي سعَّروها وبالا عليهم وعلى الأمة ، وصدق عليهم قول الشاعر :
الحربُ أوَّلُ ما تكونُ فَتِيَّةً
تَسْعى بزينتِها لكلِّ جَهُولِ
حتى إذا اشتَعَلتْ وشَبَّ ضِرَامُهَا
وَلَّتْ عجوزًا غيرَ ذاتِ خَليلِ
شَمطاءَ يُنْكَرُ لونُها وتغيرتْ
مَكروهةً للشَّم والتقبيلِ
فالعاقل لا بد له من النظر في عواقب الأمور والتبصر فيما يمكن تؤول إليه ، حتى لا يقع ما لا تحمد عقباه ، فلا تعود هناك فائدة من الكلام بعد فوات الأوان ، وقد قالت العرب قديما : (شر الرأي الدَّبَرِيّ) وهو الذي يسنح للمرء بعد فوات الأوان ، وقد أخذ الفقهاء قاعدة سد الذرائع الموصلة إلى الفساد من قوله تعالى : ((وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)) وبنوا على هذه القاعدة الكثير من الأحكام الشرعية ، ومَن سعَّروا هذه الحروب الفضائية لم يبالوا بهذه القاعدة ولا اكترثوا لها ، ولم ينظروا إلى ما قد تجره تصرفاتهم على الأمة من الوبال ، ففغروا أفواههم وملأوا أشداقهم بكلام لم يقدِّروا عواقبه ، فأوقعوا الناس في الحرج ، واضطروهم إلى أمور كانوا في غنى عنها ، كما حدث من بعضهم عندما تناولوا بعض مخالفيهم بالسوء ، دون أن يبالوا بما يمكن أن ينتج عن هذا الفعل الأخرق ، فوقعوا ضحية طيشهم ، وسقطوا من أعين العقلاء .
وقد تعود هذه الدكاكين الفضائية للبث مرة أخرى ، ولكنني أكاد أجزم أنها ستعود بغير الوجه الذي غادرتنا به ، ولن تعدم الحجة في تبرير التغير الذي طرأ على سياستها ، وأنها ماضية في أداء رسالتها التنويرية (في جباية أموال المشاهدين) وإن اختلفت الوسائل !! .
فما الحل إذن ؟؟
وبعد كل هذا ، قد يقول قائل : فما الحل إزاء هذه التصرفات ؟
وهو سؤال مشروع بلا ريب ، والمؤمنون حقا يسوؤهم أن يسمعوا بأحد السفهاء وهو يتطاول على القمم السامقة ، أو يشكك في الثوابت ، فهل يُترك وشأنه ويهمل حتى يستفحل الداء ويعز الدواء ، ويعود الأمر الذي كان محصورا في شرذمة قليلة شائعا بين عموم الناس؟
أم نواجهه ونقطع دابره قبل أن يستشري ؟
والجواب عن هذا السؤال طويل ذو شجون ، وقد تختلف فيه أنظار أهل الشأن ، ولا أدعي أنني من أهل الشأن ، ولكن المؤكد – عندي على الأقل – أن معالجة هذه القضايا لا تكون على أيدي سفهاء هذه الفضائيات ، ولا المتاجرين بالدين لأغراضهم الرخيصة ، ولا عشاق الظهور على الفضائيات ، بل يجب أن يعالجها الحكماء والعلماء العقلاء ، الذين يعرفون متى وأين وكيف تقال كلمة الحق ، ويحسنون تقدير العواقب ، أما أن نكون من الجهل بحيث لا نعرف متى نتكلم ومتى نسكت ، فحينها نستحق ما يفعله بنا أعداؤنا .
فعلى الحكماء أن يأخذوا على أيدي السفهاء ويحجزوهم عن سفاهتهم ، وأن لا يتركوهم يعبثون بالأمة ، وإن كانت هناك قضايا خلافية فيجب أن تكون المناقشة حولها في إطار علمي وفي أوساط أهل العلم ، وأن يجنبوا العوام الخوض في المسائل الشائكة، ويقطعوا الطريق على قنوات الفتن ولا يتركوا لها منفذا للتشغيب على العلماء أو تشويش أذهان العوام وشغلهم عن قضايا أمتهم .
وفي الختام ..
هذه كلمة جالت في الخاطر ، وجاشت بها النفس ، حاديها شفقة على هذه الأمة ، وأملٌ أن يبزغ فجر يمحو ظلمتها المدلهمة ، ولا أريد أن يُحمل كلامي على أنني أقصد عموم القنوات الإسلامية ولا كلَّ من شارك في هذه المناظرات ، بل قصدت به فئه معينة ، لعلمي أن هناك من شاركوا بسلامة نية ونقاء طوية ، مدفوعين بعاطفة نبيلة تجاه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها ، فهؤلاء أرجو الله تعالى أن لا يحرمهم أجر ما اجتهدوا فيه ، وأن يوفقنا وإياهم على سلوك نهج الصواب ، حتى لا نقع في حبائل الخبثاء من المدفوعين بشهوة المال أو الشهرة ، وما قلته لا يعدو أن يكون رأيا رأيته ، ولعلي أكون مخطئا فيه فرحم الله من أرشدني إلى الصواب إن كنت مخطئا ، أو دعا لي بالتوفيق إن كنت مصيبا .
((إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب))
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

راشد المهندي
ralmuhanadi@yahoo.com

كُتب في المناهج | التعليقات على ثقافة المناظرات والمباهلات بين الحقيقة والوهم… مغلقة

وانكشفت الأسرار الستة لتركيا

وانكشفت الأسرار الستة لتركيا

ليست هناك أية أسرار خفية للنهوض والنجاح، بل هي إرادة سياسية حقيقية، ورغبة جادة في النهوض

المصريون – د. محمد سعد أبو العزم/ 1 كلنون الثاني 2010

 

بالأمس في لبنان، واليوم في ليبيا، وغدًا في واشنطن.. المتابع للنشاط الخارجي التركي خلال الشهر الجاري، لا بد أن يصاب بالدهشة الشديدة، نتيجة هذه الحركة المحمومة على كافة المستويات لرئيس الوزراء التركي، ووزير خارجيته، وهي التحركات التي يمكن فهمها في إطار الجهود التي تبذلها تركيا لتطوير رؤيتها وسياستها، عن طريق التوظيف الأمثل لموروثاتها التاريخية والجغرافية، ومن خلال الالتزام بستة مبادئ، قدمها لنا وزير الخارجية التركي “أحمد داود أوغلو” في كتابه الذي صدرت ترجمته العربية منذ أيام “العمق الاستراتيجي”، فكانت هي المفتاح السحري لتطبيق سياسة خارجية إيجابية وفعالة، كما أصبحت بمثابة الدليل العملي والمجرب لكل من يريد أن يفهم سر النجاح منقطع النظير للسياسة التركية.

 

المبدأ الأول هو: (التوازن السليم بين الحرية والأمن)، والحقيقة أنه ما لم تحرص دولة من الدول على إقامة ذلك التوازن بين الحرية والأمن بداخلها، فإنها بلا شك ستكون عاجزة عن التأثير في محيطها، كما أن مشروعية النظم السياسية يمكنها أن تتحقق عندما توفر هذه النظم الأمن لشعوبها، مع عدم تقليص حرياتها في مقابل ذلك، وبينما كان العالم يتجه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى تقليص الحريات، فإن نجاح تركيا في تحقيق هذه المعادلة الصعبة بتوسيعها مساحة الحريات، دون أن تغامر بأمنها، أمر جدير بالملاحظة والتقدير، فقد تعرضت تركيا وجهودها من أجل الحفاظ على الحريات لاختبار صعب عام 2007؛ حيث واجهت مخاطر الإرهاب وتهديداته من خلال هجمات حزب العمال الكردستاني، ولكنها تمكنت من اجتياز هذا الاختبار بنجاح، فلم تشهد أي تقليص للحريات بفعل مكافحة الإرهاب، وهو ما يؤكد على أن الديمقراطية هي أفضل قوة ناعمة تمتلكها تركيا.

 

المبدأ الثاني هو: مبدأ تصفير المشكلات مع دول الجوار (أي صفر مشاكل)، وهو مبدأ تتضح نتائجه الإيجابية بجلاء لكل متابع، فعند مقارنة وضع تركيا الآن بما كانت عليه قبل أربعة أو خمسة أعوام، سنجد أن علاقاتها مع كافة الدول المجاورة باتت وطيدة، وأبرز الأمثلة على ذلك علاقاتها مع سوريا، التي وصلت إلى ما يمكن وصفه بالانقلاب في المسار الدبلوماسي، وتوج ذلك بإبرام عدد من اتفاقيات التجارة الحرة بين البلدين، وعلى النحو ذاته طورت تركيا علاقاتها مع “جورجيا” لدرجة أنه أصبح بإمكان تركيا استخدام مطار “باتوم” في “جورجيا” كما لو كانت تستخدم مطارًا من مطاراتها الداخلية، وفي ظل حالة التوتر الدولي تجاه إيران بسبب الملف النووي، حافظت تركيا على علاقاتها معها دون أن يعتريها أي اهتزاز، أما العلاقات مع العراق، التي يستخدم أراضيها حزب العمال الكردستاني في شن هجماته ضد تركيا، فقد تطورت إلى حد كبير، وتم تشكيل مجلس استراتيجي رفيع المستوى بين البلدين، و يمكن القول إن مبدأ تصفير المشكلات مع دول الجوار قد تجاوز ذاته، إلى مرحلة أرحب تشهد تعاونًا شاملاً مع هذه الدول.

 

أما المبدأ الثالث: فيقوم على (التأثير في الأقاليم الداخلية والخارجية لدول الجوار)، ويمكننا الحديث هنا عن تأثير تركيا في البلقان، والشرق الأوسط، والقوقاز، وآسيا الوسطى، وهو الأمر الذي ظهرت نتائجه بوضوح في كل تلك المناطق، فقادت تركيا مجموعة الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى، وكان لها دور مؤثر وحيوي في الأزمة بين روسيا وجورجيا، كما وطدت علاقاتها مع كل الدول العربية، ووقعت اتفاقيات تجارية، وفتحت الحدود مع الكثير منها، وأصبح ينظر إلى تركيا على أنها اللاعب الإقليمي الأهم، والمنافس الأول لإيران، في التأثير على منطقة الشرق الأوسط.

 

المبدأ الرابع هو: مبدأ (السياسة الخارجية متعددة الأبعاد)، ويرتكز إلى حقيقة أن العلاقات مع اللاعبين الدوليين ليست بديلة عن بعضها البعض، بل هي متكاملة فيما بينها، وهو مبدأ يضع علاقات تركيا الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، في إطار ارتباطها بحلف الناتو، كما يضع جهود تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وسياستها مع روسيا، على ذات الوتيرة من التزامن، باعتبارها علاقات تجري في إطار متكامل، وليست متضادة أو بديلة عن بعضها البعض.

 

والمبدأ الخامس هو: مبدأ (الدبلوماسية المتناغمة)، فعند النظر إلى أداء تركيا الدبلوماسي من زاوية عضويتها في المنظمات الدولية، واستضافتها للمؤتمرات والقمم الدولية، نجد تطورات هامة وجادة إذا ما قورنت بأدائها الدبلوماسي قبل عام 2003، فقد استضافت تركيا قمة الناتو، وقمة منظمة المؤتمر الإسلامي، وأصبحت عضوًا مراقبًا في منظمة الإتحاد الأفريقي، كما تشارك في قمة الاتحاد الأفريقي- الأوروبي، بالإضافة إلى توقيعها على اتفاقية خاصة مع جامعة الدول العربية، لتصبح تركيا لدى الرأي العام العالمي، دولة ذات دور في تأسيس الاستقرار، ليس من أجلها وحسب؛ بل من أجل الدول المحيطة بها أيضًا.

أما المبدأ السادس والأخير فهو: (أسلوب دبلوماسي جديد)، فلفترة طويلة من التاريخ كانت تركيا في نظر العالم دولة جسرية بين الأطراف الأخرى، دون أن تكون فاعلة، فبدت لدى الشرقي دولة غربية، ولدى الغربي دولة شرقية، ولذلك كان من الضروري رسم خريطة جديدة لتركيا تجعلها مرشحة لأداء دور مركزي: “أن تصبح دولة قادرة على إنتاج الأفكار والحلول في محافل الشرق ومنتدياته، رافعة هويتها الشرقية دون امتعاض، ودولة قادرة على مناقشة مستقبل أوروبا داخل محافل أوروبا ومنتدياتها، من خلال نظرتها الأوروبية”، وهذه الرؤية ليست موجهة للدبلوماسيين والسياسيين وحدهم، بل للمثقفين أيضًا، إذ أن الوصول إلى نتائج ايجابية يعد أمرًا مستحيلاً، دون إعادة تهيئة وتطوير نموذج جديد للمواطن التركي، ليصبح الأسلوب الدبلوماسي الجديد أسلوبًا للمجتمع التركي أجمع، ويؤدي ذلك إلى تبلور حالة من التوافق والانسجام بين الإستراتيجية الكبرى للدولة، والاستراتيجيات الصغرى للشركات والأفراد ومؤسسات المجتمع المدني، فبموازاة تبني الدولة سياسات انفتاحية على أفريقيا، قام اتحاد رجال الأعمال الأتراك بعقد قمة لرجال الأعمال الأتراك في أفريقيا، وقامت مؤسسة “الموسياد” التركية بتنظيم اجتماع ضخم لرجال الأعمال في الخليج، كما تقوم نفس المنظمة بأدوار نشطة في الاتحاد الأوروبي، وتشارك هذه الجهود مجتمعة في رسم صورة تركيا الجديدة.

 

إذن.. ليست هناك أية أسرار خفية للنهوض والنجاح، بل هي إرادة سياسية حقيقية، ورغبة جادة في النهوض، والانتقال بتركيا من كونها مجرد دولة جسر صغيرة وعادية، إلى دولة مركز، وهي في طريقها الآن لتصبح قوة عالمية، ولم لا؟ فعندما تتمكن أي دولة من تحقيق المعادلة الصعبة، وتتمكن من الجمع بين الرؤية الواعية للقيادة، مع الإرادة الشعبية، فالنجاح هو النتيجة الحتمية المنتظرة…

كُتب في المناهج | التعليقات على وانكشفت الأسرار الستة لتركيا مغلقة

ماذا نعمل في مواجهة الجراد

ماذا نعمل في مواجهة الجراد
دور “مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا” في

صياغة المشروع الصهيوني لتفتيت الأقطار العربية

إعداد : الدكتور حلمي عبد الكريم الزعبي

تقديم:
أعد هذا البحث مدير عام “الدار العربية للدراسات والنشر” بالقاهرة، الدكتور حلمي عبد الكريم الزعبي، ليكون مرجعاً هاماً لكل من يريد معرفة وإدراك الدور الخطير الذي ينهض به “مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا” في إنجاز عملية الاختراق في الوطن العربي، من خلال قراءة واستقراء خريطة نشاطه وعناوين بحوثه وندواته وورشه البحثية. وتُساعد هذه القراءة، لدور مركز ديان، الباحث أو المسؤول العربي على تلمس سبل معرفة أدوار ومهام هذا المركز وهي تخرج في مضامينها وآفاقها عن العمل الأكاديمي العلمي. حيث يعرض دكتور الزعبي لدور المركز في التنظير لإشاعة ظاهرة التفتيت في العديد من الدول العربية وأنه يضع منطقة المغرب العربي ضمن أولويات نشاطه في المرحلة الحالية والمستقبلية. ثم يعرض بعد ذلك للدور الذي مارسه ويمارسه هذا المركز في شمال العراق وفي جنوب السودان وفي غرب السودان (دارفور)، وكيف أنه وضع معظم الدول العربية على خارطة التفتيت بما فيها مصر، السعودية، سوريا، لبنان، اليمن، الجزائر المغرب الجماهيرية الليبية، ومن ثم كيفية مواجهة الدور الذي يلعبه..
مركز دراسات وتحليل المعلومات الصحفية

من بين العناوين الخلاقة لنشاط مركز ديان في الآونة الأخيرة:
1. ندوة حول التركيبة السكانية لدول المغرب العربي وإمكانية اختراقها والعمل على تفكيكها على غرار ما حدث شمال العراق وجنوب السودان.
ومن أجل إعطاء هذه المعالجة “الإسرائيلية” لموضوعة الفرص والإمكانات السانحة لدعم حركات انفصالية تمّت دعوة 18 شخصية أمازيغية مغربية وضمان مشاركتهم في ندوة حول ما سمّي بمشكلة الأمازيغ في دول المغرب وعلى الأخص المغرب والجزائر. ويرى نفر من الباحثين المختصين في الشؤون “الإسرائيلية” أنّ مركز ديان ينطلق في معالجة ما يسمى بمشكلة الأمازيغ في دول المغرب العربي من خلفية نظرية وعملية ساهمت في بدور كبير في تخليق أوضاع في شمال العراق وجنوب السودان وفي الغرب منه (دارفور) تفاقمت وانفجرت على شكل عمليات تمرد قادتها حركات ارتبطت بعلاقات خاصة مع الأجهزة ” الإسرائيلية” وتماس مع مركز ديان.
الصحف المغربية وفي معرض تغطيتها لزيارة الوفد الأمازيغي المغربي لـ”إسرائيل” تحدثت باقتضاب وإيجاز عن التحدي الحقيقي الذي يسهم مركز ديان في تخليقه في منطقة المغرب العربي امتدادا واستكمالا لدور لعبه منذ تأسيسه في المشرق العربي في العراق والسودان وفي لبنان وفي مصر وفي الأردن.
2. ندوة بعنوان “الدولة والمجتمع يتقوضان في العالم العربي”: شارك فيها جمهور واسع من الباحثين “الإسرائيليين” من العاملين في المركز ومن خارجه، هذه الندوة غطت معظم الدول العربية في المشرق مصر والسودان والعراق وسوريا والمملكة السعودية واليمن، وفي منطقة المغرب الجزائر والمغرب والجماهيرية الليبية.
3. ندوة حوا ما سمي حركات التمرد في الدول العربية الحاضنة للجماعات الأثنية والطائفية (الحالتين العراقية والسودانية) وحالات أخرى يمكن أن تنتج وتولّد.
4. ليبيا والمواجهة بين تيارين الأصولية والوطنية وتطورات المستقبل.هل ستواجه ليبيا تحديات التقسيم والتشطير على غرار الحالة السودانية انطلاقا من عوامل مساعدة مفترضة أثنية ومناطقية؟
5. الدول العربية في مواجهة مرحلة الصراعات الداخلية والانزلاق إلى التفتيت السودان العراق اليمن الصومال ولبنان.
وأنجز المركز مئات الأبحاث ومنذ عقد ستينات القرن الماضي التي تمحورت حول ما سمي بالجماعات الأثنية والطائفية في العالم العربي، وعن وجود مجتمعات فسيفسائية يمكن تفكيكها وتقويضها في نطاق نظرية إضعاف العدو وتفتيته مجتمعيا وبشريا يؤدي إلى تعظيم عناصر القوة في الجانب “الإسرائيلي.”
هذه المقولة ظلّ يرددها أول رئيس للحكومة ” الإسرائيلية” هو (دافيد بن جوريون) عندما عرض عليه مشروع تقسيم الأقطار العربية من قبل مهندس التقسيم (أوري لوبراني) الذي كان يشغل منصب مستشاره للشؤون العربية.
عبر دراسة أسلوب تحليل المضمون ومتابعة الندوات والورش والبحوث الصادرة عن مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط يمكن بسهولة تشخيص الدور الذي يضطلع به هذا المركز والجهات التي تقف خلف نشاطه وعلاقته بالأجهزة الاستخباراتية” الإسرائيلية”.
البنية الفكرية لهذا المركز في المشاريع “الإسرائيلية” تستند على دعامتين:
1. الدعامة الأولى: نظرية إثارة الفتن ودق الأسافين داخل المجتمعات العربية في نطاق إستراتيجية تفتيت المجتمعات والدول وتفكيكها من الداخل عن طريق تأجيج حالات التمرد والصراعات.
2. الدعامة الثانية: التحالف مع ما سمّي بالجماعات الأثنية والطائفية من أجل إسناد ودعم مشاريعها وأجنداتها الانفصالية والتقسيمية.
وقبل الخوض في مفردات وتفصيلات دور مركز ديان في نطاق الإستراتيجية “الإسرائيلية” لا بدّ من العودة إلى خلفية تأسيس هذا المركز، ذلك لأنّ هذه العودة تسهم في إلقاء إضاءات هامة وضرورية لمعرفة المزيد عن نشاط هذا المركز والأدوار التي أداها.
مرحلة التأسيس الأولى: مركز شيلواح للدراسات
في عام 1959 أصدر رئيس المؤسسة المركزية للاستخبارات والمهمات الخاصة (الموساد) (رؤوفين شيلواح) مؤسس الموساد، تعليمات بإنشاء مركز لدراسة الوطن العربي يحمل اسمه لذا فقد سمّي مركز شيلواح وتم ربطه ظاهريا بجمعية الاستشراق “الإسرائيلية”، ثم ربط في عام 1965 بجامعة تل أبيب.
في المرحلة الأولى كان المركز يتكون من عدّة شعب وأقسام مصر والعراق وسوريا وتركزت أبحاثه وأدبياته على إعداد المشاريع البحثية الأساسية غلب عليها الطابع المعلوماتي ثم التحليل لصالح الموساد.
وقد اعتبر المركز حتى حرب حزيران عام 1967 مركز الأبحاث الوحيد في “إسرائيل” لذلك كان التعويل عليه كبيرا وعلى الأخص في صناعة القرار الأمني.
وفي عام 1983 تم تغيير اسمه ليصبح باسم معهد ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا. وعلى إثر ذلك وبشكل تلقائي تمّ توسيع نشاطه وأقسامه البحثية وتطوير بنيته الأرشيفية المعلوماتية.
كان أول مسؤول في إدارة المركز هو البروفيسور (شمعون شامير) الذي كان مسؤولا أيضا عن قسم مصر في المركز، والذي أسندت إليه مهمة تغطية مجمل الأوضاع المصرية العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية قبيل شنّ حرب حزيران (يونيو) 1967.
ويعتبر (شامير) الذي عيّن بعد كامب ديفيد عام 1967 مدير للمركز الأكاديمي في القاهرة ثم سفيرا لإسرائيل في القاهرة واضع سياسة “تحييد دور مصر من ساحة المواجهة” على أساس قراءاته وتحليلاته للاتجاهات والتحولات التي صاحبت تولي أنور السادات الرئاسة في مصر بعد وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عام 1970
المركز في ظلّ التطورات التي شهدها بدأ يضخّ دراساته وتقديرات موقفه وبشكل منظم إلى:
– رئاسة الوزراء/ مكتب رئيس الوزراء
– وزارة الدفاع/ المكتب الخاص.
– وزارة الخارجية /المكتب الخاص.
– الأجهزة الاستخباراتية الثلاثة: الموساد شعبة الاستخبارات العسكرية )أمان) وجهاز الأمن العام (الشافاك) الكنيست.

هذا بالإضافة إلى الأحزاب والمؤسسات الأكاديمية والصحفية مع الإبقاء على الدراسات وتقديرات الموقف والتقارير المعلوماتية المعدة خصيصا للموساد في نطاق محدود وسري للغاية.
دور المركز في التنظير لإشاعة ظاهرة التفتيت في العدد من الدول العربية
كرّس المركز ومنذ بداياته الجهد والوقت من أجل دراسة الأوضاع في عدد من الدول العربية التي تعيش فيها جماعات أثنية وطائفية ومذهبية لتقدّم إلى الموساد مع توصيات بل واستخلاصات تفيد هذا الجهاز في جهوده لإنجاز عمليات اختراق لتلك الجماعات. هذه الدراسات التي تم صوغها من قبل المركز أسهمت أسهاما كبيرا في تمهيد السبيل أمام التحرك الإسرائيلي في شمال العراق نحو الأكراد، وجنوب السودان مع ما كان يسمى الجيش الشعبي.
وللدلالة على ذلك فإنّ قسم العراق الذي تتولاه (عوفرا بانجو) العراقية الأصل وكذلك قسم السودان الذي تتولاه (يهوديت رونين) قد وضعا أهداف تقسيم هذين البلدين وفصل الشمال العراقي والجنوب السوداني في المقام الأول من جهودهما ومحط اهتمام رئيسي.
التحليل العام في عمل هذا المركز والمراجع التي تدعمه وتموله تظهر أنّ المركز وعلى ضوء تشخيصاته الدقيقة للوضع في شمال العراق وجنوب السودان كان دافعا للموساد والأجهزة الإسرائيلية الأخرى للتحرك إلى منطقة كردستان وجنوب السودان ونسج علاقات بحركة التمرد الكردية التي قادها البرزاني الأب ثم الابن وكذلك حركة التمرد في جنوب السودان برئاسة (جون جرانج). المركز شخّص ما وصف بالثغرات هناك التي يمكن النفاذ منها وذلك منذ سبعينات القرن الماضي.
من مراجعة وتقييم دور المركز والإشادة بهذا الدور من قبل القيادتين الأمنية والسياسية “الإسرائيلية” على ضوء ما أنجز في شمال العراق قيام الكيان الكردي وما يوشك أن ينجز في جنوب السودان الانفصال وإقامة دولة الجنوب تبين لنا حجم هذا الدور وفاعليته، وهو ما استحق الإشادة والتثمين والتقدير من قبل عدة مسؤولين في “إسرائيل” نذكر من بينهم على سبيل المثال وزير الخارجية (أفيجدور ليبرمان) و(دان مريدور) وزير الاستخبارات و(مائير دجان) رئيس الموساد وقيادات أخرى.
تعدد مراكز الأبحاث في “إسرائيل” لم يقلل من أهمية دور مركز ديان وعلى الأخص في استقراء الأوضاع العربية

في السنوات الأخيرة تجاوز عدد مراكز البحوث السياسية والإستراتيجية العامة والخاصة في” إسرائيل” الثلاثون. وقد ظهر بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973 مركز منافس لمركز ديان هو مركزي يافيه للدراسات الإستراتيجية بجامعة “تل أبيب” وتولى رئاسته الجنرال (أهارون ياريف) رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية.
لكن ذلك لم يؤثر على مكانة المركز لكون مركز يافيه قد أفرد نشاطه البحثي لخدمة المؤسسة العسكرية دراسات وتقديرات موقف إستراتيجية وعسكرية لذلك كان معظم الباحثين الإستراتيجيين العاملين فيه هم من تخرجوا من المؤسسة العسكرية أي ضباط احتياط. وأهم المراكز الجديدة التي ظهرت خلال العقدين الأخيرين:
– مركز بيغن – السادات للدراسات الإستراتيجية جامعة بار إيلان
– معهد أبحاث الأمن القومي وهو يحتل المكانة الأولى من حيث أهميته وأهمية دوره.
– معهد ملام لأبحاث الاستخبارات
– مركز القدس للشؤون العامة والدولة
– معهد الدراسات العربية بجامعة حيفا

منطقة المغرب العربي ضمن أولويات نشاط المركز في المرحلة الحالية والمستقبلية
رغم المنافسة التي يلقاها مركز ديان من قبل المراكز” الإسرائيلية “الجديدة إلا أنّه مازال في صدارة الموقع من حيث نشاطه وعمله وصياغة المشاريع التي تخدم الإستراتيجية ” الإسرائيلية” في المنطقة العربية. في البداية كان هذا الدور الذي أدّاه مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط يركز على منطقة المشرق العربي والتركيز على بؤرتين أساسيتين للتفتيت:
1. الأولى: منطقة كردستان في شمال العراق.
2. الثانية: جنوب السودان.
ومما يجدر التنويه به هنا إلى أنّه كانت هناك بؤر أخرى مثل لبنان وسوريا ومصر، لكنّ التأكيد جرى على البؤرتين العراقية والسودانية بوصفهما “بؤرتين مختمرتين لإنجاز عملية التفتيت” بعد فشل الجهود التي اتجهت إلى البؤرة اللبنانية على إثر اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، هذا دون إهمال الساحة المصرية ودون تراجع عن إنتاج حالة على غرار الحالة العراقية والسودانية في دول عربية أخرى وعلى الأخص لبنان.
المركز وبإيعاز من عدّة هيئات أمنية واستخباراتية وسياسية إسرائيلية قرّر التوجه إلى منطقة المغرب العربي، هذا القرار منشأه المؤسسة الاستخباراتية، كما ذكر رئيس قسم دول شمال إفريقيا في المركز (جدعون جرا) الحاصل على أطروحة الدكتوراه بعنوان: كيف يحكم العقيد القذافي في ليبيا؟”.
على ضوء هذا التكليف بدأ مركز ديان ومنذ عام 2005 وبعد صياغة مشروعه الذي اعتمد من قبل المؤسسات السياسية والأمنية الإسرائيلية يقوم بأنشطة عن دول المغرب العربي يمكن أن تشكّل إسهاما في دعم تحرك الأجهزة المسؤولة عن إنجاز عملية التفتيت يلخصها الباحث العربي من الداخل الدكتور علي سلمان:
1. إعداد سلسلة من الأبحاث والدراسات عن دول المغرب بالإضافة إلى الندوات والورش.
2. الاستقطاب داخل ليبيا بين نظام القذافي القومي والبرجماتي وبين الاتجاهات الأصولية.
3. الشرق الليبي وحركة تحرير التبو هل هي بداية التمرد على غرار حركات التمرد في جنوب السودان ودارفور؟.
4. ماذا بعد القذافي ومن بعد القذافي؟
5. هل تواجه ليبيا تحديات داخلية ومن دول الجوار؟
6. تعثر النظام السياسي في الجزائر.
7. المشكلة الأمازيغية في المغرب والجزائر أبعادها وتطوراتها المحتملة.
8. العلاقة التاريخية بين اليهود والأمازيغ في منطقة شمال إفريقيا.
سلسلة طويلة من الدراسات والأبحاث والندوات رعاها ونظمها المركز عن أوضاع منطقة المغرب العربي تصب كلّها في خدمة المشروع التفتيتي “الإسرائيلي”. أمّا الأنشطة الأخرى التي أطلقها مركز ديان فأهمها:
1. العمل على إقامة لجان صداقة أمازيغية “إسرائيلية “في كل من “إسرائيل” والمغرب.
2. تنظيم ندوات وفعاليات حول ما سمّي بالمشكلة الأمازيغية يدعى إليها مشاركون أمازيغ من المغرب ومن الجزائر ممن يعيشون في فرنسا وبلجيكا وكذلك من ليبيا.
3. تنسيق جهود المركز مع منظمات يهودية ومحلية في فرنسا وإسبانيا وبلجيكا والولايات المتحدة وكندا لرعاية مناسبات ثقافية وحتى سياسية في الخارج.
4. تسويق مواد دعائية كتيبات وكراسات ومنشورات تحرض على التمرد والعنف وتتحدث بكثير من المبالغة عن وجود استياء عام في الجزائر والمغرب وليبيا، ووجود ثغرات يمكن أن توظف ومشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية يمكن أن تستغل لتبرير التمرد والعصيان.

مواجهة دور مركز ديان والمراكز “الإسرائيلية” الأخرى في فرض تحدي التفتيت
في حديثنا عن دور مراكز البحوث “الإسرائيلية” ونشاطها كان ولا يزال لدور مركز ديان نصيب الأسد في نطاق إستراتيجية التفتيت.
الفضل فيما حدث ويحدث في شمال العراق وفي جنوب السودان وفي غرب السودان (دارفور) يعزو إلى هذا الدور الذي مارسه ويمارسه هذا المركز، الذي وضع معظم الدول العربية على خارطة التفتيت بما فيها مصر، السعودية، سوريا، لبنان، اليمن، الجزائر المغرب الجماهيرية الليبية.

المركز يستمد هذا الزخم في عمله من عدّة مكونات:
1. دعم غير محدود من قبل الهيئات الأمنية والسياسية “الإسرائيلية” وكذلك من قبل منظمات المجتمع المدني” الإسرائيلي” والجامعات والأحزاب.
2. دعم أمريكي هائل لنشاط المركز نظرا لتقاطع برامجه مع برامج أمريكية على مستوى الإدارة وعلى مستوى مراكز البحوث والأحزاب وحركات إيديولوجية ودينية، وعلى الأخص في صياغة مشروع التفتيت للوطن العربي.
3. هذا المركز يحظى أحيانا بدعم عربي غير مباشر عن وعي أو دون وعي مثل السماح لوجود واجهات للمركز مثل المركز الأكاديمي في القاهرة وفي الأردن ثمّ في لإفساح مساحات في بعض الفضائيات العربية لباحثين فيه للإدلاء بدلوهم للترويج للمشروع التفتيتي وفي التطاول على كل من يغار ويصون كرامة هذه الأمة ومصالح الوطن العربي مثل قناة الجزيرة والعربية التي تجري بين الفينة والأخرى مقابلات مع (أيال زايسر) رئيس قسم سوريا ومدير المركز، و(دان شفطون) رئيس قسم الأردن وغيرهم.
كان من المنطق والحكمة بل والمصلحة أن تناط بمراكز الأبحاث في بعض الأقطار العربية أدوار فاعلة في مواجهة التحديات التي تحدق بالوطن العربي ومقابلة تحدي التفتيت “الإسرائيلي” بتحدي مضاد عن طريق صياغة إستراتيجية عربية لتفتيت مجتمع التجمعات اليهودية في فلسطين المحتلة المتشكل من 75 مجموعة بشرية مستوردة من الخارج متباينة في ثقافاتها ولغاتها وفي أنماط حياتها وعاداتها وتقاليدها وسلوكها.
يمكن تشخيص وتصنيف مراكز الأبحاث في الوطن العربي على النحو التالي:
1. مراكز بحوث تمارس وظيفة التطبيع مع “إسرائيل “والترويج لثقافة الأسرلة عن طريق التعاون مع مراكز الأبحاث “الإسرائيلية” من بين هذه المراكز:
– مركز الشرق الأوسط في القاهرة التابع للمخابرات العامة المصرية الذي يتولى مهمة عقد اللقاءات والاجتماعات بين مستويات سياسية “إسرائيلية” ومصرية، والذي يرأسه اللواء أحمد عبد الحليم الذي يمضي من وقته في “إسرائيل” أكثر مما يمضيه في مصر.
– مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية الذي يترأسه الدكتور عبد المنعم سعيد أحد أركان التطبيع وعضو لجنة الصداقة المصرية “الإسرائيلية”.
– مركز الدراسات الإستراتيجية بالجامعة الأردنية الذي يشترك مع مراكز أبحاث “إسرائيلية” في إنجاز مشاريع بحثية تؤول إلى الجهات “الإسرائيلية” للاستفادة منها.
2. مراكز بحوث تمول من جهات خارجية أمريكية وأوروبية وحتى “إسرائيلية.”
3. مراكز بحوث مستقلة ولكنها تغرق في محيط من الإحباطات الناجمة عن المقيدات والمحدوديات المالية أو في مجال الكوادر الكفوءة وفي ذات الوقت الكوادر الوطنية.

المواجهة الفاعلة والمقتدرة ضد التحرك “الإسرائيلي” المقنع بالقناع الأكاديمي والبحثي لا ينبغي أن يرتكز على الجهد الأمني والسياسي وحسب، بل في إطلاق العنان لمراكز الأبحاث الجادة والأمينة العامة والخاصة في العالم العربي للقيام بدورها ليس فقط في تشخيص التحديات بل في المشاركة في وضع الحلول والخيارات المواجهة.

نشاطات المركز:
1. الأبحاث.
2. المؤتمرات والمحاضرات.
3. برنامج سليمان ديميريل.
4. برنامج السياسة العربية في” إسرائيل.”
5. منتدى الشرق الأوسط.
6. الخدمة العامة.
7. مركز موشي دايان في الخارج.
8. المنح الدراسية والتدريب الداخلي.

الباحثون:
1. سمير بن العياشي: باحث في الشؤون المغاربية.
2. عوفرا بانجو: رئيسة قسم العراق.
3. يوسف كوستنير: رئيس قسم دول الخليج.
4. إفرايم لافي: باحث في الشؤون الفلسطينية.
5. بروس مادي وايتزمان: خبير في الشؤون المغاربية وخاصة الأمازيغ.
6. دافيد منشري: خبير في الشؤون الإيرانية.
7. عاموس نادان: خبير في شؤون الشرق الأوسط.
8. إتمار رابينوفيتش: باحث في الشؤون السورية ورئيس قسم سوريا سابقا وأحد أعضاء الوفد الإسرائيلي المفاوض مع سوريا.
9. إيلي ريخس: باحث في شؤون عرب 48.
10. بول ريفلن: خبير في شؤون اقتصاديات الشرق الأوسط.
11. يهوديت رونين: باحثة في الشؤون السودانية والإفريقية.
12. أرييه شمويليفيتز: مختص في شؤون الشرق الأوسط.
13. آشر سسار: خبير في الشؤون الأردنية .
14. مردخاي تمركين: خبير في الشؤون الإفريقية.
15. جوشوا تيتلبوم: خبير في شؤون منطقة الخليج.
16. إيستر وبمان: باحثة في الشؤون الإسلامية.
17. مايكل ونتر: خبير في الشؤون المصرية.

المراجع:
اعتمدنا في إعداد هذا البحث على عدة مصادر:
1. أدبيات مركز ديان التي تصدر بشكل منتظم وغير منتظم.
2. الدكتور حامد ربيع: “دور مراكز البحوث “الإسرائيلية” في صناعة القرار السياسي “الإسرائيلي””.
3. البروفيسور شمعون شامير، محاضرة في المركز الأكاديمي “الإسرائيلي” في القاهرة في شهر يونيو 1984 عن أهمية دور مركز ديان في الاتصالات المصرية “الإسرائيلية” بعد حرب 73.
4. الدكتور علاء سالم: “دور مراكز البحوث “الإسرائيلية” في عملية الاختراق الثقافي والمجتمعي- حالة مركز ديان” التقرير السياسي والاقتصادي العدد 62 شهر أيار (مايو) 2002.
الملاحق:
مركز موشيه ديان هو أقدم وأكبر مؤسسة من نوعها في الكيان الصهيوني على مر السنين ، وقد لعب دورا كبيرا في إلقاء الضوء على منطقة الشرق الأوسط، من خلال الإصدارات والبحوث والمؤتمرات والوثائق والخدمة العامة. يشرف على مركز ديان مجلس أمناء “إسرائيلي”، بناء على مشورة من الهيئة الدولية للمشرفين. وهو يدار من قبل مدير الأكاديمية الدكتور (أيال زايسر). ويتم تمويل المركز من قبل الجامعة، والوقف ، والمنح البحثية ، والمساعدات الحكومية والخارجية.

المركز العربي للدراسات والتوثيق المعلوماتي
المصدر: مركز دراسات وتحليل المعلومات الصحفية، إصدار خاص، 3/11/2010
ــــــــ
*مدير عام “الدار العربية للدراسات والنشر” بالقاهرة

كُتب في المناهج | التعليقات على ماذا نعمل في مواجهة الجراد مغلقة

نقد للفكر الغربي بمنهج علمي

د. جعفر شيخ إدريس
المنهج العلمي الذي نريد إتباعه في نقدنا هذا هو منهج كان قد اتبعه علماؤنا السابقون الذين تعرضوا لنقد مخالفيهم من المسلمين وغير المسلمين، علماء من أمثال ابن حزم والغزالي والشهرستاني وابن تيمية وغيرهم.

مما تميز به هذا المنهج:

أولا: أن أصحابه كانوا حريصين على أن يقرروا أقوال مخالفيهم كما هي فلا يزيدون عليها ولا ينقصون منها. وهذا أمر مهم لأن الذي يحرف كلام خصمه لا يكون قد انتقده بل انتقد شخصا اخترعه من خياله. وهذا أمر قد يزيد الخصم إصراراً على رأيه الذي يراه الناقد باطلا، وقد يكون فيه تضليلا للذين يثقون بالناقد فيظنون أن ما قاله عن خصومه حق. من أمثلة ذلك ما فعله الشهرستاني.

ثانيا: كان من القواعد التي التزموا بها أن لازم القول ليس بقول. وعنوا بذلك أنه لا ينسب إلى الخصم قول يلزم لزوما عقليا عن قوله ما دام هو لم يصرح به. من أوضح الأمثلة على ذلك قول المعتزلة إن الإنسان يخلق أفعاله الاختيارية. يلزم عن هذا القول أن هنالك أشياء لا يخلقها الله تعالى، وهذا مخالف لقوله تعالى {الله خالق كل شيء} فهل نقول إن المعتزلة ينكرون هذه الآية؟ كلا لأنهم لم يصرحوا بشيء كهذا.

ثالثا: كانوا يميزون بين ما في كلام الخصم من حق وما فيه من باطل فينتقدون الثاني ويزيفونه ولا يترددون في إقرار الأول. من أمثلة ذلك ما قاله الإمام الغزالي في مقدمة كتابه تهافت الفلاسفة. قال -رحمه الله-: «القسم الثاني ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلا من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه».

ثم ذكر مثالاً على ذلك بكسوف القمر ثم قال: «وهذا الفن أيضا لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض. ومن ظن أن إبطال هذا من الدين فقد جنى على الدين وضعّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية لا يبقى معها ريبة فمن يطلع عليها ويتحقق أدلتها… إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيها وإنما يستريب في الشرع. وضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممن يطعن فيه بطريقه. وهو كما قيل عدو عاقل خير من صديق جاهل».

رابعا: وكان منهم من ينتقد دعاوى المخالفين نقدا عقلانيا بحتا كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه التي رد فيها على المخالفين ككتاب (الرد على المنطقيين) وككتابه الكبير المسمى (درء تعارض العقل والنقل).

خامسا: وكان الكثير منهم يقارن بين الأفكار التي ينتقدها ليبين أنها رغم بطلانها فإن فيها ما هو أقرب إلى الحق من غيره.

سادسا: ومما لا شك فيه أنهم كانوا يقارنون بين الفكر الذي ينتقدونه والقول الحق الذي يعتقدونه. لكن هذه المقارنة أيضا كانت عند الكثيرين منهم مبنية على حجج وبراهين.

سابعا: مما يتطلبه هذا المنهج العلمي بيان الآثار المترتبة على الأقوال حسنة كانت أم سيئة.

نقول أخيراً:

إن هنالك أمراً يجب التنبيه إليه هو أن التزام المنهج العلمي لا يعصم من الخطأ حتى في العلوم الطبيعية. ولذلك تجد الملتزمين به يرد بعضهم على بعض ليبين خطأه ويبين الصواب الذي اعتقده. وهذا ما كان يفعله أولئك العلماء المسلمون.

قد يقول قائل ما فائدة المنهج العلمي إذن؟ نقول: فائدته أولا أنه وإن كان لا يعصم من الأخطاء إلا أنه يقللها. وفائدته ثانيا أنه يمكن المختلفين من التحاور والرجوع إلى الحق.

سنحاول إذن أن نلتزم بهذا المنهج العلمي في تناولنا للفكر الغربي، وسنركز على جوانبه الجوهرية وجوانبه التي كان لها وما يزال تأثير كبير على المسلمين. سنحاول أن نبين مدى موافقة هذا الفكر وهذه القيم الغربية للإسلام ومدى مخالفتها له.

الفكر الغربي

من البدهي أننا لن نستطيع أن نتعرض للفكر الغربي كله عرضا أو نقدا في هذا المقال القصير. ولهذا فسنكتفي بما نراه أصولا لهذا الفكر وعلى جوانبه المؤثرة في المسلمين حاليا أو ما نظنه مستقبلا. ولن نركز كثيرا على شرح الفكر فإن كثيرا منه معروف، لكننا سننشغل بنقده بذلك المنهج العلمي، وبمقارنته بحقائق الدين الإسلامي والفكر الإسلامي.

في الفكر الغربي تياران كبيران أحدهما هو التيار الغالب في المؤسسات والشخصيات الأكاديمية ولاسيما في أوربا. وهو الفكر الذي بدأ في القرن الثامن عشر وانتشر في أوربا كلها ثم في أمريكا، وهو الفكر الذي سماه أصحابه بالفكر التنويري والذي غلب عليه الصدام مع الدين.

والتيار الآخر هو التيار المحافظ الذي ظل مرتبطا بالدين النصراني نوعا من الارتباط والذي ما يزال له تأثير كبير على السياسة ولاسيما في الولايات المتحدة.

لكن الفكر الغربي كانت وماتزال فيه تيارات مخالفة لهذين التيارين الغالبين كتيار الفكر الماركسي، ثم إن كونه غربيا لا يعني أنه الفكر الذي يسير في ضوئه كل الغربيين إذ أن من الغربيين من ظل منتميا إلى الدين كما قلنا، ومنهم من أنكر أساس هذا الفكر بفطرته.

ما الحركة التنويرية؟ Enlightenment

سمى الغربيون الفكر الجديد هذا بالفكر المستنير وسموا عهده بعهد العقل (Age of Reason) واعتقدوا أن العقل هو الذي يمثل المشروعية والمرجعية النهائية في كل نواحي الحياة البشرية من أخلاق وسياسة واقتصاد وعلوم طبيعية واجتماعية وقضايا دينية وفلسفية.

ولما كان استعمال العقل والاعتماد عليه يقتضي أن يكون الإنسان حرا لا تقيده قيود تشل تفكيره وتعبيره فقد ركزوا تركيزا كبيرا على قضية الحرية.

ولما كان هذا الاتجاه العقلاني رد فعل للتقليد الذي كان سائدا في مجال الدين والفلسفة بل وحتى العلوم الطبيعية، فقد تميز بحدة نقده للأفكار المتوارثة وتشجيعه للناس عامة بأن يستعملوا عقولهم ويحرروا أنفسهم من التبعية العمياء، وكان يهدف لذلك إلى إعطاء عامة الناس حرية أكبر تتمثل في ما أسموه بحكم الذات والحقوق الطبيعية والقانون الطبيعي والربوبية الطبيعية أو الإله الطبيعي.[1]

وقد كانت هذه المبادئ ثورة على اللاهوتية والأليكاركية (حكم الأقلية) والارستقراطية والقانون الإلهي للملوك. لقد كان عهد التنوير عهدا مفارقا للقرون الوسطى التي تميزت بالسلطة الدينية والاقتصاد الموجه، والرقابة على الآراء، إلى عهد الكلام العقلاني والتقويم الشخصي والجمهورية واللبرالية والطبيعية[2] naturalism والمنهج العلمي والحداثة.

ولما كانت التنويرية حركة اشترك فيها عدد كبير من المفكرين فإنها لم تكن تمثل فكرا واحدا متسقا، بل كان هنالك تناقض بين أقوال مؤسسيها. لكن المبدأ الذي كان يجمعهم هو عدم التسليم بالموروثات الدينية والفلسفية وغيرها، والتشكيك فيها ونقدها نقدا عقلانيا كما يتصورون.

في التنويرية القليل مما هو حق ومفيد والكثير مما هو باطل وضال. وكثير من هذا الأخير كان بسبب الظروف الخاصة بأوربا.

إذا كان المنتمون إلى الحركة التنويرية مختلفين بل متناقضين كما تقول مراجع هذا الفكر، فإن منهم من كان أكثر شهرة وتأثيرا من غيره. من هؤلاء الفيلسوف الألماني الشهير عمانيويل كانت. سنبدأ بما كتبه في مقدمة مقال له بعنوان (إجابة عن السؤال:ما التنويرية؟) الذي تقول المراجع إنه كان من أكثر كتاباته ذيوعا وتأثيرا؟

يقول (كانت)، وأنا هنا أترجم عن إحدى الترجمات الانجليزية المنشورة على الشبكة:

«إن التنويرية هي خروج الإنسان من عدم النضح الذي فرضه على نفسه. عدم النضج هو عدم مقدرة الإنسان على أن يستعمل فهمه من غير إرشاد من غيره. يكون عدم النضج هذا مفروضا على الإنسان من نفسه عندما لا يكون سببها عدم الفهم ولكن عدم العزيمة والشجاعة في أن يستعملها من غير إرشاد من غيره. “لتكن لك الشجاعة على استعمال فهمك.” هذا هو شعار التنويرية».

هذا في مجمله كلام صحيح لا يعترض عليه المسلم، بل يجد له أصلا في دينه وكلام علمائه كما سنبين، لكنّ هنالك فرقا بين أن يعطل الإنسان عقله ويعتمد على غيره في فهمه، وبين أن يستعين بغيره على الفهم. الأول هو المذموم وأما الثاني فلا يمكن أن يكون فهم مستقيم إلا به، وإلا كان على كل إنسان أن يبدأ من جديد كلما أراد أن يفكر في أمر من الأمور.

لكن كانت كما يقول أحد مقدمي مقاله هذا كان كسائر التنويريين يعني بهذا الاستقلال أن لا يعتمد الإنسان على تشريع ديني بل ولا حتى على إرادة الله تعالى[3].

وإنما يعتمد فقط على عقله لأن العقل مكون بطريقة تمكن صاحبه من الوصول إلى الحقائق بغير استعانة بتلك المراجع الدينية.

هذا الاعتقاد الذي ساد كما ذكرنا في القرن الثامن عشر كان فيما يبدو لي الأساس الذي اعتمدت عليه كل أنواع الفكر الغربي في كل نواحي الحياة تقريبا سواء في ذلك ما كان منها حسنا وما كان سيئا. فالدعوة إلى اعتماد الإنسان على نفسه في الفهم قادت إلى الفردية ثم إلى الأنانية. وكانت أيضا سببا في الدعوة إلى المساواة ثم الدعوة إلى أن يكون الناس هم الحاكمين لأنفسهم لا يعتمدون في ذلك على رضى ربهم ولا على تشريع منزل من عنده، ولا يرضون بأن يكون الحكم ملكيا أو حكم قلة.

وهذا هو الذي دعاهم لأن يعودوا إلى الحكم الديمقراطي الذي كان سائدا في أثينا لفترة من الزمان. وعدم الثقة بالأديان وكثرة النقد الموجه لها أدى إلى التسامح الديني، لأنه إذا كان كل دين مشكوكا في صحته، فما مسوغ شدة الخلاف بسببه، وما مسوغ امتناع أي أحد في أن يختار منه ما شاء؟ وقد اغتر كثير من الغربيين بالدعوة إلى الاعتماد على العقل فلم يميزوا بين استعمال العقل والسير مع الهوى، بل حسبوا أن كل ما يخطر ببال أحدهم مما يراه محقق لما يظن أنه مصلحة أو ما يراه مشبعا لما هو شهوة إنما هو دليل على استقلاله واعتماده على عقله.

لماذا وقف التنويريون من الدين ذلك الموقف شبه العدائي؟

لهذا سببان:

أولهما: الاستكبار فكثير من الناس لا يريد أن يكون لله تعالى سلطان عليه ولا تشريع يلزمه به وهذا أمر قديم. فالقرآن يذكرنا بأن بعض الناس كانوا رغم اعترافهم بوجود الخالق ينكرون أن يكون سيبعثهم فيحاسبهم أوأن يرسل لهم رسلاً يأمرونهم وينهونهم. ولأمثال هؤلاء قال الله تعالى: )أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى . أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى . ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى . فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى . أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى( [القيامة: 36 ـ40]

أما السبب الثاني: فهو أن هؤلاء التنويريين وكثيرين غيرهم من غير المسلمين لم يجدوا بين أيديهم كتباً منزلة صحيحة يعتمدون عليها بل اكتشفوا بعقولهم أن هذه الكتب لا يمكن أن تكون وحيا من الله تعالى. لكن الذي يؤخذ عليهم أنهم لم يبحثوا عن الدين الصحيح، بل اعتقدوا كما لا يزال يعتقد الكثيرون منهم أن الدين الوحيد هو دينهم فإذا ثبت بطلانه فكل دين سواه باطل. وهذا ما حدث في عصرنا لرجل قال عن نفسه في كتاب له عن تجربته مع دراسة ما يسمونه بالكتب المقدسة. قال: مما لا شك فيه أن تلك الدعوة إلى استعمال العقل كانت لها آثار حسنة. فهي التي خلصت الناس من تبعية كانت لآراء أرسطوطاليس حتى في المسائل الطبيعية. وهي التي خلصتهم من الخرافات التي كانت مرتبطة بالدين، كما خلصتهم من التبعية العمياء لرجاله الجهلاء.

وإذا كانت الحركة التنويرية قد بنيت على أساس التعارض بيه العقل والدين فإن المسلمين لم يجدوا في كتاب ربهم ما يدعوهم إلى مثل هذا القول. إنهم يقرؤون كتاب ربهم فيجدون أنه يصف الكفار، لا المؤمنين بعدم الالتزام بالعقل. وهذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية يكتب أكبر كتبه في عدم التعارض بين الشرع والعقل[4] لكن الشيخ لخص موقف علماء المسلمين من علاقة العقل بالشرع تلخيصا وافيا في قوله في كتاب آخر: وأما أئمة أهل السنة كالصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم من أئمة المسلمين، فهؤلاء أتوا بخلاصة المعقول والمنقول، إذ كانوا عالمين بأن كلا من الأدلة السمعية والعقلية حق، وأنها متلازمة. فمن أعطى الأدلة العقلية اليقينية حقها من النظر التام علم أنها موافقة لما أخبرت به الرسل، ودلته على وجوب تصديق الرسل في ما أخبروا به. ومن أعطى الأدلة السمعية حقها من الفهم علم أن الله أرشد عباده في كتابه إلى الأدلة العقلية اليقينية التي بها يعلم وجود الخالق وثبوت صفات الكمال له…

إلى أن قال: فدل على أن مجرد العقل يوجب النجاة، وكذلك مجرد السمع. ومعلوم أن السمع لا يفيد دون العقل، فإن مجرد إخبار المخبر لا يدل إن لم يعلم صدقه، وإنما يعلم صدق الأنبياء بالعقل.

لكن المؤسف حقا أنه في الوقت الذي كانت فيه هذه الحركة التنويرية تدعو الناس في الغرب إلى استعمال عقولهم، وكانت بلا شك من أسباب نهوضهم، كان العالم الإسلامي قد وصل إلى ما يقرب من درجة الحضيض في التبعية والتقليد وقبول الخرافات. ولا بد أن هذا كان سبباً بل ربما كان السبب الأساس في تخلفه بالنسبة للغرب.

لكن الأمر الذي أراه غريباً ومحيراً هو تأثر بعض علمائنا بمسألة التعارض بين العقل والشرع حتى صاروا يصفون بالعقلانية أو بصاحب المذهب العقلاني كل من يرون فيه انحرافاً عن الدين الحق. مع أنك تقرأ كتاب الله تعالى كله من أوله إلى آخره فلا تجد فيه أن الله تعالى عزا ضلال أحد إلى اعتماده على عقله، وإنما يعزو ذلك إلى إتباعه لهواه. وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى:

)فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( [القصص:50]

القيم الغربية

يلاحظ على حديث معظم الغربيين عن القيم الغربية ما يلي:

أولا: أنهم يدخلون فيها كل ما هو سائد عندهم اليوم في مجال السياسة أو الاقتصاد أو الحياة الاجتماعية أو الدين أو غير ذلك من غير تمييز بين ما هو من خصائصهم وما هو أمر مشترك بينهم وبين غيرهم، وما هو أمر عابر يوشك أن يتغير. تراهم لذلك يدخلون في ما يسمونه بقيمهم أشياء مثل:

الحرية الفردية التي صارت تشكل حرية كل أنواع الاتصالات الجنسية بين المتراضين، الديمقراطية، حكم القانون، المحاكم العادلة، الانتخابات، القيم الخلقية، التسامح الديني، حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حق السفر.

ثانيا: القيم التي يعتزون بها هي كما قال بعضهم قيم انتقائية لا ذكر فيها لأمور مثل الشمولية التي نشأت أول ما نشأت في الغرب، ولا للاسترقاق الذي استفحل أمره في الغرب وبقي لمئات السنين.[5]

ثالثا: ولا يفرق معظمهم بين ما هو قيم غربية بمعنى أنها نشأت وترعرت في الغرب، وبين ما كان مصدره غير غربي.

رابعا: إذا ما تكلم بعضهم عن القيم الإسلامية فإنهم لا يفرقون بين ما هو حاصل في البلاد الإسلامية وبين ما هو من الدين الإسلامي.

خامسا: أن دعاتها لا يعترفون بفضل الإسلام على الغرب، وربما كانوا جاهلين به. لكن بعضهم يعترف بهذا الفضل. هاهو كاتب في جريدة بريطانية يقول:

إن معرفة بالإسلام حتى لو كانت سطحية تكشف عن تاريخ طويل من التطور العلمي، وأهمية العقل، والتسامح الديني، وحكم القانون. لما ذا يعتقد الناس الآن أن هذه المبادئ المهمة إنما هي حقوق طبع محفوظة لفترة من فترات التاريخ الأوربي؟[6]

وهذا كاتب غربي آخر يكتب مقالا بعنوان (درس في الإنسانية للغرب المغرور) يقول في بداية مقاله:

إن كثيرا من القيم الغربية التي نعتقد أنها متفوقة جاءت من المشرق وغرورنا الأعمى يضر بمكانتنا في العالم.

ثم يمضي الكاتب ليقول إنه يعيش في دلهي بالقرب من بقايا العاصمة المغولية التي بناها الإمبراطور أكبر نهاية القرن السادس عشر. ويقول إنه في هذه العاصمة كان أكبر ينصت باهتمام إلى ما يقوله الفلاسفة والصوفية والعباد من كل ملة وهم يتناظرون في مزايا معتقداتهم وهو ما يعد أول تجربة في المحاورة الرسمية بين الأديان.

ثم يقول: إن هذا كله حدث في الوقت الذي كان اليسوعيون يشنقون في لندن ويقطعون أرباعا في تايبم في اسبانيا والبرتقال. لقد كانت محاكم التفتيش تعذب كل من يتحدى معتقدات الكنيسة الكاثوليكية. لقد كان (أكبر) رجلا واحدا تمثلت فيه كل القيم التي ندعي نحن في الغرب أنها قيمنا[7].

سادسا: صار الكثيرون من الغربيين في زماننا هذا يدعون أن قيمهم ليست قيما غربية أو أوربية فحسب كما كانوا يقولون في الماضي، وإنما هي قيم إنسانية صالحة لكل البشر. والكثيرون منهم يدعون هذا لمجرد تسويغ تدخلهم في شؤون الشعوب الأخرى. ما الدليل على أنها قيم إنسانية كما يدعون؟ إن الدليل إما أن يكون بكلام نعلم بيقين أنه كلام الله، وإما أن يكون بأدلة من العلوم الطبيعية أو النفسية. ولا نعلم في ذاك ولا في هذا ما يشير إلى أن أشياء مثل إباحة الشذوذ هي قيم إنسانية صالحة لكل الناس في كل زمان ومكان.

سابعا: لكن ينبغي الاعتراف بأن القيم الغربية، حتى ما كان منها من باب الانحراف، بل ولاسيما ما كان منها من هذا الباب بدأت تنتشر انتشاراً واسعا في العالم بما في ذلك العالم الإسلامي. خذ مسألة أزياء النساء مثلا. إن ما تلبسه المرأة مبني في الثقافات الجاهلية كلها بما فيها الثقافة الغربية على أساس جذب أنظار الرجال. هذا كلام يقوله بالنسبة للغرب بعض قائدات ما يسمى بالحركة النسوية، يقلنه لا موافقة له بل اعتراضا عليه لأنهن يردن للمرأة أن تكون مستقلة عن الرجال. وهو ما تقوله بعض اللائي من الله عليهن بالإسلام. أذكر أن إحداهن قالت بعد أن تحجبت كلاما فحواه أن تلك كانت أول مرة تشعر فيها أنها لبست شيئا لنفسها لا للرجال.

والنساء عندنا في العالم الإسلامي انقسمن ثلاثة أقسام. فقسم سار في طريق النساء الغربيات فلم تعد ترى فرقا بينهم وبين أولئك كما هو مشاهد على شاشات التلفاز. وقسم أراد أن يظل مستمسكا بدينه، لكنه أراد في الوقت نفسه أن يراعي القيم الغربية. فلما كان القرآن الكريم يقول لها (وليضربن بخمرهن … ) فإنها صارت تغطي شعرها وصدرها. لكنها لم تعد تلتزم ببقية ما يتطلبه الحجاب منها. فالمقصود من الحجاب (على عكس المقصود من اللبس الجاهلي) أن يكون حجابا عن الرجال. والحجاب يعني أن تلبس ما يغطي جسمها، ولا يكون شفافا يكشف عما تحته، ولا يكون محددا لمعالم جسمها. وقسم ثالث ظل بحمد الله تعالى مستمسكا بالحجاب الشرعي.

ثامنا: ما السر في تأثر الناس في العالم كله هذا التأثر الشديد بانحرافات الثقافة الغربية ولا سيما في مجال المرأة؟

لعل سبب ذلك أمران:

أولهما: ضعف الاستمساك بالدين. قال تعالى: )فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا . إِلا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا( [مريم:59ـ60]

فكلما حصل التهاون في أداء الصلوات قوي الميل إلى الشهوات.

وقال تعالى: )يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ( [الأعراف:27]

ثانيهما: التفوق الهائل الذي وصل إليه الغرب في كل مجالات العمران والاقتصاد والتسلح والإعلام وغيرها. والناس كثيرا ما يربطون خطأ بين التقدم العمراني وصحة المذهب الذي يعتنقه أصحاب ذلك العمران. قال تعالى عن كفار قريش:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا . وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} (مريم 73ــــ74)

قال ابن كثير: «… ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم (خير مقاما وأحسن نديا) أي أحسن منازل، وأرفع دورا، … يعنون فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على الباطل، وأولئك الذين هم مختفون مستترون … على الحق»؟

تاسعا: دعوى بعض الغربيين المعاصرين بأن قيمهم قيم إنسانية عالمية دعوى لا دليل عليها. وذلك لأن مثل هذه الدعوى العريضة يجب أن تستند على أحد دليلين: فإما أن تكون كلاما لله سبحانه في مصدر علمي يقيني، وإما أن تكون مما أثبتته العلوم التجريبية ولاسيما البيولوجية والنفسية. لكننا لم نجد أحدا منهم يستدل بشيء منه هذا.

إذا كان المقصود بالقيم الغربية هو كما قلنا القيم السائدة في الغرب فإن في هذه نفسها ما يدل على أنها لا يمكن أن تكون قيما إنسانية عالمية. كيف وليس في الغرب قيم ثابتة يقال عنها هذه هي القيم التي يستمسك بها الغرب؟ في ذلك يقول الدكتور علي مزروعي:

لقد تغيرت القيم تغيرا سريعا في الغرب في العقود الماضية في الوقت الذي تطورت فيه الثورات في التقنية وفي المجتمعات، من أمثلة ذلك أن العلاقات الجنسية قبل الزواج كانت تستنكر استنكارا شديدا في الغرب إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. وكانت هنالك قوانين تحظر الممارسات الجنسية خارج نطاق الزواج، وما يزال بعضها موجودا في القوانين، وإن كان لا يطبق إلا قليلا. وأما الآن فإن الجنس قبل الزواج فأمر شائع إذا كان برضى الوالدين.

ثم ذكر أمثلة أخرى منها أن الشذوذ كان يعد جريمة في بريطانيا إلى عام 1960 وأنه بينما ألغت كل الدول الغربية عقوبة الإعدام فإن الولايات المتحدة لم تلغها بل زادت في السنين الأخيرة من عدد المحكوم عليهم بالانعدام.[8]

الديمقراطية

ما علاقة الديمقراطية بالحركة التنويرية؟

من المؤكد أن تلك الحركة لم تكن هي التي اخترعت النظام الديمقراطي. لكنها كانت السبب في بعثه بعد ألفي عام من موته في مهده أثينا. لماذا بعثوه؟ لأنهم رأوا أنه أكثر النظم تمشيا مع مبادئهم ولاسيما مبدأ الحرية. فهم قد رفضوا الحكم الدكتاتوري ملكيا كان أو غير ملكي. ورفضوا ما يسمونه بالأولغاركية oligarchy وهو حكم قلة متسلطة، فوجدوا أن الديمقراطية هي حكم الشعب لا حكم فرد أو بضعة أفراد. لكن السبب الأعظم في اختيارهم للدمقراطية فيما يظهر هو كونها تؤيد دعواهم بأن البشر ليسوا بحاجة إلى تدخل من قوة إلهية لتسسيير شؤونهم، بل هم قادرون على ذلك بحكم تكوينهم البشري. يظهر هذا جليا في الحجج التي يسوقها مفكروهم لتسويغ الدمقراطية.

تنقسم هذه الحجج إلى نوعين، حجج فكرية فلسفية ساقها المفكرون من أنصار الدمقراطية، وحجج عملية قال بها بعض السياسيين.

تتلخص الحجج الفكرية الفلسفية في خمس حجج هي العلم والمساواة والحرية وحكم الذات، وكون الديمقراطية أحسن الخيارات المتاحة. وبما أننا لن نستطيع أن ندخل في تفاصيل هذه الحجج في مقالنا هذا فقد رأينا أن نركز على واحدة منها نراها أهمها، وأما الحجج الأخرى فقد تعرضنا لها في كتيب عن (مشكلات الديمقراطية وبدائلها الإسلامية) نرجو أن ييسر الله تعالى إكماله وإصداره.

العلم والأمانة

العلم والأمانة شرطان لا يكون الحكم محققا للغاية منه إلا بهما، لأن الذي يحكم بأن الأمر الفلاني يجب أن يفعل أو أن يجتنب إنما يقول هذا ــ أو إنما يجب أن يقوله ــ لما يعلم من النتائج التي تترتب على فعله أو تركه. لكن العلم وحده لا يكفي بل يجب أن تصحبه الأمانة، أي يجب أن يكون الحاكم قاصدا للحق أو الخير فلا يحكم بما يرى فيه مضرة ويدعي أن فيه مصلحة. القول بأن الحكم للشعب يفترض أن كل المواطنين عندهم من العلم والأمانة ما يجعلهم أهلا لأن يكونوا هم المشرعين لأنفسهم. لكن هذا الافتراض عليه إشكالات كثيرة منها:

1. أنه لو كان الأمر كذلك ما كنا لنحتاج إلى اللجوء للأغلبية لأن الذين يتساوون في العلم والأمانة لا بد أن يحكموا حكما واحدا لا اختلاف فيه، أي أن يكون كل حكم لهم بإجماعهم. لكن اللجوء لحكم الأغلبية يفترض أن هنالك اختلافا بين الحاكمين. والخلاف لا يكون إلا بسبب الجهل أو سوء القصد أو هما معا. وإذن فإن حكم الأغلبية الذي يعد اليوم جوهر الدمقراطية يتناقض في حقيقتها مع أهم مسوغ من مسوغاتها.

2. وأنه لو كان كل المواطنين في كل وطن عالمين بمصالحهم لما احتاجوا إلى اكتساب علم جديد يساعدهم على تصور أحسن لما هو خير لهم ولمجتمعهم. لكن الواقع أن الناس يسعون لاكتساب العلم ويعترفون بمدى تأثير ما اكتسبوه من معلومات على مواقفهم السياسية. فاكتساب العلم يؤثر إذن في نوع التشريع أو الحكم الذي تحكم به الأغلبية. وكما أن العلم يؤثر فكذلك القيم تؤثر. فإذا ما سادت في المجتمع قيم غير التي كانت سائدة في قبل ذلك تغيرت أحكامهم بسبب للمعايير الجديدة التي تبنوها.

3. وإذا ادعى مدع بأن العلم مهما كان نوعه لا تأثير له في ما يحكم به الشعب، يقال له هذا كلام يشهد العقل ببطلانه. فالذي يقوم يصوت بنعم معبرا عن قبوله لأمر ما بناء على تصوره بأنه يزيد من فرص الوطن في اكتساب الثروة مثلا، سيصوت عليه بلا معبرا عن رفضه له بناء على معرفة جديدة بأنه يفعل عكس ذلك تماما. إنه من المستحيل عقلا أن يكون سبب ما العلة في قبول شيء ويكون نقيض ذلك الشيء هو أيضا علة في قبوله. ثم إن هذا معناه أنه لا داعي لاكتساب معارف جديدة إذا كان اكتسابها لا تأثير له في الأحكام.

4. وإذا لم يكن العلم ولم تكن الأمانة في الشعب كله، فمن أين لنا أن نعلم أنهما في أغلبيته؟ لندع حسن القصد الآن جانبا. هل العلم ـ وبالتالي صواب الحكم ـ هو دائما في جانب الأغلبية؟

يقول نقاد الديمقراطية: كلا، ويجعلون هذا من دعامات رفضهم لها. فلنبدأ بأول هؤلاء في التاريخ، أعنى أفلاطون الذي يقول مبينا جهل الحكام في النظام الديمقراطي:

تصور شيئا كالآتي يحدث في سفينة أو قافلة من السفن: مالك السفينة أكبر وأقوى من أي راكب، لكنه يعاني من ضعف في السمع والبصر ولا يدري كيف يبجر بالسفن. البحارة كلهم يتشاجرون في من يجدر به أن يكون ربان السفينة، كل واحد منهم يرى أنه يجب أن يكون هو ربانها بالرغم من أنهم لم يتعلموا فن الملاحة … بل إنهم ليصرون على أنه ليس هنالك من فن ملاحة يمكن أن يتعلم، ولذا فإنهم مستعدون أن يمزقوا إربا كل من يدعي غير ذلك.

ما يزالون جميعا متجمهرين حول مالك السفينة يرجوه كل واحد منهم بأن يترك الدفة له. وأحيانا عندما يكون غيرهم في موضع القيادة فإنهم يقتلونه أو يرمونه في البحر. ثم إنهم يمخرون بالسفينة بعد أن قد خدروا المالك بالخمر أو العقاقير أو بشيء آخر يمخرون بالسفينة، يقضون على كل مؤن السفينة، ويجرون بالسفينة بطريقة تتوقع من أناس أمثال هؤلاء…. إنهم لا يدرون ألبتة أن الربان يجب أن تكون له معرفة بالفصول، وبالسماء، وبالنجوم، وبالرياح، وكل شيء آخر عن السفن إذا كان له أن يكون متحكما في السفينة. ولا يدرون أن هنالك فنا يمكن الربان من أن يقرر في أي اتجاه يوجه السفينة، بغض النظر عما إذا كان الآخرون يريدون الذهاب إلى هنالك أم لا. ولا يعتقدون أن أحدا يمكن أن يتقن مثل هذا الفن.[9]

نقد أفلاطون للديمقراطية من أكثر أنواع النقد إحراجا للغربيين لأن قائله من أعظم فلاسفتهم بل ربما عده بعضهم أعظمهم حتى غلا فيه فيلسوف وعالم رياضيات بريطاني كبير فقال إن كل الفلسفة الغربية لا تعدو أن تكون هوامش على كتابات أفلاطون. وما يزالون يدرسون كتبه ويكتبون عنه كأنه رجل معاصر. ومع أن هذا النقد فيما يبدو هو نقد للحكم التنفيذي لا التشريعي الذي هو محل اهتمامنا، إلا أنه يمكن القول بأنه إذا جهل بعض الناس فن الحكم التنفيذي فحري بهم أن يكونوا أجهل بالحكم التشريعي.

يقول بعض المدافعين عن الديمقراطية من منظريها المحدثين إن نقد أفلاطون وأمثاله غير مقبول لأسباب منها:

أولا: أن القرارات السياسية قرارات خلقية، وأن أفلاطون كان يفترض خطأ أنه من الممكن العلم بالقيم الخلقية. لكننا في هذا العصر نرى أن هذا العلم غير متيسر، وبالتالي لا نرى أن هنالك خبراء فيه كالخبراء في المسائل الحسية أو الطبيعية. وما دام الأمر كذلك فلا رأي أجود من رأي في الأمور الخلقية، وعليه فمن حق الناس جميعا أن يحكموا. وعليه فإن الديمقراطية التي تأخذ برأي الأغلبية هي خير طريقة للوصول إلى القرار السياسي.

لكن بإمكان المدافع عن رأي أفلاطون أن يقول: وإذن فالديمقراطية في رأيكم هذا إنما تصلح لمن كان موافقا لكم في أن العلم بالصواب الخلقي مستحيل. فالديمقراطية لا تصلح إذن إلا في جو ثقافي مثل هذا الذي نسبتموه إلى العصر ولابد أنكم تعنون العصر في البلاد الأوربية، وإلا فإن الناس في العالم كله ما يزالون يعتقدون بإمكانية العلم بحسن الأخلاق وسوئها. بل إن هنالك أعدادا كبيرة ـ ربما كانت الأغلبية ـ حتى في الغرب نفسه ما زالت تؤمن مثل هذا الإيمان. وإلا فلماذا يكون موضوع الإجهاض في أمريكا موضوعا سياسيا ساخنا، بلغ من الحدة بحيث أن بعض من يسمون بأنصار الحياة قتلوا طبيبا معروفا بإجراء عملياته واعتبروه قاتلا. ثم إن القرارات السياسية ليست كلها أخلاقية، وعليه فحتى لو سلمنا بأن الناس في الغرب اليوم لا يعتقدون بإمكانية العلم بحسنها وسوئها، فإن المشكلة ما تزال قائمة. أفكل ما يقدم للمجالس التشريعية من مشاريع قوانين ودراسات حولها إنما هو مسائل خلقية بحتة لا تؤثر فيها الحقائق والأرقام والحجج العقلية؟

وبإمكانه أن يقول إن الدعوى بأن الحكم بقبول شيء أو رفضه حتى في المجال السياسي هو حكم خلقي بحت ليس بصحيح ونحن نرى الناس يبنون أحكامهم على ما يعدونه ــ بحسب ما توفر لديهم من معلومات ــ خادما لمصلحة شخصية أو عرقية أو حزبية أو قومية.

ثانيا: يرى النفعيون أنه حتى حين تكون القرارات خلقية فإن الديمقراطية هي خير الإجراءات وذلك أنهم يجعلون القرارات على درجتين الدرجة الأولى التي يعبر كل إنسان فيها عن اختياره، عما يرى أنه في مصلحته الشخصية، وكونه محققا لسعادته. هذا قرار لا علاقة له بالأخلاق. أما الدرجة الثانية فهي التي تحسب فيها قرارات المرحلة الأولى ويحكم بأن القرار النهائي هو الذي يحقق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. وهذا هو القرار الأخلاقي.[10]

بإمكان نصير أفلاطون أن يقول: لكن رأي النفعيين هذا قائم على افتراض أن كل إنسان أعلم بمصلحنه وما يحقق له سعادته، وهو افتراض باطل. وذلك لأن العلم بالمصلحة ليس مجرد شعور وهوى وإنما هو أمر مرتبط بحقائق موضوعية لا يتوفر العلم بها لكل الناس بل ولا لأحد منهم. ثم إذا كانت الديمقراطية إنما تحقق مصلحة الأغلبية فإنها تكون ظالمة للأقلية، فلا تكون هي حكم الشعب بل حكم فئة منه.

ثالثا: يقول بعضهم إن حجة أفلاطون تعتمد على افتراض أن الغاية هي تحقيق ما هو أصلح للمجتمع. لكن هب أن هذه ليست هي الغاية، أو أنها ليست الغاية الوحيدة، فالحجة إذن لا تستقيم. “مثلاً إذا كنا نريد أن نتملق الجماهير، أو نتودد إليهم، أو نسكن من غضبهم، أو نعطيهم إحساساً ما بأنهم يتحكمون في مصائرهم، أو نتفادى غضبهم أو أسئلتهم، أو نشعرهم بأنهم مهمون، فإن وسائل أخرى قد تكون أجدى. وعليه فإن من الوسائل ما قد يكون أقل جودة في نتائجه من حيث الحقيقة، لكنه يحقق نتائج أحسن إذا لم تكن الحقيقة هي الغاية. وعليه فإن فقدان الحقيقة لن يكون نقدا مناسبا لهذه الوسائل، إلا إذا كان توخي الحقيقة ذا أهمية أكبر من الغايات الأخرى. لكن كون هذا كذلك أو لا، يعتمد بصفة عامة، على ما نريد أن ننجزه”[11].

وأقول لولا أنني وجدت هذا الكلام في كتاب يعد من أحسن الكتب في فلسفة الديمقراطية لما صدقت بأن إنسانا عاقلا يمكن أن يعده حتى مجرد احتمال جدير بالمناقشة. يبدأ الاعتراض بعبارة ” إذا كنا نريد … ” من أنتم الذين تريدون هذا؟ إن حديثنا هو عن الشعب كله. فهل الشعب هو الذي يريد هذا؟ هل الشعب هو الذي يريد أن يتملق الشعب؟ هل الجماهير هي التي تريد أن تتودد إلى الجماهير؟ وهل … وهل؟ لا بد أنكم تتحدثون عن فئة من الناس تريد أن تفعل هذا كله، ومن المؤكد أنه من شرط نجاحها فيما تريد أن تخفي هذا كله عن الجماهير، إذ أنها لا تستطيع أن تصارحهم بأنها إنما تريد أن تتملقهم أو تتودد إليهم، أو .. أو … . بل لا بد أن يكون هذا كله قائما على الكذب عليهم وإظهاره في صورة ترضى عنها الجماهير. لكن كل هذا يؤكد رأي أمثال أفلاطون بأن الناس لا يعلمون كلهم، وإلا لما استطاعت قلة منهم أن تخدعهم مثل هذا الخداع. بل إن المتفقين مع أفلاطون قد يقولون إن نظاما سياسيا يجعل هذا ممكنا لهو النظام الذي ينبغي أن يرفض.

رابعاً: أنه حتى على افتراض أن المعرفة هي القيمة الكبرى التي على أساسها ينتخب الحكام، وعلى فرض أن هنالك من هو أعرف من غيره، فيجب ـ لكي ننصبهم حكاما ـ أن نعرف من هم. ولكن يبدو أنه ليس هنالك من وسيلة لتحديد هؤلاء الذين يعلمون. كيف نعرفهم؟

نقول هذا وإن كان أمرا صعبا ـ ولا سيما إذا كان الحكم علمانيا ـ فإنه ليس من المتعذر. بل لعله من الممكن حل هذه المشكلة حتى في نطاق النظام الديمقراطي إذا ما استحدثنا فيه مبادئ جديدة غير معهودة الآن لكنها غير متناقضة مع فكرة الديمقراطية، وسأعرض لشيء من هذا حين يأتي الحديث عن الانتخابات بإذن الله تعالى.

خامساً: أنه قد تكون هنالك حالات ـ ولا سيما حالات جماعات صغيرة ـ لا يكون الفرق في المعرفة أو الخبرة بين أعضائها كبيرا. فمما لا شك فيه أن رأي الأغلبية في مثل هذه الحال سيكون الأقرب إلى الصواب.

نقول: هذا أمر لا شك فيه. لكن لا يلزم ناقد الديمقراطية باعتبارها نظام حكم أن يكون رافضا لكل شيء فيها في كل حال من الأحوال. وهذه منها.

سادسا: أنه قد تكون هنالك حالات لا يكون المعول فيها على مجرد العلم أو الخبرة، بل يحسن فيها اعتبار قيم أخرى، مع المعرفة أو بدونها.

نقول: وهذا أيضا نقد مقبول إذا كان موجها لأفلاطون بالذات. لكن قولنا فيه هو قولنا في سابقه. بل إن هذا لأمر معتبر في الإسلام.

من أقوى الأدلة على بطلان كون الشعب أو أغلبيته عالم بمصالحه مؤتمن عليها أنه لا أحد من الآخذين بالنظام في العالم كله يسلم بهذه الدعوى أو يأخذها مأخذ الجد. إن الدليل على أنهم لا يعتبرون الأغلبية مؤتمنة على صيانة الحقوق أنهم في الغرب وفي البلاد المقلدة له لا يؤمنون بالديمقراطية على إطلاقها بل يقيدونها باللبرالية فديمقراطياتهم ديمقراطية ليبرالية. ما معنى ذلك؟ معناه أن حكم الشعب مقيد بكون ضمن إطار قيمي معين هو الإطار اللبرالي. ماذا تقول اللبرالية؟ تقول إن للإنسان الفرد حقوقا جوهرية غير قابلة للمساومة ولا يجوز لأحد أن يتغول عليها حتى ولو كان هذا المتغول هو الأغلبية (سواء كان أغلبية المواطنين في استفتاء عام، أو أغلبية نوابهم في مجلس تشريعي). سنبين ـ حين نأتي لمناقشة اللبرالية ــ أن هذا فوق كونه ينقض الافتراض بأن الشعب أو أغلبيته عالمة بما هو مصلحة مؤتمن على التعبير عنها، فإنه ينقض فكرة الديمقراطية نفسها، لأن الديمقراطية مبنية على أن السيادة التشريعية للشعب، لا لدكتاتور، ولا لفئة من الناس، بل ولا لكتاب منزل وإنما هي للشعب. فكيف يقال إن هذا الشعب صاحب السيادة التشريعية محكومة قراراته بقيم اللبرالية؟ ما أساس هذه القيم خيرا كانت أم شرا؟ هل هي مما شرع الله؟ هل هي مما رأته فئة من المواطنين؟ على كل حال فإنها مهما كان مصدرها تتنا قض مع مبدأ سيادة الشعب التشريعية.

الرأسمالية

حديثنا هنا ليس عن النظام الاقتصادي الرأسمالي السائد في العالم اليوم والذي بدأت بعض أعمدته تنهار وبدأت أخرى تهتز في الولايات المتحدة وفي أوربا وغيرها، حديثنا ليس عن هذا النظام وإنما هو عن النظرية الفلسفية التي يقوم عليها، والتي كان الاهتداء بها هو السبب الحقيقي لما يعاني منه النظام الرأسمالي من مشكلات. نقول إن الكارثة الاقتصادية الراهنة كانت دليلاً يضاف إلى أدلة أخرى على فشل النظرية التي قام عليها الاقتصاد الرأسمالي. وهي دليل من ناحيتين: من ناحية أن العمل بالنظرية هو الذي أدي إلى الكارثة، ومن ناحية أنه اتضح أن علاج الكارثة تطلب الخروج على ما تقتضيه.

تقول النظرية إن الاقتصاد الناجح هو اقتصاد سوق يسمح بالملكية الفردية وبالبيع والشراء والادخار ويترك للسوق تحديد أسعار السلع، وأن هذا كله ينبغي أن يكون في حرية كاملة لا يحد منها أي تدخل من الدولة. كان الفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث الذي عاش في قرنهم الثامن عشر هو أكثر من اشتهر بالقول بهذه الفلسفة الرأسمالية، لكن المؤرخين يقولون إنه هو نفسه تأثر بكتابات ماندافيل الذي كان أكثر منه غلواً في هذا الأمر فهو المشهور بقوله: «إن الرذائل الفردية هي فضائل اجتماعية في مجال الاقتصاد». كان سميث وغيره يقولون إنه لا بأس على الفرد أن يندفع لتحقيق مصالحه بدافع الأنانية، بل قال بعضهم بدافع الطمع ليحقق مصالحه وأن النتيجة ستكون ـ بفعل يد الخفية ـ أمراً لم يخطر على بال الفرد، هو الصالح العالم لكن الواقع أن هذه اليد الخفية لم تقم بالمهمة التي عزاها إليها سميث وغيره، وإنما أدى ذلك الطمع الفردي المتروك له الحبل على غاربه إلى تقسيم الثروة تقسيما ظالما بحيث أن قلة قليلة من المواطنين تصل أحيانا إلى عشرة بالمئة تمتلك ما يصل أحيانا إلى تسعين بالمئة من الثروة، ولا يمتلك التسعون بالمئة الباقون إلا عشرة بالمئة منها، مما جعل بعض الاقتصاديين الأمريكيين يقولون ساخرين إنه يبدو أن شيئا أصاب تلك اليد فشلّ ها. وقد بدأت الفجوة بين الأغنياء والفقراء تزداد حدتها منذ سنين مما جعل بعض الاقتصاديين يقولون إنه إن استمر التفاوت على تلك الوتيرة فسيؤدي حتماً إلى كارثة اجتماعية.

إن الأمر المثالي للنظرية الناجحة أن تكون النتيجة أحسن فأحسن كلما كان واقع العمل بها أقرب إلى مثالها النظري. لكن الغريب في النظرية الرأسمالية أنه لو كان الواقع قريبا من مثالها ودعك أن يكون مطابقا له لكانت الكوارث أكثر فأكثر. الصورة المثالية لهذه النظرية الرأسمالية هي أن لا يكون للدولة أدنى تدخل في النشاط الاقتصادي. لكن هذا معناه أن لا تفرض الدولة على الناس ضرائب، ولا تضع قوانين تقيد بها النشاط الاقتصادي، كأن تمنع صنع بعض الأشياء الخطرة أو المتاجرة بها، وكأن تحدد الأماكن التي تبنى فيها المصانع، وتضع لها شروطا صحية وبيئية وغير ذلك. لكن كل هذه القيود ما زالت تحدث إلى حد ما في الدول الرأسمالية. الدولة إذن تدخلت لكن تدخلها لم يكن بالقدر الذي يرفع الظلم، بل كانت تميل دائما إلى إعطاء حرية أكبر للأغنياء مهما أدى ذلك إلى التضييق على الفقراء.

خذ نظام الضرائب في الولايات المتحدة مثلا. إن الضريبة لا تؤخذ من رأس المال كما هو الحال في الزكاة وإنما تؤخذ فقط من دخل الفرد في العام المالي. وهذا معناه أنه إذا كان هنالك شخصان أحدهما يمتلك مليوني دولار والآخر لا يمتلك شيئا، لكن دخل كل منهما في السنة المالية كان مئة ألف دولار، فإن نسبة ما يؤخذ منهما ستكون متساوية، أي أن الضريبة لا تتعرض لرأس المال الذي كان موجوداً قبل السنة المالية. قال كيفن فلبس في كتابه عن “الديمقراطية والثروة” إنه لو أخذت ضريبة مقدارها ثلاثة بالمئة على رؤوس الأموال في أمريكا وحدها لما بقي على وجه الأرض فقير! ولعل القارئ لا حظ أن هذه النسبة قريبة جدا من نسبة الزكاة التي تفرض فعلا على رؤوس الأموال.

لكن دعاة الرأسمالية في الغرب ما يزالون يدافعون عنها رغم كل ما يرون من آثارها الضارة. أتدرون ما السبب في هذا؟ السبب إنهم ظنوا أن البديل الوحيد للنظام الرأسمالي الذي عهدوه هو النظام الاشتراكي الذي عرفوا صوراً منه في الاتحاد السوفيتي وفي الصين قبل التعديلات التي أحدثها الصينيون فيه. وهم بهذا يخلطون بين كون الرأسمالية اقتصاد سوق وبين كون كل اقتصاد سوق هو بالضرورة اقتصاد رأسمالي.

لكن الحقيقة هي أن هنالك بديلا ثالثاً هو الاقتصاد الإسلامي الذي هو اقتصاد سوق لكنه سوق منضبط بضوابط القيم الإسلامية وهي قيم يغلب عليها مراعاة مصالح الفقراء مما يجنب المجتمعات الآخذة بها ذلك التفاوت الفظيع الذي نتج عن النظرية الرأسمالية. في قول الله تعالى:) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا( [البقرة:275]

بيان لهذين الأمرين ففي إحلال البيع إقرار باقتصاد السوق، وفي تحريم الربا تقييد له بقيم إسلامية هي في مصلحة الفقراء. ثم تأتي الزكاة التي هي أيضاً في مصلحة الفقراء، بل تأتي القاعدة العامة التي تأمر بأن لا يكون المال دولة بين الأغنياء. وإذا كان الغربيون لم يعرفوا النظرية الرأسمالية إلا في صورتها التي قال بها سميث وغيره، فإننا نعلم من القرآن الكريم أنها نظرية قديمة كان من بين من قالوا بها قوم شعيب الذين رفضوا دعوة نبيهم لهم إلى العدل في معاملاتهم المالية بحجة أن المال مالهم فلهم الحق أن يفعلوا فيه ماشاؤوا. قال تعالى: )وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ( [هود:84 -87]

شعار الفلسفة الرأسمالية يكاد يكون ترجمة لقول قوم هود هذا. فقوم هود يريدون أن يفعلوا ما شاؤوا والفلسفة الرأسمالية تقول “دعه يعمل” laissez fair أي لا تتدخل في نشاطه الاقتصادي.رفض الإسلام الفلسفة التي احتج بها قوم هود على أساس أن المال ليس مملوكا ملكية مطلقة للبشر وإنما هو مملوك لله الذي يأمر البشر بأن يتصرفوا فيه تصرفا عادلا وفق أوامره سبحانه.

من الآثار الحسنة التي نتجت عن هذه الكارثة أن كثيرا من المفكرين من اقتصاديين وغير اقتصاديين لم يعودوا يؤمنون بالنظرية الرأسمالية القحة، بل صاروا يدعون إلى تدخل من الدولة لإقرار العدل وصاروا يذمون الأنانية والطمع الذي كان من أسباب هذه الأزمة. فالفكر الاقتصادي بدأ بهذا يقترب من الهدي الإسلامي الذي يقر اقتصاد السوق في حدود قيم العدالة. والمأمول أن يكون في هذا عبرة لإخواننا المسلمين يعيد إليهم الثقة بتعاليم ربهم ويشجعهم على الاستمساك بها في نشاطهم الاقتصادي لكي يضربوا للناس مثلا عمليا بحسنها وجدواها. وقد بدأ الاهتمام بتعاليم الإسلام الاقتصادية في المجالات الأكادمية في الغرب، بل إن الأمثلة العملية للمؤسسات الاقتصادية الإسلامية بدأت تبدي نجاحها بالنسبة لوصيفاتها الغربية كما يحدثنا البروفسر علي خان أستاذ القانون بجامعة ووشبيرن بولاية كنساس الأمريكية في مقال له عن الكارثة الاقتصادية[12]

علاقة الديمقراطية بالرأسمالية واللبرالية

الديمقراطية السائدة في الغرب الآن تسمى بالديمقراطية اللبرالية كما أنها ديمقراطية مرتبطة بالرأسمالية. وقد كتب المفكرون الغربيون أنفسهم في ما يرونه من تناقض بين هذه المبادئ. فاللبرالية تتناقض مع الديمقراطية لأن الديمقراطية تجعل الشعب هو السلطة التشريعية العليا، لكن اللبرالية تقول إن لكل فرد من الناس حقوقا لا يجوز حتى للأغلبية أن تتغول عليها. من الذي أعطى الأفراد هذه الحقوق؟ هذا سؤال لم يستطيعوا الإجابة عليه. فمنهم من قال لأنها حقوق صدر بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لكن على أي أساس صدر ذلك الإعلان نفسه؟ ثم ألا يجوز للأمم المتحدة التي أصدرته أن تغير فيه وتبدل؟ ومنهم من يقول إنها حقوق أجمع الناس عليها في العالم كله. ولكن لو كان الأمر كذلك لما كانت هنالك من حاجة لأن يصدر بها إعلان أو تجعل في قوانين. إن المسلم يؤمن بحقوق للإنسان يوافق بعضها بعض ما جاء في ذلك الإعلان لكنه يقول إنه حقوق أعطاها الخالق لعباده فلذلك لا يجوز لهم أن يحرموه منها.

الفكر العلمي

أحسن ما عند الغربيين من فكر هو الفكر العلمي المستند إلى أدلة حسية وعقلية والذي يسمى سينس science وهو في مفهومه العام يشمل العلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء وأحياء وغيرها، لكنه يشمل أيضا كل علم اجتماعي سار على مناهج هذه العلوم.

كيف ينظر المسلم إلى هذه العلوم وكيف يقومها؟ ينظر إليها نظرة المتقبل المقدر لها الآخذ بها. لماذا؟

أولا: لأن منهج هذه العلوم منهج يقره دينه. فالله تعالى يقول: )وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( [النحل:78]

هذا معناه أن الحس والعقل هما الوسيلتان اللتان يكتسب بهما الإنسان العلم سواء كان علما دينيا أو كان علميا دنيويا. وهذه العلوم تقوم على المشاهدة والتجربة وعلى قوانين عامة ونظريات تختبر صحتها بتلك المشاهدة والتجربة، فما أبطلته كان باطلا، وما شهدت له كان صحيحا، لكن لا يشترط في الصحة أن تكون أمرا يقينيا بل يكفي فيها غلبة الظن. وكل هذه أمور مقبولة في الإسلام.

ثانيا: لأن هذه العلوم علوم مفيدة كما دلت على ذلك تجربة الغربيين معها، وكما دلت على ذلك تجربة المسلمين قبلهم معها. فالأمة التي لا تأخذ بها ولا بما يبنى عليها من تقنيات تظل متخلفة في مجالات الاقتصاد والقوة العسكرية والإعلام وغيرها بالنسبة للأمم التي تأخذ بها. وكل أنواع القوى هذه أمور يحتاج إليها المسلمون لبقاء دينهم وللدفاع عنه ولتبليغه.

ثالثا: لأن لهذه العلوم مكانة كبيرة في التاريخ الإسلامي. كما يدل على ذلك ما كتبه المسلمون وغير المسلمين في تاريخ العلوم وكيف أن الغرب الذي تفوق على المسلمين الآن فيها كان هو في البداية قد أخذ عن المسلمين وتأثر بكشوفاتهم ونظرياتهم. ليس هذا فحسب بل إن المسلمين رغم تأخرهم فيها بالنسبة للغرب ما يزالون يشاركون في تطورها بتجاربهم وكتاباتهم في المجلات العلمية حتى في البلاد الغربية. لكن كل هذا لا يرضي طموح المسلم المتطلع إلى أن يصير للمسلمين القدح المعلى في هذه العلوم وتقنياتها. ولذلك فإنه يأمل أن يتطور الفكر العلمي في بلاده في كل مجالاته، مجال المؤسسات التي ترعى هذا العلم، ومجال التخصصات الدقيقة فيه، والمجال العام الذي يجعل من الفكر العلمي هذا فكرا جماهيريا بقدر المستطاع.

رابعا: لأن المسلمين بدؤوا يجدون في ما توصلت إليه هذه العلوم من حقائق تؤيد ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأسسوا لذلك علما أسموه بالإعجاز العلمي. والمقصود بالإعجاز هنا كون القرآن والسنة سبقتا إلى تقرير بعض الحقائق التي اكتشفتها العلوم الطبيعية لاحقا، والتي ما كان من الممكن أن يعرفها بشر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بالوسائل المتاحة للناس في ذلك الزمان. من أحسن الأمثلة على ذلك مسألة تطور الجنين التي يقول عنها العالم الكندي كيث مور كما نقل عن الأستاذ الدكتور زغلول النجار:

إن التعبيرات القرآنية عن مراحل تكون الجنين في الإنسان لتبلغ من الدقة والشمول ما لم يبلغه العلم الحديث, وهذا إن دل على شيء فإنما يدل علي أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلا كلام الله, وأن محمداً رسول الله[13].

في مثل هذه الكشوف تصديق لقوله تعالى: )سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ( [فصلت:53]

خامساً: ولأننا نريد أن نصحح مسار هذه العلوم بأن نخلصها من الفلسفة المادية الإلحادية التي صارت إطارا لها. تتمثل هذه الفلسفة الإلحادية في القول بان العالم مكتف بنفسه لا يحتاج إلى تدخل من خارجه، وأن حوادثه يجب تفسيرها بظواهر من النوع المشهود فيه. لكن هذا معناه أن عدم قبول أي دليل من داخل العالم على حقيقة في خارجه.

وإذا كان عصر تنويرهم لا يؤمن إن آمن إلا بإله لا يتدخل في الكون ولا يرسل رسلا، فإننا نؤمن بإله لا يحدث شيء في الكون إلا بإذنه وعلمه وإرادته وقدرته، ونؤمن بأن هذا الإله هو الذي أرسل محمدا بالدين الحق، ولذلك فإذا كان الملحدون الماديون يحصرون مصادر المعرفة في الكون وحده، فإننا نؤمن بأن للمعرفة مصدرين هم خلق الله وكلام الله تعالى. وقد رأينا كيف أن حركة الإعجاز العلمي قد أثبتت توافق الحقائق الكونية مع الحقائق الشرعية.

الهوامش:

[1] الألوهية الطبيعية deism هي الاعتقاد في خالق خلق الخلق ثم تركه وشأنه فلا يتدخل في سير حركته الطبيعية ولا الاجتماعية

[2] مبدأ ينكر كل التفسيرات الروحية والخارجة عن الكون لما يحدث فيه ويقول إن العلوم الطبيعية هي وحدها الأساس لكل ما يمكن أن يعلم.

[3] http://www-personal.ksu.edu/~lyman/english233/Kant-WIE-intro.htm

[4] الكتاب هو المسمى (درء تعارض العقل والنقل) تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم وهو في طبعته هذه التي تشمل تعليقات المحقق والفهارس يتكون من أحد عشر جزءا.

[5] Western Values, Wikipedia, the Free Encyclopedia.

[6] Medeleine Bunting, ( The Convenient Myth that Changed a Set of Ideas into Western Values) Guardian News & Media 2008, published 4/9/2006.

[7] William Dalrymple, )A lesson in humility for the smug West(, The Sunday Times, October 14, 2007

[8] http://www.alhewar.com/AliMazrui.htm

[9] Republic,488a-d.

[10] ما المقصود بالأخلاقي؟

[11] Ross, op.cit, p. 153>

[12] http://www.counterpunch.com/khan09272008.html

[13] http://forums.way2allah.com/showthread.php?t=14953

المصدر: http://moslimonline.com/?page=artical&id=2799 عن موقع الدكتور جعفر شيخ إدريس

كُتب في المناهج | التعليقات على نقد للفكر الغربي بمنهج علمي مغلقة

أوباما وشاعر خراسان …

للأستاذ محمد بن المختار الشنقيطي

يروي الأديب عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب (البخلاء) أن شاعرا امتدح والي خراسان بقصيدة عصماء، فلما فرغ قال: قد أحسنت. ثم أقبل على كاتبه فقال: أعطه عشرة آلاف درهم. ففرح الشاعر فرحاً قد يستطار له. فلما رأى حاله قال: وإني لأرى هذا القول قد وقع منك هذا الوقع.. اجعلها عشرين ألف درهم، فكاد الشاعر يخرج من جلده. فلما رأى فرحه تضاعف قال: وإن فرحك ليتضاعف على قدر تضاعف القول، أعطه يا فلان أربعين ألفا. فكاد الفرح يقتله. ثم إن كاتب الوالي أقبل عليه فقال: سبحان الله! هذا -أي الشاعر- كان يرضى منك بأربعين درهماً، تأمر له بأربعين ألف درهم! قال: ويلك! وتريد أن تعطيَه شيئاً؟ قال: وهل من إنفاذ أمرك بدّ؟ قال الوالي: يا أحمق! إنما هذا رجل سرَّنا بكلام فسررناه بكلام. وهو حين زعم أني أحسن من القمر، وأشد من الأسد، وأن لساني أقطع من السيف، وأن أمري أنفذ من السنان، هل جعل في يدي من هذا شيئاً أرجع به إلى بيتي؟ ألسنا نعلم أنه قد كذب؟ ولكنه قد سرنا حين كذب لنا، فنحن أيضاً نسره بالقول ونأمر له بالجوائز وإن كان كذباً، فيكون كذب بكذب وقول بقول. فأما أن يكون كذب بصدق، وقول بفعل، فهذا هو الخسران المبين”.

أكمل قراءة التدوينة

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على أوباما وشاعر خراسان … مغلقة

قراءة دامعة في خطبة الوداع !!! كفاك تشديدًا يا رسول الله

مقال للأستاذ عبد السلام بسيوني

لانوافق أبداً على عنوان المقال: كفاك تشديداً يارسول الله لأننا نرى أن مقام النبوة أعظم من هذا الابتذال ، كما لانوافق على بعض مضامينه، كما نرفض استخدام اللغة العامية الذي هو نوع من الضعف الذي بدأ يتسلل حتى إلى بعض الكتاب الإسلاميين، ورغم ذلك فإن المقال جدير بالقراءة …………. إدارةالموقع

أغبى غشاش هو الذي يغش نفسه، وأخون خائن هو الذين يخون مصالحه ومصالح أهله وقبيلته/ وأضيّع ضائع من يضيع دينه، ويهدم عقيدته؛ من أجل حفنة دولارات، أو مجلس أنس، أو صورة في جريدة/ وأضيع منه من يفعل ذلك “ببلاش” ربما لصالح شيطان من شياطين الإنس، أو شياطين الجن، لأنه – بذلك – سيكون قد خسر الدنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين.

أفسد مستورد – في زعمي – هو من يستورد أفكارًا تسمم العقول، وتفسد القلوب، فتجعل الزنا فضيلة، والاستقامة انغلاقًا، و”الصياعة” شطارة، وشرب الزفت حضارة، وسب الدين حرية ومدنية ونورًا في العقل. أكبر مزور ليس هو الذي يزيف الشلن والبريزة والنص يورو، بل هو الذي يزور تاريخ أمته لحساب تاريخ غيرها، فيهيل السخام عليه، ويطفئ كل نقطة مضيئة فيه، وينكر كل معروف، ويسوئ كل حسنة.

ولقد قمنا بهذه المهمة – سيدي يا رسول الله – حق القيام، فلعنّا الصحابة، وسببنا التابعين، وشنقنا الأئمة، وسخرنا من الشعائر، وصرنا الخلف الفاسد الذي “يجلب لأهله اللعنة “!

أتعرف – سيدي يا رسول الله – ماذا غيّرنا أيضًا؟ ستعرف قطعًا عند لقائك بأمتك على الحوض، حين تذود الملائكةُ المبتدعةَ، والكذابين، والآكلين الجيف المتعفنة يزعمونها الطعام الهنيء المريء. أتعرف ماذا غّيرنا؟ آخر وصية عامة عظيمة، وأول ميثاق محترم، واضح الملامح، صريح العبارة، عن حقوق ” اللي كان إنسان “.

***هل قلت فيها يا سيدي بحرمة الدماء والأموال والأعراض؟ وهل جهرت في الموسم لكي يُسمع الشاهد الغائب: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم”؟

آه لو رأيت يا سيدي يا رسول الله أن دم المسلم في القرن الحادي والعشرين لا يساوي فلسًا، وأنه يدفن في مقابر جماعية توفيرًا للرصاص، ويقطع بالخناجر والسكاكين تأخيرًا للخلاص، ويصاد في المحميات الطبيعية (المتحضرة ) بالبنادق ليستمتع بذلك أبناء الحرام!

أتصدق يا سيدي يا رسول الله أن أطفال المسلمين في كوسوفا والشيشان تجمدوا في برد الشتاء تحت درجة الصفر بكثير كثير، وأن جنائز أطفال ونساء ورجال العراق كانت تخرج طوابير طوابير؟

أتدري أن أموال المسلمين هي أهنأ المال مطعمًا، وأقرب المال مأخذًا، وأسهله منالاً؟ أتدري أن المال المسلم يقع دائمًا تحت طائلة التجميد أو السحب أو الشفط أو الهبر، حيث بعض البشر يتعاملون بالاثني عشر صفرًا، والمجموع مفلس يعجز عن شراء بنطلون، أو جوز جزمة، أو علبة سريلاك؟

***هل قلت إن الأعراض حرام يا سيدي يا رسول الله؟

ما أطهرك: إنها على قفا من يشيل! إنها أرخص من اللحم العجالي! اللحوم البشرية البتلو تعرض رخيصة – بل مجانية – في مناخس الإعلام “الحريف” الذي يتقن التجارة باللحم الأبيض الرخيص، وتبرَعُ قنواته في أشكال التغني والتثني، والتعري والتجلي، والصهللة والزغللة، وتعرضها الفضائيات (القوادة) على أطباق شهية، متبلة بالألوان والأصوات والمؤثرات، مسموعة ومقروءة ومرئية، بصوت دولبي، صورة 3 D، رخيصة غير مدفوعة الأجر، إلا من الدين والمروءة ويقظة الوعي والإحساس!

فإذا قال إنسان حزين على المروءة: عيب وحرام، قالوا: اخرس يا جاهل، ما العيب في ذلك وما الحرام؟ الفن حلو، وساعة الحظ لا تعوض، والله تعالى جميل يحب الجمال. إنهم يلبسونها ثوبًا شرعيًّا يا سيدي يا رسول الله، ويجدون من المتعالمين الأدعياء رخصًا مبيحة تعطي هذه اللحوم الرخيصة دستوريةً تغلق الأفواه، وتسد المنافذ، وتجفف المنابع.

الدم المسلم يا رسول الله أرخص من البيبسي وماء الريان، والمال المسلم وديعة في يد القرصان، والعرض المسلم عليه السلام.

لا أملك إلا أن أذكّر بها يا سيدي، لا أستطيع إلا أن أجهر بما جهرت به في خطبتك الوداعية قبل إحدى وثلاثين سنة وأربعمائة وألف: [إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟] أقولها يا سيدي وأنا أعلم أن صوت أهيف محطة تليفزيون أعلى من صوتي وأصوات مليون مثلي.

***وهل تحدثت يا إمامي وسيدي وحبيبي وقائدي عن الأمانة وعن الربا؟
ياه… إن الأخلاق تتبدل يا شفيعي، فالعصر غير العصر، وأنت يا سيدي موضة قديمة، وفكر “قروسطي” والرزق يحب “الخفية”!

المنطق يا رسول الله: اهبر واهرب، والخيانة تتلفع بعباءات غَرور، وتتقنع بأقنعة محبوكة مقنعة، هناك شيء اسمه العمولات والإكراميات والنسبة والسمسرة والهدية، والمال المسلم نهيب “ويا بخت من نفع واستنفع” والصحافة – حرسها الله – ترش الألقاب المجيدة، والصفات الحميدة بغير حساب.

لقد اقترب الزمان الذي نبهتنا إليه منذ أربعة عشر قرنًا يا سيدي: الزمن الذي يعز فيه الأمناء، حتى يقول الرجل لصاحبه: “إن في بني فلان رجلاً أمينًا، فاذهبوا إليه” سيكون الأمين أعز وأندر من فتاة بكر في أوروبا، رغم أن درجة أمين شائعة في الدنيا كلها: أمين حزب، وأمين مجلس، وأمين مؤسسة، وأمين سر، وأمين شرطة، وأمين خزنة، وأمين هنيدي… رحمهم الله أجمعين، ورحمنا منهم.

سيأتي هذا الزمان قريبًا يا سيدي يا رسول الله إن لم يتداركنا ربنا الرحيم برحمة منه، ويغير ما بنا من حال لا يسر إلا كل منحرف مجرم فاسد وابن حرام.

لقد داست الخيانة على الأمانة يا سيدي يا رسول الله: خيانة الدين، وخيانة الأمة، وخيانة الودائع وجحد الأموال، خيانة العيال وأم العيال، لكن الذكرى تنفع يا أمين الأرض: (فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوعٌ، وإن …)!

هل قلت ربا؟ هل تتحدث عنه؟ وما لنا وللربا؟ إنه ليس موجودًا بيننا، نحن أشرف الناس، إن عندنا فائدة.. عندنا عوائد، عندنا رساميل بنوك، وكلها حلال زلال، وآكلوها راضون بها، مطمئنون لها، مستريحون، والرديء والخبيث والممنوع يا سيدي هو الفقه الرجعي، والمشايخ المتزمتون – شيوخ البنوك – الذين يصفون كل شيء بأنه حرام.. حرام.. حرام، حرام عليهم.

يا سيدي يا رسول الله: الاقتصاد العالمي كله يسير بالربا – الذي حذرت منه – من كيب تاون جنوبًا إلى كيبك شمالاً، ومن طوكيو شرقًا إلى واشنطن غربًا، والفوائد ترفّ على أباطرة البورصات، وجورج سوروس ضرب بالربا – بمهارة اليهود عبدة الذهب – أسواق ماليزيا وأندونيسيا والنمور الآسيوية أكبر تجمع مسلم في الدنيا كلها، وبعدها – ومنذ عامين – سقط الاقتصاد العالمي بالضربة القاضية الربوية! ومصارف اليهود تنبعج، وخزائن سويسرا تنتفخ، وخيرات المسلمين تشفط لآخر دانق.‍‍ لقد صنعنا – من حرصنا على الإسلام – ألف صورة من صوره، والبنوك تنشر في الصحف المسلمة يوميًّا أسعار الفائدة، وحركة الأسهم، وسعر آخر إقفال.

***هل كان أول ربا وضعته يا سيدي ربا عمك العباس في جاهليته؟
أنت رحيم يا رسول الله، أنت الرحمة المهداة، لكن هل سمعت عن المصيبة الجاثمة المهداة؟

اسمها البنك الدولي وصندوق النقد يا سيدي: إنهما يقاسماننا اللقمة، والفكر، والسرير، إنهما يأخذان الفوائد مركبّة مضاعفة: فائدة مالية تقصم ظهور الدول والشعوب، إضافة إلى الفوائد الأخلاقية، والفوائد السياسية، والفوائد العقيدية التي تصب لصالح آل سكسونيا.

إنهما لا يكتفيان بالفائدة المالية، بل يتحدثان في صلب الدين والعقيدة، وعن ضرورة سب النبي، وانتهاك المقدسات، وحرق القرآن، وعن ختان النساء، والحرية الجنسية، وتطوير البرامج الإعلامية، والمقررات المدرسية، والاختلاط، وماذا نأكل، وكيف نلبس، وكم نفسًا نتنفس. هل هذا من عمل البنوك يا سيدي؟ نعم، اعملوا كذا وإلا خربنا بيوتكم، ولن نجدول ديونكم، ولن نرقب في أطفالكم إلاًّ ولا ذمة!

البنوك الصغيرة تحجز الأموال لاستيفاء حقوقها، والبنك الدولي يحجز على أرصدة الشعوب، ومناهج التعليم، والمقررات الدراسية وبرامج التليفزيون، والقيم والأخلاق.. وقبل ذلك كله العقائد الدينية!

أرأيت نتيجة الربا يا سيدي يا رسول الله؟ أرأيت بركاته ونفحاته؟ إن تحريم الربا صار رجعية وتزمتًا يا رسول الله؛ رغم ما يراه كل مبصر من كوارث! ليس آخرها انهيار الاقتصاد العالمي، وسقوط حيتان اقتصادية صارت فئرانًا، وإفلاس البنوك الكبيرة، وتدهور الاقتصاد اليورو أمريكي، وقد تكرر انهيار العملات حتى صارت قيمة بعض الجنيهات الألف بدولار واحد، وأصبحت بعض الليرات “الكبشة بنص جنيه”.

***وهل وضعت تحت قدميك يا سيدي مآثر الجاهلية وأهدرتها؟ إننا نقفز الآن فوق التاريخ الإسلامي كله لنعانق “مآثر الجاهلية ومخازيها” الجرائد والأفندية والخواجات المحليون يتحدثون ليل نار عن البربرية الأمازيغية، والفينيقية اللبنانية، والكنعانية الفلسطينية، والطورانية التركية، والفرعونية المصرية، وعن عبادة العجول والثعابين، وعشتار وإينال، وحورس وهانيبال، وحضارة الرافدين وأوال، وعن جلجامش وتحتمس، وبلقيس والأسود العنسي، عن الأساطير الأشورية التي لا تزال حية في ضمائر الناس وسلوكهم، وتعمل لذلك مؤتمرات، وتصدر دوريات، وتبرمج مقالات، وترفع مؤسسات.

تاريخ الجاهلية يكتب من جديد بحروف من ذهب، تاريخ الوثنية والعبودية ونكاح المحارم والقرابين البشرية، وعبادة الملوك، والسجود للجواميس يعود من جديد تحت مسمى الحضارة والاستنارة وأمجاد الأسلاف.. أما تاريخ أمتك يا سيدي يا رسول الله ففي رحمة الله، صرنا نشرب عليه القهوة السادة في سرادقات التنويريين والحداثيين ودعاة تطوير الدين!

*** وهل تحدثت يا سيدي وحبيبي المصطفى – صلوات الله وسلامه عليك – عن استدارة الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض؟! لقد استدار ثانية يا سيدي، لكن ليعود إلى عهد الرومان بجلاّديهم ومصارعيهم الذين كانوا يتقاتلون حتى الموت، وبحيواناتهم المجوّعة، القرمة للحم البشر، وباضطهادهم المؤمنين..كانوا يضطهدون أصحاب عيسى عليه السلام ثم تحولوا لاضطهاد أتباعك وأمتك يا سيدي.. عادوا لينتشوا بمرأى الدماء وهي تفور، والنفوس وهي تضطرم بالرعب وتمور، والدين وهو يهان ويداس، والشعوب وهي تحاصر وتجاع!

لم يعد عندنا نسيء يا سيدي، فقد نسأنا التاريخ كله، صار تقويمُنا جريجوريًّا، وصرنا نؤرخ بمارس إله الحرب، وجونو ربة الأرباب، وبالقديس أغسطس، وبآذار بتاعة الربيع.. صرنا خواجات القلوب والمقاصد، نتسمى بحسن وأحمد وعيشة، وقلوبنا ذائبة في حب جون وإدوار وميري.

نسينا يا سيدي الأشهر الحرم، وعيد الأضحى، واحتفلنا بالكريسماس، وعيد الشكر، وأول إبريل، وذكرى سانت فالنتين!

لقد تبدلت كيمياء عقولنا، فباتت العروبة عارًا، والإسلام إرهابًا، والأخلاق تخلفـًا، صرنا شرق أوسطيين، وبحر متوسطيين، وأفارقة وآسيويين، فالمهم ألا نكون مسلمين.

***هل تحدثت يا سيدي عن نسائنا العواني، وعن حقهن علينا؟! آه يا سيدي لو رأيت (العوراء والجرباء وأم رجل مسلوخة) وقد رفعن أسنمة البخت فوق الرؤوس، ووضعن اللبانة في الأشداق، والعدسات الملونة في الأحداق، وزجّجن الحواجب، وهززن القدود، وسرن بين خلق الله التائقين، كاسياتٍ عارياتٍ مائلات مميلات، متديّكات متحذلقات، وقد برزت لهن عضلات ومخالب، وتعلمن المصارعة والنزال. وأبرزت كثير منهن (المواهب) في الفضائيات، يتحدين بها الرجال! بزأرة أسدٍ وصولة خنزير بري! وقد علقن على الجباه شعارات رفض الإسلام، ونبذ العفاف.. والحرية الاقتصادية، وسلاسة العلاقة الإنسانية!

آه لو رأيت الدنيا تتسع لكل أحد – حتى الشواذ وعبّاد الشيطان – إلا الملتزمين والملتزمات! آه لو رأيت جرأة الراقصات، وسطوة الكاتبات، ورزالة المسقَّفات! آه لو رأيت انهزام الحجاب وخجلة النقاب، وعزةَ الهوت شورت والبودي والميني سكيرت وبدلة الرقص البلدي!

آه يا سيدي!لم يعد الستات عوانيَ عندنا، بل صرنا نحن الأسارى عندهن! لقد رأينا ليدي تاتشر تنهي وتأمر، وتشخط وتنطر! ورأينا بنت أولبرايت تضرب بالشلّوت، وكوندوليسا وهي تشير بطرف إصبعها للشنبات، وميركل والست كلينتون تصفع أقفية أرباب العضلات.. لم يعدن ينتظرن الإذن يا سيدي.. فحق المدام دستوري في أن تروح وتجيء، وتسافر وتتفسح، ولم يعد لبعلها الطرطور حقٌ حتى في أن يقول لها “كنتي فين يا بت”؟.

صار التعدد يا سيدي حرامًا، والحجاب حرامًا، ولزوم البيت حرامًا، وطاعة الزوج حرامًا، والعفاف حرامًا، بل يزعم مقصوفات الرقبة أن الله – تعالى وجل – قد ظلمهن حين أعطى الرجل القوامة، ونصّفهن – كما يتوهمن – في الميراث، وقيدهن في الشهادة. صارت إحداهن يا سيدي تطالب بأجرة عن عمل السَّلطَةَ، وترتيب السرير، وصبّ القهوة لضيوف زوجها!

آه يا سيدي المصطفى: أخاف أن أرفع صوتي فتسمعني نفيس صادق، أو تقرأني غادة السمان، أو تحس بي نوال السعداوي، أو تقرأ لي فاطمة مرنيسي.. وأنا أجبنُ من أن أواجههن، وخلفهن ميكروفونات وكاميرات وتليفزيونات ووكالات أنباء تشتهي الشماتة بالمسلمين وتجريسهم.

هل أوصيتنا بهن خيرًا يا حبيبي؟ فمن يوصيهن بنا الآن؟! من يوصيهنَّ بنا وهنَّ لا يسمعن لرسول، ولا يستجبن لنصيح، ولا صوت عقل، ولا نداء فطرة، بل تقودهنَّ عدوات أنفسهن يا سيدي! تقودهنَّ نساءٌ معقدات، تبرأن من الأنوثة، وانخلعن من الحياء، وفشلن كل الفشل أن يكون لهن بيوت وأسر مثل كل البشر، فقررن أن يسقطن كل البيوت؛ بمنطق عليّ وعلى أعدائي يا دليلة.

أعيدها يا سيدي تجديدًا للبلاغ عنك:

[إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهنَّ حق: لكم عليهنَّ ألا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهنَّ وتهجروهنَّ في المضاجع، وتضربوهنَّ ضربًا غير مبرح.. وإنما النساء عوانٍ عندكم، لا يملكن لأنفسهنَّ شيئًا، أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء.. واستوصوا بهنَّ خيرًا].

***وهل قلت يا سيدي: إنما المؤمنون إخوة، وإنه لا يحل لامرئٍ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه؟! لقد صار ذلك شعارًا انتخابيًّا، وعلكة إعلامية، ولافتةً للتخدير والتهدئة، المؤمنون ليسوا إخوة يا سيدي، وليسوا سواء، ولا كأسنان المشط؛ إنهم يتفاوتون بحسب اللون: لون البشرة، ولون التابعية، ولون جواز السفر. ويتفاوتون بحسب الانتماء: الانتماء للحزب، والرابطة، والعرق والصالح المعلنة والمستترة.

يتفاوتون بحسب انتفاخ الجيوب، وعدد أصفار الرصيد، ويتفاوتون بحسب عضلات بابا، ونفوذ أنكل، وقرابات تيته، وأصحاب طنط فيفي!

صار مال الأخ يا سيدي حلالاً طيبًا!”بكيفه” أو رغم أنفه: نشفطه، أو نسرقه، أو نوظفه، أو نعطيه فوائد عليه! وساد في الدنيا كلها قوانين التسليك (راعيني وأراعيك) خصوصًا لو كان هذا الأخ ضعيفًا، أو قريبًا، أو حييًا، أو صاحبَ عيال، أو واقعـًا تحت وطأة ظروف قاهرة، تجبره على أن يريق ماء وجهه، يقبل الضيم، ويعمل “مرمطونًا” بدل ذل السؤال وإلحاح العيال!

وهل التقاتل وأذى المسلم خطيرٌ لدرجة أن يوصف فاعله بالكفر؛ ولو مجازًا ؟! (فلا ترجعُنَّ بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)!

ستعرف يا سيدي يا رسول الله أن من المسلمين الرحماء المتحضرين من يذبح أخاه – باسم الإسلام – من رقبته كما تذبح النعاج، ومنهم من “يتعنترُ” على النساء والصبيان، ويتفرعن على الضعفاء والمقهورين.

ستعرف أن مائة ألف نفس مسلمة في بلدٍ واحد اسمه الجزائر ذُبحوا والله يا سيدي – بنفس أسلوب هولاكو والعسكري الأزرق وعبدة الشيطان – ذُبحوا في بضع سنين باسم الدين، أو باسم مكافحة المتدينين.. وأن عشرة أضعافهم في أرجاء عالم الإسلام سُجنوا، وعذبوا، وأوذوا باسم المحافظة على المكتسبات (الدم قراطية) والمنجزات (الإيش تراكية) والسياسة (الحِزنيّة) وكلهم يا سيدي بلا حول ولا طول ولا قوة!

ستعرف يا سيدي أن الدنيا لا تقوم إلا على العنصرية، وعلى التفاوت، وعلى هضم الحقوق، وسفك الدماء، وتجبّر الأقوياء، وانسحاق الضعفاء.
إننا نعيش يا سيدي في زمن شعاره: إذا لم تكن ذئبًا مزقتك الذئاب زمن الحصار الجوي والبري والبحري على الشعوب حتى تركع وتحني الرقبة، زمن شِعب أبي طالب في الجاهلية المعاصرة ضد العراق وسوريا، وليبيا ونيجيريا، وأفغانستان والسودان، وكشمير والقرن، وسائر العالم الإسلامي الكسير.

نحن في عالم لا مكان فيه يا سيدي للشعراء والعصافير، والفل والياسمين إلا في الأفلام والأحلام!

أبونا آدم خلق من تراب يا سيدي أعلم! نعلم! كل الدنيا تعلم: كلنا من أصل واحد، لكنّ فينا من يزعمون أن الله عجن طينتهم بالمسك والبنكنوت والنور! وأن غيرهم معجون بالقطران والوحل وماء البرك، رغم أن القوانين تسوّي، والشريعة تسوّي، والعقل يسوّي، والشعارات تسوّي.. لكنها تبقى في النهاية شعارات.

***هل قلت يا سيدي: إن أكرمكم عند الله أتقاكم؟! أكرمنا الآن أطولنا يدًا، وأعلانا صوتًا، وأدفؤنا جيبًا.! أما الآخرون – مهما شرفوا – فعرَاضٌ الأقفية، لا يزِنون أمام القانون جناح بعوضة!

***وهل قلت – يا سيدي – ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى؟!
إن المعادلة مقلوبة الآن! نحن في زمان نود لو أن نستطيع فيه أن نقول: ليس لعجمي فضل على عربي.. ولا لسكسوني على ملون، ولا لآري على زنجي: فالعجم هم الأعلون! هم الذين يُخطب ودهم! ويراعى (خاطرهم) ويطلب منهم النظرةُ المدد! صدقني لو قال أحدنا: مدد يا سيدي بوتن/ مدد يا ست ميركل/ مدد يا سيدي باراك، لوصله المدد في الحال مما لا يرضي الله تعالى، ولا ينتهي بالعافية!

يا أمم يا متحدة! يا عم بان كي قمر، يا ست هيلاري: لا فضل لعجميٍّ على عربي، ولا أميركي على عراقي، ولا اسكتلندي على ليبي إلا بـ.. (بلاش) الدين! إلا بالرحمة، والآدمية، واحترام حقوق الإنسان، وعدم إهدار الأرواح..

***هل قلت يا سيدي: الولد للفراش وللعاهر الحجر؟! أولاد الحرام الآن كثيرون! نصف سكان بعض الدول المتقدمة أولاد حرام! حتى في بلاد المسلمين ارتفعت نسبة أولاد الحرام! وصار الأخ العربي الأبي يسمى ابنه (بوش) يا سيدي، ويسميه لينين وستالين وغاندي! لقد صار جمال جيمي، ويوسف جو، وعماد دودي.

آه! نعم يا سيدي! هل تركت فينا ما إن أخذنا به لن نضل بعده (كتاب الله)! نحن يا سيدي نعظمه، ننص على أنه أساس الدستور، ونشجع قراءته على الموتى، وكتابته حروزًا وتمائم، ولوحات وشعارات! لكن الدنيا تتغير يا رسول الله! القرآن بركة، وذكرى حلوة، وخيرُ ما نستهل به البرامج؛ أما أن يحكم الحياة فيعقدها، والمصالح فيعطلها، فلا.. (كفاية عليه) المقابر والمآتم، سيجلب لنا الصداع، ويقول: إن كذا حرام، وكذا ممنوع، وكذا مكروه!هل نلغي المنجزات “الحدارية” التي ناضلنا لها لأجل عيونه؟!

هل نعطل البنوك، ونغير مناهج التعليم، ونحجب النساء، ونفكر لأنفسنا، ونقاوم الفساد، ونرفض الذلة؟! هذا صعب يا سيدي، إذ (سيزعل) منا أبو البركات، وأم المراكل، وبيبي نتنياهو، وطوني جوز سارا.. وبوتين جوز مش عارف مين.. وسيحال كثير من الناس إلى الأرفف، وكثير من المهن إلى التراب..

هل نكتم أنفاس الصحافة، ونلجم (الزعيم الرجيم، والوزير الننوس، وإيناس وهالة، وسائر الناس الز….!؟) هل يعقل هذا يا سيدي؟

بحسب القرآن أن نلتمس منه البركة! ولا تخش علينا الضلال – ولو تركناه وهجرناه – فنحن متحضرون فاهمون، والدنيا تغيرت، وربنا غفور رحيم، والضرورات تبيح المحظورات، والدين يسر، ويوم القيامة لا يزال بعيدًا، وحين نموت (تُفْرَج).

لا تخش علينا ضلالاً، ولا تُطلْ خطبتك بعد ذلك، فنحن في زمن الاختصار والسرعة – السرعة في كل شيء – ونحن متأكدون أننا صالحون، وسندخل الجنة، فالقلوب بيضاء، والنوايا سليمة، وكفاك يا رسول الله تشديدًا!

كُتب في مختلفة, منائر | التعليقات على قراءة دامعة في خطبة الوداع !!! كفاك تشديدًا يا رسول الله مغلقة

اللهم ارحم علمائنا وعوضنا خيرا

وفاة العالم المجاهد المربي محمد نمر الخطيب نزيل المدينة المنورة

نعت رابطة العلماء السوريين فضيلة الشيخ العالم المجاهد المربِّي محمد نمر الخطيب الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى بعد حياة حافلة بالعطاء والعلم والجهاد عن عمر يناهز المائة عام في المدينة المنورة عشية عيد الأضحى المبارك ليلة الثلاثاء العاشرمن ذي الحجة عام 1431.
وُقد وُلِدَ الشيخ – رحمه الله تعالى – في حَيفَا، ثغر فلسطين .
وتعدُّ أسرة آل الخطيب مِن أعرَقِ الأسر العَربيَّةِ لانحدارهَا مِنَ العِتْرَةِ النَّبويَّة .
تسنَّم أجَداده نَقابَة الأشَرافِ وَمَقَاليد الإفتَاء وَمَقَام الإمامَة وَذروَةِ المنابِر.
أتَمَّ تعليمَه الثَّانَوي في حَيْفا وَعكَّا، وَأكمَلَ تحصيلَه بالجامعِ الأزَهَر الشريف وَكليَّةِ أصُول الدِّين في القَاهِرَة.ومن كبار شيوخه الذين أدركهم : محمد بخيت المطيعي ، ويوسف الدجوي ، وإبراهيم السمالوطي .
وَلَدَى رُجُوعِهِ لوطَنِهِ رَاعَهُ مَا فَعَلَ المُسْتعَمر بالبَلَدِ المقدَّس فَاشْتَغَل في مَيَادينِ الدَين وَالعِلمِ وَالسّيَاسَةِ، كَاتباً وَخَطِيباً وَمُرْشِداً وَمُعَلِّماً، فأنْشَأ عِدَّة جَمْعيَّات وَتَوَلِّى عِدَّةَ مَنَاصِبَ مِنْهَا:
أنشأ في حيفا جمعية الاعتصام، وكان لهذه الجمعية الأثر الكبير في إرسال عدد من الطلبة إلى الأزهر، عادوا علماء تولوا الأمر بعد ذلك، كما أنشأ في حيفا مدرسة ليلية، هذه المدرسة رسم لها الشيخ منهجاً خاصاً بالإضافة إلى تعليم الكتابة والقراءة والتاريخ الإسلامي، تدرس التوجيهات الإسلامية، بهدف معين لأن اليهود بدأوا بالانتشار والانجليز صارت لهم الصولة والجولة؛ إذن لا بد من تربية جيل يتحمل التبعات التي ستلقى على كاهله، كما تولى الشيخ جمعية الأوقاف والمعارف الإسلامية في لواء حيفا كلها، وبقي في حيفا من سنة 1939م إلى سنة 1948م ولما اشتد عود الشيخ قامت الحرب في فلسطين فنادى الشيخ بنداء الجهاد، والتف المسلمون حوله من لواء حيفا وغيرها وخاض المعارك قائداً للمجاهدين لما حواه من صفات القيادة الدينية والاجتماعية والسياسية وكان يرجع إلى بيته ويفتح قميصه ليخرج الرصاصات منه ولم تخترق جسده سوى خمس رصاصات، بقي ثلاث منها وواحدة بدأت تتحرك قبل سنوات .. رحمه الله.
تولى مَنْصِبُ الأمينِ العَامِ للجَبهَةِ العَربيَّةِ العُليَا. واختِيرَ وزيراً للدِفَاع وَالدِعَايَة في أولِ وزَارَة ثوريَّة عَقِب الانتداب.
دَخَلَ السِجْنَ والاعتِقَالَ وَتَوَلَّى حَرَكَةَ الجهَادِ حَتَّى سنة 1948.
في إحدى المعارك سقط الليث جريحاً، ونقل الشيخ من حيفا وهو منهبط إلى بيروت وسمع رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي بالشيخ فأرسل إليه طبيبه الخاص الذي قرر نقله إلى دمشق ليتولى علاجه في دمشق ونقل الشيخ من بيروت إلى دمشق، وكتب الله تعالى له الشفاء وتوطدت العلاقة من تلك الساعات بين الشيخ وبين رئيس الجمهورية في دمشق وقد تنوعت نشاطات الشيخ في دمشق العلمية والدعوية والجهاد، فدرس في مدارس عنبر (1) كما درس في الكلية الشرعية وفي المدارس الثانوية واتخذ من إذاعة دمشق منبراً فكان له برنامج يومي بعنوان من هدي القرآن وآخر عن نكبة فلسطين وأسس لجنة للاجئين وكان رئيسها الفعلي وإن كان يرأسها في الظاهر رجل من أهل دمشق من آل المالكي، وألف كتابيه (من هدي القرآن)، (ومن أثر النكبة) وطُبِعَا في دمشق.
انتسب الشيخ إلى جمعية التمدن الإسلامي وكان من أعضائها النشيطين، وكتب في مجلتها عشرات المقالات.
وقد أوفده رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي إلى الحج وحمله رسالة خطية إلى الملك عبد العزيز آنذاك، كما كان الشيخ أحد أعضاء وفد التهنئة في قيام باكستان وكان ذلك بمشورة وطلب الشيخ من رئيس الجمهورية آنذاك، ولكن مدته في دمشق لم تدم سوى ثلاث سنوات وبعض شهور، لأن الإنقلاب العسكري أخرج رئيس الجمهورية فخرج الشيخ عام 1951م، إنتقل الشيخ إلى بغداد ودرس في جامعاتها، كما تولى الخطابة في جامع الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى، واستمر في ذلك، وبالمناسبة كان الشيخ وما زال خطيباً يهز المشاعر وكان إذا خطب في مسجد الإستقلال أو المسجد العمري، يَهز حيفا بكاملها، هكذا كان الشيخ، عاد الشيخ من بغداد إلى بيروت، وأسس جمعية الرابطة الإسلامية، وأنشأ مدرسة الفتح الإسلامي، والتي صارت تسمى فيما بعد ثانوية الإمام الأوزاعي، ثم عاد إلى بغداد مرة أخرى مدرساً في جامعتها وخطيباً أيضاً في مسجدها العامر، وفي عام 1402هـ إنتقل الشيخ وشد رحله إلى الحجاز إلى المدينة المنورة ودرس الشيخ في الجامعة الإسلامية وأكرمني الله بصحبته في كلية التربية، ومن ذلك التاريخ توطدت العلاقة بيننا من جديد، وما إن انتهى الشيخ من التدريس في كلية التربية حتى فتح باب بيته مرة ثانية ولم يغلق، بل فتحه على مصراعيه لطلبة العلم من بعد العصر إلى بعد العشاء يومياً، وفي دروس مختلفة ولطلاب مختلفين.يحضر مجلسه علماء أفاضل منهم من يقارب سنه سنه، ومنهم من لا يزالون في ريعان الشباب.
الشيخ مع حرصه صارت له علاقات مع عدد من المستشرقين لأن الشيخ سافر إلى ألمانيا وعدد من الدول الغربية بالإضافة إلى الدول العربية التي زارها، حيث درس في ليبيا وفي تونس وذهب إلى المغرب.
الشيخ إضافة إلى العلم، حباه الله بصفة الكرم، وقلَّ أن يأتي عالم في السنوات العشرين الأخيرة إلى المدينة إلا ويتحفه الشيخ بوليمة اوسنا خجلاً لأننا لا نستطيع أن نجاريه، الشيخ في كرمه ينبع من ذاته لا ينبع من ثوبه أو م يجاريه فيها أحد.
هذا الشيخ عركته الحياة فخرج ذهباً صرفاً، وخلقاً نبوياً، خرج وهو دائم الذكر، دائم الفكر مستديم التلاوة، قل أن يركب في السيارة وهو يغفل لحظة واحدة، أو يقف لسانه لحظة واحدة إلا وهو تالٍ أو ذاكر أو داعٍ، هذا هو الشيخ رحمه الله ومع سنه الكبير وأشغاله الكبيرة المتواصلة وأعماله الكثيرة، إلا أنه كان مكثراً من التأليف قاربت مؤلفاته على أربعين كتاباً وإن كان قد طبع منها عشرون كتاباً، وصلته بالعلماء من مختلف أقطار العالم الإسلامي مستمرة .وخلاصة القول فالشيخ شخصية إسلامية كبيرة، جمعت صفات متعددة، كل صفة تصلح ليظهر بها متصفها ومن هنا كان له التأثير الكبير في أغلب المجتمعات التي حل بها، وإذا كان الله تعالى قد أكرمه بطلب العلم ثم بالجهاد العسكري ثم السياسي، فإنه كان رأساً في جهاده العلمي والفكري والسلوكي والاجتماعي رحمه الله.

من مؤلفاته : 1- من هدي القرآن.2- أحداث النكبة.3- من أثر النكبة.4- الإيمان طريقنا إلى النصر.5- المدخل لدارسة النطق.6- حقيقة اليهود والمطامع الصهيونية.7- فلسفة الحج.8- مرشد الدعاة.9- الإسلام دين هداية.10- أبحاث تمهيدية في العقيدة الإسلامية.11- من نور الإسلام.12- موقف الدين من العلم.
أصيب بمرض حال دون لقاء مُحبِّيه به منذ أكثر من ثلاث سنوات إلى أن لقي ربه ليلة عيد الأضحى

نسأل الله أن يتقبَّله في عباده الصَّالحين ،وأن يرفع درجته في المهديين،وأن يخلف له في عقبه في الغابرين، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
بتصرف عن موقع رابطة علماء سورية، ومحاضرة تكريمه في الاثنينية المنشورة في موقع أحباب الكلتاوية.
كما توفي في دمشق في نفس الوقت الرجل الفاضل محمد أنور المفتي عضو الهيئة العامة في جمعية التمدن الإسلامي، وسليل العائلة التي بنت عشرات المساجد في دمشق وماحولها.
نسأل الله أن يتقبله في الصالحين.

كُتب في الأعلام, الراحلون, منائر | التعليقات على اللهم ارحم علمائنا وعوضنا خيرا مغلقة

بلا تعليق… للرجعيين فقط…

في كلمته الافتتاحية الجمعة 5 تشرين ثاني للمؤتمر الدولي لنساء اسطنبول الذي ينظمه مركز اسطنبول لدراسات المرأة في إطار الفاعليات الثقافية لاسطنبول 2010 عاصمة الثقافة الأوروبية، انتقد رئيس الوزراء التركي رجب أردوغان حظر ارتداء الحجاب داخل المؤسسات التعليمية في تركيا ووصفه بأن “لا يتفق مع الضمير والقيم الإنسانية”.

ودعا النساء إلى الدفاع عن حقوقهن وعدم النكوص عن هذه الحقوق، بقوله : “لا تنتظظروا أن تُمنح لكم حقوقكن.. بل اتحدوا وناضلوا من أجل انتزاعها”.

كُتب في المناهج | التعليقات على بلا تعليق… للرجعيين فقط… مغلقة

شريطان لرهائن الكنيسة

د.أحمد خيري العمري

عندما أخبرتني والدتي بأن مسلحين اقتحموا[i] كنيسة ما وسط بغداد، واحتجزوا رهائن فيها، وجدت نفسي فوراً معلقا بين الهاتف –للاطمئنان على الأصدقاء والمعارف- وبين شريط الأخبار الذي أتابع فيه ما يعلن من أحداث (وليس بالضرورة الأحداث على حقيقتها)..

كلما ارتكبت مجزرة بحق المسيحيين في أي مكان من العالم الإسلامي، يسارع الكتاب الإسلاميون إلى الشجب والتنديد والاستنكار والتأكيد على “أن لا علاقة للإسلام بما جرى”.. لا يمكنني أن أضيف الكثير إلى هذا، خاصة وأنني كاتب “نصوصي” حتى النخاع، وأدرك تماماً أن كل النصوص لن تحرّم فقط ما حدث بل إنها أيضاً تؤكِّد على كونهم “الأقرب مودة” وتحضّ على حماية أولئك الذين هم في ذمة الله ورسوله..

لا إضافة نصوصية هنا إذن، ولا أرى أصلاً داعياً كبيراً للدفاع عن “الإسلام الحقيقي”، ليس فقط لقناعتي أن مُنفِّذي هذه المجازر لا يتحركون عبر دافع النصوص الدينية من قريب أو بعيد، بل لأنه صار من الصعوبة بمكان التصديق بكل ما يقال في الإعلام، حيث يمكن لأية جهة أن تفبرك تصريحاً ما ينسب تبني جهة ما للمجزرة، ثم تقوم باستثماره لصالحها في سوق المزايدات السياسية الرخيصة، حيث الدم الحرام هو البضاعة الأرخص…

لكني لا أريد التحدث عن هذا أيضاً، بل أريد أن أدع قلمي ينزف عن الأمر بعيداً عن “تبويس اللحى” المعتاد في هذه الحالات، أريد أن أتحدث عن جانب شخصي جداً وحميمي جداً، عن علاقتي المميزة بالعشرات من المسيحيين العراقيين، علاقة لم تؤثر يوماً في التزامي وتديني وثوابتي بل لعلها كانت ذات أثر ايجابي.. من السهل جداً على من يدَّعي متانة علاقته بالمسيحيين ويكون غير ملتزم في الوقت ذاته أن يبعث برسالة خاطئة مفادها إن سبب مرونته هو “عدم التدين” .. وأن التدين يؤدي بالضرورة إلى الانغلاق في العلاقات مع المسيحيين أو عموم الأديان الأخرى.. كما أنه من السهل جداً على متديِّني التمييع من ظرفاء “قبول الآخر” أن يبعثوا برسالة خاطئة أخرى تخلط بين التعايش الصحي الحقيقي وبين التماهي الذين يروجون له تحت شعار “قبول الآخر”..

بعيداً عن كل هذا، أريد أن أثبت- أنا الكاتب الذي يصنف بأنه إسلامي، والذي طالما كتب عن الثوابت الإسلامية، وطالما خاض حروباً في سبيلها- أريد أن أثبت أن كل ذلك لا علاقة له من قريب أو بعيد بعدم الاختلاط أو عدم وجود علاقة مودَّة بنَّاءة مع المسيحيين.. بل إني أجد الأمر غريبا وفجَّاً ويحتاج إلى استجواب كل شيء منذ البداية..

قبل نزيف قلمي أودُّ أن أثبت أيضاً أمرين:

الأول: أن انتقاد قيم التغريب لا علاقة له بالمسيحية عموماً، ، وبالمسيحيين العراقيين بالأخص ، كل من يخلط ذلك يعني أنه لا يفهم الكثير لا عن القيم الغربية الحالية، التي ولدت أصلا بالانفصال عن الكنيسة- ولا عن المسيحيين العراقيين عموماً (الذين عرفوا بالتزامهم الأخلاقي العالي وحشمتهم).. فلنتذكر فقط أن رؤوس الحراب الحاليين في الترويج للتغريب هم من مسلمين لا جدال في نسبهم ونشأتهم..

الأمر الثاني الذي أرى لا بد من توضيحه: هو أن المسيحيين العراقيين لم يكونوا قط أقل وطنية من بقية العراقيين، أقول “لم يكونوا أقل وطنية”، ولكن تستحضرني مواقف كثيرة كان فيها بعض المسيحيين أكثر وطنية من كل العراقيين.. المسيحيون العراقيون لديهم شعورٌ عالٍ بأنهم “أهل البلد” الأصليين قبل الفتح الإسلامي، وهي حقيقة لا شك فيها من الناحية التاريخية إلى حدٍّ كبير، قد لا يكون للأمر أهمية كبيرة بفعل التقادم، لكنها رغم ذلك منحتهم أيضاً شعوراً بعراقيتهم دفعهم إلى أن يكونوا مع العراق ضد محاولات الانفصال والتقسيم، وهو ما جعلهم يدفعون ثمناً غالياً (وهو ثمن مسكوت عنه أيضاً.. لا أحد يتحدث عن ذلك للأسف..) ..

هل يعني ذلك أنهم كانوا محصنين من الانخداع بالوعود الأمريكية؟ لا طبعا، لكن نسبة المنخدعين لم تكن أكثر عنها في بقية المكونات، ولعلها كانت أقل إذ إنهم أدركوا مبكراً أن وزنهم النوعي –الذي يفوق بكثير وزنهم العددي- سيتعرض للإهمال في ظل نظام” ديمقراطي عددي” لا يفرق بين صوت صاحب أعلى الشهادات والخبرات وبين صوت الشخص الأمي..

جرني شريط الأخبار إلى شريط آخر في ذاكرتي، شريط حافل بالعشرات من الأسماء لمسيحيين عراقيين، لا أتحدث عن أسماء لامعة وبارزة تركت أثرها في مختلف الميادين، فذلك ليس مجاله هنا، بل أتحدث عن أسماء عرفتها وخبرتها على نحو شخصي..

في شريط الذاكرة معلمتي الأولى في الصف الأول الابتدائي في مدرسة المنصور التأسيسية، الست كريمة، ضاع مني لقبها ولم يضع وجهها الأليف، علمتني أبجديتي الأولى، ولم تكن تدري أنها تزرع في داخلي ألغاماً، وعلمتني أيضا كيف أرسم العلم العراقي فزرعته في قلبي و ليس في دفاتري فقط، ..(عرفت لاحقاً أنها كانت معلمة زوجتي أيضاً..)…

وفي شريط الذاكرة تحضر من موتها السيدة الفاضلة سعاد فرنكول، كانت توصلنا كل صباح إلى المدرسة بينما نقوم نحن بإيصال ابنتها هبة في الظهيرة، كانت مربية فاضلة و ذات حديث شيق لا يمل..و كانت تقول لي كلما رأتني ، بلهجتها الموصلية الأصيلة”شميت طولك..”.

في شريط الذاكرة تحضر تلك السيدة الأرمنية الأصل التي احتضنها العراق بعد هجرة الأرمن، والتي كانت مربية لوالدتي ومن ثم مربية للأحفاد بمرتبة “جدة”، كانت عراقية تماماً بكل وجدانها ومشاعرها (عندما قال لها بعض أقاربها إن منزلها سيؤول إلى الحكومة العراقية بعد وفاتها لأنها بلا وريث، قالت بحزم: الحكومة العراقية هي التي آوتني يوم كنت مشردة، فلتأخذ البيت لها..).. قبل وفاتها أوصت دادي كما كنا نسميها بكل مصاغها لكنيسة الأرمن.. “لكي لا يقال عنكم إنكم أخذتم ذهبي..” ..في شريط الذاكرة أيضا يمر الأب الشاب( فازكين) الذي جاء من الكنيسة وأشرف على تفاصيل المراسيم والدفن، لا أزال أذكر دهشته وامتنانه عندما وجد أن تلك السيدة كانت فرداً من العائلة بكل ما في الكلمة من معنى.. ظل الأب فازكين بعدها يتفقد، ويسأل كما لو أن الحدث قد أضاف صلة ما بيننا.. وبقيت والدتي تتبع باهتمام أخباره وأخبار زوجته، وإن كانت قد أنجبت صبيا أم لا ( كان لديه ثلاث بنات).. ثم انقطع كل شيء مع الاحتلال حيث صار التواصل خطيراً وصعباً في الوقت نفسه ( انقطعت كل خطوط الهواتف تماماً، وصار عليك إن أردت أن تتفقد شخصاً ما أن تذهب له بلحمك ودمك، وكان هذا صعبا جداً في ظروف منع التجول والانفجارات..)

يتقاطع شريطا الذاكرة والأخبار مع طبيبتين كانتا ضمن الرهائن، ولهما في شريط الذاكرة موقع أيضا.. (أ.ع) و(و. ر)[ii].. الأولى تركت في داخلي أثراً لا ينسى يوم أنَّبتني بحزم على تقصير قمت به وأنا في بداية حياتي المهنية، فتعلَّمت درساً في أخلاقيات المهنة والوظيفة بشكل عام.. أما (و.ر) –التي أصيبت في الحادث ولا تزال ترقد في المستشفى- فلا شيء يمكن أن يعبر عن احترامي لها وتقديري لرقيها الشديد في كل ما تفعله.. ذهب زوجها الطبيب ضحية انفجار عبثي قبل بضع سنين.. وبقيت هي صامدة كما لو كانت نخلة “برحية”[iii] تأبى الانكسار، حتى إصابتها في الحادث لم تتسبب في كسر هذه النخلة.. فقط “فطر” في عظم الحوض..!

في شريط الذاكرة أيضا طبيبان كانا زميلين لي، ممتاز جوزيف، وسامر قسطو، روى لي كلٌّ منهما –على حدة- عن ردة فعله الأول عندما شاهد “الدبابة الأمريكية”.. وفي الحالتين كان الكلام متطابقا.. لقد دمعت عيناهما عندما شاهدا” ذلك الشيء” فجأة على أرض الوطن الذي انتميا له منذ آلاف السنين.. لم يخفف بالنسبة لهما أن دين الجندي في الدبابة هو على الأغلب مثل دينهما.. لم يكن ذلك مطروحا بالنسبة لهما..

في شريط الذاكرة أيضا ردة فعل الزملاء المسيحيين عندما انتشرت أنباء –بعد فترة وجيزة من الاحتلال- عن قيام بعض الجمعيات الأجنبية بتوزيع أناجيل مصورة على مرضى مستشفى الأطفال في منطقة شعبية ذات أغلبية مسلمة.. لم يشعروا مثلا بالانتصار والاستقواء –الذي نسمع أنه يحدث في أقطار أخرى- بل كانوا قلقين من ذلك.. أذكر ما قاله (ر. ك) تحديداً: قال “لقد كنا دوماً في أمان، هذا الأمر سيُفسد علاقتنا بالمسلمين..”. لا أعتقد إن هذا هو ما حدث اليوم، فالأمر أشد تعقيداً من كل ذلك، لكني أنقل فقط ردة فعل المسيحيين العراقيين تجاه ذلك..

تعرض لاحقاً (ر. ك) لتهديد بالخطف اضطر معه إلى دفع “فدية” استباقية !..، أي أن تدفع فدية قبل أن تخطف كي لا تخطف.. كما هي الأمور في دوائر العبث واللامعقول العراقية.. كنت قد غادرت العراق وقتها، لكني تابعت الأمر (كل نصف ساعة) هاتفياً..

في شريط الذاكرة مديري المزمن (س.إ).. مثال الانضباط والنزاهة، قلت له مازحاً وبجدية تامة، -ولا أزال أقول وأنا الكاتب الإسلامي الموقع أدناه وأعلاه-: إنه لو رشح لرئاسة العراق لانتخبته،.. كان مديراً مثالياً منضبطاً وفي الوقت نفسه لم يسقط في فخ الروتين التعقيدي الذي هو صفة لازمة لمعظم الإداريين المنضبطين.. كان (س.إ) يتدبَّر أمور المركز في فترة الحصار الذي شحَّت فيه الأدوية، -و فترة ما بعد الحصار الذي “سرقت” فيه الأدوية !!-كان يتدبَّرها بحركية بالغة.. يشمّ خبراً: إن المستشفى الفلاني لديه كمية من المخدر دون أن يكون لديهم طبيب أسنان، فيخاطبهم بالوسائل الرسمية وغير الرسمية ليقوم بسحب هذه الكمية، يجامل هنا ويتحمل ثقل الدم هناك في سبيل أن يوفر الخدمات للمواطنين (بغض النظر عن دينهم..).

لم ينزعج مرة من ذهابي أنا أو زيد لصلاة الظهر في الجامع القريب أثناء فترة العمل الرسمي (بينما أنبني على ذلك مدير مسلم!!)..بل إنه كان أحياناً ينبهنا بنفسه للذهاب إلى الصلاة..!

وفي الشريط أيضاً (ب.س).. المثالية إلى درجة كنت شخصياً لا أصدقها في البداية، ثم خبرت صدقها بالتدريج، كانت لكي تتأكد أن المواد الطبية لا تتسرب، تقوم بتفتيش “سلة المهملات” وتحسب كم “عوداً من أعواد حشوة الجذر”.. ثم تقارن العدد مع السجلات..!!

وفيه أيضاً (س.إ)، التي عرفتها أولاً عندما كنت طبيباً متدرباً، ثم صرت زميلاً لها، كانت تعامل الجميع بأمومة رغم أنها لم تكن تكبرهم بكثير، وكانت أمومتها هذه تجعلها قريبة من الجميع حتى عندما تحاسبهم أو تحاسبهن.. في كل مرة تحكي لنا عن شقاوة ابنها (ميلاد) وكيف أنه صلَّت له في الكنيسة كي يهديه الله، كنا نضحك بخبث أنا وزيد، ونقول لها أن تحذر من دعوات كهذه.. لأن الدعاء قد يستجاب ويصير ميلاد مسلماً.. فكانت تغرق في الضحك، ويمر الأمر بلا تصعيد أو تأزُّم من أي نوع..

أستطيع أيضاً أن أحدِّثكم عن (ش.ف)، ونقاشات لا تنتهي إلا بضحكة ومرح مهما كان فيها من المنغِّصات، أو عن “سوزان هنودي” وزوجها جراح الأدمغة “عمار مجيد” الذي لو كان في بلد آخر ( أو في العراق في وقت آخر) لما أهدر وترك ليهاجر كما فعل.. (كانت آراؤنا أنا وسوزان شديدة الاختلاف، وقد حدث أكثر من مرة أن تصادمنا وإن انتهى الأمر ببكائها..-وهو أمر ليس نادراً معي !!-.. لكن ذلك لم يقطع قط حبال الودّ والاحترام والتفقد حتى بعدما تفرقت بنا السبل كل في اتجاه.. ربما كان إصرارنا على هذا التفقد بمثابة تحدٍّ لكل ما يتربص بنا من استهداف لهذا التعايش..)

في شريط الذاكرة حتماً رفيق دربي اليومي إلى عملي في كربلاء، عامر نافع،.. الذي خطف لاحقاً من عيادته على يد مسلحين “يرتدون ثياب الشرطة !”، ودفع جني العمر لكي لا يقتل، ترك العراق بعدها وانتهت به الرحال إلى أمريكا.. وأستطيع أن أعاير به الكثير من مسلمي الهوية عندما أقول لهم إنه هو، المسيحي الموصلي العراقي الأصيل، يصرُّ على أن يتحدث مع ابنه (فيصل!!) باللغة العربية.. بينما نجد متحجبات( ومتحجبون!) يلوون ألسنتهم ويتحدثون باللغة الإنجليزية مع أبنائهم، ويحرصون على ألا تشوب اللفظ الانجليزي شائبة لكنة عربية لا سمح الله..

تمرُّ في شريط الذاكرة (أ.ج)، موظفة الأفراد الطيبة في تعاملها مع الجميع (بينما يفترض التوصيف الوظيفي لموظفي الأفراد أن يكونوا عابسي الوجه طول الوقت).. وتمرُّ في الشريط أسماء أخرى غيبتها السنون والمنعطفات: رافل فائز تبوني، سرمد عزيز، بشار غانم، فرانك بولص.. فراس نائل..نينوس بولص.. سامر كلو ،فادي فائز، وسام جنان وأسماء أخرى أعتذر منها إن سقطت سهواً دون أن تسقط مودتها.. وتمر في الذاكرة زميلات دراسة عرفن بأخلاقهن وحشمتهن: تحضرني بان رسام، وفرح زهير، وصدى حكمت، وبلسم،هيام بشارة.. ومي خالد دنو ( قام المعيد في مختبر علم أمراض الفم بتسريب أسئلة الامتحان تقرباً من مجموعة الفتيات ورغبة في نيل ابتسامة منهن، لكنه نال كلاماً كالصفعة من مي دنو، قالت له موبخة: كيف تبيع ضميرك؟ بينما أسرع هو ليغير الأسئلة مذعوراً ربما خوفاً من أن تكمل مي الصفعة وتخبر رئيسة القسم!..)

يرتبط الشريطان في ذهني، شريط الأخبار الدامي المروع، بكل ما فيه من عبث وجنون، وشريط الذاكرة بكل ما فيه من صدق وتعايش ومودة.. أدرك بهلع أن شريط الأخبار له الغلبة في الواقع، وأن شريط الذاكرة قد اختفى من الواقع، وصار مجرد ذكريات، ببساطة لم يعد أولادي الذين يكبرون خارج العراق يعرفون شيئاً اسمه “مسيحي عراقي”.. وأظن الأمر مشابهاً للمسيحيين العراقيين في الخارج حيث يكبر أبناؤهم وهم لا يعرفون ” أي عراقي مسلم”.. لقد كان التعايش حقيقة يومية بلا تنظير ولا مزايدات، وصار اليوم مجرد شعارات لا يصدقها حتى من يستخدمها، بل بالذات من يستخدمها في مزايدات السياسة الرخيصة.. فعندما يُسلَب “العيش المشترك” لا يعود للحديث عن التعايش أية قيمة حقيقية… بل يصبح مجرد كلام جرائد لا يساوي ثمن الورق الذي طبع عليه..

لم يكن المسيحيون العراقيون وحدهم من دفع الثمن، فقد دفع الجميع الثمن، ولو فتحنا ملفات الجروح والضحايا لما انتهينا، لكني أريد أن أثبت هنا أن التدين والالتزام لا يتناقض قط مع التعايش والمودة الصادقة الحقيقية، بل على العكس يمكن أن يكون أساسا لعلاقة بناءة… وهي حقيقة يغيظني مجرد اضطراري للتذكير بها..

لست من فريق “ماكو[iv] فرق” ، فالفروق موجودة عقائدياً ودينياً، ومن الطبيعي جداً، بل من البديهيات أن يؤمن كلٌّ بأن دينه هو الأفضل والأصح.. هذا هو الإيمان بالتعريف، الهندوسي يؤمن بذلك والسيخي واليهودي وكذلك المسلم والمسيحي، ومن السخف تسطيح الفروقات والادعاء أنه لا فرق (إلا بالنسبة لمن لا دين له، وهذا أمر آخر)..

نعم هناك فرق، ولكني أزعم أنه فرق لا يؤثر على التعايش، ولا يؤثر على التعامل ولا يؤثر على المواطنة، بل إن الإيمان بوجود “فرق” هو ما حفظ للمسيحيين هويتهم عبر القرون، وجعلهم يحرصون على التميز والإنتاج من خلال هذا التميز(وهو درس علينا أن نعيه اليوم نحن المسلمين لأن هويتنا تتعرض للتذويب بوسائل مختلفة، والإيمان بأن تميزنا وقوتنا هو في اختلافنا أمر مهم للحفاظ على هذه الهوية..).

نعم هناك فرق، والمهرجون الذين يقولون شيئا آخر لا يعون أنهم بادّعاء إلغاء الفوارق يلغون تمايز المسيحيين وهويتهم التي حافظوا عليها عبر القرون، الفروق أمر طبيعي، ومن المهم الإيمان بها والإيمان أنها لا تفسد للود قضية..

كل النزيف الماضي كان دليلاً شخصياً على ذلك.. صرخة وفاء عابرة لزمن التعايش الجميل الذي علينا أن نقر أنه مفارقنا بلا عودة…

http://www.quran4nahda.com/?p=2058&cpage=1#comment-3939

 

[i] بتاريخ 31/10/2010 وفي أثناء قداس الأحد، اقتحم مسلحون كنيسة سيدة النجاة في منطقة الكرادة وسط بغداد و قاموا بتفجيرها واحتجاز المصلين فيها كرهائن، بعد بضعة ساعات أعلن مسئول أمني حكومي نجاح عملية تحرير الرهائن،ثم أتضح أن النجاح لم يكن أكثر من مجزرة راح ضحيتها 58 فردا…

[ii] الأحرف ألأولى للأشخاص الذين لا زالوا في العراق ، لأسباب أمنية.لا أحد يعرف بالضبط مالذي يمكن أن يزعج الميليشيات.

[iii] البرحي،أفخر أنواع النخل العراقي، يتميز بلونه الأصفر الذي يجعل النخلة تبدو شقراء.

[iv] ماكو تعني باللهجة العراقية الدارجة لا يوجد، و اصلها “ما يكون“

كُتب في المناهج | التعليقات على شريطان لرهائن الكنيسة مغلقة