مقال للأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار … بعنوان : محاربة الأشباح

محاربة الأشباح
الجمعة 20 جمادى الأولى 1430 الموافق 15 مايو 2009
د. عبد الكريم بكار

العولمة لا تقوم على تسهيل انتقال الأفكار والمفاهيم والأموال والنظم فقط، بل تقوم على تسهيل انتقال طرق الفساد وأساليب الغش والجرائم الاقتصادية أيضاً، ومن هنا فقد بات من واجبنا جميعاً العمل على نشر ثقافة جديدة يمكن أن نسميها ثقافة الشفافية أو ثقافة مكافحة الفساد، وذلك لأن الفساد المالي والإداري داء يفتك بكثير من مجتمعاتنا، ويتحمل الفقراء والضعفاء أسوأ الآثار المترتبة على انتشار ذلك لكن من المهم أن نعترف أن محاربة المفسدين هي عبارة عن معركة نطارد فيها أشباحاً لا تُرى، فوسائل الفساد وأساليبه باتت معقدة غاية التعقيد وخفية وملتوية، ويحتاج كشفها فعلاً إلى الكثير من الجهود الجادة والواسعة.

ولعلي أضيء هذه المسألة من خلال الإشارات التالية:

يشير تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام (2008) إلى شيء مؤسف ومخجل بالنسبة إلى العالم الإسلامي، حيث إن المتوقع أن يكون للإيمان بالله ـ تعالى ـ و لاعتناق المبادئ والقيم الإسلامية تأثير كبير جداً في استقامة المسلم ونزاهته وحرصه على الكسب المشروع، هذا هو المتوقع والمأمول، لكن التقرير المشار إليه يقول غير ذلك، وقد كان من جملة ما أشار إليه التقرير الآتي:

1ـ أفضل دولة عربية في الشفافية ونزاهة موظفي الدولة تحتل المرتبة الثامنة والعشرين بين الدول التي تناولها التقرير، وعددها ( 180 ) دولة.

2ـ معظم الدول الإسلامية لم تتمكن من الحصول على أربع نقاط من عشرة نقاط، على حين أن بعض الاسكندنافية بالإضافة إلى سنغافورة حصلت على ( 3/9) من النقاط.

3ـ إذا نظرنا في وضع أكثر ثماني دول فساداً وبعداً عن الحكم الصالح وجدنا فيها أربعاً من الدول العربية والإسلامية، وهذا شيء مؤسف للغايةّ!.
4ـ يلاحظ أن هناك نوعاً من الارتباط بين حجم الدولة وحجم انتشار الفساد، فالدول الأقل حجماً هي الأكثر نزاهة واستقامة، والدول الأكثر سكاناً هي الأكثر فساداً، ولهذه القاعدة استثناءات قليلة.

5ـ تشكل البلدان الأشد فقراً والبلدان المحرومة من الاستقرار الداخلي محضناً مناسباً جداً لنمو الفساد.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما الذي على الأمة أن تفعله من أجل مكافحة الفساد ومحاربة المفسدين ؟

أود أن أقول في البداية إن هذه المسألة معقدة جداً، ولهذا فإنها تحتاج إلى الكثير من الحلول المركبة والوسائل الإبداعية، ولعل منها الآتي:

1ـ الحل الاستراتيجي للفساد والانتصار عليه يتمثل في حرمانه الرئة التي يتنفس بها، وهذه الرئة هي وظائف القطاع العام، حيث إن الواقع يشهد أن الفساد المالي والإداري الموجود في الشركات والمؤسسات والدوائر الأهلية والخاصة هو أقل بكثير من الفساد الموجود في القطاعات الحكومية، ومن هنا فإن تقليص الأعمال التي تقوم بها الحكومات سيؤدي إلى تقليص أعداد الموظفين، والقاعدة الأساسية في هذا: تقوم الدولة بالأعمال التي يعجز عنها المواطنون كما تقوم بتلك الأعمال المتصلة بأمن البلاد مثل بعض الصناعات الاستراتيجية وبعض الشؤون الأمنية ومثل القضاء وما يستلزمه من مؤسسات….

2ـ ضرورة إفصاح موظفي الدولة ذوي المراكز المتوسطة والعالية عن

ذممهم المالية وعما لديهم من ممتلكات، ومراقبة حركة تلك الذمم من قبل جهات رقابية ومحاسبية طوال مدة الوظيفة، وتطبيق مبدأ (( من أين لك هذا ؟)) بعزم وحزم.

3 ـ الفساد ابن الظلام وسليل التستر والتواطؤ الخفي، وأفضل طريق لمحاربته هو أن نرتب أمورنا على أن يكون كل شيء في النور، ومن هنا فإن الدول التي نجحت في مكافحة الفساد وتحسين مستوى النزاهة والشفافية قد عمدت إلى وضع تشريعات تتيح لكل من له صلة بعمل دائرة أو جهة حكومية الاطلاع على محاضر اجتماعاتها والوصول إلى المعلومات التي يحتاجها من أجل الوصول إلى حقه، وفي الولايات المتحدة ـ مثلاً ـ من حق كل مواطن الاطلاع على محاضر اجتماعات ( البيت الأبيض ) مقابل دولار واحد يدفعه. وأعتقد أن مما يساعد على ذلك أن يكون لكل جهة حكومية ناطق رسمي باسمها يتحدث عن كل أعمالها، ويكون مستعداً لمحاورة الإعلاميين حول أعمال الجهة التي ينطق باسمها ؛ كما أن من المهم أن تُلزَم كل جهة حكومية بالرد على التساؤلات والاتهامات الموجهة إليها، ويكون الرد في نفس الوسيلة الإعلامية التي نشر فيها التساؤل…

4ـ الفساد المالي والإداري هو شيء أكبر من أن تكافحه لجنة أو جهة واحدة، ولهذا فإن جزءاً مهماً من الأعمال التطوعية والاحتسابية ينبغي أن يقوم به الناس، وفي هذا الإطار أرى أن من المهم أن تقوم لجان و جمعيات و مؤسسات شعبية بعدد المؤسسات والقطاعات المهمة مثل: الصحة والبنوك والنقل والبلديات والجمارك والضرائب والصناعة والزراعة….

وتكون مهمة كل واحدة منها العمل الدؤوب على متابعة كل ما يجري في القطاع الذي قررت الاحتساب عليه واعتقد أن علينا أن نتنافس في التطوع في هذا الأمر لأنه مع انتشار الفساد لن يكون هناك استثمار ولا تنمية ولا عدالة، ولن تكون هناك بالتالي حضارة ولا كرامة وطنية

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.