مقتطفات من غياث الأمم للجويني – 6

765 – فإن قيل : أطلقتم تصويرَ عموم التحريم ، فأبينوا ما أبهمتموه وأوضحوا ما أجملتموه .
قلنا إذا استولى الظلَمة ، وتهجَّم على أموال الناس الغاشمون ، ومدّوا أيديهم اعتداءً إلى أملاكهم ، ثم فرقوها في الخلق وبثوها ، وفسدت مع ذلك الساعات ، وحادت عن سَنَنِ الشرع المعاملات ، وتعدى ذلك إلى ندور الأقوات ، وتمادى على ذلك الأوقات وامتدت الفترات ، ولا خفاءَ بتصوير ما نحاوله .
ثم إذا ظهر ما ذكرناه ، ترتبت عليه الشبهات ، فإذا جاز أخذُ الكفايةِ من المحرمات ، لم يخفَ جوازُه في مظان الشبهات .

766 – ثم تختص هذه الحالةُ بحكمٍ : وهو أن من صادفَ شيئاً في يد إنسان ، وهو يدّعيه لنفسه ملكاً ، وما عمّ التحريمُ في الزمان ، فيجوزُ للناظر إلى ما في يده الأَخذُ بكونه ملكاً له ، وإن غلب على الظن تحريمه ، وكيف لا والقاضي يُجريه على ملكه عند فرض النزاع ، حتى تقوم بيّنة لمن يدّعيه ، ويزعم كونَ صاحب اليد مبطلا فيه ، وهذا حكم الجواز .
ولا يخفى مأخذ الورع على من ينتحيه .
فهذا الفصلُ العظيمُ القدر الذي رأينا تقديمه على الخوض في غرضنا من العصر الذي يدرُس فيه العلمُ بتفاصيل الشريعة ، وقد عاد بنا الكلام إليه .

767 – فنقول إذا عسر مدرك التفاصيل في التحريم والتحليل فنتكلم فيما يحل ويحرم من الأجناس ، ثم نتكلم فيما يتعلق بالتصرّف في الأملاك ، وحقوق الناس .

768 – فأما القول فيما يحرم ويحل من أجناس الموجودات ، فليس يخفى على أهل الإسلام ـ ما بقيت أصول الأحكام ـ أن مرجع الأدلة السمعيّة كلِّها كتابُ الله تعالى . وأبين آية في القرآن في التحريم والتحليل ، قول الله العزيز : ( قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوْحِيَ إِليِّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِّلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِير ) سورة الأنعام / الآية 145
وهذه الآيةُ من المحكمات التي لا يتطرق إليها تعارض الاحتمالات ؛ وطرق التأويلات ، وليست من المتشابهات ، وهي من آخر ما نزل على المصطفى ، وقد انطبق مذهبُ مالكٍ إمامِ دار الهجرة على ظاهر الآية ، ولو قلت : إن هذه الآية ليست مُعضلةً علَّى في محاولة الذَّبِّ عن مذهب الشافعي رضي الله عنه ، لكنتُ مظهراً ما لا أضمره .

769 – فإذا نُسيت المذاهبُ فما لا يُعلم فيه تحريمٌ يجري على حكم الحلِ ، والسبب فيه أنه لا يثبت لله حكمٌ على المكلفين غيرُ مستندٍ إلى دليل ، فإذا انتفى دليل التحريم ثَمَّ ، استحال الحكم به .
فإن قيل : كما انتفى الدليلُ على التحريم ، انتفى الدليلُ على التحليل .
قلنا : إذا انحسمت مسالك الأدلة في النفي والإثبات ، فموجَب انتفائها انتفاءُ الحكم ، وإذا انتفى الحكم ، التحق المكلفون في الحكم الذي تحقّق انتفاؤه بالعقلاءِ قبل ورود الشرائع ، ولو لم يرد شرعٌ ، لما كان على الناس من جهة الله تعالى حجرٌ وحرج ، ثم إقدامهم وإحجامهم مع انتفاءِ الحجر عنهم يستويان ، ومقصودُ الإِباحة في الشرع ، انتفاءُ الحرج ، واستواءُ الفعل والترك .
وهذا في التحقيق بمثابة انتفاءِ الأحكام قبل ورود الشرائع .

770 – فإن قيل : من الأُصول أن الأعيان لله تعالى ، فلتبق على الحظر إلى أن يرد من مالك الأعيان إطلاق .
قلنا : هذا قول من يرى المصيرَ إلى الحظر قبل ورود الشرائع . وهذا المذهب باطل قطعاً ، وقد رددنا على منتحليه في أُصول الفقه ، فليطلبه من يحاوله في ذلك الفن .

771 – وإن زعم السائل أن من أُصول شريعتنا ألا تُنسى ، وإن نُسيت التفاصيل تغلظ الحظر ، فليس الأمر كذلك ؛ فإن المذاهب في ذلك متعارضة ، فالذي يقتضيه مذهبُ الإمام أبي حنيفة رحمه الله في تفصيل الأحكام إجراءُ الأعيان على الحظر إلا أن تقوم دِلالة في الحل .

772 – والذي يقتضيه مذهبُ الشافعي رحمه الله إجراء الأحكام على التحليل إلى أن يقوم دليل على الحظر والتحريم .

773 – ومذهب مالك رحمه الله حصرُ المحرمات فيما اشتمل عليه قولُه تعالى : ( قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوْحِيَ إِليِّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) سورة الأنعام / الآية 145

774 – فكيف يكون ما قدّره السائل أصلا مع تعارض هذه المذاهب ؟ والأصل هو المتفق عليه المقطوع به ؟

775 – فإذا دَرَست المذاهب ، فليس ادعاءُ الحظر أولى من ادعاء الإباحة ، وإذا تعارضت الظنون ، انتفى الحكم كما سبق تقريره ، وقد قدّمنا في العبادات أن ما انتفى دليلُ وجوبه ، لم نوجبه ، والتحريم إذا انتفى دليله كالوجوب إذا عُدم دليله .

776 – وأنا الآن بعد نجاز هذا أقول : فاضِلُ هذا الزمان من يفهم مداخلَ هذه الفصول ومخارجَها ، ويستبين مسالكها ومناهجَها ؛ والمرموق الذي تُثنى عليه الخناصر في الدهر من يحيط بشرف هذا الكلام ، وتميزه عن كلام بني الزمان ، ولا حاجة إلى تكلف التصلف في مصاولة العلماء ، ومطاولتهم ؛ فإن هذا مما كفانيه الله تعالى ، ولكني قد أرى في أَثناء ما أُجريه التنبيهَ على علوّ قدر ما يجري ، حتى يتثبت عنده مطالعهُ المطلعُ عليه ، ولا يستمر عليه فتنفلت عنه مزايا الفوائدِ . والله ولي التأييد والتسديد ، بمَنِّه ولطفه .
فهذا بيان ما أردناه في تحليل الأجناس وتحريمها .

777 – فأما تفصيلُ القول في الأملاك : فالأملاك محترمة كحرمة ِ ملاكها ، والقول فيها في مقصود هذا الكتاب يتعلّق بفصلين .
أحدهما ـ في المعاملات التي يتعاطاها الملاك .
والثاني ـ في الحقوق التي تتعلق بالأملاك .

778 – فأما القول في المعاملات : فالأصل المقطوعُ به فيها اتباعُ تراضي الملاك ، والشاهد من نص القرآن في ذلك ، قوله تعالى : (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِّلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) سورة النساء / الآية 29
فالقاعدةُ المعتبرةُ أن الملاكَ مختصُّون بأملاكهم ، لا يزاحمُ أحدٌّ مالكاً في ملكه من غير حقٍّ مستحق ، ثم الضرورةُ تُحوجُ ملاكَ الأموال إلى التبادل فيها ؛ فإن أصحاب الأطعمة قد يحتاجون إلى النقود ، وأصحابُ النقود يحتاجون إلى الأطعمة . وكذلك القول في سائر صنوف الأموال .

779 – فالأمر الذي لا شك فيه تحريمُ التسالب والتغالبِ ومدِّ الأيدي إلى أموال الناس من غير استحقاق ، فإذا تراضوا بالتبادل ، فالشرع قد يضرب على المتعبِّدين ضروباً من الحجر في كيفية المعاملات استصلاحاً لهم ، وطلباً لما هو الأحوط والأغبط ، ثم قد يُعقلُ معاني بعضها ، وقد لا يعقل عِللُ بعضِها ، والله الخبير بخفايا لطفه فيها .

780 – ثم لو تراضى الملاك على تعدِّي الحدودِ في العقد ، لم يصح منهم مع التواطي والتراضي إذا بقيت تفاصيلُ الشريعة .
فإذا دَرَسَت وقد عرف بنو الزمان أنه كان في الشرع تعبّداتٌ مرعية في العقود ، وقد فاتتهم بانقراضِ العلماءِ ، وهم لا يأمنون أن يوقعوا العقودَ مع الإخلال بعقود الشرع وتعبداته ، على وجوه لو أدركها المفتون ؛ لحكموا بفسادها . وليس لهم من العقود بـدّ . ووضوح الحاجةِ إليها يغني عن تكلف بسطٍ فيها ، فليُصدروا العقود عن التراضي ، فهو الأصل الذي لا يغمض ما بقي من الشرع أصل ، وليجروا العقود على حكم الصحة .

781 – وفي تفاصيل الشرع ما يعضد هذا ، فإن رجلين لو تبايعا ، ثم تنازعا في مجلس القاضي ، فادّعى أحدهما جريانَ شرطٍ مفسدٍ للعقد ، فأَنكره الثاني ، فالذي صار إليه معظمُ الفقهاءِ أن القول قولُ من ينفي المفسدَ ، والعقدُ محمول على حكم الصحة .
وهذا إنما ذكرته إيناساً وتوطئة لمساق الكلام
وإلا فلا معتضد في مثل ما ذكرناه لأهل زمانٍ دَرَسَت فيه تفاصيلُ الشريعة ، غيرَ أن الكلام يجرّ الكلام ، وما ذكرناه في الزمان العريّ عن التفاصيل مقطوع به ؛ فإن الخلق مضطرون إلى التعامل لا يجدون لهم بدًّا .
وقد ذكرنا أن الحرام إذا طبق طبقَ الأرض ، أخذ الناسُ منه أقدارَ حاجاتهم ، لما حققناه من نزول الحاجة في حق العامة منزلة الضرورة في حق الآحاد . وهذا مع بقاء الشريعة بتمامها وجملتها ، فكيف إذا مست الحاجة إلى التعامل ، ولم يجد الخلق مرجعاً في الشرع يلوذون به ؟

782 – ثم إذا ساغت المعاملات ، فلا تخصيص لبعضها بالجواز ؛ فإن منها ما هو وصيلة إلى الأقوات والملابس ونحوها . ومنها ما هو تجائِر ، وهي مكاسب لا سبيلَ إلى حسمها .

783 – والقولُ الضابطُ في ذلك أن مالا يعلمُ تحريمهُ من المعاملات ، فلا حجر فيه عند خلو الزمان عن علم التفاصيل . فالقول فيه كالقول في إباحة الأجناس ، وقد تقدم موضحاً مفصلاً .
وهذا بيان العقود الصادرة عن التراضي . فأما التغالب ، فلا يخفى تحريمُه ، ما بقيت أُصول الشريعة .

784 – وقد تقع صورةٌ عويصة ، لا تدرك إلا بعلم التفصيل ، مثل أن يغصِب رجلٌ ساجةً ، فيُدْرِجُها في أثناءِ بناءٍ له ، ولو انتزع لتهدّم البناءُ .
فقد يخطر لبعض الناس أن الساجةَ تنزع ، وترد إلى مالكها ؛ لأنه ظالم لما غَصَبَ منه ملكَه . وقد يخطر للآخرين أن في هدم بناءِ الغاصب تخسيرهُ ، وإحباط ملكه ، وذو الساجة يجد بثمنها مثلَها ؛ فيتعارض في مثل هذا إمكان النزع وتحريمه ، ولا سبيل لأهل الزمان إلى الحكم بالظن . وترك الخصومة ناشبة بينهما ، يجر ضرراً عظيماً .
ولو قلنا : يُتوقف في الواقعة ، ففي التوقّف اتباع الحيلولة بين مالك الساجة وبينها ، وهو تنجيز مراد الغاصب الباني .

785 – فالذي تقتضيه الحالة أن يغرَمَ صاحبُ البناءِ لصاحب الساجة قيمتَها ؛ فإن مما يُقطع به من غير تعريج على ظن أن الحيلولة بين المالك وملكه من غير عوض محال ، مع إمكان بذل العوض ، وردّ عين الساجة مظنون ، ولا سبيل إلى بناء الأمر على الظنون مع عدم المفتين ، وانحسام الطرق إلى درك مذاهبهم .
فليتخذ الفطن ما ذكرناه معتبراً في أمثال ما نصصنا عليه .

786 – وإن أشكلت على أهل الزمان أن ما في أيديهم محرّم أَم لا ؟ فقد ذكرنا أن أخذ الحاجة من المشتبهات إذا عمت سائغٌ مع استقلال العلماء بالتفاصيل ، فما الظن والزمان خالٍ عن معرفة التفاصيل ؟ ؟ .

787 – ويجوز الازدياد على قدر الحاجة في خلو الزمان عن المشتبهات ؛ فإن أهل الزمان لم يستيقنوا تحريماً في الزائد على مقدار الحاجة . وقد تمهد أن ما لم يقم عليه دليلُ التحريم ، فلا حرج فيه في الزمان الشاغر عن حملة العلوم بتفاصيل الشريعة فهذا منتهى المقصد فيما يتعلق بالمعاملات .

788 – فأما القول في الحقوق المتعلقة بالأموال ، فالمسلك الوجيز فيه أن الحقوق تنقسم إلى ما يُفرضُ لمستحقِّين مختصين ، وإلى ما يتعلق بالجهات العامة :
فأما ما يقدَّرُ لأشخاصٍ معينين ، كالنفقات وغيرها ، فما عُلم في الزمان وجوبه حكم به ، وما لم يعلم بنو الزمان لزومه ، فالأمر يجري على براءة الذمة .

789 – وأنا الآن أضرب من قاعدة الشرع مَثَلينْ يقضي الفطنُ العجبَ منهما ، وغرضي بإِيرادهما تنبيهُ القرائح لدرك المسلك الذي مهدّتُه في الزمان الخالي ، ولست أقصد الاستدلالَ بهما ؛ فإن الزمان إذا فُرضَ خالياً عن التفاريع والتفاصيل ، لم يستند أهلُ الزمان إلا إلى مقطوعٍ به ، فالذي أذكره من أساليب الكلام في تفاصيل الظنون .
فالمثلان أحدهما في الإباحة ، والثاني في براءَة الذمة .

790 – فأما ما أضربه في المباحث مثلاً ، فأقول :
الصيود مباحة ، وليس لها نهاية ، فلو اختلط بها صيودٌ مملوكة ، والتبس الأمر ، فما من صيدٍ يقتنصُه المرءُ إلا ويجوز أن يكون ما احتوت عليه يدُه الصيدَ المملوكَ .
ثم اتفق العلماءُ على أن الاصطياد لا يحرم ، لأن ما يحل من الصيود غيرُ متناهٍ ، والمختلط به محصورٌ متناهٍ .

791 – وقد قدمنا أن ما لا حرج فيه ، ولا حجر لا يتناهى ، وإنما المعدود المحدود ما يحرم ، فإذا التبس على بني الزمان أعيانُ المحرمات وهي مضبوطة لم يحرم عليهم ما لا يتناهى .

792 – وأما الذي أضر به مثلاً في براءة الذمة ، فأقول : لو علم رجلٌ أن لإنسانٍ عليه ديناً ، والتبس عينُ ذلك الرجل عليه التباساً لا يُتوقَّعُ ارتفاعه ، فمن ادّعى من آحاد الناس مع اطراد الالتباس أنه مستحق الدَّين ، لم يجب على المدَّعَي عليه بمجرد دعواه شيء ، ولو حلف لا يلزمه تسليمُ شيءٍ إليه ، كانت يمينه بارّةً ، إذ لو منعناه من اليمين ، وحملناه على النكول وغرّمناه المدَّعَى ، فقد يدعي عليه آخر ذلك الدينَ قائلاً : إن الأول كان مبطلا ، وأنا ذو الحق ، ثم يطّرد ذلك إلى غير نهاية ، فالاستمساك بالبراءةَ أولى من جهة أن الذين لا يستحقون عليه شيئاً لا ينحصرون ، فتغليب ما انتفت النهاية عنه أحرى .

793 – والذي يعضّدُ ذلك أنه إذا كان للرجل أُختٌ محرّمةٌ من الرضاع مثلاً ، وقد اختلطت بنسوة لا ينحصرن عندها ، فللرجل أن ينكح منهن من شاءَ .
وهذا أبدع مما تقدم من جهة أن التحريم مغلب في الأبضاع .

794 – وإذا تقابل في امرأةٍٍ سببا تحريم وتحليل ، من غير ترجيح أحد الوجهين على الثاني ، فالحرمة مغلبةٌ في البُضع على وضع الشرع ، ومع هذا أبحنا للذي خفيت عليه أخته من الرضاع ، واختلطت بنسوة غيرِ منحصراتٍ عندنا أن ينكح منهن من يشاء ، على شرط الشرع .
فوجب بما ذكرناه أن موجب تفاصيل الشريعة النظرُ إلى ما لا يتناهى ، ولا يتغير الحكم فيه بأن يختلط به ما يتناهى .

795 – ومما يستتمُ به هذا الكلام إذ لابسناه ، أنه إذا انتقلت حماماتُ بلدةٍ وهي مملوكة إلى بلدةٍ أخرى ، واختلطت بحمام مباح ، فالذي صار إليه المحققون في علوم الشريعة أنه لا يحرم الاصطياد بسبب هذا الاختلاط .

796 – وإن فُرض اختلاطُ مالا يتناهى عندنا بما لا يتناهى ، فإن كان ما ذكرته محفوظاً عند أهل الزمان بنَوْا عليه ما سبق من حمل الأمر على براءة الزمة ، عند تخيّل الوجوب من غير استيقان ، وكذلك ينبني الأمر على الحلِّ ورفع الحرج ، فيما لا يستيقنُ فيه تحريمٌ .

797 – وإن عَرِي الزمانُ عن الإحاطة بما ذكرتهُ ، فالذي تقتضيه القاعدة الكليةُ نفيُ الوجوب ، فيما لم يقم دليل على وجوبه ، وارتفاعُ الحرج فيما لم يثبت فيه حظر ، فإذا هذا مستبينٌ على هذه القضية من القاعدة الكلية ، وإن نُسي ما قدمته من الأمثلة في الاختلاط .

798 – فهذا آخر ما حاولناه الآن في تعلّق الحقوق لمعينين بأَموالِ الناس نفياً وإثباتاً .

799 – فأما القول فيما يتعلق بالجهات العامة من الحقوق ، وقد أحلنا على هذا طرفاً من الكلام في الزكاة ، فنقول فيه :
إذا كانت هذه المرتبة مفروضة في بقاءِ أُصول الشريعة في الادّكار فالجهات العامة يبقى العلم بأصلها شائعاً مستفيضاً ذائعاً ، وإن فُرض دروسُ الذِّكر فيه ، فتكون سائرُ الأُصول دارسةً عن الادّكار والأفكار أيضاً ، ويقع الكلام في المرتبة الرابعة حينئذٍ فيما لا يتصور دروسه . والكلام في بقاء الأصول .

800 – فالواجب إنفاذُ المشرفين على الردى من المسلمين .
فإذا فُرض بين ظَهْرانَي المسلمين مضرورٌ في مخمصةٍ ، أو جهةٍ أخرى من جهات الضرورة ، واستمكن المثرون الموسرون من إنقاذه بأموالهم وجب ذلك على الجملة .

801 – ثم يدرك بمقتضى العقل وراء ذلك أمران :
أحدهما ـ أن من سبق إلى القيام بذلك ، فقد أسقط الفرضَ عن الباقين .
والثاني ـ أن الموسرين بأجمعهم لو تواكلوا وتخاذلوا ، وأحال البعض على البعض ، حتى هلك المضطر ، حَرِجوا من عند آخرهم ؛ إذ ليس بعضُهم بالانتساب إلى التضييع أولى من بعض ، وقد عمّهم العلم ، والتمكن من الكفاية .
وهذا الذي فصلناه معنى فرض الكفاية في قاعدة الشريعة .

802 – فإذاً هذا النوع مما يتعلق بالأموال على حكم الكفاية ، فكل ما علم في الزمان المفروضِ ـ كما ذكرناه ـ نُحِيَ به نحو ما ذكرناه ، وكل ما أشكل وجوبُه فالأصل براءَة الذمة فيه كما سبق في حقوق الأشخاص المعينين .

803 – فهذا منتهى المقصود فيما يتعلق بالأملاك من المعاملات والحقوق الخاصة والعامة .
وأنا الآن أذكر فصلاً في المواريث ، حتى يتم الكلام في فنه إن شاء الله عز وجل .

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف ركن الدعوة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.