عقوبة إلهية في مهرجان الحب… برسم المنتسبين إلى العروبة.. أو المنحدرين من أصول إسلامية

خالد شمت – برلين

الجمعة 18/8/1431 هـ – الموافق 30/7/2010 م
فصلها التلفزيون الألماني فقدمت نشرة بديلة – إعلامية ألمانية تحمل على الشواذ

وسط انشغال المجتمع الألماني بحادث مصرع 19 شخصا وإصابة 500 آخرين نتيجة التدافع بمهرجان فني أقيم السبت الماضي بمدينة ديوسبورغ غربي البلاد، عادت الإعلامية المثيرة للجدل إيفا هيرمان لتثير لغطا جديدا بهجومها علي المهرجان ووصفه بأنه حفل للشاذين جنسيا، واعتبارها ما حل بالضحايا “عقوبة إلهية”.

وأثارت هيرمان المذيعة السابقة لنشرة الأخبار الرئيسية بالقناة الأولى الألمانية “أي.آر.دي”، ردود فعل مؤيدة ومعارضة بعد نشرها مقالا حمل عنوان “قوم لوط في ديوسبورغ”، هاجمت فيه المهرجان الفني الذي وقع فيه الحادث، وادعت “أن التخطيط له وتمويله تم جزئيا بأموال رسمية ليكون تجمعا للممارسات الجنسية الشاذة وتعاطي الخمور والمخدرات على نطاق واسع”.

 
وقالت المذيعة السابقة في مقالها “إن مشهد الفتيات والنساء العاريات المشاركات في المهرجان ذكّرها بوصف الإنجيل لعلامات قدوم القيامة”، وأضافت “بدا معظم ضيوف المهرجان غير طبيعيين تحت تأثير الخمور والمخدرات”.

 

واعتبرت هيرمان أن مهرجان الحب عكس انهيارا ثقافيا وأظهر اندثار العادات والتقاليد من المجتمع، ورأت “أن ما صاحب الاحتفال من سقوط ضحايا ومصابين حدث نتيجة تدخل الإرادة الإلهية لوضع نهاية لفحش عديمي الإحساس المشاركين فيه”.

وِرأت أن وقوع قتلى وجرحى في المهرجان مأساة يتحمل مسؤوليتها مثيرو الإباحية الجنسية ودعاة التحلل الراغبين في محو كل قيمة أخلاقية من المجتمع.

وانتقدت هيرمان السلطات المسؤولة في مدينة ديوسبورغ وولاية شمال الراين التابعة لها و”التي أوحت للناس أن الحفل مناسبة ثقافية من طراز رفيع”، واعتبرت “أن مدح الرئيس الألماني الجديد كريستيان فولف للمهرجان خلال تأبينه للضحايا بدا غير مفهوم للكثيرين”.

هيرمان: ما وقع في مهرجان الحب
تدخّل للإرادة الإلهية
كما لم يسلم الإعلام الألماني من انتقادات العاملة السابقة في بلاطه إذ هاجمت “صمت وسائل الإعلام عن انتقاد ما جرى في المهرجان من ممارسات”.

في الجهة المقابلة، لقي مقال هيرمان انتقادات حادة من عدد من الإعلاميين الذين اتهموا زميلتهم السابقة بافتقاد الإحساس واستغلال الحادث المأساوي في الدعاية لنفسها ولفت الانتباه إليها.

رغم ذلك، حظي المقال باستحسان محسوبين على التيارات اليمينية المتطرفة والنازيين الجدد الذين أشادوا بالأفكار التي تضمنها.

يشار إلى أن هذا السجال أعاد إلى الأذهان جدلا مماثلا أثارته المذيعة السابقة عام 2006 بعد نشرها كتابها الأول “مبدأ حواء” الذي أحدث نقاشا مجتمعيا وإعلاميا صاخبا بين مؤيدين ومعارضين لما تضمنه من أفكار.

وكانت المؤلفة قد دعت عبره النساء الألمانيات إلى الفخر بمهمتهن التي كلفهن الله بها كأمهات وربات بيوت، مما تسبب في إيقافها عن تقديم نشرة الأخبار المسائية التي تقدمها منذ عام 1988 بقناة “أي.أر.دي.”

إيفا والنازيون
وبعد عام من صدور الكتاب فصلت القناة الحكومية الألمانية هيرمان من عملها كمذيعة بسبب ثنائها علنا على السياسة الأسرية لنظام الرايخ الثالث النازي الذي حكم ألمانيا في النصف الأول من القرن الماضي.

وارتبطت هيرمان بعد فصلها من عملها بدار نشر “كوب” التي أصدرت منها كتابها الثاني “سفينة نوح”.

كما تكتب الإعلامية الألمانية على الموقع الإلكتروني للدار مقالات منتظمة كان آخرها مقالها حول حادثة ديوسبورغ، لتتوالى بعد ذلك اتهامات الإعلام لهيرمان بتأييد الأفكار النازية.

وتصنف “كوب” إعلاميا كدار نشر يمينية متخصصة في قضايا تتعلق بنظرية المؤامرة وتقييد تدفق المعلومات وحرية الإعلام.

واختار الموقع الإلكتروني لكوب عبارة “معلومات تفتح عينك” كشعار له، حيث اختص في نشر قضايا مثيرة للجدل كخطر مافيا الأدوية ورفض عقدة الذنب تجاه اليهود، وتهديد إشعال شباب المهاجرين لحرب أهلية في ألمانيا.

نشرة بديلة
ورغم كل الانتقادت الموجهة للإعلامية الألمانية فإنها لم تتوقف عن المضي في توجهها، ففي مايو/أيار الماضي بدأت هيرمان -على الموقع الإلكتروني لدار النشر- تقديم نشرة أخبار أسبوعية، مما زاد حدة الجدل المثار حول دار النشر والمذيعة السابقة.
وتقرأ هيرمان النشرة داخل أستديو مماثل لأستديو التلفزيون الألماني، وتتطرق خلالها كعادتها لقضايا خلافية كفشل السياسة الأسرية الحالية في البلاد، وحاجة الألمان للعودة إلى قيم المحافظة، إضافة إلى المخططات السرية للولايات المتحدة وجيشها، والاحتكار الاقتصادي.

وتماما كبقية أعمال هيرمان، أثارت نشرتها الجديدة ردود أفعال متباينة حيث قالت قناة “أي.أر.دي” إن التعليق على النشرة متروك لذكاء المشاهدين، وانتقد خبراء إعلاميون اعتماد النشرة على تقارير استخبارية، في حين كان الحزب القومي الألماني المتطرف من أبرز المرحبين بالنشرة واعتبرها عملا إعلاميا يقدم للمشاهد معلومات بديلة تسبح ضد تيار النظام الدعائي.

http://www.aljazeera.net/NR/exeres/35B81EB8-BED9-4483-A574-9212290E899C.htm

كُتب في المناهج | التعليقات على عقوبة إلهية في مهرجان الحب… برسم المنتسبين إلى العروبة.. أو المنحدرين من أصول إسلامية مغلقة

لماذا اختار المسلمون التقويم القمري

للأستاذ محمد فودة
(التقويم) ضرورة اجتماعية حضارية لا غنى لأي أمة من الأمم عنه في كل مجال من مجالاتنا الحياة اليومية قديماً وحديثاً: الزراعية منها أو الصناعية أو التجارية أو العملية أو غير ذلك، وفي حالات السلم والحرب والأفراد أو المؤسسات والوزارات، وقد احتاج إليه الإنسان منذ فجر التاريخ، وما زالت هذه الحاجة الملحة تتزايد إليه على مدار الزمن حتى لم يعد بالإمكان تصور حياة الفرد أو المجتمع بدونه.

ومن نعم الله على الإنسان أن جعل له من حركة الشمس والقمر دليلاً يهتدي به إلى معرفة السنين والحساب، وقد وجه الله عز وجل أبصار البشر إلى السماء وبالأخص إلى القمر ليستنبطوا من حركته علم مقياس الزمن ومعرفة عدد السنين والحساب فقال الله سبحانه وتعالى:[هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ] {يونس:5} ، وما التقويم إلا سجل زمني يشتمل على خرائط الزمن مبينا عليها مواقع السنين والشهور والأيام، فاليوم متولد من حركة الشمس والشهر متولد من حركة القمر والسنة حساب لعدد الأيام والشهور. وفي الآية دليل على أن الله عز وجل هيأ للإنسان أسباب معرفة علم التقويم قبل أن يخلق الإنسان نفسه لأهميته في حياته.

لكل أمة من أمم الأرض تقويمها الخاص

أجل إن لكل أمة من الأمم تقويمها الخاص بها، به تعتز وإليها ينتسب وبه تؤرخ أحداثها وأيامها وتحدد أعيادها ومناسكها، فهو يمثل تاريخها ودينها وحضارتها، وهو حافظ ذاكرتها وصندوق ذكرياتها وسجل أحداثها ومرآة ثقافتها، ولذلك وجدنا للمصريين والفرس والرومان والهنود واليهود والصينيين وغيرهم تقويمهم الخاص بهم، وكان يستحيل على أمة تؤرخ بتقويم أمة أخرى، أو على أصحاب ديانة أن يؤرخوا بتقويم ديانة أخرى، وكان رجال الدين من كل أمة هم القيمين على التقويم يحددون بداية شهوره وأطوالها وطبيعة سنينه وأحوالها من حيث البسط والكبس وغيرها، فنجد رهبان الرومان قوامين على تقويمهم، وسدنة نار المجوس مسؤولين عن تقويمهم، وكبار حاخامات السنهدرين من اليهود يختصون بتقويمهم، والبابا غريغوري الثالث عشر على رأس لجنة تصحيح تقويم النصارى.
ووجدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يعرف عن تقاويم الأمم المجاورة من اليهود والفرس والأقباط والرومان ويؤسس للأمة الإسلامية تقويمها الخاص بها متمسكاً بالعمل بالتقويم القمري الذي يتناسب مع أعياد المسلمين ويعتمدون عليه في عباداتهم على نقائه عبر العصور فلم يتلوث بلوثتها، كما هي حال التقاويم الأخرى التي خلعت أسماء الآلهة الوثنية على أسماء شهورها وأيامها: فنجد مثلاً شهر يناير اسماً لأحد آلهة الرومان. وكذلك فبراير ومارس، ونجد كذلك الأيام الأسبوعية تسمى بأسماء آلهة تعبد: فالأحد (صن دي) يوم الشمس، والاثنين (من دي) يوم القمر، وهكذا بقية الأسبوع.
والتقويم القمري تقويم رباني سماوي كوني توقيفي قديم قدم البشرية ليس من ابتداع أحد الفلكيين، وليس للفلكيين سلطان على أسماء الشهور العربية القمرية، ولا على عددها أو تسلسلها أو أطوالها، وإنما يتم كل ذلك في حركة كونية ربانية.

وتم تحديد عدد الشهور السنوية في كتاب الله القويم:[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ] {التوبة:36} . وفي الوقت الذي عبثت أصابع الفلكيين بتقويم الأمم الأخرى في كل جزئية من جزئياتها وأسماء شهورها وأطوالها وهيئاتها وتسلسلها فإنه لا سلطة للفلكيين أو غيرهم على التقويم القمري بحيث لا يستطيع أحد استبدال اسم شهر بشهر أو موقع شهر بشهر أو يزيد فيه يوماً أو ينقص منه يوماً، فهو تقويم كامل لا يحتاج إلى تعديل أو تصحيح، وهو رباني من تقدير العزيز العليم.
وسأضرب لكم مثالاً على العبث في تقاويم الأمم الأخرى بالتقويم الميلادي (اليولياني) فقد نقل يوليوس قيصر بداية السنة من شهر مارس إلى شهر يناير في سنة 45 ق.م وقرر أن يكون عدد أيام الأشهر الفردية 31 يوماً والزوجية 30 يوماً عدا فبراير 29 يوماً، وإن كانت السنة كبيسة يصبح ثلاثون يوماً، وتكريماً ليوليوس قيصر سمي شهر كونتليس (الشهر السابع) باسم يوليو وكان ذلك في سنة 44 ق. م وفي سنة 8 ق. م غير شهر سكستيلس باسم القيصر الذي انتصر على أنطونيو في موقعة أكتيوم سنة 31 ق. م، ومن أجل مزيد من التكريم فقد زادوا يوماً في شهر أغسطس ليصبح 31 يوماً ق. م بأخذ يوم من أيام فبراير وترتب على هذا التغيير توالي ثلاثة أشهر بطول 31 يوماً (7، 8، 9) نتيجة لذلك أخذ اليوم الحادي والثلاثين من كل شهري سبتمبر ونوفمبر وأضيفا إلى شهري أكتوبر وديسمبر، وقد حدث تعديل آخر في عهد الباب (غريغور الثالث عشر) الذي قام بإجراء تعديلات على التقويم اليولياني حيث عالج الثغرات الموجود في التقويم اليولياني، وقد عرف هذا التقويم باسم التقويم الغريغوري وهو التقويم الذي يعمل به حالياً (التقويم الميلادي).
التقويم العربي قبل الإسلام

اتبع العرب قبل الإسلام الحساب القمري ولكنهم لم يعتمدوا تقويماً خاصاً بهم يؤرخون وفقه أحداثهم رغم اعتمادهم السنة القمرية بأشهرها الاثني عشرة، وقد اعتمدوا في تاريخهم على بعض الأحداث الكبرى ومن ذلك تأريخ بناء الكعبة زمن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام نحو عام 1855 ق.م وانهيار سد مأرب سنة 130 ق.م تقريباً، وفاة كعب بن لؤي الجد السابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 59 ق.م وأرخوا برئاسة عمرو بن لحي سنة 260، وبعام الغدر، وبعام الفيل وهو أشهرها سنة 571م، وبحرب الفجار التي وقعت في الأشهر الحرم سنة 585م، وبتاريخ تجديد الكعبة سنة 605م.
وقد اختلفت أسماء الأشهر القمرية إلى أن وصلت إلى صورتها المعروفة عليها من عهد كلاب الجد الخامس للرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يذكر البيروني في سنة 412م، كما استخدم العرب في جاهليتهم الأشهر الشمسية في بعض المناطق وبخاصة في جنوب الجزيرة (أهل اليمن) وكانت سنتهم الشمسية متطابقة مع الأبراج الفلكية الاثني عشر التي تمر بها الشمس بحيث يبدأ كل شهر مع بداية برج معين، وقد قدم المؤرخون من أمثال: البيروني والمسعودي والمقريزي سلاسل لأسماء الشهور في الجاهلية منها: المؤتمر، ناجر، صوان، حنتم، زباء، الأصم، عادل، نافق، واغل، هراغ، برك.

أما الشهور الحالية فقد عرفت منذ أواخر القرن الخامس الميلادي، ويشكل محرم بداية السنة الهجرية كما كان عليه الحال قبل ذلك في اعتباره أول السنة القمرية، وقد لجأ العرب قبل الإسلام إلى نظام النسيء الذي يعطيهم الحق في تأخير أو تسبيق بعض الأشهر المعروفة بالحرم وهي أربعة ( ذو القعدة، ذو الحجة، محرم، رجب) وكان النسأة أي من يتولون شؤون النسيء وهم كنانة يسمون بالقلامس وكان القلمس يعلن في نهاية موسم الحج عن الشهر المؤجل في العام التالي، وفي ذلك يقول قائلهم.
لنا ناسئ تمشون تحت لوائه *** يحل إذا شاء الشهور ويحرم

ولقد استمرت عادة النسيء حتى جاء الإسلام محرماً إياها: قال تعالى: [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا…] {التوبة:37} الآية، وكان العرب يعتبرون كل الشهور الزوجية 29 يوماً ويسمونها ناقصة، وقد حاول العرب اعتماد سنة قمرية عن طريق كبس السنة القمرية لتصبح معادلة للسنة الشمسية ويقول (البيروني والمقريزي): إنهم كانوا يضيفون تسعة أشهر كل 24 سنة قمرية، ويقول المسعودي: إنه كانوا يكسبون كل ثلاث سنوات شهراً وحداً.
قصة التقويم الهجري

لقد استمر المسلمون فترة من الزمن على ما كانوا عليه من قبل حيث لم تعط السنوات تواريخ رقمية تدل عليها، وإنما أعطيت أسماء تدل على أشهر الحوادث، وقد أخذت السنوات العشر التالية للهجرة وحتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، الأسماء التالية:
السنة الأولى: سنة الإذن (الإذن بالهجرة)
السنة الثانية: سنة الأمر (الأمر بالقتال)
السنة الثالثة: سنة التمحيص
السنة الرابعة: الترفئة
السنة الخامسة: الزلزال
السنة السادسة: الاستئناس
السنة السابعة: الاستغلاب
السنة الثامنة: الاستواء
السنة التاسعة: البراءة
السنة العاشر: الوداع
وكنا نسمع عن عام الطاعون، أي طاعون عمواس، وعام الرمادة حتى خلافة عمر بن الخطاب، فقد ورد في السنة الثالثة من خلافته كتاب من أبي موسى الأشعري عامله على البصرة يقول فيه: (إنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب فلا ندرى على أي نعمل وقد قرأنا كتاباً محله شعبان فلا ندري أهو الذي نحن فيه أم الماضي! عندها جمع عمر أكابر الصحابة للتداول في هذا الأمر، وكان ذلك في يوم الأربعاء 20 جمادى الآخرة من عام 17هـ، وانتهوا إلى ضرورة اختيار مبدأ التاريخ الإسلامي، وتباينت الآراء: فمنهم من رأى الأخذ بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من رأى ببعثته، ومنهم من رأى العمل بتقويم الفرس أو الروم، لكن الرأي استقر على الأخذ برأي علي بن أبي طالب الذي أشار إلى جعل مبدأ التقويم من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اتخذ أول المحرم من السنة التي هاجر الرسول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ التاريخ الإسلامي، على الرغم من أن الهجرة لم تبدأ ولم تنته في ذلك اليوم إنما بدأت في أواخر شهر صفر ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشارف المدينة يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول ثم دخل المدينة يوم الجمعة 12 من ربيع الأول.
ولم يكن هذا التقويم بدعة حيث نجد التقويم الميلادي قام على مثل هذه الطريقة فقد ولد المسيح عليه السلام في 25 ديسمبر [ هذا غير دقيق من الناحية التاريخية بل غير صحيح] ولكن اختير الأول من يناير السابق له وليس اللاحق مبدأ للسنة الميلادية، لأن يناير كان مبدأ للسنين عند الرومان من قبل، وتوافق بداية التقويم الهجري يوم الجمعة 16 من يوليو 622م. ومن هنا نجد أن للتقويم الإسلامي استقلاليته وخصوصيته، ويختلف عن تقاويم الأمم الأخرى حيث اعتمد التقويم القمري الرباني تقويماً خاصاً بالأمة الإسلامية، ولقد كان التقويم اليهودي من قبل قمرياً ثم حوله حاخاماتهم إلى النظام الشمسي المختلط بحيث تكون شهوره قمرية وسنته شمسية.
وكان تأسيس عمر للتقويم الهجري من أعظم إنجازاته الحضارية في إطار تنظيم الدولة الإسلامية كما اعتبر التقويم اليولياني من أعظم إنجازات يوليوس قيصر الحضارية، ولقد مر التقويم الشمسي بمراحل من الأخطاء الفلكية والحسابية وما زال بحاجة إلى التصحيح فالخطأ يحتاج المتخصصون إلى قرون للكشف عن تلك الأخطاء المتراكمة وهذا ما حدث بالفعل.

أما النظام التقويم القمري فيستحيل عليه الخطأ وإن وقع الخطأ من جهة البشر فبإمكان أي إنسان أن يكتشفه في غضون يوم أو يومين ويتم تصحيح العمل به تلقائياً.

نقلا عن المرصدالإسلامي – عن مجلة مواكب

كُتب في المناهج | التعليقات على لماذا اختار المسلمون التقويم القمري مغلقة

إنا لله وإنا إليه راجعون – وفاة العلامة السيد محمد حسين فضل الله

تعزية رابطة العلماء السوريين بسماحة العلامة محمد حسين فضل الله

تاريخ النشر: الثلاثاء 26 رجب 1431هـ – 06 يوليو 2010

بسم الله الرحمن الرحيم

تنعى رابطة العلماء السوريين إلى الشعب اللبناني الشقيق والأمة العربية والإسلامية سماحة الشيخ العلامة محمد حسين فضل الله رحمه الله الذي وافاه الأجل يوم الاحد 4 تموز/يوليو 2010.

لقد كان الشيخ في حياته مثالاً للجد والنشاط والعمل العلمي الدؤوب فمضى مخلفاً وراءه إرثاً غنياً من الكتب والمؤلفات والفتاوى. ولكن إسهام الشيخ الأهم كان في منهجه الرصين المعتدل الداعي إلى لم شعث الأمة ورص صفها وتوحيد كلمتها في وجه العدوان الغاشم الذي يستهدف أسس دينها بالإضافة إلى ثرواتها ومقدراتها. لقد كان للشيخ رحمه الله أثر بالغ في بث روح المقاومة والجهاد في وجه العدوان الصهيوني على لبنان وكانت قضية فلسطين في مقدمة أولوياته. كما عرف عن الشيخ دعوته إلى نبذ الفرقة ولجم التعصب والتقريب بين المذاهب والتركيز على قيمة التعايش بين المختلفين وكانت له مواقف معروفة وفتاوى لافتة في هذا المجال. ورابطة العلماء السوريين تتقدم إلى عائلة الشيخ وتلامذته ومحبيه بخالص العزاء سائلة المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته وأن يلهم ذويه الصبر والسلوان.

كُتب في الأعلام, الراحلون, منائر | التعليقات على إنا لله وإنا إليه راجعون – وفاة العلامة السيد محمد حسين فضل الله مغلقة

فتاوى الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله – مثال صالح للإجتهاد المقاصدي

بقلم الأستاذ الدكتور مازن هاشم – نقلاً عن موقع الرشاد

عندما يواجه المسلم بمواقف أو قضايا في أمر دينه أو دنياه، يتحرّى معرفة الحكم الشرعي باستفتاء عالم يرضى دينه و استقامته. و هنا تقع المسؤولية على عاتق المفـتي في أن يختار في جوابه عما سئل عنه الطريق الذي يفتح للسائل باب الفهم للمقاصد العامة للشريعة و أين يقع سؤاله منها، و يعطيه البصيرة التي تعينه على إدراك الحِكم و الدروس و العِبر فيما وضعته الشريعة من ضوابط و معايير لتزكية الحياة و القيام بمصالح العباد.

إن هذا التوجه في عرض أحكام الشريعة سبق أن أشرنا إليه في مقال سابق ” الإجتهاد المقاصدي ” و بيّـنا هناك أن الإجتهاد المقاصدي هو التوجه الذي يتحرى فهم المعاني المعقولة المستكنّة في أحكام الشريعة و يتحرى الربط بينها و بين تزكية الحياة و تأصيل الرحمة، و يتحرى كذلك ضبط الروايات بكليات الشريعة حيث تُجمع النصوص الواردة في الموضوع الواحد، و يستحضَر ما أمكن سياقها و ظروفها، ثم محاولة استخراج المعنى المعقول الذي يضم كل النصوص بخيط واحد و روح واحدة.

و بيـّنا كذلك أن منهجية المقاصد هي منهجية وظيفية، فالشرع لم يأت بنصٍ أو حكمٍ إلا لوظيفة عملية و دور في بناء النفس و استقامة العقل و الجوارح لتزكية الحياة و جعلها مباركة طيبة لا ضنك فيها ولا عسر و لا مشقة كما أرادها القرآن. و استعرضنا في المقال بعض الأمثلة والقضايا التي توضح و تشرح كمون و آفاق مفهوم المقاصد.

و في هذا المقال أستعرض مجموعة أُخرى من الأمثلة على الفتاوى التي تستلهم منهجية المقاصد في العرض و الصياغة، و تؤصل الكليات قبل الخوض في الفروع، و بذلك تضع السؤال في موضعه و حجمه من مجمل الهدي الذي جاءت به الشريعة.

يمثل كتاب ” فتاوى علي الطنطاوي ” مصدراً مفيداً لبيان منهجية المقاصد، حيث اشتمل على الكثير من الفتاوى التي نحا الشيخ الطنطاوي رحمه الله في الجواب عليها منحى التعريف بالكليات و المعاني و الأصول التي تتعلق بالسؤال قبل بيان الحكم أو الفتوى. و قد كان الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يتمتع باسلوب سهل مباشر بسيط مع دعابة محببة، و علم و دراية بالنصوص و اللغة و المذاهب، و يجمع إلى ذلك منطق عملي و معرفة بواقع العصر أتاحها له اشتغاله بالقضاء لسنوات طويلة و مشاركته في صياغة قانون الأحوال الشخصية.

و سأعرض – فيما يلي – مختصراً لبعض فتاواه التي صيغت على نمط واضح من تأصيل المقاصد و المعاني قبل محاولة الإجابة التفصيلية، و إن كانت الفتاوى في مجملها تحمل ذات الروح العملية الواقعية البعيدة عن الحرفية و الجدال النظري و الإنتصار للمذاهب.
الغناء و الموسيقى

كتب الشيخ في جوابه عن سؤال يتعلق بالغناء و الموسيقى هذه المقدمات :

· ينبغي أن نعرف ماهو الحرام. فالحرام عند الحنفية هو الأمر الذي ثبت النهي عنه بدليل قطعي الورود قطعي الدلالة، و هو الآية المحكمة التي تدل على النهي دلالة محققة، و الحديث المتواتر الذي تلقته الأمة بالقبول و كانت دلالته على التحريم محققة، و ما أجمع المسلمون على تحريمه، و ما ثبت حرمته بالقياس الصحيح.
· من المحرمات ما استقبحه الشرع لذاته، كشرب الخمر و الربا و الزنا. و منها ما حرم بالنص لأنه يجرّ إلى المحرم ككشف العورات و النظر إليها اللذين يجران إلى الزنا.
· القسم الأول ( و هو المستقبح لذاته شرعاً ) لا يجوز ارتكابه إلا في حال الضرورة، و الضرورة هي التي تكون مسألة حياة أو موت. و القسم الثاني ( أي الذي حرِّم لأنه يجر إلى المحرَّم ) يجوز عند الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، كدفع المرض أو حفظ المال.
· الضرورة تقدر بقدرها، فمن غصَّ باللقمة و لم يجد لإساغتها إلا الخمر جاز له أن يشرب بمقدار ما يدفع الغصة و يسيغ اللقمة، لا أن يشرب القارورة كلها. و الحاجة مثلها، فالطبيب له أن يرى من المرأة ما يتوقف العلاج على النظر إليه أو لمسه…
· فلنأت الآن إلى الغناء و الموسيقى، هل السؤال عنهما باعتبارهما أصواتاً تسر بإيقاعها النفس و تستميل الأذن ؟ و بلفظ آخر: هل حـرّم الشّرع سماع الأصوات المطربة المتناسقة لأنه استقبحها لذاتها ؟ لا. و لو أن إنساناً جمع في بيته الطيور المغردة البلابل و الشحارير و استمع إليها فطرب لأصواتها لما كان في عمله محظور، فليس الغناء و الموسيقى مما استقبحه الشرع لذاته، لكن يطرأ عليها التحريم في حالات:
الأولى : من جهة الكلام الذي يتغنى به، فإن كان فيه ما يمس العقيدة أو يدعو إلى محرم أو ينفر من واجب أو كان فيه غزل مكشوف أو غزل بامرأة معينة معروفة لم يَـجُـز. أما الغزل العفيف فلا مانع منه، و بمَ يتغنى الناس إن لم يتغنوا بشعر الغزل ؟ هل يكون الغناء بألفية ابن مالك في النحو ؟

الثانية : حال المغني و السامع. فإن غنـّت المرأة للرجال الأجانب لم يَجـُز لأن الصوت بالتطريب ( لا الكلام العادي بالصوت العادي ) يعتبر عورة و لو كان بقراءة القرآن.
الثالثة : وقت الغناء : فإن كان وقت أداء واجب ديني أو دنيوي و الغناء يشغل السامع عنه لم يَجـُز. و إن طال الوقت حتى صار سماع الغناء عادة لا يستطيع تركها كان الأولى عدم سماعه.
الرابعة : مجلس الغناء، فإن كان فيه محرّم كالخمر أو الإختلاط بين الرجل و المرأة الأجنبية عنه لم يَجـُز.
الخامسة : أثره في نفس سامعه، و هذا مقياس شخصي،فمن كان يعلم من نفسه أن الغناء و الموسيقى يدفعانه إلى الحرام أو يصرفانه عن واجب، لم يجز له أن يسمع، كالشاب العزب يسمع الغناء الذي يصف لوعة العاشق و جمال المعشوق، فيثير في نفسه طاقة ليس أمامه مصرف لها ( كما يكون أمام المتزوج )، فيفتش عن مصرف حرام فيقع فيه، أو يكتم هذه الطاقة في صدره فتؤذيه و تضنيه و تصرفه عن مطالب العيش و أسباب الدراسة و ما يحتاج إليه من عمل. و هذا المقياس ينطبق أيضاً على الألحان الموسيقية المجردة عن الكلمات، و رب لحن يسمعه المرء يذكـّره بالمكان الذي سمعه فيه و من كان معه في ذلك المكان فيسبب له التفكير فيه رغبة في الحرام و شوقاً إليه. و ربما كان قد سمع اللحن في مكان لا يسمح الشرع بدخوله، بل إن من النغمات ما يهيج العاطفة أو يبعث النشاط أو يحزن أو يرقـّص، فمن دفعه اللحن إلى الحرام حرم عليه سماعه.
فما لم يكن فيه شيء من ذلك، كأن يغني المرء أو يعزف لنفسه في وقت فراغه، أو تغني المرأة لزوجها أو للنساء، أو يغني الرجل للرجال بالشروط التي سبق ذكرها، أو يسمع الغناء من الراد بهذه الشروط، فهو على الإباحة الأصلية.
أما الوضع الحالي للمغنين و المغنيات و ما يقترن به من تكشف و اختلاط و ما ينفق فيه من جليل الأموال، و ما يكون لهؤلاء من التقدير في المجتمع و التقديم على أهل العلم و على الأساتذة و الأطباء، فلا يجادل مسلم أنه ممنوع في الإسلام.
ثم يختم الشيخ – رحمه الله – مناقشته بهذه النتيجة : و الإختلاف اليوم في أمر الغناء و الموسيقى ناشئ كما أرى عن أمرين :
أولهما : أن من يقول بالإباحة و من يذهب إلى المنع لا يتكلمان عن شيء واحد، مع أن من الواجب قبل المناظرة تحديد موضوعها. فالذين يحرِّمون يتكلمون عن الغناء و الموسيقى بوضعها الحاضر، و لا شك أنه على هذا الحال ممنوع غالباً لأنه يقترن بمحرمات و يؤدي إلى محرمات و يشغل عن واجبات و يهدر أموالاً الأمة أحوج إلى ريعها فيما هو أنفع لها و أجدى عليها منها، و فتح المدارس للعلم و إعداد الجيش للدفاع أولى من الطرب و الغناء. و الذين يبيحون يتكلمون عن الغناء و الموسيقى من حيث أنهما أصوات موزونة مطربة تسلي و لا تؤذي، و يضعون لهذه الإباحة حدوداً و يشترطون شروطاً. و من حقق رأى هذا الإختلاف في كثير من الحالات لفظياً لا حقيقياً.
ثانيهما : إن الطريق الصحيح للإجتهاد هو أن نجمع الأدلة الثابتة و نفهمها و نتبعها فحيث انتهت بنا وقفنا، إما التحريم و إما الإباحة. و بعض الناس يقلبون الوضع، فيضعون النتيجة التي يريدونها إما التحريم المطلق و إما الإباحة، ثم يأخذون من الأدلة ما يؤدي بهم إلى هذه النتيجة. و منهم من يدع الصحيح و يأخذ ما لم يصح، و قد يفسر اللفظ على معنى و يحصره فيه مع إمكان فهم معنى غيره. اهـ
رحم الله الشيخ، فهو بهذا التوجه المقاصدي الذي يربط الفعل بنتائجه و مآلاته، يذكرنا بما يعلمه كل مطّلع على شؤون الثقافات و الأعراف. فـفي كل بيئة هناك نوع من الموسيقى و الغناء ترتبط عرفياً بالإنحلال الخلقي و الفساد و الدعارة. بينما هناك أنواع أخرى من الغناء ليس لها هذا المعنى و هذا الإرتباط. فلابد من التمييز البصير و المعرفة بالواقع، و بذلك يساهم الفهم المقاصدي للشريعة في الحدّ من المبالغة في التحريم و التي تؤدي إلى الحرج و العنت.

و هناك أمر آخر يتعلق بما ذكره الإمام الشاطبي عن نوع من المباح الذي يعني رفع الحرج. فبهذا التحليل الذي ذكره الشيخ الطنطاوي نستطيع أن نستنتج أن الإباحة الأصلية في الغناء و الموسيقى ليس بمعنى التخيير في الفعل أو عدم الفعل، بل يكون معنى الإباحة مما يندرج تحت قسم الممنوع بالمعنى الكلي حيث يكون حكم الدوام عليه مما يكره، أما فعله في بعض الحالات و الأوضاع فهو على الإباحة التي تعني رفع الحرج.

و يمكن أن نستنتج مما سبق طريقة للحكم على أنواع التسليات و الرياضات و الهوايات التي تتفتق عنها ثقافة اللهو و اللعب في العصر الحاضر. فما لم يرتبط عملياً أو عرفياً بفساد أو ضرر فحكمه الإباحة التي تعني رفع الحرج على من فعل هذه الأمور بشكل ليس فيه تضييع للأوقات أو الأموال. و الله أعلم.

التصفيق للخطيب
أعمال الدنيا الأصل فيها الإباحة إلا إن ورد نصٌ بتحريمها، أو كانت مقيسة على محرم بالنص لوجود علة التحريم فيها، أو كانت تدخل تحت أصل عام من أصول التحريم كالضرر بأنواعه و الغش و الخديعة و أمثال ذلك.
· من يدعي تحريم شيء هو الذي يطالب بالدليل.
· و قد ورد في ذم التصفيق أن صلاة بعض الكفار عند البيت كانت مكاءً و تصدية، أي تصفيراً و تصفيقاً، فمن فعله عبادة كان متشبهاً بهم و كان فعله حراماً.
· و ورد أن قوم لوط كانوا يصفقون للحث على فعل المحرًم أو التنبيه إليه، فمن فعله لمثل ذلك كان متشبهاً بهم و كان فعله حراماً.
· و ورد أن من رابه في صلاته شيء و أراد أن ينبه الإمام : يسبح الرجل و تصفق المرأة. فالتصفيق لهذا المقصد المشروع جائز مطلوب في الصلاة.
· فتبين من ذلك أن التصفيق في ذاته ليس محرماً و لكنه يحرم إن جـُعل عبادة أو وسيلة إلى ارتكاب محرم. و ليس في التصفيق للخطيب شيء من ذلك.
· أما أن نستبدل به التكبير، فالتكبير أفضل بلا شك لكنه لا يكون في كل موضع يصفق الناس فيه. و من ادعى التحريم المطلق يطالب هو بالدليل. اهـ

رحم الله الشيخ، فالتصفيق في هذا العصر يستعمل للتحية و التكريم و يستعمل لبيان الموافقة و الإستحسان لما يقوله المتحدثون، ولتشجيع اللاعبين و المتبارين، و كل ذلك مما لا يناسب الصياح بالتكبير أو السكوت و الصمت المحرج حيث يتشوق الناس للتعبيرعن حماسهم أو مشاعرهم. فمعرفة مواضع التحريم و معرفة ثقافة العصر و وسائله هي التي ترفع الحرج و التأثم من غير حاجة. و الله أعلم.

طلاق الغضبان

الطلاق في حالة الغضب. الزوج إن كان راضياً مسروراً من زوجته فلا يطلقها، لا يطلـّق إلا و هو غضبان. و لكن الناس أصناف، و الغضب درجات، فمن كان عصبي المزاج إذا غضب لم يعد يملك التحكم في إرادته و لا السيطرة على لسانه، و طلـّق و هو في هذه الحال التي يكون فيها مثل المجنون فإن طلاقه لا يقع كما لا يقع طلاق المجنون.

و من كان غضبه بارداً – و هذا أشد الغضب – يملك فيه أعصابه و يتكلم بصوت هادئ، و إن كانت النار تشتعل في داخله، و طلـّق، فإن طلاقه يقع.

و أول من عرفناه فصـّل القول في طلاق الغضبان هو شيخ الإسلام ابن تيمية و جاء تلميذه ابن قيم الجوزية فزاد قوله شرحاً و بسطاً على عادته في شرح أقوال شيخه ابن تيمية.

و في ” إعلام الموقعين ” لابن القيم، في مواضع كثيرة منه، كلام نفيس عن ألفاظ الطلاق و مدى دلالتها على قصد الطلاق، أي متى تكون دالة على إرادة المطلـِّق وقوع الطلاق، و متى تكون دالة على أنه لا يريده، و ذلك مستمد من أقوال ابن تيمية، و يدخل تحت هذا العنوان الحلف بالطلاق و الطلاق المعلق.

و الشيء العجيب أن ابن تيمية و ابن القيم حنبليان، و فقهاء المذهب الحنبلي لم يأخذ أكثرهم بقولهما. و ابن عابدين المعاصر للشيخ محمد بن عبد الوهاب، و هو أفقه حنفي في عصره أخذ به و صرّح في حاشيته التي هي عمدة المفتين في المذهب الحنفي بأنه أخذ ذلك من قول ابن القيم الحنبلي. و أعجب منه أنه وقع في عصر العصبية المذهبية و التقليد المحض.

و الفتوى الآن في المذهب الحنفي و العمل في المحاكم الشرعية في أكثر البلاد التي كانت تابعة للدولة العثمانية، العمل فيها من مائة و خمسين سنة بما أفتى به ابن عابدين.

ولقد توسع الحنفية فألحقوا بالغضب كل انفعال شديد يخرج الرجل عن حالته العادية و يفقده التفكير السليم و سموه طلاق المدهوش. و دليل عدم وقوعه حديث ” لا طلاق في إغلاق ” ، ففي الحالات العادية يسلك العقل طرق التفكير الموصلة الغاية التي يريدها. فإن عراه انفعال شديد من خوف أو فرح، أغلقت عليه سبل التفكير فلم يعد يقدر عليها، و من ذلك حالة الغضب الشديد الذي شرحناه.

و الخلاصة أن الرجل إذا غضب غضباً شديداً لم يعد يملك فيه أعصابه و لا يستطيع التحكم بإراته و لاسيما إذا كان عصبي المزاج و طلـّق و هو في هذه الحالة فإن طلاقه لا يقع.اهـ
عندما يقرأ المرء هذه الفتوى يتبادر إلى ذهنه ما شكى منه الشيخ الغزالي رحمه الله من التشدد في إيقاع الطلاق و الذي يوقع الناس في الحرج و يفتح باب الفتنة بالقوانين العلمانية و خاصة في قضايا الأسرة. و يبقى ما فعله الشيخ ابن عابدين رحمه الله في الأخذ بقول من مذهب آخر تيسيراً للناس و رفعاً للحرج عنهم، مثالاً يحتذى للمشتغلين بالفتوى والتعليم الديني. و تبقى المشكلة في من يتصدر للفتوى بعقلية التشفي و العقوبة لمن أخطأ و خالف، مع الغفلة عن تحقيق مقاصد الشرع في حفظ كيان الأسرة و إصلاح ذات البين. و الله أعلم.

الـنـمـص

لا بد من مقدمات نتفق عليها قبل الجواب :

أولها :إن ما ورد اللعن عليه من الأفعال يكون حراماً و من كبائر المحرمات.

ثانياً : من تتبع الكبائر وجد بأن فيها هدراً و إضاعة لواحد من المصالح الخمس الأصلية وهي حفظ الدين، و حفظ العقل، و حفظ المال، و حفظ النسل، وقبل ذلك كله حفظ الحياة.

فالكفر هو أكبر الكبائر لأن فيه إضاعة الدين، و الخمر و كل ما يخامر العقل و يعطله، و العدوان على المال بالسرقة، و ما يفسد النسل و النسب بالزنا و أمثاله، و القتل و تعطيل عضو أساسي – هذا كله – لا شك أنه من الكبائر. و قد وجدت كبائر لا تدخل تحت واحد من الخمس كعقوق الوالدين و الغيبة و النميمة و شهادة الزور و الغش و الخديعة و أمثالها، فوجب إضافة أصل سادس أرى أن نسميه ( الأمن الداخلي ) مثلاً، و كبائر يمكن أن نسميها ( الأمن الخارجي ) كموالاة العدو و العمل لمصلحته، و التجسس له على المسلمين، و الفرار من المعركة التي يراد منها إعلاء كلمة الله.

ثالثاً : وجدت بالإستقراء أن ما ورد عليه اللعن أو المنع الشديد منه و ليس فيه إضاعة لإحدى هذه المصالح، يكون النهي فيه عن حالة خاصة أو صفة خاصة.

و على هذا أقول : إن حديث لعن النامصة و المتنمصة و الواصلة و المستوصلة… إلخ حديث صحيح، و لكن كيف نفهمه ؟

إن رواة الحديث لم يشرحوا لنا المراد من كلمة – النامصة – هل المراد منها ما يشمله معناها في لسان العرب أم هي صفة خاصة كانت معروفة عند ورود الحديث.

النمص في اللغة النتف، و في الجسم مواضع جـوّز الشرع نتف الشعر منها بل ندب إليه و حث عليه. فلا يمكن إذن أن يكون المراد لعن كل امرأة تنتف (أي تنمص) شيئاً من شعر جسدها، فالحديث ليس على عمومه.

قالوا: المراد منه نتف الحاجبين، و هو قول وجيه و إن لم يرد عليه دليل.

وفي كتب الفقه كلها كلام حول هذا الموضوع ربما يفهم منه : أولاً : الزينة لا سيما للمتزوجة تتزين لزوجها جائزة و مطلوبة. ثانياً : ما يدخل في حدود الزينة من تنظيم الحواجب و تعديلها جائز. ثالثاً : نتف الحاجب كله أو نتفه إلا خيطاً رقيقاً منه لا يجوز.

و لعل أوجه الأقوال ما رواه ابن الجوزي عن بعض الحنابلة من أن هذا النمص إذا كان شعاراً و علامة للفاجرات من النساء حـَرُم، و إلا كان مكروهاً فقط. اهـ

و قد بين الإمام ابن عاشور في ” مقاصد الشريعة الإسلامية ” أن مقاصد الشريعة في أحكامها كلها هو إثبات الأحكام – من الوجوب أو الحرمة – لأوصاف و أحوال و أفعال باعتبار ما تشتمل عليه من المعاني المنتجة صلاحاً و نفعاً أو فساداً و ضرراً. فإياك أن تتوهم أن بعض الأحكام منوط بأسماء الأشياء أو أشكالها الصورية غير المستوفاة المعاني الشرعية فتقع في أخطاء في الفقه. مثل قول بعض الفقهاء في صنف من الحيتان يسميه البعض خنزير الماء أنه يحرم لأنه خنزير. و كذلك أخطأ بعض المتقدمين في حكم وصل الشعر للمرأة ذات الزوج و تفليج أسنانها و تنميص حاجبيها فجعل لذلك من التغليظ في الحكم ما ينافي سماحة الإسلام، تمسكاً بظواهر أثر يروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن فيه الواصلة و الواشمة و المتفلجة و المتنمصة. ثم قال : و أنا أجزم بأن ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك إذا كان كذلك ورد عنه إنما أراد به ما كان من ذلك شعاراً لرقة عفاف نساء معلومات.

و يبدو من النظر في كلام الشيخ الطنطاوي و الشيخ ابن عاشور توافقاً في التوجه إلى اعتبار المعاني و المقاصد و الأعراف عند النظر في النصوص، و البعد عن التفسير الحرفي الذي يعارض كليات من القواعد الشرعية. و الله أعلم.

التدخين

هناك أمور لم نؤمر بها بنص خاص، و لم نـُنه عنها بنص خاص لأنها لم تكن موجودة حين التشريع، أي حين نزول القرآن و صدور الحديث عن النبي المعصوم عليه الصلاة و السلام، و لكن فيها ضرراً أو فيها إضاعة للمال أو هي من الخبائث، هذه الأمور ممنوعة لدخولها تحت أصل من أصول المنع. فكل ما هو ضار للجسم أو للأخلاق أو للمجتمع يكون ممنوعاً، لأنه ” لا ضرر و لا ضرار “، و كل ما فيه إسراف و تبذير يكون ممنوعاً، و كل ما هو من الخبائث يكون ممنوعاً، لأن الله أحل الطيبات و حـرّم الخبائث.

فما نهى عنه الشارع بالنص، أي بآية أو حديث، حرم قليله و كثيره، و حرم ما ظهر ضرره و ما لم يظهر منه الضرر.

و ما كان ممنوعاً لأحد هذه الأسباب كان المنع منه على درجات : فإن كان الضرر كبيراً كان حراماً و إن كان خبيثاً جداً، ليس طيباً و لا حسناً، كان حراماً أو قريباً من الحرام.

نأتي الآن إلى حكم الدخان، الدخان لم يرد فيه نص لأنه لم يكن معروفاً، و إنما عرف في بلادنا سنة ألف، فالدخان ليس فيه نص خاص و لكنه يدخل تحت أصل من أصول المنع :

أولاً : لأنه ضار و ضرره محقق، اتفق على وجوده المسلمون و الكفار، و أجمع عليه الأطباء، و لكن هل يحرم على الإطلاق ؟ أي أن من وضع في فيه دخينة ( سيجارة ) و امتص دخانها هل يكون كمن شرب كأساً من الخمر ؟ الجواب : لا. هل هو مباح كالأكل و الشرب ؟ الجواب : لا. إذن الجواب : إن كان ضرره بالغاً حرم تناوله لأن كل ضار حرام.

ثانياً : وإن كان ضرره خفيفاً كان مكروهاً.

ثالثاً : و لا يكون مباحاً أبداً.

رابعاً : ثم إن فيه تبذير و إضاعة للمال، و إضاعة المال محرّمة. فلو رأيت رجلاً أخرج من جيبه ريالاً فأحرقه و وقف ينظر إليه و يستمتع بمرآه لقلت بأنه مخطئ إن لم تقل إنه مجنون. هذا أحرق ريالاً فقط، أما الذي يشتري بالريال علبة دخان فيدخنها، يحرق الريال و يحرق صدره معه.

خامساً : الله حرّم الخبائث، و لا أظن أن أحداً في الدنيا يقول بأن رائحة الدخان من الطيبات.

و الخلاصة : إن من كان الدخان يضره ضرراً كبيراً في جسمه الذي هو ملك الله لا يملكه صاحبه حرم عليه، و إن كان الضرر خفيفاً كان مكروهاً مع العلم أن قليل الضرر يجر إلى كثيرة.

و من كان مورده قليل فاقتطع من ضرورات حياته أو حياة من استرعاه الله أمرهم و كلفه الإنفاق عليهم، و اشترى بما اقتطعه دخاناً فشربه، كان مرتكباً محرماً. و من أكثر من شرب الدخان حتى صارت رائحته تؤذي جليسه أو أهله ( أي زوجته ) التي تعيش معه كان أيضاً من الممنوعات.

مسألة في الوصية

من المعروف أن أولاد الإبن لا يرثون مع وجود أبناء الصلب، و هذا الحكم لا خلاف فيه. أما الوصية الواجبة فعلاج فقهي استنبطوه في مصر لبعض الحالات و فيما يلي ملخص هذه القضية :

1 – كانت الوصية واجبة للوالدين و الأقربين من غير تحديد لمقدارها بحكم الآية ( 180 من سورة البقرة)، و اختلف العلماء في تعيين الأقربين، فمنهم من وسـّع الدائرة و من ضيقها.

2 – ثم نزلت آيات المواريث في سورة النساء فحددت بالنص ما يستحقه كل من الأقرباء الوارثين، فذهب أكثر العلماء إلى أنها نسخت آية الوصية.

3 – من العلماء من قال بأنها نسخت وجوب الوصية بحق الأقرباء الذين أعطوا نصيباً من الميراث، و بقي حكم الوجوب للأقرباء الذين لا يرثون. و من أشهر من قال بهذا ابن حزم.

4 – و قال غيرهم أن حكم الوصية للقريب غير الوارث الندب لا الوجوب، أي أن الجد يُسّن له أو يندب أن يوصي لأولاد ابنه الذي مات في حياته و يسمونه ( ابن المحروم ).

5 – أما مقدار هذه الوصية فقد نصت آية ( البقرة ) على أن الوصية بالمعروف، و المعروف أن يوصي لهم بمثل نصيب أبيهم لو كان حياً.

6 – فإن مات و لم يوص ؟ قال ابن حزم : يعطَون المبلغ الذي تقدره الورثة.

7 – فإن رفض الورثة إعطاءهم، فما العمل ؟ أنا لم أجد من قال بأنهم يعطـَون شيئاً. و لهذا أمضيت ساعات في نقاش هذه المسألة، ثم شرح الله صدري للقول بها لثلاثة أسباب :

الأول – إن المسلمين الأولين لقوة تمسكهم بالدين كان يكفيهم الندب إلى الشيء ليفعلوه و يعملوا به. لذلك كان المعهود عنهم أن الجد كان يوصي لحفدته الذين مات أبوهم في حياته.

و الثاني – إن للحاكم المسلم أن يأمر بالمباح ( فضلاً عن المندوب ) فيكون واجباً وجوباً مؤقتاً ( أي مدة استمرار العمل به ) لا وجوباً دائماً كالواجب بالنص، لقوله تعالى : ” و أولي الأمر منكم “.

و الثالث – إذا قلنا بأن هذه الوصية صارت واجبة لأمر الحاكم المسلم بها. أمكن اعتبارها حقاً من حقوق الله في التركة تؤدى قبل توزيعها على الورثة. اهـ

و بعد، فهذه أمثلة مختارة لبعض الفتاوى في قضايا متفرقة و يظهر فيها التأصيل و الشرح للقواعد و الكليات الشرعية التي لا بد من استحضارها قبل القفز إلى تقرير الأحكام و المواقف.

رحم الله الشيخ و أجزل ثوابه، و ألهم المشتغلين بخدمة العلوم الشرعية الإقتداء بطريقته في الفهم و بمنهجه في تبسيط المسائل و ربطها بتزكية الدين للحياة.

المصدر: كتاب فتاوى الشيخ علي الطنطاوي الذي جمعت فيه فتاواه

كُتب في المناهج | التعليقات على فتاوى الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله – مثال صالح للإجتهاد المقاصدي مغلقة

التعليم الديني: واقع وآفاق

الأستاذ رياض أدهمي

هناك سمة هامة في ثقافة و عقلية الشعوب الإسلامية لا يكاد الناظر إلى هذه الشعوب أن يخطئ هذه السمة و يدرك عمقها في تكوينها الثقافي و النفسي عبر التاريخ.

و يمكن تلخيص هذه السمة الهامة بأن هذه الأمة عندما تتعرض للأزمات و التحديات فإنها دائماً ترى الإسلام ذخراً و رصيدأً لا تشك في قيمته و قدرته على مدّ الأمة بعناصر الصمود و الحياة ، و ترى – بحق – أن أزماتها و مصائبها كانت نتيجة للتخلف عن تمثل و فهم و تطبيق الدين و مقتضياته ، فيعكف أهل الرأي منهم على كشف الثغرات في فهم الدين و طريقة تنزيله و تطبيقه ، في دورات متعاقبة من التجديد و محاولات الإصلاح و النهوض و ذلك في إطار إيمان لا يخالطه شك بمعقولية الدين و صلاحية تعاليمه و قدرتها على الإصلاح .

و من خلال هذا الفهم للعلاقة بين فهم الدين و صلاح الواقع انطلقت حركات و قامت مؤسسات و دارت مناقشات و حوارات تتحدث عن التجديد و ترسم معالمه و آفاقه و شروطه و ضوابطه ، و كان نصيباً مهماً من الحديث عن التجديد يتناول المعاهد و المدارس التي تتولى مهمة نشر و تعليم علوم الشريعة .

و شهد كثير من البلاد الإسلامية قيام معاهد جديدة مثل دار العلوم في مصر و كليات للشريعة في الجامعات ، و شهدت المؤسسات القديمة مثل الأزهر و الزيتونة إصلاحات و تغييرات في المناهج و طرق التدريس . كل ذلك في حركة دائبة استمرت قرناً من الزمان و حال الأمة لم يشهد تغييراً نوعياً في مشكلاته و معاناته و استمر الشعور بالأزمة حيث فشلت الأمة في تحقيق مستوىً مقبول من الحضور بين أمم الأرض يفرض الإحترام و يؤكد الإعتزاز بالنفس و يثبت الفعالية و القدرة على العطاء و تجاوز الضعف و التبعية و الوهن .

و من خلال هذا الفشل و استمرار الشعور بالأزمة تتابع الحديث عن التجديد في فهم الشريعة في محاولة للخروج من المأزق الذي يهدد وجود الأمة و كيانها .

و قد عثرت أثناء البحث في أدبيات التجديد على وثيقة مهمة تضمنت البحوث و الدراسات التي قدمت في مؤتمر علم الشريعة في الجامعات و الذي عقد في عـمّـان صيف 1994 . و تكتسب البحوث المقدمة في هذا المؤتمر أهمية خاصة حيث قدمت من باحثين يعملون في مجال التعليم و التدريس لعلوم الشريعة في جامعات متعددة و بلاد مختلفة ، و من ناحية أخرى جاءت هذه البحوث تلخص تجربة قرن من عمر الأمة في ظروف مليئة بالمواجهات و التحديات و التغيرات الجذرية على كل صعيد .

و قد بدا واضحا أن ابتعاد علوم الشريعة عن الحياة و ما يجري فيها كان الهاجس المخيم على البحوث و الأوراق المقدمة و المقررات و التوصيات الصادرة عن المؤتمر . فقد تكررت قضية التعامل مع الواقع و العصر بشكل ملحّ حيث لم تخل فقرة من المقررات و التوصيات من التأكيد على أهمية استحضار هذه القضية و التعامل معها .

ففيما يتعلق بعلوم الشريعة و تطويرها نجد هدف المراجعة الواجبة لمضمون العلوم الشرعية يبدأ بتمكين الطالب من التعامل مع ما يستجد من الواقعات و ما يكتنف المجتمعات المعاصرة في عالم اليوم من متغيرات .

و فيما يتعلق بالخطط و البرامج نجد هدف تأهيل الدعاة و القيادات القادرة على بحث القضايا المعاصرة .

و فيما يتعلق بالمنهج الدراسي نجد ضرورة تحديد الأهداف التربوية التي من أجلها تدرس مواد علوم الشريعة ، و نجد ضرورة تطوير المحتوى الدراسي للمواد لوصلها باحتياجات العصر و التفاعل مع مقتضيات العصر.

و فيما يتعلق بالبحوث و الدراسات و الإنتاج العلمي نجد ضرورة ايجاد منهجية للتعامل مع التراث الغربي باعتباره عاملاً مؤثراً في تشكيل عقل الإنسان العاصر و ثقافته ، و نجد ضرورة ايجاد منهجية لبناء العلاقة بين معارف الوحي و العلوم الإنسانية و الإجتماعية .

و قد لخص الدكتور عدنان زرزور في بحثه الذي قدمه في المؤتمر الأزمة التي يعاني منها تدريس علوم الشريعة و أصاب جوهرها عندما قال : ” و لطالما راود كثيراً منا شعور بأن جزءاً ضخماً مما يلقونه على أسماع طلابهم أو يطالبونهم بحفظه أو تحضيره يقع في دائرة التاريخ أو أنه مبتوت الصلة بالواقع الذي يعيشونه و الحياة التي سوف يخوضون غمارها .

لقد أدت علوم الشريعة في عصر النشأة وظيفتها الإجتماعية بوجهٍ عام ، و لكن هذه العلوم لم تعد بعد إلى أداء هذه الوظيفة . . . و ذلك يعود في المقام الأول إلى عجزنا نحن عن ربط هذه العلوم بحياة الفرد و الجماعة . و في وسعنا حين نطور هذه العلوم بهذا الإتجاه أن تعود مرة أخرى إلى أداء هذه الوظيفة الإجتماعية ، و يكاد يكون فحوى هذا التطوير: نفي الطابع التاريخي عن هذه العلوم .

و المنهجية الإصلاحية لا يكفي فيها التطعيم أو الإضافة لبعض المقررات و البحوث المعاصرة – قلّت أم كثرت – بل لا بد من إعادة النظر في محتوى أو مفردات علوم الشريعة وفي كيفية أدائها لوظيفتها الإجتماعية ، و تفعيل هذا الأداء ، أو إعادة بث الروح فيه مرة أخرى بعد أن أخلت هذه الوظيفة أو تنازلت عنها لما يسمى العلوم الإنسانية و الإجتماعية إلى حد كبير ”

و من الواضح أن المهمة التي يجب أن يتصدى لها علماء الأمة و مفكروها هي على قدر كبير من التشعب و الخطورة و تتطلب أوقاتاً و جهوداً لا تسنح غالباً في زحمة الأعباء و المسؤوليات .

و في هذه الورقة سأحاول تتبع بعض الإرهاصات و البدايات الطيبة لبعض العلماء و الباحثين و محاولاتهم في تطوير مضمون العلوم الشرعية و إعادة صياغتها . و لا شك أن محاولة تطوير مضمون العلوم الشرعية يتطلب الكثير من الصبر و الكثير من الشجاعة ، فالذين يتشبثون بما انتهت إليه علوم الشريعة منذ قرون و لم يحسوا بعد بضرورة التطوير سيصابون بالفزع و سيفهمون محاولات التطوير بأنها عبث بالشريعة و علومها و ثوابتها . فلا بد من الصبر و الدأب و الثبات و البعد عن استفزازات الإنتصار للنفس ، و لا بد أن يدرك الجميع أن التطوير إن لم يأت من خلال جهود العلماء و المفكرين الذين يغارون على الأمة و هويتها و رسالتها الكونية و الذين يفكرون ضمن رؤية منهجية رصينة ، فسيأتي التغيير مفروضاً من وصايات المصالح السياسية بكل ما تملك من الإمكانيات و الوسائل للتمويه و التشويه و التزوير .

و قد كانت مشاركة و مساهمات العلماء في تجديد الفكر الديني تسير في وجهتين متكاملتين :

1. تهتم الوجهة الأولى من البحوث بتفاصيل القضايا و تفاصيل المسائل في فروع علوم الشريعة .
2. وتهتم الوجهة الثانية منهما بكليات المسائل الشرعية و تأصيل منهجيات البحث ابتداءً بتقرير المرجعية المطلقة للقرآن الكريم و إعادة السنة إلى موضعها الطبيعي بياناً للقرآن و مثالاً عملياً لتفعيل كليات القرآن في ظروف التنزيل ، و منهجية القراءة المتوازنة المتكاملة لسنن الكون من خلال إعادة الإعتبار لطبائع العمران و ثبات السنن و معقولية التعامل مع القضايا الإجتماعية و الإنسانية ، بالإضافة إلى منهجية مقاصد الشريعة التي تنطوي على كمون خصيب لا بد من استثماره و توظيفه لإعادة صياغة مفردات علوم الشريعة بما يكفل ردم الفجوة بين التوجه التاريخي الذي جمد على قضاياه و مسائله و تصنيفاته و بين التوجه الواقعي الذي يعيد صياغة قضايا الشريعة من خلال استحضار خصائص الشريعة العالمية الخاتمة و يحاول فهم الواقع من خلال التمكن من التعامل مع آليات فهم الواقع والتي تولت العلوم الإجتماعية و الإنسانية دراستها و التفصيل فيها .
ونظراً لأهمية المنطلقات المنهجية للتجديد و التطوير فقد غلب على الإنتاج العلمي الحديث عن هذه المسائل المنهجية إيماناً من المساهمين بأولوية تأصيل المنهج و تأسيس القواعد ، و إيماناً منهم بأن التطوير و التجديد سيكون شكلياً عديم الفائدة ما لم يستحضر الكليات و الأصول بما في ذلك الواقع بثقله و تعقيده لأنه يمثل هدف التزكية من ناحية ، و يمثل معيار النجاح لتنزيل و تطبيق الأصول و المبادئ من ناحية أخرى .

و على الرغم من قلة البحوث التي تتناول موضوع تطوير مضمون العلوم الشرعية لأن هذا الموضوع بطبيعته يحتاج إلى جهود جماعية و تشاور و تناصح للخروج بما يشبه الإجماع ، فسأحاول في هذه الورقة عرض بعض ما عثرت عليه مما يمكن اتخاذه أسوة و قدوة من بحوث رائدة يتهيب الخوض فيها كثيرون .

* * * *

العـقـيــدة

في بحث قدمه الدكتور عبد المجيد النجار بعنوان ” دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية ” ” مجلة إسلامية المعرفة العدد الأول ” عرض إلى نشأة علم الكلام و كيف كان مدلول العقيدة يشمل مساحات من القضايا تزداد حسب ما كان يتعرض له المسلمون من التحديات الخارجية من قبل أهل الأديان و الثقافات الأخرى أو تحديات داخلية من قبل تفاعلات الحياة الإجتماعية . و بمرور الزمن أصبح كثير من متأخري المسلمين يقع في نفوسهم الظن بأن مدلول العقيدة الإسلامية إنما هو محدود بحدود المسائل التي انتظمها علم العقيدة و انغلق عليها بحكم توقفه عن النمو قروناً طويلة .

و لو تأملت أوضاع المسلمين من حيث مدلول العقيدة في أفهامهم كما انتهى إليه الأمر منذ قرون و كما هو معلوم عند عامة المسلمين بل عند كثير من خاصتهم المتعلمين و عند بعض المتخصصين في علوم الدين ، لو تأملت لوجدت أن هذا المدلول يتركز على القضايا الأساسية في العقيدة و هي الإيمان بالله و النبوة و الوحي و الملائكة و اليوم الآخر و القدر و ما هو مندرج ضمنها ، و أنه لا يتسع لمسائل أخرى ذات معانٍ عقدية أيضاً يُـدخل التصديق بها في دائرة الإيمان و يُـخرج التكذيب بها إلى دائرة الكفر و من أمثلتها مسألة حاكمية الشريعة الإسلامية و موالاة الكفار و الروح كجزء من التركيب الإنساني و مهمة الخلافة في الأرض كغاية لحياة الإنسان و العدالة الإجتماعية كقاعدة في بناء المجتمع ، فهذه المسائل و أمثالها رغم ما لها من مدخل في تحقيق الإيمان و عدمه إلا أنها لا تدخل اليوم ضمن دائرة المدلول العقدي عند كثير من المسلمين و إنما هي عندهم مسائل شرعية لا ترقى إلى درجة الإعتقاد و لا تراها تدرج في اهتماماتهم التعليمية و الدعوية ضمن المؤلفات و البيانات العقدية .

و قد أدى هذا الإنحسار في مدلول العقيدة في الذهنية الإسلامية إلى نزوع هذا المدلول منزعاً تجريدياً ابتعد به عن وجوه الحياة العملية حيث أصبحت الأذهان تنصرف في تحملها للعقيدة إلى عالم الغيب دون وصل له بعالم الشهادة من واقع الحياة الجارية ، و كان لذلك انعكاس سيئ على الحياة العملية للمسلمين إذ تقاعست الحياة عن الإندفاع نحو التعمير في الأرض باستثمار الكون و ترقية الإنسان بالحرية و العدالة و السعي الدؤوب لتحقيق الخلافة ، فهذه مسائل خارجة في دائرة الوعي عن أن تكون مسائل عقدية .

وقد دعا الدكتور النجار في بحثه إلى ترشيد مدلول العقيدة و ما يستلزمه من إدخال العديد من المفاهيم في الوعي العقدي للأمة لإعادة الأمور إلى نصابها و الوضع الذي كانت عليه في النصوص . و تتنوع القضايا التي يجب إدخالها إلى الوعي العقدي إلى قضايا ذات بعد استخلافي و بعضها ذات بعد اجتماعي و آخر ذو بعد كوني و رابع تشريعي و هي في عمومها ذات صلة ببعضها و تبلغ مبلغ التداخل .

و القضايا ذات البعد الإستخلافي تشمل حقيقة خلافة الإنسان في الأرض باعتبارها المهمة التي خلق الإنسان من أجلها ، و تشمل أيضاً حقيقة الإنسان في نفسه و في تركيبه من مادة و روح ، و في قيمته الذاتية و منزلته في الكون ، كما تشمل أيضاً شهادة الأمة الإسلامية على الناس باعتبارها المهمة التي أناطها الله سبحانهبها إزاء الأمم تبليغاً للدعوة إليها و إنقاذاً لها من الضلال و تنويراً لها بالعلم و الدين و قياماً إزاءها بالقسط و العدل .

و القضايا ذات البعد الإجتماعي تشمل حقيقة العدالة الإجتماعية و حقيقة التكافل بين أفراد الأمة و كفالة الأمة لأفرادها و حقيقة الحرية الشخصية و العامة بضوابطها و حقيقة حق الإنسان في التكريم المادي و المعنوي .

و قضايا ذات البعد الكوني تشمل قضية تسخير الكون للإنسان و أنه معدٌّ لأجله و منفتح لعطائه و ممهد له لينجز مهمته التي خلق من أجلها ، و قضية الرفق بالكون و الحفاظ عليه من الفساد و التدمير

و القضايا ذات البعد التشريعي تشمل كل أحكام الشريعة من حيث الإيمان بحقيقتها حيث يفضي جحودها و التكذيب بها إلى الإنحلال من الإيمان و انتقاضه .

و قد عقد الدكتور النجار في بحثه فصلاً خاصاً عن إحياء المدلول العملي للعقيدة بمعنى الوصل بين العقيدة و الشريعة و ذلك بجريان الأعمال على مقتضى مقاصد الشريعة . و لذلك فإننا نعد علم مقاصد الشريعة علماً واصلاً بين علم العقيدة من جهة و علم الفقه الذي يضبط الأعمال من جهة أخرى . و من مظاهر الخلل المتمثل في ضعف الصلة بين العقيدة و العمل في واقع الأمة الإسلامية ما يلقاه هذا العلم الجليل من زهادة فيه و تهميش له ضمن الثقافة العامة للمسلمين ، و ذلك ما يدعو في نفس الوقت إلى إحيائه و الإهتمام به في نطاق الترشيد العقدي كعامل من عوامل الدفع إلى التحضر .

و قد جاء بحث الدكتور النجار عملاً رائداً يصلح بداية طيبة لتخليص علم العقيدة من ما علق به من أوضار الخلافات التاريخية التي أخرجت هذا العلم عن دوره و وظيفته .

و من جهة أخرى أشار الدكتور عدنان زرزور في بحثه الذي قدمه في مؤتمر علوم الشريعة في الجامعات إلى بعض مجالات تطوير علم العقيدة عندما أضاف نقطة هامة تجدر الإشارة إليها و هي أن أحد أسباب انطفاء فاعلية العقيدة في نفوس المسلمين يكمن في التعامل المغلوط مع أسماء الله الحسنى ، فلا بد من إعادة صلتنا بأسماء الله الحسنى و صفاته إلى وضعها الصحيح و القائم على البحث عن علاقتنا نحن المكلفين – في ساحة العمل و الإبتلاء – بهذه الأسماء و الصفات ، بدلاً من جدل المتكلمين العقيم الذي دار حول الطرف المقابل من هذه المعادلة و هو علاقة الذات بالصفات و الذي لا نملك أداة البحث فيه لأنه من أمور عالم الغيب . إن سر التنوع و التعدد في الأسماء و الصفات هو أنها تقابل و تشمل حركة الإنسان جميعاً من غير استثناء ليتعلق الإنسان بها في جميع حالاته التي تعرض له في واقعه و دنياه .

 

أصــول الـفـقــه

أثبت الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في مقدمة كتابه ” مقاصد الشريعة الإسلامية ” تقييماً شاملاً لعلم أصول الفقه أكّد فيه الطابع التاريخي لنشأة و تدوين هذا العلم عندما قال : ” و قد دعاني إلى صرف الهمة إليه ما رأيت من عسر الإحتجاج بين المختلفين في مسائل الشريعة إذ كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة منها يذعن إليها المكابر و يهتدي بها المشبه عليه “.

و قد يظن ظانّ أن في مسائل علم أصول الفقه غنية لمتطلب هذا الغرض ، بيد أنه إذا تمكن من علم الأصول رأى رأي اليقين أن معظم مسائله مختلف فيها بين النظار ، مستمر بينهم الخلاف في الفروع نظراً للإختلاف في الأصول ، و إن شئت فقل قد استمر بينهم الخلاف في الفروع لأن قواعد الأصول انتزعوها من صفات تلك الفروع ، إذ كان علم الأصول لم يدون إلا بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين ، و لذلك لم يجعل علم الأصول منتهىً ينتهي إلى حكمه المختلفون في الفقه و عسر أو تعذر الرجوع بهم إلى وحدة رأي أو تقريب حال .

على أن معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة و مقصدها و لكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد لفظية تمكِن العارف بها من انتزاع الفروع منها أو من انتزاع أوصاف تؤذن بها تلك الألفاظ يمكن أن تجعل تلك الأوصاف باعثاً على التشريع فتقاس فروع كثيرة على مورد اللفظ منها . . . و بعبارة أقرب تمكن تلك القواعد المتضلع فيها من تأييد فروع انتزعها الفقهاء قبل ابتكار علم الأصول لتكون تلك الفروع بواسطة تلك القواعد مقبولة في نفوس المزاولين لها من مقلدي المذاهب .

و من هنا نجد أن الدعوة إلى تطوير و تجديد علم أصول الفقه لها ما يبررها و خاصة إذا كان المطلوب هو إيجاد ضوابط الفهم عن الوحي لتزكية الواقع لا لتبرير ما وصل إليه علماء السلف فيما اجتهدوا فيه لرفعه إلى منزلة الوحي المعصوم .

و في هذا المجال قدم الدكتور محمد الدسوقي في مؤتمر علوم الشريعة بحثاً عن تطوير علم أصول الفقه ضمنه بعض التوصيات لتجديد هذا العلم و الكتابة فيه و ذلك في أربعة محاور :

1. إلغاء ما ليس من علم الأصول .

2. تدريس المقاصد الشرعية بصورة وافية .

3. تطوير مفاهيم بعض الأدلة .

4. ربط القواعد بالفروع التطبيقية ما أمكن .

فلا بد من إعادة النظر فيما يدخل في علم الأصول و ذلك من خلال معيار عملي قدمه الإمام الشاطبي في مقدمات الموافقات حيث جعل الصلة بالعمل هو معيار ما يمكن اعتباره من الأصول .

و أما الإهتمام بالمقاصد الشرعية فهو الضمان لتحقيق الإرتباط و الوصل بين الأحكام المستنبطة من مدلول النصوص و بين تزكية الواقع بالشريعة . فالتشريع الإلهي منوط بمقاصد و حكم لتحقيق مصالح و إبطال مفاسد ، فالمنهجية التي يؤسس عليها النظر الإجتهادي المقاصدي تتحرى حصول المقاصد من الأحكام و تقوم على معرفة المقاصد العامة للشريعة بما في ذلك خصائصها و أوصافها، ومعرفة المقاصد الخاصة بأنواع التصرفات و بعد ذلك لا بد من تحليل الواقع المراد علاجه تحليلاً علمياً لمعرفة عناصره و عوارضه و خصوصياته و قرائنه ، بما في ذلك النظر في مآلات الأفعال الذي يضمن الواقعية و البعد عن الحرفية و الشكلية . ثم يجري اختيار الوسائل التربوية و القانونية و السياسية العملية التي تضمن حصول المقاصد في الواقع المراد تزكيته . و لا بد من الحذر من الوقوع في التبسيط و الإختزال عند الحديث عن الشريعة و الذي يختزل الشريعة إلى حرام أو حلال أو تطبيق الحدود .

و أما تطوير مفاهيم بعض الأدلة فضرورة عملية و خاصة للقضايا التي تواجه الأمة في حاضرها و جوانب حياتها العامة و الواجبات الكفائية . فالإجماع كدليل شرعي لا بد من تطويره للخروج به من معناه التاريخي و قضاياه النظرية البحتة لجعله وسيلة للإتفاق و الخروج برأي جماعي ملزم . ولعله من المفيد أن يراجع في تحرير المعنى العملي للإجماع إلى ما كتبه الدكتور قطب سانو في العدد الحادي و العشرون من ” إسلامية المعرفة ” حيث أعاد فكرة الإجماع إلى أصل نشأتها كوسيلة للتشاور في القضايا العامة للوصول إلى قرار يمثل قدرة الأمة على مواجهة ما يعتريها من ملمات وتحمل المسؤولية و توحيد الكلمة .

و القياس كذلك لا بد من التوسع في مفهومه و خاصة من خلال تفعيل مفهوم المناسبة الذي قرره علماء الأصول ليكون تحقيق المصالح هو ميداناً للإستنباط و الإجتهاد . و قريب من هذا ما ذهب إليه الدكتور الترابي من استنباط مقاصد الدين من جملة النصوص أو استنباط مصلحة معتبرة من مصالحه ثمّ نتوخى ذلك المقصد و تلك المصلحة حيثما كان بوسائل تتناسب مع الظروف و الحادثات الجديدة . و هذا يقربنا من فقه عمر بن الخطاب لأنه كان فقه مصالع عامة يتحرى مغزى اتجاهات سيرة الشريعة الأولى و يحاول في ضوء ذلك توجيه الحياة المعاصرة .

و لعل مما يضبط التوسع في مفهوم بعض الأدلة حتى يتخذ ذريعة للقول في الدين دون دراية و فقه ، هو الجمع بين الجانب النظري و الجانب العملي التطبيقي و ذلك حتى لا تصبح دراسة القواعد غاية في ذاتها و حتى يتدرب المتعلم كيف يستثمرها في استخراج حكم أو توجيه رأي أو دفع شبهة . و كلما كانت هذه الفروع من الواقع المعاصر كان لها – في جعل المنهج الفقهي أكثر ملاءمة لإجتهاد عملي – دوراً كبيراً مما لو كانت هذه الفروع تاريخية تراثية .

 

علـم التفـسـير

أوجز الدكتور عدنان زرزور في بحثه المقدم في مؤتمر علوم الشريعة الشروط التي تعين على تطوير علم تفسير القرآن بأربعة شروط :

1. استحضار الغرض الأساسي الذي نزل القرآن الكريم من أجله ، أو انطلاقه من هذا الغرض و تأسيسه عليه ، و المتمثل في إخراج الأمة الوسط ( النموذج أو المثال ) التي تشهد على الناس ( سائر الأمم ) الأمر الذي يتيح للمفسر أو يفرض عليه الشهود الحضاري الدائم (وليس الغياب التاريخي المذهل ) . و لا يتحقق مثل هذا الشهود بغير إطراد حركة التفسير ، من جهة ، و بغير الإلمام بحياة الناس أو الأمم الأخرى القائمة من حول المفسر – أو في عصره – و الوقوف على ثقافاتها ، و بخاصة الأمم السائدة على مسرح التاريخ ، أو تلك التي نازعت المسلمين حق الغلبة و السيادة من جهة أخرى .
2. يشترط في التفسير المعاصر ملاحظته للموضوع الأساس للقرآن ، و هو الإنسان و ليس الطبيعة . أي الثقافة و علوم الإنسان و ليس العلم التجريبي أو علوم الكون . فموضوع القرآن هو الإنسان ، وإن الحديث عن الطبيعة جاء في هذا السياق ( توجيه الإنسان إلى الطبيعة و الكون فهماً وتجاوباً و تسخيراً ) . و تأسيساً على هذه الملاحظة أو القاعدة فإن المعاصرة الحقيقية في تفسير القرآن تقتضي الوقوف الطويل – و المقارن – أمام حقائق الإجتماع الإنساني التي جاءت بارزة في القرآن و ممتدة بدءاً بالحديث عن النفس الإنسانية التي كشف القرآن عنها للإنسان ، و وقفه على سبل صلاحها و فلاحها ، و سبل غوايتها و ضلالها ، و مروراً بعد ذلك بالأسرة و روابطها الأخلاقية و الإقتصادية ، و انتهاءً بعوامل قيام المجتمعات و سقوط الأمم و الحضارات .
3. و أخيراً فإن من أبرز شروط التفسير المعاصر : محاولته تجاوز عصر الخلاف ، أو عصر المذهبية الفكرية في تفسير القرآن التي وقع أصحابها في خطأ المقرر الفكري المسبق . إن معظم المفسرين القدامى دخلوا النص القرآني بمثل هذا المقرر ، تأثراً أو استجابةً لنزعة كل منهم الكلامية أو المذهبية . لقد عمدت الفرق الكبرى في الإسلام أو المدارس الكلامية إلى بعض أجزاء صورة الموضوع الواحد ، فجعلتها أصلاً كاملاً أو مقرراً فكرياً مسبقاً ، الأمر الذي اضطرت معه إلى إدخال سائر أجزاء صورة الموضوع الواحد في باب التأويل .
4. و من هنا فإن أي تفسير أو خضوع مباشر للمدلولات القرآنية ، و على النحو الذي ينفي عن آيات القرآن الخلاف أو التعارض ، يعد من أبرز ما يناط بنا من أصول التعامل المعاصر مع القرآن ، و صولاً أو عودة بهذه الأمة الممزقة إلى عصر الفهم الذي يكون الخلاف فيه خلاف تنوع لا خلاف تضادّ . و إذا صادف أن وجدنا أن المعنى أو المدلول الذي تشير إليه آيات الموضوع الواحد، بعد الجمع والتصنيف ، و ملاحظة السياق و السباق ، و مقاصد الشريعة و قواعد الكتاب . . . الخ سبق أن قال به أو ذهب إلى مثله معتزلي أو أشعري مثلاً ، فهذا تفسير للقرآن ، و الذي يذهب إليه من المفسرين و الشّراح في أي عصر لا يسلكه في عداد الأشاعرة أو المعتزلة ، و لا يجوز أن يجعل منه – أي المفسر – مكلفاً محسوباً على تلك الفرق التاريخية أو منتمياً إليها . و لا يجوز لنا بحال أن نؤول معاني الآيات أو مدلولاتها لأننا وجدنا هذا المعنى أو المدلول مطابقاً لما ذهب إليه أحد رجالات تلك الفرق ، كأن كل هؤلاء معصومون عن الصواب أو متعمدون لمخالفة الكتاب ، أو كأن موافقتهم التي جاءت من خلال هذا المنهج السديد في الفهم تحرم و لا تجوز .

الـفـقـه

يكاد الفقه أن يكون العلم الشرعي الوحيد الذي يحظى تطويره و تجديده على الإجماع بين المشتغلين بالعلوم الشرعية نظراً لصلته الوثيقة بالحياة و متغيراتها . و قد كتب كثير من العلماء و الباحثين في هذا الموضوع و لكني وجدت أن ما كتبه الدكتور جمال عطية في ” حوارات لقرن جديد ” يصلح أن يكون ورقة عمل و دليل بحث لتطوير الفقه الإسلامي .

و قد عرض الدكتور عطية ملامح التجديد الفقهي المنشود من خلال اثني عشر ملمحاً رئيسياً رأى أنه لابد للدراسات الفقهية أن تستحضرها و تستصحبها :

1. الملمح الأول و يتعلق بالمادة الفقهية حيث يطلب تقديم اجتهادات جديدة في المسائل القديمة بما يتفق مع تغير الزمان و المكان بما يحقق مقاصد الشريعة . و قد ضرب الكثير من الأمثلة على المسائل التي يتوجب الإجتهاد فيها لعدم مناسبة الأحكام القديمة لما جدّ في حياة الأمة .
2. الملمح الثاني و يتعلق بمصادر المادة الفقهية ، فبالإضافة إلى مراجع الفقه التقليدية لا بد من الإعتناء بمصادر أخرى تتمثل في كتب النوازل و كتب الفتاوى و كتب الأقضية التي تلقي الضوء على كيفية تنزيل الأحكام على الوقائع . و بالإضافة إلى هذا لا بد من الإعتناء بالأبحاث و الدراسات الجامعية و الأبحاث التي قدمت في المؤتمرات و الندوات و ما تصدره المجامع الفقهية من القرارات و التي تعد صورة من صور الإجتهاد الجماعي .
3. الملمح الثالث و يتعلق بضرورة توثيق الآراء الفقهية من مراجعها الأصلية و بيان الأدلة التي يستند إليها الفقيه .
4. الملمح الرابع و يتمثل في بث الروح في الكتابات الفقهية و عدم الوقوف عند شكل العبادات و تجاوزها إلى المضامين الجميلة للشريعة في أحكامها و حكمة تشريعها و اشتمالها على المصالح كما فعل الإمام الغزالي في ” إحياء علوم الدين ” .
5. الملمح الخامس و يتعلق بأهمية إجراء الدراسات المقارنة بين المذاهب بما في ذلك المجتهدين الذين اندثرت مواهبهم ، و مناقشة الأدلة التي يستند عليها كل مذهب و ذلك لتدعيم الوحدة التي أضر بها التقليد و الغفلة عن الأسباب الموضوعية للخلاف .
6. و الملمح السادس و يتعلق بضرورة إجراء المقارنة بين الفقه و القوانين الوضعية في مسائل المعاملات و ذلك لمعرفة نقاط الإتفاق و الإختلاف و ما ينبني على ذلك من العناية بصياغة الفقه و إدارة المعترك السياسي و الإجتماعي الخاص بتطبيق الشريعة .
7. الملمح السابع و يتعلق بضرورة الإهتمام بالجانب التنظيري من الناحية الكلية كنظرية عامة في الشريعة و من الناحية الجزئية في مقدمة كل باب و فصل ، و ذلك لمتابعة المحاولات الرائدة لعلماء الأمة الذين كتبوا في الأصول و القواعد و المقاصد ، و ذلك لتيسير التعلم و تقديم الإسلام كمنظومة مترابظة المقدمات و النتائج و تسهيل مهمة المجتهدين و القضاة في سد الفراغات التشريعية بالإعتماد على القواعد و الإستنباط من الفروع و المقاصد .
8. و الملمح الثامن يتمثل في تصنيف المادة الفقهية تصنيفاً جديداً يراعى فيه ربط الفقه بالعقيدة و الأخلاق و الآداب و السياسة الشرعية و ضوابط العلوم الطبيعية و الإنسانية ، مع مراعاة الوزن النسبي لمختلف الأقسام و الأبواب حسب أهميتها و الحاجة إليها .
9. الملمح التاسع و يتعلق بتخطيط البحوث لتغطية الإعتبارات المشار إليها في ملامح هذا البحث و لإحلال النسق الإسلامي محل النسق الغربي في ترتيب العلوم و الكتابة فيها .
10. و الملمح العاشر يتعلق بتيسير و تبسيط الكتابة في الفقه بلغة مبسطة و أسلوب سهل بعيداً عن وعورة المصطلحات التي لا يفهمها إلا المتخصصين مع الإستفادة من وسائل الإيضاح الممكنة .
11. و الملمح الحادي عشر يتمثل في ربط الفقه بالواقع و ذلك باستبعاد المباحث و الأمثلة التي لم يعد لها وجود في حياتنا المعاصرة ، و التوسع في أحكام الشركات لتشمل أنواع الشركات القائمة حالياً . و كذلك التوسع في زكاة الأموال المتداولة حالياً و كذلك عدم الإقتصار على ذكر المقادير الشرعية في مجال الطهارات و نصاب الزكاة و مقدار المهر و الدية و ترجمة ذلك إلى مقادير يفهمها و يتعامل معها أهل العصر .
12. الملمح الثاني عشر و يتضمن مخاطبة المستويات المختلفة من الناس مراعاة للتدرج في تحصيل العلوم مما يناسب العامة و المراحل التعليمية المختلفة .

و من خلال هذه الملامح يتمكن المدرِّس و المتعلم من امتلاك المعيار العملي للنظر إلى التراث و الإستفادة منه بتكامل و توازن مع النظر إلى الواقع لمعرفة ما يصلحه و يزكيه من وسائل و إجرائيات لتحقيق المقاصد و حكمة الشريعة في إخراج الأمة النموذج القدوة .

 

السيرة النبوية

يشكِّـل تدريس السيرة النبوية حلقة مهمة في تكوين الفهم المتكامل لهدي القرآن الكريم . فحياة وسيرة النبي صلى الله عليه و سلم هي مفتاح الفهم العملي لنموذج الإنسان الرباني و الأمة الوسط التي يريد القرآن أن يبنيها في كل جيل لتقوم الحجة و يتوفر للإنسانية البديل الذي يستنقذها من المعاناة و التيه .

فسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم تشـكِّـل الإطار التاريخي و المنظور الكلي الذي يعين على تفسير كل الجزئيات من الأحاديث و الروايات لوضعها في مكانها و حجمها الصحيح من هدي النموذج القدوة الذي يتجاوز و يمتد إلى ما وراء عصر التنزيل .

فالسيرة من هذا الوجه هي محاولة النبي الكريم تنزيل و تطبيق هدي القرآن الكريم المطلق في ظروف إنسانية لها خصائصها و مقوماتها البشرية النسبية. و قد كان علم الله سبحانه و تعالى محيطاً بمقدمات الإمكان لنشأة المجتمع الأسوة في زمان التنزيل فجعل الرسالة في بيئة يتوفر فيها هذا الإمكان ” و الله أعلم حيث يجعل رسالته ”

و قد وقع المسلمون في دراسة سيرة نبيهم في أخطاء منهجية كثيرة حرمتهم الإستفادة منها في توجيه حياتهم و بنائها بهدي القرآن :

– فمن ناحية وجدت نماذج من الغلو الذي يكاد يجعل النبي شخصية لاهوتية أو في نطاق اللاهوتية . فلا بد من التحري للروايات التي تولع بالغرائب و المعجزات للوقوف في هذا الشأن عند ما تقرره و تشهد له آيات القرآن الكريم أو السنة الصحيحة .

– و من ناحية أخرى لم تدَرس السيرة في إطار سنني يضع أفعال النبي الكريم في إطار الممكن الإنساني في زمان التنزيل وبيئة صحراء العرب لبيان حكمة النبي في معرفة هذا الممكن و استثماره إلى أبعد مدى كما تقتضي ذلك الرؤية السننية الصارمة. وهذا التوجه يجعل أسوة النبي الكريم من خلال مقاصد تصرفات النبي و مراميها و آثارها في تنزيل الهدي و ليس من خلال عين التصرفات و المواقف إلا فيما يثبت وجوب أخذه حرفياً من شعائر و عقائد و عبادات .

– و وقعت بعض دراسات السيرة في اختزال السيرة الغنية الزاخرة بدلالاتها و إيحاءاتها إلى أحد عناصرها و كانت النتيجة فهماً أحادياً يتجاهل دلالات العناصر الأخرى من حياة النبي الكريم.

– إهتم علماء الحديث بضبط المرويات عن النبي صلى الله عليه و سلم ، و كان اهتمامهم منصباً على النواحي التشريعية من حلال و حرام . و قد تساهل العلماء في شروط قبول المرويات المتعلقة بالتاريخ و الأخبار فكانت النتيجة أن حوت كتب السيرة على كثير من الأخبار الواهية التي تحتاج إلى الضبط والمراجعة والتنقيح باستعمال شروط المحدثين في قبول الروايات المتعلقة بالأحكام .

– اعتمدت كتب السيرة المجرى الزمني في تقسيم الأحداث إلى الأيام و السنين بما عرف في كتابة التاريخ باسم الحوليات ، و قد أضر هذا المنهج أحياناً في جعل القصة الواحدة قطعاً متنافرة متناثرة لا يضمها إطار واحد لفهم أبعادها و مراميها و سائر جوانبها .

 

و قد كتب كثير من العلماء في السيرة محاولين تصحيح ما وقع من أخطاء أو قصور في الفهم وحاول الكثير أن يمد آفاق فهم السيرة لتكون قادرة على التجاوب مع الظروف و الحادثات الجديدة . و يبدو أنه لا يغني كتاب عن كتاب و لا توجه عن آخر و خاصة إذا فهم الأمر من باب التنوع و التكامل في عرض دروس السيرة و تمثيلها للهدي القرآني .

 

فقه التنزيل

دعا عدد من العلماء إلى جعل فقه التنزيل مقرراً جديداً في العلوم الشرعية . و يتناول مثل هذا العلم دراسة الشروط الإجتماعية لتنزيل أو تطبيق الأحكام بما في ذلك مسألة مرحلية الأحكام المتعلقة بالدولة و علاقاتها بالدول و المجتمعات الأخرى غير الإسلامية .

و يتعلق فقه التنزيل بمعرفة الواقع انطلاقاً من تقرير كليات النظر إلى النفس الإنسانية و المجتمعات البشرية و كيفية التعامل مع التنوع و الإختلاف ، و كيفية النظر إلى خصائص المجتمعات و الأعراف و التقاليد و مزاج القبائل و الشعوب .

إن فقه التنزيل و معرفة وسائل توجيه السلوك الإنساني ليحقق المقاصد العامة للشريعة و المقاصد الخاصة للتصرفات و وجوه المعاملات يؤول عند النظر إلى الدراية بآليات سبر الواقع و معرفته و الإلمام بقرائنه و ما يحف به من أمور و ما يؤثر في سلوك الناس و عواقب التصرفات على المدى البعيد و القريب .

و قد ينفع في بيان هذا الأمر النظر إلى ما قرره ابن القيم في ” إعلام الموقعين ” في تعليقه على رسالة عمر بن الخطاب في القضاء حيث قال: فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ” قال ابن القيم : “و لا يتمكن المفتي و لا الحاكم من الفتوى و الحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم : أحدهما فهم الواقع و الفقه فيه و استنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن و الأمارات و العلامات حتى يحيط به علماً ، والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، و هو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثمّ يطبق أحدهما على الآخر ” .

و هنا لابد من التنبيه أن فقه الواقع بهذه السعة و هذا الشمول لا يستقل به علماء و دارسو الشريعة و خاصة أننا نعيش عصر التخصص و ثورة المعلومات . و من هنا لا بد أن يكون فقه التنزيل مهمة جماعية يتولى فيها علماء الشريعة استنباط المقاصد و التوجهات العامة بما في ذلك ترتيب الأولويات و تترك تفصيلات التقنين و ضبط الوسائل و الإجراءات إلى المختصين الذين يعلمون من واقع مهنتهم و مآلات الأفعال و التصرفات فيها ما لا يستطيعه سواهم . و بهذا يكون فقه التنزيل مشروعاً جماعياً للأمة بكل فئاتها و خبراتها بعيداً عن عقلية الوصاية و التنطع و الإختزال .
والحمد لله رب العالمين

نقلاً عن موقع الرشاد

كُتب في المناهج | التعليقات على التعليم الديني: واقع وآفاق مغلقة

إشارات مباشرة في القرآن الكريم إلى الرأي العام

يوجد في القرآن الكريم إشارات عديدة مباشرة وشديدة الوضوح حول الرأي العام، وهي تعطي مدلولات واسعة وتوجيهات دقيقة في محاور عديدة ، وقد حاولتُ استقصاءها قدر الإمكان مع بيان مدلول الرأي العام في كل آية ، وكانت النتائج كما يلي:

أكمل قراءة التدوينة

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على إشارات مباشرة في القرآن الكريم إلى الرأي العام مغلقة

الذين صنعوا بدمهم بداية الاستقلال الإسلامي

أبطال باخرة مافي مرمرة: نقطة تحوّل في التضامن الدولي

بناءً على تقارير موثوقة حول الاعتداء على أسطول الحرية، يبدو أن جنود كوماندوز اسرائيليين هاجموا باخرة المافي مرمرة و أطلقوا عليها النار قبيل الدنو منها في المياه الدولية.

كما أنهم توقعوا أن يقمعوا القبطان و الركاب الشجعان عن طريق العنف المسلح. هذا التعدي يتبع نهجاً صهيونياً معروف في مهاجمة المدنيين غير المسلحين بدءاً من سحق ريتشل كوري حتى إطلاق النار على باسم أبو رحمة. ولكن يبدو أيضاً أن الأمور لم تسر كما توقعه الصهاينة هذه المرة. قاوم ركاب المافي مرمرة. قرروا أنهم لن يسمحوا للصهاينة أن يستولوا على باخرتهم بشكل غير قانوني. قرروا أن يقاوموا إطلاق النار و الضرب و التعذيب بالكهرباء و الخطف.

لقد برر الجيش الاسرائيلي قتلهم لنشطاء الأسطول بأنهم لم يردوا بشكل سلمي على السطو المسلح على باخرتهم. يقتضي الاستعمار أن دفاع المظلومين عن أنفسهم يبرر عنف الظالم المميت. غزا الجنود الباخرة و هم يطلقون النار. لا ندري كم شخصاً كانوا سيقتلون ما لم يلاقوا مقاومة. كان من المحتمل استمرار المذبحة في سائر الباخرة.

تظهر صور بثها التلفزيون التركي الجنود متكتلين مع بعضهم و هم ينكمشون في جهة من الباخرة حاملين أسلحتهم. بدا عليهم الرعب و هم يواجهون أشخاصاً بالغين ليس لديهم غير العصي و الأنابيب، و هؤلاء الجنود مدربون في قتل الأطفال ذوي التسع سنوات الذين يرمون الحجارة. تفتح مقاومة ركاب باخرة المافي مرمرة باباً جديدة في حركة التضامن. كان اختيارهم للمقاومة عملاً بطولياً. استخدموا أجسادهم و شجاعتهم لمقاومة الجنود المسلحين. فكانت النتيجة أن الصهاينة لم يتمكنوا من التظاهر بالنصر السهل.

رغم أنهم منعوا القافلة إلا أنهم لم يستطيعوا تحمل العواقب هذه المرة. فشلت عمليتهم بكل معنى الكلمة أمام كل جمهور. نص الإعلام “الاسرائيلي” بوضوح أن العملية باءت بالفشل لأن جنودهم أصيبوا. هذه نقطة في غاية الأهمية. لا يأبه المستعمرون العنصريون بالدمار و الوحشية التي تلحق بالشعب المحتل و يتوقعون أن يكون الدمار على درجة عالية من التقدم التقني لكي يحميهم من أي عواقب قد تلحق بهم.

لذلك كانت هجوماتهم على لبنان في ٢٠٠٦ و غزة في ٢٠٠٨ هزائم جسيمة بالنسبة لهم. أدرك منسقو الأسطول مقدماً أن الصهاينة كانوا سيستخدمون العنف الوحشي لإيقافهم ولكنهم اتخذوا القرار الشجاع بمجابهة الحصار. صرح كثير من النشطاء، خاصة الأتراك منهم، عن ثباتهم لإكمال مهمتهم و نيل الشهادة في سبيل فلسطين. هزمت دماؤهم سيف الاسرائيليين. كما كشفوا عن نفاق ما يسمى “بالقانون الدولي” و مجلس الأمن و “دبلوماسية” أوباما و الالتزام الأوروبي “بحقوق الإنسان”.

ضحوا بحياتهم لرفع الحصار عن غزة و امتثلوا قدوة للآخرين. يستحق الذين توفوا على متن المافي مرمرة التكريم بصفتهم شهداء المقاومة.

جنغز اكيوز، ٤١، اسكندرون، تركيا، متزوج و لديه ثلاثة أطفال

علي حيدر بنجي، ٣٨، دياربكر، تركيا، متزوج و لديه أربعة أطفال

إبراهيم بلغن، ٦١، سيرت، تركيا، متزوج و لديه ستة أطفال

فرقان دوغان، ١٩، أمريكي من أصل تركي. أطلق عليه الرصاص بطريقة الإعدام خمس مرات في الرأس

جودت كيليكلار، ٣٨، صحفي من قيصري، تركيا، متزوج و لديه طفلان

جنغز سونغر، ٤٧، متزوج و لديه سبعة أطفال

ستين تتوپكوغلو، ٥٤، ادانا، تركيا، بطل تايكواندو، متزوج و لديه طفل

فاهري يلديز، ٤٣، اديامان، تركيا، رجل مكافحة الحريق، متزوج و لديه أربعة أطفال

نجدت يلدريم، ٣٢، مالاتيا، تركيا، ناشط في منظمة حقوق الإنسان، متزوج و لديه طفل.

Translated in Arabic by

Gulagnik translator Saja

كُتب في المناهج | التعليقات على الذين صنعوا بدمهم بداية الاستقلال الإسلامي مغلقة

إشارات عامة في القرآن الكريم حول الرأي العام (2)

هذه هي الحلقة الثانية عن الرأي العام وأهميته في القرآن الكريم … وتتحدث عن الإشارات العامة حول الموضوع الذي مازال يلزم المسلمين الكثير من فقهه وإدراك آلياته .. ولعل القارئ يربط بينه وبين ما يجري من مستجدات … فعجز العرب خلال عشرات السنين ظهر أنه يمكن تبديد أجزاء منه بشهداء موقف … وظهر أن الحنكة السياسية طويلة النفس قد تساهم في قلب الرأي العام الدولي (أقول تساهم ولم تقلب بعد) … كما أن الوعي تجاه ما يستخدمه الآخرون ضروري جداً فثمانين بالمائة من الكلمة والدعاية والصورة التي تصدر في العالم منشؤها الولايات المتحدة، ومنذ شهرين لم يعد يتحدث قادة الغرب عن دول عربية تواجه [إسرائيل] بل عن جيران [إسرائيل] !!! فقد قررت إلغاءنا من الوجود الإعلامي، مقدمة للإلغاء الوجودي، وهو درس مباشر في كيفية اللعب بالرأي العام وتبديله بشكل ماكر .
أكمل قراءة التدوينة

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على إشارات عامة في القرآن الكريم حول الرأي العام (2) مغلقة

إشارات عامة في القرآن الكريم حول الرأي العام (1)

هناك إشارات كثيرة في القرآن الكريم حول موضوع الرأي العام ؛ بعضها مباشر وبعضها غير مباشر ولكنها في النهاية تبني رأياً عاماً ذا توجه واضح ، بل نستطيع القول إن أساس عمل الأنبياء كان زرع الهداية في كل جنبات المجتمع ، وتقوية روح الإيمان فيه ، وذلك بهداية الأفراد والمجتمعات معاً ؛ أي تحويل الرأي العام القائم على الباطل إلى رأي عام حامل للحق  ، وهناك دائماً توجيه نحو نصرة الحق ، وتعرية الباطل إضافة إلى الحث على الترابط والتعاون والمؤازرة على ثلاثة مستويات: الجماعة المسلمة ، فالأمة المسلمة ، فالبشرية جمعاء :

أكمل قراءة التدوينة

كُتب في كلمة الشهر | التعليقات على إشارات عامة في القرآن الكريم حول الرأي العام (1) مغلقة

الحرية مبدأ أصيل في الإسلام .. للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي

يعتقد بعض الشباب أن الدين ضد الحرية، كما يتساءل الشباب الملتزم بحدود دينه، الراغب فى الإيمان، عن كيفية تجنب الوقوع فى فعل يغضب الله أو يضر بالأخرين دون أن يتعارض ذلك مع مفهوم الحرية الشخصية، فما هي طبيعة وماهية الحرية التى جاء بها الإسلام؟

تلقى فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سؤالا مفاده : ما موقف الإسلام من الحرية ؟ وما هي الحرية التي جاء بها الإسلام؟ وما حدودها ؟

وردا على ذلك، قال العلامة الشيخ القرضاوي:

بسم الله ، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ..

جاء الإسلام فقرر مبدأ الحرية، وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلمته المشهورة في ذلك: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا . وقال علي بن أبي طالب في وصية له: لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرًا. فالأصل في الناس أنهم أحرار بحكم خلق الله، وبطبيعة ولادتهم … هم أحرار، لهم حق الحرية… وليسوا عبيدًا .. جاء الإسلام فأقر الحرية في زمن كان الناس فيه مستعبدين: فكريًا ، وسياسيًا، واجتماعيًا، ودينيًا، واقتصاديًا، جاء فأقر الحرية، حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، وحرية القول، والنقد، أهم الحريات التي يبحث عنها البشر.. جاء الإسلام وهو دين، فأقر الحرية الدينية، حرية الاعتقاد. فلم يبح أبدًا أن يكره الناس على اعتناقه، أو اعتناق سواه من الأديان وأعلن في ذلك قول الله عز وجل: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99)، هذا في العهد المكي، وفي العهد المدني جاء في سورة البقرة (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ)ِ (البقرة: من الآية 256)، وسبب نزول هذه الآية يبين لنا إلى أي مدى وصل الإسلام في تقديس الحرية، وفي تكريم هذا المعنى، وتأكيد هذا المبدأ.

فقد كان الأوس والخزرج في الجاهلية إذا امتنعت المرأة من الحمل فنذرت إذا ولدت ولدًا هودته، أي جعلته من يهود، وهكذا نشأ بين الأوس والخزرج هاتين القبيلتين العربيتين بعض أبناء يهود، فلما جاء الإسلام وأكرمهم الله بهذا الدين وأتم عليهم نعمته، أراد بعض الآباء أن يعيدوا أبناءهم إلى الإسلام دينهم، ودين الأمة في ذلك الحين، وأن يخرجوهم من اليهودية، ورغم الظروف التي دخلوا فيها اليهودية، ورغم الحرب التي بين المسلمين وبين اليهود، لم يبح الإسلام إكراه أحد على الخروج من دينه وعلى الدخول في دين آخر ولو كان هو الإسلام. فقال:(لا إكراه في الدين) في وقت كانت الدولة البيزنطية تقول: إما التنصير وإما القتل. وكان المصلحون الدينيون في فارس يتهمون بأشنع التهم، وهكذا…

لم يكن مبدأ الحرية قد جاء نتيجة تطور في المجتمع، أو ثورة طالبت به، أو نضوج وصل إليه الناس، وإنما كان مبدأ أعلى من المجتمع في ذلك الحين.. جاء مبدأ من السماء، ليرتفع به أهل الأرض، جاء الإسلام ليرقى بالبشرية، بتقرير هذا المبدأ، مبدأ حرية الاعتقاد، وحرية التدين، ولكن هذا المبدأ الذي أقره الإسلام مشروط ومقيد أيضًا بألا يصبح الدين ألعوبة في أيدي الناس.. كما قال اليهود: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (آل عمران:من الآية 72)، آمنوا الصبح وفي آخر النهار تولوا: لقد وجدنا دين محمد صفته كذا وكذا ..فتركناه. أو آمنوا اليوم واكفروا غدًا .. أو بعد أسبوع.. شنعوا على هذا الدين الجديد.. أراد الله سبحانه ألا يكون هذا الدين ألعوبة، فمن دخل في الإسلام بعد اقتناع وبعد وعي وبصيرة فليلزمه، وإلا تعرض لعقوبة الردة. فالحرية الأولى حرية التدين والاعتقاد.

أما الحرية الثانية فهي حرية التفكير.. والنظر .. فقد جاء الإسلام يدعو الناس إلى النظر في الكون ، وإلى التفكر، ( إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا) سبأ:46 ، (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(يونس:101) ، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46).

حمل الإسلام حملة شعواء على الذين يتبعون الظنون والأوهام وقال:( وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (لنجم: من الآية 28)، على الذين يتبعون الهوى وعلى الذين يقلدون الآباء، أو يقلدون الكبراء والرؤساء، حمل على أولئك الذين يقولون يوم القيامة: (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب: من الآية67) وحمل على أولئك الذين يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(الزخرف: من الآية23) وجعلهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا.. حمل على المقلدين والجامدين ودعا إلى حرية التفكير وإلى إعمال العقل وإعمال النظر، وصاح في الناس صيحته (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: من الآية111) واعتمد في إثبات العقيدة الإسلامية على الأدلة العقلية، ولهذا قال علماء الإسلام: “إن العقل الصريح أساس النقل الصحيح” العقل أساس النقل.. فقضية وجود الله قامت بإثبات العقل، وقضية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إنما ثبتت بإثبات العقل أولا، فالعقل هو الذي يقول: هذا رسول، قامت البينة على صدقه ودلت المعجزات على صحة نبوته، ويقول العقل: هذا كذاب وهذا دجال ليس معه بينة، وليس معه معجزة. فهذا هو احترام الإسلام للعقل، وللفكر.

ومن هنا ظهر في الإسلام نتيجة للحرية الفكرية، الحرية العلمية، وجدنا العلماء يختلفون، ويخطئ بعضهم بعضا، ويرد بعضهم على بعض، ولا يجد أحد في ذلك حرجًا. نجد في الكتاب الواحد: المعتزلي، والسني، والكشاف لإمام معتزلي وهو الزمخشري. نجد أهل السنة ينتفعون به، ولا يرون حرجًا في ذلك.. كل ما يمكن أن يأتي رجل من أهل السنة وعلمائهم كابن المنير يعمل حاشية عليه باسم “الانتصاف من الكشاف” أو يأتي إمام. كالحافظ ابن حجر فيؤلف كتابه “الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف”. وهكذا فكان العلماء ينتفع بعضهم بكتب بعض، وبآراء بعض ورأينا اختلاف الفقهاء وسعة صدورهم في الخلاف بين بعضهم وبعض، هذا كله يدل على حرية الفكر وعلى الحرية العلمية، في داخل الأمة الإسلامية.

وحرية القول والنقد أيضًا، أقرها الإسلام، بل جعل ما هو أكثر من الحرية إذ جعل القول والنقد -إذا تعلقت به مصلحة الأمة، ومصلحة الأخلاق والآداب العامة- أمرًا واجبًا.. أن تقول الحق، لا تخاف في الله لومة لائم ، أن تأمر بالمعروف، أن تنهى عن المنكر، أن تدعو إلى الخير، أن تقول للمحسن: أحسنت، وللمسيء: أسأت. هذا ينتقل من حق إلى واجب إذا لم يوجد غيرك يقوم به. إو إذا كان سكوتك يترتب عليه ضرر في الأمة، أو فساد عام، حين ذاك يجب أن تقول الحق، لا تخشى ما يصيبك (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(لقمان: من الآية17) ، هذا ما وصل إليه الإسلام.. ليس في الإسلام أن تكتم أنفاس الناس ولا أن يلجم الناس بلجام فلا يتكلموا إلا بإذن، ولا يؤمنوا إلا بتصريح، كما قال فرعون لسحرته: (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ )(طـه: من الآية71) يريد ألا يؤمن الناس إلا إذا أذن، وألا يتكلم الناس إلا بتصريح من السلطات العليا .. لا..

جاء الإسلام فأباح للناس أن يفكروا.. بل أمرهم أن يفكروا وأباح للناس أن يعتقدوا ما يرون أنه الحق، بل أوجب عليهم ألا يعتنقوا إلا ما يعتقدون أنه الحق وأوجب على صاحب العقيدة أن يحمي عقيدته ولو بقوة السلاح، وأمر المسلمين أن يدافعوا عن حرية العقيدة حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، بحد السيف، وبحد السلاح تحمى الحرية، ويمنع الاضطهاد حتى لا تكون فتنة، أي لا يفتن أحد في عقيدته وفي دينه . وقال الله تعالى في أول آية نزلت في شرعية القتال والجهاد في الإسلام (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا )(الحج: من الآية39) قال فيها: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً )(الحج: من الآية40) لولا أن قيض الله مثل المؤمنين المسلمين بسيوفهم يدافعون عن الحرية.. وعن الحريات العامة، ما استطاع أحد أن يعبد الله في الأرض، وما وجدت كنيسة، ولا بيعة ولا مسجد، ولا أي معبد يذكر فيه اسم الله كثيرًا، فهذا هو الإسلام، جاء بهذه الحريات.. جاء بالحرية ولكنها حرية الحقوق، وليست حرية الكفر والفسوق.ليست الحرية التي يزعمونها اليوم، حرية شخصية هكذا يسمونها.. أي أن تزني، وأن تشرب الخمر، وأن ترتكب الموبقات كما تشاء، ثم بالنسبة للأمور الأخرى التي تتعلق بالمصلحة “لا حرية” لا تنقد، لا تقل ما تعتقد، لا تقل للمحسن أحسنت، لا تقل للأعرج: أنت أعرج، لا.. إنما لك الحرية الشخصية. حرية إفساد نفسك، إفساد أخلاقك، إفساد ضميرك، إفساد عبادتك، إفساد أسرتك، لك الحرية في ذلك..إذا كان هذا هو معنى الحرية، فالإسلام لا يقر هذه الحرية، لأنها حرية الفسوق لا حرية الحقوق، إنما الإسلام يقر الحرية حرية التفكير، حرية العلم، حرية الرأي والقول والنقد، حرية الاعتقاد ، والتدين، هذه الحريات التي تقوم عليها الحياة، حرية التعاقد حرية التصرف بما لا يؤذي أحدًا، حرية التملك بالشروط والقيود المشروعة، بدون ضرر ولا ضرار.. فهذه هي القاعدة العامة في الإسلام: (لا ضرر ولا ضرار). فأي حرية ترتب عليها ضرر لنفسك، أو ضرار لغيرك، يجب أن تمنع، ويجب أن تقيد في هذه الحالة فإن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية غيرك، أما أن تدعي الحرية ثم تدوس الناس، هذا لا يقول به أحد. لك حرية المرور في الطريق، ولكن على أن تلتزم آداب المرور، لا تصدم الناس، ولا تصدم السيارات، ولا تدس المشاة، ولا تخترق قوانين المرور، وهذا التقييد لحريتك، أن تقف والضوء أحمر، أو أن تمشي على الجانب الأيمن، أو غير ذلك، هذا التقييد من المصلحة العامة، وكل دين وكل نظام لا بد أن يوجد فيه مثل هذه القيود، وهذا ما جاء به الإسلام، وهذا أفضل ما يمكن أن تصل إليه البشرية.

نقلاً عن موقع الدكتور القرضاوي: http://www.qaradawi.net/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=5029&version=1&template_id=130&parent_id=17

كُتب في المناهج | التعليقات على الحرية مبدأ أصيل في الإسلام .. للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي مغلقة