التعليم الديني: واقع وآفاق

الأستاذ رياض أدهمي

هناك سمة هامة في ثقافة و عقلية الشعوب الإسلامية لا يكاد الناظر إلى هذه الشعوب أن يخطئ هذه السمة و يدرك عمقها في تكوينها الثقافي و النفسي عبر التاريخ.

و يمكن تلخيص هذه السمة الهامة بأن هذه الأمة عندما تتعرض للأزمات و التحديات فإنها دائماً ترى الإسلام ذخراً و رصيدأً لا تشك في قيمته و قدرته على مدّ الأمة بعناصر الصمود و الحياة ، و ترى – بحق – أن أزماتها و مصائبها كانت نتيجة للتخلف عن تمثل و فهم و تطبيق الدين و مقتضياته ، فيعكف أهل الرأي منهم على كشف الثغرات في فهم الدين و طريقة تنزيله و تطبيقه ، في دورات متعاقبة من التجديد و محاولات الإصلاح و النهوض و ذلك في إطار إيمان لا يخالطه شك بمعقولية الدين و صلاحية تعاليمه و قدرتها على الإصلاح .

و من خلال هذا الفهم للعلاقة بين فهم الدين و صلاح الواقع انطلقت حركات و قامت مؤسسات و دارت مناقشات و حوارات تتحدث عن التجديد و ترسم معالمه و آفاقه و شروطه و ضوابطه ، و كان نصيباً مهماً من الحديث عن التجديد يتناول المعاهد و المدارس التي تتولى مهمة نشر و تعليم علوم الشريعة .

و شهد كثير من البلاد الإسلامية قيام معاهد جديدة مثل دار العلوم في مصر و كليات للشريعة في الجامعات ، و شهدت المؤسسات القديمة مثل الأزهر و الزيتونة إصلاحات و تغييرات في المناهج و طرق التدريس . كل ذلك في حركة دائبة استمرت قرناً من الزمان و حال الأمة لم يشهد تغييراً نوعياً في مشكلاته و معاناته و استمر الشعور بالأزمة حيث فشلت الأمة في تحقيق مستوىً مقبول من الحضور بين أمم الأرض يفرض الإحترام و يؤكد الإعتزاز بالنفس و يثبت الفعالية و القدرة على العطاء و تجاوز الضعف و التبعية و الوهن .

و من خلال هذا الفشل و استمرار الشعور بالأزمة تتابع الحديث عن التجديد في فهم الشريعة في محاولة للخروج من المأزق الذي يهدد وجود الأمة و كيانها .

و قد عثرت أثناء البحث في أدبيات التجديد على وثيقة مهمة تضمنت البحوث و الدراسات التي قدمت في مؤتمر علم الشريعة في الجامعات و الذي عقد في عـمّـان صيف 1994 . و تكتسب البحوث المقدمة في هذا المؤتمر أهمية خاصة حيث قدمت من باحثين يعملون في مجال التعليم و التدريس لعلوم الشريعة في جامعات متعددة و بلاد مختلفة ، و من ناحية أخرى جاءت هذه البحوث تلخص تجربة قرن من عمر الأمة في ظروف مليئة بالمواجهات و التحديات و التغيرات الجذرية على كل صعيد .

و قد بدا واضحا أن ابتعاد علوم الشريعة عن الحياة و ما يجري فيها كان الهاجس المخيم على البحوث و الأوراق المقدمة و المقررات و التوصيات الصادرة عن المؤتمر . فقد تكررت قضية التعامل مع الواقع و العصر بشكل ملحّ حيث لم تخل فقرة من المقررات و التوصيات من التأكيد على أهمية استحضار هذه القضية و التعامل معها .

ففيما يتعلق بعلوم الشريعة و تطويرها نجد هدف المراجعة الواجبة لمضمون العلوم الشرعية يبدأ بتمكين الطالب من التعامل مع ما يستجد من الواقعات و ما يكتنف المجتمعات المعاصرة في عالم اليوم من متغيرات .

و فيما يتعلق بالخطط و البرامج نجد هدف تأهيل الدعاة و القيادات القادرة على بحث القضايا المعاصرة .

و فيما يتعلق بالمنهج الدراسي نجد ضرورة تحديد الأهداف التربوية التي من أجلها تدرس مواد علوم الشريعة ، و نجد ضرورة تطوير المحتوى الدراسي للمواد لوصلها باحتياجات العصر و التفاعل مع مقتضيات العصر.

و فيما يتعلق بالبحوث و الدراسات و الإنتاج العلمي نجد ضرورة ايجاد منهجية للتعامل مع التراث الغربي باعتباره عاملاً مؤثراً في تشكيل عقل الإنسان العاصر و ثقافته ، و نجد ضرورة ايجاد منهجية لبناء العلاقة بين معارف الوحي و العلوم الإنسانية و الإجتماعية .

و قد لخص الدكتور عدنان زرزور في بحثه الذي قدمه في المؤتمر الأزمة التي يعاني منها تدريس علوم الشريعة و أصاب جوهرها عندما قال : ” و لطالما راود كثيراً منا شعور بأن جزءاً ضخماً مما يلقونه على أسماع طلابهم أو يطالبونهم بحفظه أو تحضيره يقع في دائرة التاريخ أو أنه مبتوت الصلة بالواقع الذي يعيشونه و الحياة التي سوف يخوضون غمارها .

لقد أدت علوم الشريعة في عصر النشأة وظيفتها الإجتماعية بوجهٍ عام ، و لكن هذه العلوم لم تعد بعد إلى أداء هذه الوظيفة . . . و ذلك يعود في المقام الأول إلى عجزنا نحن عن ربط هذه العلوم بحياة الفرد و الجماعة . و في وسعنا حين نطور هذه العلوم بهذا الإتجاه أن تعود مرة أخرى إلى أداء هذه الوظيفة الإجتماعية ، و يكاد يكون فحوى هذا التطوير: نفي الطابع التاريخي عن هذه العلوم .

و المنهجية الإصلاحية لا يكفي فيها التطعيم أو الإضافة لبعض المقررات و البحوث المعاصرة – قلّت أم كثرت – بل لا بد من إعادة النظر في محتوى أو مفردات علوم الشريعة وفي كيفية أدائها لوظيفتها الإجتماعية ، و تفعيل هذا الأداء ، أو إعادة بث الروح فيه مرة أخرى بعد أن أخلت هذه الوظيفة أو تنازلت عنها لما يسمى العلوم الإنسانية و الإجتماعية إلى حد كبير ”

و من الواضح أن المهمة التي يجب أن يتصدى لها علماء الأمة و مفكروها هي على قدر كبير من التشعب و الخطورة و تتطلب أوقاتاً و جهوداً لا تسنح غالباً في زحمة الأعباء و المسؤوليات .

و في هذه الورقة سأحاول تتبع بعض الإرهاصات و البدايات الطيبة لبعض العلماء و الباحثين و محاولاتهم في تطوير مضمون العلوم الشرعية و إعادة صياغتها . و لا شك أن محاولة تطوير مضمون العلوم الشرعية يتطلب الكثير من الصبر و الكثير من الشجاعة ، فالذين يتشبثون بما انتهت إليه علوم الشريعة منذ قرون و لم يحسوا بعد بضرورة التطوير سيصابون بالفزع و سيفهمون محاولات التطوير بأنها عبث بالشريعة و علومها و ثوابتها . فلا بد من الصبر و الدأب و الثبات و البعد عن استفزازات الإنتصار للنفس ، و لا بد أن يدرك الجميع أن التطوير إن لم يأت من خلال جهود العلماء و المفكرين الذين يغارون على الأمة و هويتها و رسالتها الكونية و الذين يفكرون ضمن رؤية منهجية رصينة ، فسيأتي التغيير مفروضاً من وصايات المصالح السياسية بكل ما تملك من الإمكانيات و الوسائل للتمويه و التشويه و التزوير .

و قد كانت مشاركة و مساهمات العلماء في تجديد الفكر الديني تسير في وجهتين متكاملتين :

1. تهتم الوجهة الأولى من البحوث بتفاصيل القضايا و تفاصيل المسائل في فروع علوم الشريعة .
2. وتهتم الوجهة الثانية منهما بكليات المسائل الشرعية و تأصيل منهجيات البحث ابتداءً بتقرير المرجعية المطلقة للقرآن الكريم و إعادة السنة إلى موضعها الطبيعي بياناً للقرآن و مثالاً عملياً لتفعيل كليات القرآن في ظروف التنزيل ، و منهجية القراءة المتوازنة المتكاملة لسنن الكون من خلال إعادة الإعتبار لطبائع العمران و ثبات السنن و معقولية التعامل مع القضايا الإجتماعية و الإنسانية ، بالإضافة إلى منهجية مقاصد الشريعة التي تنطوي على كمون خصيب لا بد من استثماره و توظيفه لإعادة صياغة مفردات علوم الشريعة بما يكفل ردم الفجوة بين التوجه التاريخي الذي جمد على قضاياه و مسائله و تصنيفاته و بين التوجه الواقعي الذي يعيد صياغة قضايا الشريعة من خلال استحضار خصائص الشريعة العالمية الخاتمة و يحاول فهم الواقع من خلال التمكن من التعامل مع آليات فهم الواقع والتي تولت العلوم الإجتماعية و الإنسانية دراستها و التفصيل فيها .
ونظراً لأهمية المنطلقات المنهجية للتجديد و التطوير فقد غلب على الإنتاج العلمي الحديث عن هذه المسائل المنهجية إيماناً من المساهمين بأولوية تأصيل المنهج و تأسيس القواعد ، و إيماناً منهم بأن التطوير و التجديد سيكون شكلياً عديم الفائدة ما لم يستحضر الكليات و الأصول بما في ذلك الواقع بثقله و تعقيده لأنه يمثل هدف التزكية من ناحية ، و يمثل معيار النجاح لتنزيل و تطبيق الأصول و المبادئ من ناحية أخرى .

و على الرغم من قلة البحوث التي تتناول موضوع تطوير مضمون العلوم الشرعية لأن هذا الموضوع بطبيعته يحتاج إلى جهود جماعية و تشاور و تناصح للخروج بما يشبه الإجماع ، فسأحاول في هذه الورقة عرض بعض ما عثرت عليه مما يمكن اتخاذه أسوة و قدوة من بحوث رائدة يتهيب الخوض فيها كثيرون .

* * * *

العـقـيــدة

في بحث قدمه الدكتور عبد المجيد النجار بعنوان ” دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية ” ” مجلة إسلامية المعرفة العدد الأول ” عرض إلى نشأة علم الكلام و كيف كان مدلول العقيدة يشمل مساحات من القضايا تزداد حسب ما كان يتعرض له المسلمون من التحديات الخارجية من قبل أهل الأديان و الثقافات الأخرى أو تحديات داخلية من قبل تفاعلات الحياة الإجتماعية . و بمرور الزمن أصبح كثير من متأخري المسلمين يقع في نفوسهم الظن بأن مدلول العقيدة الإسلامية إنما هو محدود بحدود المسائل التي انتظمها علم العقيدة و انغلق عليها بحكم توقفه عن النمو قروناً طويلة .

و لو تأملت أوضاع المسلمين من حيث مدلول العقيدة في أفهامهم كما انتهى إليه الأمر منذ قرون و كما هو معلوم عند عامة المسلمين بل عند كثير من خاصتهم المتعلمين و عند بعض المتخصصين في علوم الدين ، لو تأملت لوجدت أن هذا المدلول يتركز على القضايا الأساسية في العقيدة و هي الإيمان بالله و النبوة و الوحي و الملائكة و اليوم الآخر و القدر و ما هو مندرج ضمنها ، و أنه لا يتسع لمسائل أخرى ذات معانٍ عقدية أيضاً يُـدخل التصديق بها في دائرة الإيمان و يُـخرج التكذيب بها إلى دائرة الكفر و من أمثلتها مسألة حاكمية الشريعة الإسلامية و موالاة الكفار و الروح كجزء من التركيب الإنساني و مهمة الخلافة في الأرض كغاية لحياة الإنسان و العدالة الإجتماعية كقاعدة في بناء المجتمع ، فهذه المسائل و أمثالها رغم ما لها من مدخل في تحقيق الإيمان و عدمه إلا أنها لا تدخل اليوم ضمن دائرة المدلول العقدي عند كثير من المسلمين و إنما هي عندهم مسائل شرعية لا ترقى إلى درجة الإعتقاد و لا تراها تدرج في اهتماماتهم التعليمية و الدعوية ضمن المؤلفات و البيانات العقدية .

و قد أدى هذا الإنحسار في مدلول العقيدة في الذهنية الإسلامية إلى نزوع هذا المدلول منزعاً تجريدياً ابتعد به عن وجوه الحياة العملية حيث أصبحت الأذهان تنصرف في تحملها للعقيدة إلى عالم الغيب دون وصل له بعالم الشهادة من واقع الحياة الجارية ، و كان لذلك انعكاس سيئ على الحياة العملية للمسلمين إذ تقاعست الحياة عن الإندفاع نحو التعمير في الأرض باستثمار الكون و ترقية الإنسان بالحرية و العدالة و السعي الدؤوب لتحقيق الخلافة ، فهذه مسائل خارجة في دائرة الوعي عن أن تكون مسائل عقدية .

وقد دعا الدكتور النجار في بحثه إلى ترشيد مدلول العقيدة و ما يستلزمه من إدخال العديد من المفاهيم في الوعي العقدي للأمة لإعادة الأمور إلى نصابها و الوضع الذي كانت عليه في النصوص . و تتنوع القضايا التي يجب إدخالها إلى الوعي العقدي إلى قضايا ذات بعد استخلافي و بعضها ذات بعد اجتماعي و آخر ذو بعد كوني و رابع تشريعي و هي في عمومها ذات صلة ببعضها و تبلغ مبلغ التداخل .

و القضايا ذات البعد الإستخلافي تشمل حقيقة خلافة الإنسان في الأرض باعتبارها المهمة التي خلق الإنسان من أجلها ، و تشمل أيضاً حقيقة الإنسان في نفسه و في تركيبه من مادة و روح ، و في قيمته الذاتية و منزلته في الكون ، كما تشمل أيضاً شهادة الأمة الإسلامية على الناس باعتبارها المهمة التي أناطها الله سبحانهبها إزاء الأمم تبليغاً للدعوة إليها و إنقاذاً لها من الضلال و تنويراً لها بالعلم و الدين و قياماً إزاءها بالقسط و العدل .

و القضايا ذات البعد الإجتماعي تشمل حقيقة العدالة الإجتماعية و حقيقة التكافل بين أفراد الأمة و كفالة الأمة لأفرادها و حقيقة الحرية الشخصية و العامة بضوابطها و حقيقة حق الإنسان في التكريم المادي و المعنوي .

و قضايا ذات البعد الكوني تشمل قضية تسخير الكون للإنسان و أنه معدٌّ لأجله و منفتح لعطائه و ممهد له لينجز مهمته التي خلق من أجلها ، و قضية الرفق بالكون و الحفاظ عليه من الفساد و التدمير

و القضايا ذات البعد التشريعي تشمل كل أحكام الشريعة من حيث الإيمان بحقيقتها حيث يفضي جحودها و التكذيب بها إلى الإنحلال من الإيمان و انتقاضه .

و قد عقد الدكتور النجار في بحثه فصلاً خاصاً عن إحياء المدلول العملي للعقيدة بمعنى الوصل بين العقيدة و الشريعة و ذلك بجريان الأعمال على مقتضى مقاصد الشريعة . و لذلك فإننا نعد علم مقاصد الشريعة علماً واصلاً بين علم العقيدة من جهة و علم الفقه الذي يضبط الأعمال من جهة أخرى . و من مظاهر الخلل المتمثل في ضعف الصلة بين العقيدة و العمل في واقع الأمة الإسلامية ما يلقاه هذا العلم الجليل من زهادة فيه و تهميش له ضمن الثقافة العامة للمسلمين ، و ذلك ما يدعو في نفس الوقت إلى إحيائه و الإهتمام به في نطاق الترشيد العقدي كعامل من عوامل الدفع إلى التحضر .

و قد جاء بحث الدكتور النجار عملاً رائداً يصلح بداية طيبة لتخليص علم العقيدة من ما علق به من أوضار الخلافات التاريخية التي أخرجت هذا العلم عن دوره و وظيفته .

و من جهة أخرى أشار الدكتور عدنان زرزور في بحثه الذي قدمه في مؤتمر علوم الشريعة في الجامعات إلى بعض مجالات تطوير علم العقيدة عندما أضاف نقطة هامة تجدر الإشارة إليها و هي أن أحد أسباب انطفاء فاعلية العقيدة في نفوس المسلمين يكمن في التعامل المغلوط مع أسماء الله الحسنى ، فلا بد من إعادة صلتنا بأسماء الله الحسنى و صفاته إلى وضعها الصحيح و القائم على البحث عن علاقتنا نحن المكلفين – في ساحة العمل و الإبتلاء – بهذه الأسماء و الصفات ، بدلاً من جدل المتكلمين العقيم الذي دار حول الطرف المقابل من هذه المعادلة و هو علاقة الذات بالصفات و الذي لا نملك أداة البحث فيه لأنه من أمور عالم الغيب . إن سر التنوع و التعدد في الأسماء و الصفات هو أنها تقابل و تشمل حركة الإنسان جميعاً من غير استثناء ليتعلق الإنسان بها في جميع حالاته التي تعرض له في واقعه و دنياه .

 

أصــول الـفـقــه

أثبت الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في مقدمة كتابه ” مقاصد الشريعة الإسلامية ” تقييماً شاملاً لعلم أصول الفقه أكّد فيه الطابع التاريخي لنشأة و تدوين هذا العلم عندما قال : ” و قد دعاني إلى صرف الهمة إليه ما رأيت من عسر الإحتجاج بين المختلفين في مسائل الشريعة إذ كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة منها يذعن إليها المكابر و يهتدي بها المشبه عليه “.

و قد يظن ظانّ أن في مسائل علم أصول الفقه غنية لمتطلب هذا الغرض ، بيد أنه إذا تمكن من علم الأصول رأى رأي اليقين أن معظم مسائله مختلف فيها بين النظار ، مستمر بينهم الخلاف في الفروع نظراً للإختلاف في الأصول ، و إن شئت فقل قد استمر بينهم الخلاف في الفروع لأن قواعد الأصول انتزعوها من صفات تلك الفروع ، إذ كان علم الأصول لم يدون إلا بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين ، و لذلك لم يجعل علم الأصول منتهىً ينتهي إلى حكمه المختلفون في الفقه و عسر أو تعذر الرجوع بهم إلى وحدة رأي أو تقريب حال .

على أن معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة و مقصدها و لكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد لفظية تمكِن العارف بها من انتزاع الفروع منها أو من انتزاع أوصاف تؤذن بها تلك الألفاظ يمكن أن تجعل تلك الأوصاف باعثاً على التشريع فتقاس فروع كثيرة على مورد اللفظ منها . . . و بعبارة أقرب تمكن تلك القواعد المتضلع فيها من تأييد فروع انتزعها الفقهاء قبل ابتكار علم الأصول لتكون تلك الفروع بواسطة تلك القواعد مقبولة في نفوس المزاولين لها من مقلدي المذاهب .

و من هنا نجد أن الدعوة إلى تطوير و تجديد علم أصول الفقه لها ما يبررها و خاصة إذا كان المطلوب هو إيجاد ضوابط الفهم عن الوحي لتزكية الواقع لا لتبرير ما وصل إليه علماء السلف فيما اجتهدوا فيه لرفعه إلى منزلة الوحي المعصوم .

و في هذا المجال قدم الدكتور محمد الدسوقي في مؤتمر علوم الشريعة بحثاً عن تطوير علم أصول الفقه ضمنه بعض التوصيات لتجديد هذا العلم و الكتابة فيه و ذلك في أربعة محاور :

1. إلغاء ما ليس من علم الأصول .

2. تدريس المقاصد الشرعية بصورة وافية .

3. تطوير مفاهيم بعض الأدلة .

4. ربط القواعد بالفروع التطبيقية ما أمكن .

فلا بد من إعادة النظر فيما يدخل في علم الأصول و ذلك من خلال معيار عملي قدمه الإمام الشاطبي في مقدمات الموافقات حيث جعل الصلة بالعمل هو معيار ما يمكن اعتباره من الأصول .

و أما الإهتمام بالمقاصد الشرعية فهو الضمان لتحقيق الإرتباط و الوصل بين الأحكام المستنبطة من مدلول النصوص و بين تزكية الواقع بالشريعة . فالتشريع الإلهي منوط بمقاصد و حكم لتحقيق مصالح و إبطال مفاسد ، فالمنهجية التي يؤسس عليها النظر الإجتهادي المقاصدي تتحرى حصول المقاصد من الأحكام و تقوم على معرفة المقاصد العامة للشريعة بما في ذلك خصائصها و أوصافها، ومعرفة المقاصد الخاصة بأنواع التصرفات و بعد ذلك لا بد من تحليل الواقع المراد علاجه تحليلاً علمياً لمعرفة عناصره و عوارضه و خصوصياته و قرائنه ، بما في ذلك النظر في مآلات الأفعال الذي يضمن الواقعية و البعد عن الحرفية و الشكلية . ثم يجري اختيار الوسائل التربوية و القانونية و السياسية العملية التي تضمن حصول المقاصد في الواقع المراد تزكيته . و لا بد من الحذر من الوقوع في التبسيط و الإختزال عند الحديث عن الشريعة و الذي يختزل الشريعة إلى حرام أو حلال أو تطبيق الحدود .

و أما تطوير مفاهيم بعض الأدلة فضرورة عملية و خاصة للقضايا التي تواجه الأمة في حاضرها و جوانب حياتها العامة و الواجبات الكفائية . فالإجماع كدليل شرعي لا بد من تطويره للخروج به من معناه التاريخي و قضاياه النظرية البحتة لجعله وسيلة للإتفاق و الخروج برأي جماعي ملزم . ولعله من المفيد أن يراجع في تحرير المعنى العملي للإجماع إلى ما كتبه الدكتور قطب سانو في العدد الحادي و العشرون من ” إسلامية المعرفة ” حيث أعاد فكرة الإجماع إلى أصل نشأتها كوسيلة للتشاور في القضايا العامة للوصول إلى قرار يمثل قدرة الأمة على مواجهة ما يعتريها من ملمات وتحمل المسؤولية و توحيد الكلمة .

و القياس كذلك لا بد من التوسع في مفهومه و خاصة من خلال تفعيل مفهوم المناسبة الذي قرره علماء الأصول ليكون تحقيق المصالح هو ميداناً للإستنباط و الإجتهاد . و قريب من هذا ما ذهب إليه الدكتور الترابي من استنباط مقاصد الدين من جملة النصوص أو استنباط مصلحة معتبرة من مصالحه ثمّ نتوخى ذلك المقصد و تلك المصلحة حيثما كان بوسائل تتناسب مع الظروف و الحادثات الجديدة . و هذا يقربنا من فقه عمر بن الخطاب لأنه كان فقه مصالع عامة يتحرى مغزى اتجاهات سيرة الشريعة الأولى و يحاول في ضوء ذلك توجيه الحياة المعاصرة .

و لعل مما يضبط التوسع في مفهوم بعض الأدلة حتى يتخذ ذريعة للقول في الدين دون دراية و فقه ، هو الجمع بين الجانب النظري و الجانب العملي التطبيقي و ذلك حتى لا تصبح دراسة القواعد غاية في ذاتها و حتى يتدرب المتعلم كيف يستثمرها في استخراج حكم أو توجيه رأي أو دفع شبهة . و كلما كانت هذه الفروع من الواقع المعاصر كان لها – في جعل المنهج الفقهي أكثر ملاءمة لإجتهاد عملي – دوراً كبيراً مما لو كانت هذه الفروع تاريخية تراثية .

 

علـم التفـسـير

أوجز الدكتور عدنان زرزور في بحثه المقدم في مؤتمر علوم الشريعة الشروط التي تعين على تطوير علم تفسير القرآن بأربعة شروط :

1. استحضار الغرض الأساسي الذي نزل القرآن الكريم من أجله ، أو انطلاقه من هذا الغرض و تأسيسه عليه ، و المتمثل في إخراج الأمة الوسط ( النموذج أو المثال ) التي تشهد على الناس ( سائر الأمم ) الأمر الذي يتيح للمفسر أو يفرض عليه الشهود الحضاري الدائم (وليس الغياب التاريخي المذهل ) . و لا يتحقق مثل هذا الشهود بغير إطراد حركة التفسير ، من جهة ، و بغير الإلمام بحياة الناس أو الأمم الأخرى القائمة من حول المفسر – أو في عصره – و الوقوف على ثقافاتها ، و بخاصة الأمم السائدة على مسرح التاريخ ، أو تلك التي نازعت المسلمين حق الغلبة و السيادة من جهة أخرى .
2. يشترط في التفسير المعاصر ملاحظته للموضوع الأساس للقرآن ، و هو الإنسان و ليس الطبيعة . أي الثقافة و علوم الإنسان و ليس العلم التجريبي أو علوم الكون . فموضوع القرآن هو الإنسان ، وإن الحديث عن الطبيعة جاء في هذا السياق ( توجيه الإنسان إلى الطبيعة و الكون فهماً وتجاوباً و تسخيراً ) . و تأسيساً على هذه الملاحظة أو القاعدة فإن المعاصرة الحقيقية في تفسير القرآن تقتضي الوقوف الطويل – و المقارن – أمام حقائق الإجتماع الإنساني التي جاءت بارزة في القرآن و ممتدة بدءاً بالحديث عن النفس الإنسانية التي كشف القرآن عنها للإنسان ، و وقفه على سبل صلاحها و فلاحها ، و سبل غوايتها و ضلالها ، و مروراً بعد ذلك بالأسرة و روابطها الأخلاقية و الإقتصادية ، و انتهاءً بعوامل قيام المجتمعات و سقوط الأمم و الحضارات .
3. و أخيراً فإن من أبرز شروط التفسير المعاصر : محاولته تجاوز عصر الخلاف ، أو عصر المذهبية الفكرية في تفسير القرآن التي وقع أصحابها في خطأ المقرر الفكري المسبق . إن معظم المفسرين القدامى دخلوا النص القرآني بمثل هذا المقرر ، تأثراً أو استجابةً لنزعة كل منهم الكلامية أو المذهبية . لقد عمدت الفرق الكبرى في الإسلام أو المدارس الكلامية إلى بعض أجزاء صورة الموضوع الواحد ، فجعلتها أصلاً كاملاً أو مقرراً فكرياً مسبقاً ، الأمر الذي اضطرت معه إلى إدخال سائر أجزاء صورة الموضوع الواحد في باب التأويل .
4. و من هنا فإن أي تفسير أو خضوع مباشر للمدلولات القرآنية ، و على النحو الذي ينفي عن آيات القرآن الخلاف أو التعارض ، يعد من أبرز ما يناط بنا من أصول التعامل المعاصر مع القرآن ، و صولاً أو عودة بهذه الأمة الممزقة إلى عصر الفهم الذي يكون الخلاف فيه خلاف تنوع لا خلاف تضادّ . و إذا صادف أن وجدنا أن المعنى أو المدلول الذي تشير إليه آيات الموضوع الواحد، بعد الجمع والتصنيف ، و ملاحظة السياق و السباق ، و مقاصد الشريعة و قواعد الكتاب . . . الخ سبق أن قال به أو ذهب إلى مثله معتزلي أو أشعري مثلاً ، فهذا تفسير للقرآن ، و الذي يذهب إليه من المفسرين و الشّراح في أي عصر لا يسلكه في عداد الأشاعرة أو المعتزلة ، و لا يجوز أن يجعل منه – أي المفسر – مكلفاً محسوباً على تلك الفرق التاريخية أو منتمياً إليها . و لا يجوز لنا بحال أن نؤول معاني الآيات أو مدلولاتها لأننا وجدنا هذا المعنى أو المدلول مطابقاً لما ذهب إليه أحد رجالات تلك الفرق ، كأن كل هؤلاء معصومون عن الصواب أو متعمدون لمخالفة الكتاب ، أو كأن موافقتهم التي جاءت من خلال هذا المنهج السديد في الفهم تحرم و لا تجوز .

الـفـقـه

يكاد الفقه أن يكون العلم الشرعي الوحيد الذي يحظى تطويره و تجديده على الإجماع بين المشتغلين بالعلوم الشرعية نظراً لصلته الوثيقة بالحياة و متغيراتها . و قد كتب كثير من العلماء و الباحثين في هذا الموضوع و لكني وجدت أن ما كتبه الدكتور جمال عطية في ” حوارات لقرن جديد ” يصلح أن يكون ورقة عمل و دليل بحث لتطوير الفقه الإسلامي .

و قد عرض الدكتور عطية ملامح التجديد الفقهي المنشود من خلال اثني عشر ملمحاً رئيسياً رأى أنه لابد للدراسات الفقهية أن تستحضرها و تستصحبها :

1. الملمح الأول و يتعلق بالمادة الفقهية حيث يطلب تقديم اجتهادات جديدة في المسائل القديمة بما يتفق مع تغير الزمان و المكان بما يحقق مقاصد الشريعة . و قد ضرب الكثير من الأمثلة على المسائل التي يتوجب الإجتهاد فيها لعدم مناسبة الأحكام القديمة لما جدّ في حياة الأمة .
2. الملمح الثاني و يتعلق بمصادر المادة الفقهية ، فبالإضافة إلى مراجع الفقه التقليدية لا بد من الإعتناء بمصادر أخرى تتمثل في كتب النوازل و كتب الفتاوى و كتب الأقضية التي تلقي الضوء على كيفية تنزيل الأحكام على الوقائع . و بالإضافة إلى هذا لا بد من الإعتناء بالأبحاث و الدراسات الجامعية و الأبحاث التي قدمت في المؤتمرات و الندوات و ما تصدره المجامع الفقهية من القرارات و التي تعد صورة من صور الإجتهاد الجماعي .
3. الملمح الثالث و يتعلق بضرورة توثيق الآراء الفقهية من مراجعها الأصلية و بيان الأدلة التي يستند إليها الفقيه .
4. الملمح الرابع و يتمثل في بث الروح في الكتابات الفقهية و عدم الوقوف عند شكل العبادات و تجاوزها إلى المضامين الجميلة للشريعة في أحكامها و حكمة تشريعها و اشتمالها على المصالح كما فعل الإمام الغزالي في ” إحياء علوم الدين ” .
5. الملمح الخامس و يتعلق بأهمية إجراء الدراسات المقارنة بين المذاهب بما في ذلك المجتهدين الذين اندثرت مواهبهم ، و مناقشة الأدلة التي يستند عليها كل مذهب و ذلك لتدعيم الوحدة التي أضر بها التقليد و الغفلة عن الأسباب الموضوعية للخلاف .
6. و الملمح السادس و يتعلق بضرورة إجراء المقارنة بين الفقه و القوانين الوضعية في مسائل المعاملات و ذلك لمعرفة نقاط الإتفاق و الإختلاف و ما ينبني على ذلك من العناية بصياغة الفقه و إدارة المعترك السياسي و الإجتماعي الخاص بتطبيق الشريعة .
7. الملمح السابع و يتعلق بضرورة الإهتمام بالجانب التنظيري من الناحية الكلية كنظرية عامة في الشريعة و من الناحية الجزئية في مقدمة كل باب و فصل ، و ذلك لمتابعة المحاولات الرائدة لعلماء الأمة الذين كتبوا في الأصول و القواعد و المقاصد ، و ذلك لتيسير التعلم و تقديم الإسلام كمنظومة مترابظة المقدمات و النتائج و تسهيل مهمة المجتهدين و القضاة في سد الفراغات التشريعية بالإعتماد على القواعد و الإستنباط من الفروع و المقاصد .
8. و الملمح الثامن يتمثل في تصنيف المادة الفقهية تصنيفاً جديداً يراعى فيه ربط الفقه بالعقيدة و الأخلاق و الآداب و السياسة الشرعية و ضوابط العلوم الطبيعية و الإنسانية ، مع مراعاة الوزن النسبي لمختلف الأقسام و الأبواب حسب أهميتها و الحاجة إليها .
9. الملمح التاسع و يتعلق بتخطيط البحوث لتغطية الإعتبارات المشار إليها في ملامح هذا البحث و لإحلال النسق الإسلامي محل النسق الغربي في ترتيب العلوم و الكتابة فيها .
10. و الملمح العاشر يتعلق بتيسير و تبسيط الكتابة في الفقه بلغة مبسطة و أسلوب سهل بعيداً عن وعورة المصطلحات التي لا يفهمها إلا المتخصصين مع الإستفادة من وسائل الإيضاح الممكنة .
11. و الملمح الحادي عشر يتمثل في ربط الفقه بالواقع و ذلك باستبعاد المباحث و الأمثلة التي لم يعد لها وجود في حياتنا المعاصرة ، و التوسع في أحكام الشركات لتشمل أنواع الشركات القائمة حالياً . و كذلك التوسع في زكاة الأموال المتداولة حالياً و كذلك عدم الإقتصار على ذكر المقادير الشرعية في مجال الطهارات و نصاب الزكاة و مقدار المهر و الدية و ترجمة ذلك إلى مقادير يفهمها و يتعامل معها أهل العصر .
12. الملمح الثاني عشر و يتضمن مخاطبة المستويات المختلفة من الناس مراعاة للتدرج في تحصيل العلوم مما يناسب العامة و المراحل التعليمية المختلفة .

و من خلال هذه الملامح يتمكن المدرِّس و المتعلم من امتلاك المعيار العملي للنظر إلى التراث و الإستفادة منه بتكامل و توازن مع النظر إلى الواقع لمعرفة ما يصلحه و يزكيه من وسائل و إجرائيات لتحقيق المقاصد و حكمة الشريعة في إخراج الأمة النموذج القدوة .

 

السيرة النبوية

يشكِّـل تدريس السيرة النبوية حلقة مهمة في تكوين الفهم المتكامل لهدي القرآن الكريم . فحياة وسيرة النبي صلى الله عليه و سلم هي مفتاح الفهم العملي لنموذج الإنسان الرباني و الأمة الوسط التي يريد القرآن أن يبنيها في كل جيل لتقوم الحجة و يتوفر للإنسانية البديل الذي يستنقذها من المعاناة و التيه .

فسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم تشـكِّـل الإطار التاريخي و المنظور الكلي الذي يعين على تفسير كل الجزئيات من الأحاديث و الروايات لوضعها في مكانها و حجمها الصحيح من هدي النموذج القدوة الذي يتجاوز و يمتد إلى ما وراء عصر التنزيل .

فالسيرة من هذا الوجه هي محاولة النبي الكريم تنزيل و تطبيق هدي القرآن الكريم المطلق في ظروف إنسانية لها خصائصها و مقوماتها البشرية النسبية. و قد كان علم الله سبحانه و تعالى محيطاً بمقدمات الإمكان لنشأة المجتمع الأسوة في زمان التنزيل فجعل الرسالة في بيئة يتوفر فيها هذا الإمكان ” و الله أعلم حيث يجعل رسالته ”

و قد وقع المسلمون في دراسة سيرة نبيهم في أخطاء منهجية كثيرة حرمتهم الإستفادة منها في توجيه حياتهم و بنائها بهدي القرآن :

– فمن ناحية وجدت نماذج من الغلو الذي يكاد يجعل النبي شخصية لاهوتية أو في نطاق اللاهوتية . فلا بد من التحري للروايات التي تولع بالغرائب و المعجزات للوقوف في هذا الشأن عند ما تقرره و تشهد له آيات القرآن الكريم أو السنة الصحيحة .

– و من ناحية أخرى لم تدَرس السيرة في إطار سنني يضع أفعال النبي الكريم في إطار الممكن الإنساني في زمان التنزيل وبيئة صحراء العرب لبيان حكمة النبي في معرفة هذا الممكن و استثماره إلى أبعد مدى كما تقتضي ذلك الرؤية السننية الصارمة. وهذا التوجه يجعل أسوة النبي الكريم من خلال مقاصد تصرفات النبي و مراميها و آثارها في تنزيل الهدي و ليس من خلال عين التصرفات و المواقف إلا فيما يثبت وجوب أخذه حرفياً من شعائر و عقائد و عبادات .

– و وقعت بعض دراسات السيرة في اختزال السيرة الغنية الزاخرة بدلالاتها و إيحاءاتها إلى أحد عناصرها و كانت النتيجة فهماً أحادياً يتجاهل دلالات العناصر الأخرى من حياة النبي الكريم.

– إهتم علماء الحديث بضبط المرويات عن النبي صلى الله عليه و سلم ، و كان اهتمامهم منصباً على النواحي التشريعية من حلال و حرام . و قد تساهل العلماء في شروط قبول المرويات المتعلقة بالتاريخ و الأخبار فكانت النتيجة أن حوت كتب السيرة على كثير من الأخبار الواهية التي تحتاج إلى الضبط والمراجعة والتنقيح باستعمال شروط المحدثين في قبول الروايات المتعلقة بالأحكام .

– اعتمدت كتب السيرة المجرى الزمني في تقسيم الأحداث إلى الأيام و السنين بما عرف في كتابة التاريخ باسم الحوليات ، و قد أضر هذا المنهج أحياناً في جعل القصة الواحدة قطعاً متنافرة متناثرة لا يضمها إطار واحد لفهم أبعادها و مراميها و سائر جوانبها .

 

و قد كتب كثير من العلماء في السيرة محاولين تصحيح ما وقع من أخطاء أو قصور في الفهم وحاول الكثير أن يمد آفاق فهم السيرة لتكون قادرة على التجاوب مع الظروف و الحادثات الجديدة . و يبدو أنه لا يغني كتاب عن كتاب و لا توجه عن آخر و خاصة إذا فهم الأمر من باب التنوع و التكامل في عرض دروس السيرة و تمثيلها للهدي القرآني .

 

فقه التنزيل

دعا عدد من العلماء إلى جعل فقه التنزيل مقرراً جديداً في العلوم الشرعية . و يتناول مثل هذا العلم دراسة الشروط الإجتماعية لتنزيل أو تطبيق الأحكام بما في ذلك مسألة مرحلية الأحكام المتعلقة بالدولة و علاقاتها بالدول و المجتمعات الأخرى غير الإسلامية .

و يتعلق فقه التنزيل بمعرفة الواقع انطلاقاً من تقرير كليات النظر إلى النفس الإنسانية و المجتمعات البشرية و كيفية التعامل مع التنوع و الإختلاف ، و كيفية النظر إلى خصائص المجتمعات و الأعراف و التقاليد و مزاج القبائل و الشعوب .

إن فقه التنزيل و معرفة وسائل توجيه السلوك الإنساني ليحقق المقاصد العامة للشريعة و المقاصد الخاصة للتصرفات و وجوه المعاملات يؤول عند النظر إلى الدراية بآليات سبر الواقع و معرفته و الإلمام بقرائنه و ما يحف به من أمور و ما يؤثر في سلوك الناس و عواقب التصرفات على المدى البعيد و القريب .

و قد ينفع في بيان هذا الأمر النظر إلى ما قرره ابن القيم في ” إعلام الموقعين ” في تعليقه على رسالة عمر بن الخطاب في القضاء حيث قال: فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ” قال ابن القيم : “و لا يتمكن المفتي و لا الحاكم من الفتوى و الحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم : أحدهما فهم الواقع و الفقه فيه و استنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن و الأمارات و العلامات حتى يحيط به علماً ، والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، و هو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثمّ يطبق أحدهما على الآخر ” .

و هنا لابد من التنبيه أن فقه الواقع بهذه السعة و هذا الشمول لا يستقل به علماء و دارسو الشريعة و خاصة أننا نعيش عصر التخصص و ثورة المعلومات . و من هنا لا بد أن يكون فقه التنزيل مهمة جماعية يتولى فيها علماء الشريعة استنباط المقاصد و التوجهات العامة بما في ذلك ترتيب الأولويات و تترك تفصيلات التقنين و ضبط الوسائل و الإجراءات إلى المختصين الذين يعلمون من واقع مهنتهم و مآلات الأفعال و التصرفات فيها ما لا يستطيعه سواهم . و بهذا يكون فقه التنزيل مشروعاً جماعياً للأمة بكل فئاتها و خبراتها بعيداً عن عقلية الوصاية و التنطع و الإختزال .
والحمد لله رب العالمين

نقلاً عن موقع الرشاد

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.