دراسة عالمية على 114 دولة: سورية وعدد من الدول العربية يصرفون نصف دخلهم تقريباً على الطعام

بقلم: الدكتور: نادر الشيخ الغنيمي
منشور في العدد (98) من مجلة الإقتصادي

يطلّ علينا بشكل مستمر مسؤولون اقتصاديون عرب، وهم يعتبرون أنهم حقّقوا إنجازاً في سعيهم لدخول بلادهم المجالات التجارية التي فرضتها العولمة الحديثة كمنظمة التجارة العالمية أو الشراكة الأوروبية. لقد غفل هؤلاء المسؤولون كغيرهم من الاقتصاديين المنبهرين بالعولمة الجديدة أن حسناءهم بالرغم من قامتها الممشوقة إلا أنها عوراء. هذه الاتفاقيات كلها سمحت بانتقال الأموال والسلع والخدمات دون حواجز، ولكنها غفلت عن أمر مهم وهو حرية انتقال الإنسان أو العمل الذي يشكّل القيمة الأساسية لأي سلعة أو خدمات. فالدول الغنية تصرّ على حرية انتقال السلع والخدمات والأموال، وترفع قضايا أمام منظمة التجارة العالمية على كل من ينصب حواجز أمام السلع والخدمات، ولكن هذه الدول الغنية تنصب الحواجز وتضع العوائق على انتقال العاملين إليها.

ماذا نتج عن ذلك؟ لقد نتج عنه أمر خطير أضرّ بالدول الفقيرة بشكل كبير، وهو أن العامل فيها يتقاضى أجراً متدنياً، ولكن عليه أن يشتري السلع بسعر يقارب السعر الذي يشتري به المواطن في الدول الغنية والذي يتقاضى أضعاف راتبه. لماذا لم ينتبه المسؤولون عن السياسة الاقتصادية في البلدان العربية إلى هذا الأمر؟ لأن كثيرين منهم ببساطة يعيشون بعيداً عن مستوى دخل المواطن، والأخطر من ذلك أن الكثير منهم لا يقرؤون صحفهم المحلية ويعتبرون أنفسهم فوق مستوى تلقّي الانتقادات من قبل إعلامهم المحلي، ويشكّكون دوماً في إمكانية أن يكون الإعلاميون في بلادهم على دراية في تلك الملفات.

مع سائق تاكسي

استقليت في أحد الأيام سيارة أجرة، وأثناء الدردشة مع السائق تبيّن لي أن عنده من الوعي لما يحصل في العولمة الحديثة أكثر من كثير من الخبراء, لقد طرح مشكلته بشكل واضح، فسألني: ما الفرق ما بين العمل الذي أؤديه والعمل الذي يؤديه أي سائق سيارة أجرة في دولة أوروبية، علماً أنني أعمل لأكثر من 14 ساعة يومياً، ولا أكاد أجني ما يكفيني لكفاية رمق عائلتي. قبل أن أغادر السيارة نصحته بأن يعمل سائقاً لدى مجلس الوزراء فسألني مستغرباً: وهل المعاشات هناك مجزية؟ أجبته لا، ولكن قد يسمعك أحد من الفريق الاقتصادي لعلك تكون سبباً في نزوله إلى الشارع.

ما دفعني لكتابة هذه المقالة أن مجلة الاقتصادي قرّرت إجراء استبيان تسأل فيه عمّا ينفقه المواطن على طعامه وعلى نفقاته الأخرى، فأحببت أن أرجع إلى إحصائيات عالمية فوقعت على إحصائية مهمة أجراها مركز الدراسات الاقتصادية التابع لوزارة الزراعة الأميركية Economic Researches Service ERS، وهو أجرى دراسة في عام 1996 شملت 114 دولة تبين فيه الفارق الكبير مابين النسبة التي يصرفها العرب وغيرهم من الدول على طعامهم مقارنة بمصروفهم الإجمالي. فمثلاً يصرف المصري 48.1% من مصروفه الإجمالي على طعامه، أما السوري فيصرف 47.92% من مجمل مصاريفه على الطعام، واليمني 61.13%، واللبناني 39.33%، والأردني 37.66%، والتونسي 35.94%، والتركي 32.6%، أما الدول الغنية فيصرف الأميركي الأقل في العالم 9.7%، أما ألمانيا فيصرف المواطن فيها 13.1% من مجمل مصاريفه على الطعام، والسويدي 13.3%، والسويسري 14.6%.

قبل أن ينبري بعض المنظّرين للدعوة إلى أن يقلّل العربي من كمية طعامه، أرفق خريطة عن العالم تبيّن فيها أن مجمل العرب يأكلون مثل الشعب الكندي أي 2800 سعرة حرارية في اليوم، بينما الأميركي الذي يدفع الأقل على طعامه فهو مثله مثل دول الخليج، حيث يستهلك المواطن 3300 سعرة حرارية يومياً.

رقابة فعلية

شكّل الغذاء نصف ما ينفقه المواطن العربي على غذائه، ولكن هذا كان في عام 1996 قبل أن تحدث تطوّرات اقتصادية في الكثير من الدول العربية تم فيها تحرير الأسعار دون رقابة فعلية من الجهات المختصة، ما أدّى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير تزامناً مع ارتفاع الأسعار العالمي، ولكن كما هي الحال في معظم الأسواق العربية يرفع التجار الأسعار حين ارتفاعها عالمياً ثم لا تهبط مع هبوطها عالمياً. ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن إرهاق كاهل المواطن بسعر الغذاء جعل جلّ دخله يذهب على مصاريف الغذاء، وبالتالي لا تبقى لديه سيولة كافية للإنفاق على سلع وخدمات أخرى ما يؤدي إلى حرمان الاقتصاد المحلي من النمو. وبما أن نهاية الطعام هي طرحه كفضلات، لذا فإن أكثر من نصف ما ينفقه المواطن العربي يذهب إلى المجارير، فنصف ثروات هذه الدول تنتهي في المجاري.

لقد شكّل ثمن الغذاء عبئاً حقيقياً وعائقاً أمام مسيرة التنمية في المجتمعات العربية، ونحن نجزم أنه لا تنمية حقيقية ما لم يتم التعامل مع هذه المشكلة بحزم وإيجاد الحلول الجذرية لرفع هذا العبء الثقيل عن المواطن العربي. ولنرجع إلى الإحصائيات مجدّداً فإنه حسب مركز ERS الأميركي كان ما يصرفه الشعب الأميركي في عام 1939 على طعامه 25% من مصاريفه الإجمالية، ثم وصل في الستينيات من القرن الماضي إلى20%، وفي الثمانينيات 15%، وفي التسعينيات 11.7% والآن 9.7%. بينما نجد أن الأرقام في ارتفاع في العالم العربي مع مرور الأيام .

وأخيراً في عام 2009 شكّل الإنفاق على الغذاء 6.1% من دخل المواطن الأميركي و10.9% من دخل المواطن الألماني، و21.7% من دخل المواطن المكسيكي، و28.2% من دخل المواطن الصيني، و36.7% من دخل المواطن الروسي، و39.4% من دخل المواطن الهندي، أما نسبة ما ينفقه المواطن السوري على طعامه فنترك لاستبيان الاقتصادي أن يطلعنا عليه.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.