متى تجمعنا الأرض الطيبة

أخونا (أبو الخير) كان في حلقة مسجد انفرط عقدها في أواخر المرحلة الثانوية ، وبعد سنوات صادف أخاً قديماً من الحلقة، فعرض عليه أن يذهبا لزيارة أستاذهم القديم، فرفض الأخ باستنكار هذا العرض! فدهش أبو الخير متسائلاً عن السبب لهذه القلة في الوفاء! فقال الأخ: هل تذكر عندما كان أستاذنا يتحدث عن الذين خارج المسجد بإطلاق وأنهم مثل الحيوانات! والله وجدت أنه يوجد خارج المسجد بشر وناس جيدون، وأشخاص محترمون .. لا أدري من هو الحيوان!!!


وكما أننا نملأ الدنيا ضجيجاً وعجيجاً عندما يدخل في الإسلام شخص غربي ، وننسى الكثيرين من الصين إلى أفريقية، ونتحدث عن كتاب جيفري لانغ: الصراع من أجل الإيمان (وهي قصة هدايته إلى الله) ولا نفزع لما جاء في كتابه (ضياع ديني) الذي يتحدث عن حالات الارتداد عن الإسلام بسبب طريقة طرحنا للإسلام أو ازدواجية فهمنا له أو حمقنا في التصرف… فكذلك بعض قصص البطولات الدعوية تنتشر على حساب أمثال قصة زميل أبي الخير والتي أزعم أنه يجري آلاف من أمثالها مما يهال عليه التراب، ولكن آثاره ماحقة، ونحن نستغرب من وجود نفور من بعض أهل الدين وابتعاد كثير من المثقفين عنهم، وعدم استجابة الكثيرين لما يطرحه المتدينون، والتعاطي معهم من باب المجاملة أو الاضطرار .. بل ندهش من ذوبان كثيرين من خيرة إخواننا أو تغير تفكيرهم … وغير ذلك ولكننا ندفن رؤوسنا تحت الرمال ولا ننتبه إلى العلة العميقة.

مقالة الشهر الماضي كانت موجهة للإخوة والأخوات الذين يعيشون في بلاد الغرب، وموجهة لمن هم على أهبة الاستعداد للسفر، ممن لا يكاد يوم إلا ويدق أحدهم الباب سائلاً بقلق عما ينبغي أن يحمله معه من الأمور [الفكرية والدعوية] … وقد وجدت بعد معاناة طويلة أن قصة زميل أبي الخير تتكرر بطرق مختلفة وتصدم وتقلقل .. وآخرها رسالة من بين رسائل عديدة  لأخوة هم ملء القلب وإن بعدوا سأذكرها حرفياً (تم فقط حذف بعض الخصوصيات للأخ كاتب الرسالة) :

السلام عليكم ورحمة الله
كيف حالك يا سيدي. أنا الشاب الذي زارك في منزلك منذ أشهر قبل سفره إلى أمريكا واسمي ……
آسف على هذا الانقطاع الطويل …. وإني والله مشتاق إليك كثيراً والله على ما أقول شهيد، أنت تعلم أني أحمل معي 50 من خطبك أسمعها أثناء فراغي فجزاك الله خيراً على هذه الخطب وأسأل الله أن تكون بخير وعافية.
أموري والحمد لله في تحسن في الجامعة أنهيت ثلث ما علي من الماجستير في هندسة …...
لقد وجدت هنا ما لم أكن أحسبه يوماً … لقد وجدت أناساً في غاية الأمانة والصدق والإخلاص في العمل وهم مستعدون لخدمة الناس إذا سمحت لهم أوقاتهم بذلك …. كلما لاقيت أحداً بناظريك هز رأسه وابتسم مسلماً عليك ووالله إن في ذلك شيئاً كثيراُ من خلق الإسلام.
وتقنياً … لقد عملت في هذه الأشهر ما لم أستطع عمله في حياتي الجامعية كلها …. وسأنشر ورقة بحث بعد وقت قصير بعون الله .. لا أخفيك أني بدأت أحس بحلاوة الإنجاز وبحلاوة العلم أكثر من ذي قبل … لم أجد أي نوع من العمل التقني في …. على عكس الواقع هنا ..

دعوياً .. لم أستطع أن أدخل للعمل في الجاليات المسلمة هنا … لضيق الوقت ولبعد المسافات هنا …. ولكننا نقوم بما نستطيعه في الجامعة فلدينا جمعية للطلاب المسلمين داخل الجامعة ونقوم بنشاطات كل شهر وقد دعونا … [بعض] الدعاة وقاموا بإعطاء محاضرات في جامعتنا والجامعات المجاورة والحمد لله فقد أسلم بعض الناس على أيديهما بعد محاضراتهم فوراً … فأسأل الله أن يكون لنا أجرٌ في ذلك.
تنبهت إلى كثير من نقائصنا نحن المسلمين وخاصة في بلادنا … وسأحاول أن أكتبها لك واحدة تلو الأخرى في رسالاتي القادمة بعون الله.
كانت أهدافي كلها تتركز على دعم دمشق لأنها بداية الفتح كما تشير أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم … وكلما تحدثت مع المغتربين من أمثالي لم تعجبهم فكرة الأمة و خدمتها فأغلبهم يجد أن التفكير بالأمة عديم الجدوى ولا بد من البدء بالتفكير بمستقبلنا كأشخاص وأسر، فذلك هو المهم … ولست ألوم أحداً ولكني أقول:
إني والأغلبية الساحقة من المسلمين نفتقد إلى التوجيه لإكمال صورة أمة فتية لها مع سلفها رباط حب وإتباع … و خاصة إتباع في إبداعهم … فالأهم من إتباعهم هو تعلم كيف نبدع كما أبدعوا في خدمة الأمة.
وللأمانة بدأت أجد في نفسي وروحي تغيراً تجاه الأمة … فما عدت أجد صورة لها في خيالي حاضرة كما كانت لعل ذلك هو بسبب الألف مع العادات والحياة هنا …. قد يكون السبب مازال مجهولاً بالنسبة إلى كمهندس أقول إن الأمة هي نظام system وضع الله صفاته ثم أرسلت إلى الأنبياء (وهم مدراء ورشات العمل) ليدربوا الصحابة ومن سيحمل هم الأمة (وهم المهندسون في المثال) وهؤلاء هم من سيعملون ليلاُ نهارا على إنجاز هذا النظام وسيعينهم الله بكثير من العمال المخلصين …. بعد جهوزية النظام سيقوم باستخدامه كل البشر في كل العصور حتى إن لم يكونوا مسلمين …. فالصدق والإخلاص والأمانة وصلة الرحم هي من مواصفات النظام (لذا قالها جعفر للنجاشي في تعريفه للدين الجديد) … ولعل الصلاة والصوم هي من مواصفات فريق العمل (يجب أن يمتلكوا هذه المهارات في سيرتهم الذاتية ليكونوا مؤهلين ولا بأس من دورة تدريبية مثل دورة المهاجرين والأنصار حين آخى النبي بينهم وستفيد الدورة في كشف إمكانات الرجال وكوامن قدراتهم فيكونون مؤهلين لما بعد ذلك وإلا فلا بد من الانتظار حتى الجهوزية حتى إن كانت 13 سنة في مكة بين حصار وتعذيب) ….. وليس على العمال العاديين التفكير في مستقبل النظام ومشاكله كل ما عليهم هو أن يعملوا ما هم مسئولون عنه … وعليهم أنفسهم ومستقبلهم فلم يكن كل الصحابة يفكرون في الأمة كصورة كاملة فقد كفاهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن والزبير وعائشة وأسماء [رضي الله عنهم جميعاً] و.. و… و  .. مؤونة ذلك.

ولكي نحافظ على الاستمرارية لهذا النظام لا بد من العناية بالتربية ومؤسساتها والعلم ومؤسساته والإعلام لدعم النظام … فالسؤال الذي يحيرني: إذا كنت من العمال وفيهم البركة والخير وأردت أن أكون من المهندسين في هذا النظام هل في ذلك خطأ؟ لقد نصحني الكثيرون أن أتوقف عن التنظير والمثالية وعليَّ نفسي … فكثرة الاختلاط بأقراني ممن لا يريدون مقام “الهندسة” بدأ يأخذ مأخذه مني … ووالله ما قمت بالتنظير على أحد ولكني أحاول أن أترك للأمة والتفكير بها دوراً في قراري النهائي في أغلب المسائل ولو كانت شخصية …. هل هذه مثالية ؟ والله إني لأقبل النصيحة لو كنت أجد فيهم من يذكرني بالأمة بين الحين والآخر وإني لأخشى أن أفقد روح الأمة من بين ضلوعي.

نعاني من قلة في “الهندسة” ولنسميها البشرية وكلما زادت ندرة المهندسين كلما خسرنا التجديد والإبداع وخسرنا الاستمرارية وإني لأظن أن قلة المهندسين وكثرة العمال تؤدي إلى زيادة الفوضى الفكرية والاجتماعية والأخلاقية وعندها تصبح المصالح والأهواء هما من يحكمان حياة البشر …. ولا أجد خيراً من تعبير النبي عن ذلك، فقد سماها صلوت الله عليه “… ولكنكم غثاء” ووالله ما أظن أنه أراد بها وصف واقع الأمة وحال أفرادها بقدر ما أراد التنبيه على موطن الخلل ألا وهي فقدان التوجيه لعناصر الأمة … وعزة الله وجلاله ما أحب أن أكون بين من يذمهم النبي ولو كان ثمن ذلك العزلة التامة عن الناس ولكنني أواسي نفسي وأقول أن لله حكمة من وجودي في هذا الزمن وفي هذه الظروف فسأحاول أن أبحث عن تلك الحكمة والبحث يستلزم الحركة والحركة تعني احتكاكا بالناس ورفقا بهم وقد كان لي في رسول الله أسوة حسنة.

كلنا يعلم أن الزجاج لا يحمل شحنات كهربائية فهو معتدل وذلك لأن ذراته والكتروناته تسير في اتجاهات شتي (غثائية) وليس هناك من يوجه، أما بعد الدلك بالصوف يصبح الزجاج ذو شحنة لأنه خسر شيئاً من أجزائه فتحرك بقية الذرات لتشكل كلها جسماً متحفزاً لاستعادة تلك الأجزاء المفقودة من “صورة” الزجاج الأصلية فأصبح الزجاج ذا هدف ووجه “أفراده” … هنا أقول أن الأمة خسرت وما زالت تخسر فأين التوجيه للأفراد ؟

أريد أن تصب جهودي في إعادة الأمة والنظام إلى الحياة مجدداً وأعلم أن آلافاً من أبناء هذه الأمة مثلي، ولكننا لا نجد في عالم المسلمين نواة لتسقيها تلك الجهود!!

بدأت روح الأمة ونبضها يخف بين ضلوعي فأغثني بالله عليك بالدواء. لا أريد أن أقضي بقية حياتي أفكر في نفسي ومستقبلي بعيداً عن التفكير في الأمة …. واعلم حفظك الله أن الوقت ضيق والفردية أمر تتشربه النفس في الغربة تشرب الإسفنج للماء فأناشدك الله أن تساعدني.

ملاحظة: مقالتك الأخيرة لامست كثيراً من حياتنا في الغرب فجزاك الله خيراً.

هذه هي الرسالة، والأخ الفاضل الذي كتبها صلتي معه لا تتجاوز ساعتين أو ثلاثاً ولكني شعرت أنه من رواحل الأمة .. وقد كنت حقيقة أخشى من الصدمة التي تزجنا فيها القوالب الجاهزة … وهي تماماً قصة زميل أبي الخير .. التي كانت على نطاق مسجد فصارت على مستوى التعاطي مع الحضارة.

لا يزال في أعماقنا قلق عميق من التغيير، وماقلته سابقاً عن دار الحرب ودار الإسلام أكرره اليوم وبإصرار، إذ يذهب الإنسان وبفكره صدى اجتهاد معين مايزال البعض يقاتل عنه وكأن الإسلام سيدك من جذوره إذ تم الانتقال إلى اجتهاد آخر، وهم يقولون أن الأمة تواطأت عليه زماناً طويلاً، ولكنهم يغفلون أنه زج للإخوة في معارك خاسرة لايعلمون كيفية وقوعها، ولكنهم سيقعون تحت آثارها الماحقة …. نعم بكل صراحة مفهوم دار الحرب ودار الإسلام بحاجة إلى إعادة نظر، لأنه كانت هناك حضارة ودولة مسلمة في مقابلة متكافئة مع الأنظمة الموجودة، وضمن ضوابط دولة وليس تصرفات أفراد يزجون الأمة كلها في أتون الحرب عندما يشاءون، وضمن منظومة مدنية متكاملة من أركانها حماية النظام والدولة والحضارة وليس من خلال فكر حربي يعدو على أخيه إن لم يجد في وجهه عدواً ما.

لم يعد هذا الأمر موجوداً في الواقع إلا إذا كان هناك من يصر على أن الحكام الذين يحكمون العالم الإسلامي هم أولياء أمور شرعيين وأن الحكومات الإسلامية هي الحكومات التي تمثل الإسلام! وعندها فسيذهب الإنسان إلى ديار غير المسلمين بهذا التصور ليصدم ويجد أن بعض الحكام الكفرة أرحم بالمسلمين من بعض حكامهم، وأن قوانين تلك البلاد الكافرة أكثر عدلاً بكثير وتعطي المسلمين أفراداً وجماعات من الحرية والحقوق مالا يوجد في أكثر ديار المسلمين الأصلية …

مفهوم دار الحرب والإسلام وراءه نتائج وآثار عملية خطيرة والكثيرون لا يقرؤونها، وأتمنى ممن لم يتعرف عليها بعد أن ينفق بعضاً من وقته في البحث أو في تمويل أبحاث تقيس صدى تلك المفاهيم في سلوك مسلمين لم يعلق بذهنهم إلا أن تلك الديار ديار حرب، فيتصرفون على هذا الأساس وكأنهم ممثلو دولة أو أمة أو حضارة، وأكاد أبكي كلما تذكرت رسالة بعث بها لي أخ يدرس في دولة غربية، متسائلاً عن طالب مسلم لزمه ثلاثمائة دولار فنشلها من جيب طالب كندي (لأنه من أهل ديار الحرب) ، ثم احتاج إلى مذياع فسطا على مايخص طالباً أسترالياً (قياساً على المحارب السابق) ثم بحث عن بنطاله (الجينز) فلما لم يجده دك جسده الشريف في بنطال طالب فيتنامي نشر بنطاله على السطح ليجف ، فمضى به الطالب المسلم!!! (وملة الكفر واحدة).

مازالت نسبة غير قليلة من المسلمين يتهربون من واجباتهم والاستحقاقات المالية أو الأدبية عليهم لأنهم يحملون عقدة دار الحرب في أعماقهم، وقد طلب مني رجل لحيته تكفي نصف أهل البلد (كما يقولون) أن أحصل له على أوراق مزورة من معهد شرعي تثبت أن أولاده مازالوا يدرسون فيه ليحصل على منحة وإعانة مالية (مسروقة) من البلد الذي يعيش فيه.

وهناك رسالة أخرى من الأخ :أ، سيمونيت (أخ يعيش في الغرب وكان طالباً في معهد شرعي في الشام، وأرسل رسالة فيها بعض الأسئلة) .. وأقول له: نعم يا أخي لا أسمي بلاد الغرب الآن ديار حرب، لأن لذلك آثاراً لا يجوز تحميلها للجاليات ، والتي لا يمكن أن تتحملها إلا دولة مسلمة مسؤولة عن تصرفاتها كدولة! ضمن كيان ومنظومات عالمية متقابلة… وأكرر بأن ذلك لا يعني أن تلك الحكومات الغربية حكومات تحترم الإسلام حقيقة أو تميل إليه أو تتعاطف معه! تلك الحكومات حكومات ماكرة تبحث عن مصالحها الإستراتيجية، وعندما يعترضها الإسلام فلن تتأخر في مضايقته بل حربه، وهي تملك من مقومات الاستقرار والعدل في بلادها الشيء الكثير، ولكنه يتبخر ويضيع عندما تطأ أحذية جنودها بلاد المسلمين، ويسيل لعابها عندما يصافح عيون خبرائها النفط والغاز والثروات، وبعضهم ليس لدينه في قلبه موضع حقيقي لكنه يستنفر كل مالديه من أحقاد التاريخ كي يحاربنا ويحتل بلادنا وينهب ثرواتنا، ويعبِّدنا للغرب ثقافة وحياة وسياسة واقتصاداً وحضارة مستخدماً تلك النزعة الاستعمارية والتسلطية المركزية التي يتحرك من خلالها.

إن جيوش الاحتلال في أراضي وبلاد المسلمين شيء آخر ويجب أن تدمر أو تزول، وحرصنا على استقرار أي مجتمع نحل به شيء آخر لاعلاقة له بروح الجهاد التي يجب أن تبقى موارة في نفوس أبناء الأمة لتتحرك من خلال فقه واسع يلم للأمة شعثها ويعيد إحياء فعاليتها على كل صعيد، ويطرد من أرضها كل محتال وطامع ودخيل.

أما عندما يتعرض المسلمون للضغط في بلد غربي فليس علاج الأمر باستنفار مفاهيم الحرب، وربما التحمس بالانسياق وراء أفكار متهورة قد ينجم عنها زرع بعض المتفجرات لتقتل المدنيين وتزيد من فقدان الجاليات المسلمة لتوازنها وقوتها بل وزلزلة الأرض من تحتها.

وعندما تحصل مشكلة مثل مشكلة الحجاب في فرنسة فهي قريبة جداً إلى مشكلة الحجاب في تونس وقبلها في تركية وقبلها في …. تحتاج إلى صبر وضغوط مقابلة واستنفار إعلامي، وإبراز نفاق الغرب واحتلال المزيد من المواقع في بنيته الاجتماعية، وليس تنفير الناس من الإسلام .. والزعيق الحربي الذي ما زلت تلمس بعضه في بعض خطب الجمعة .. مما ليس له أثر إلا في زيادة الترنح والاضطراب.

إذا كنا في بعض بلاد المسلمين لا نجرؤ على إظهار بعض أمور الدين ونحن الأغلبية وأصحاب البلاد وفناؤنا يقرب المستحيل، فهل في المكان الأضعف وفي ظروف الغربة نعلن الحرب.

عدم القدرة على إظهار الدين كما قال الماوردي، لا يعني أنك أصبحت في دار حرب، وأنا أتحدى أي أحد في الدنيا كلها يستطيع أن يقول لي أنه يمكن في بلد من بلاد العالم اليوم أن يظهر الدين كله.

اليوم يوجد في الأرض أمة مسلمة ممتدة وعظيمة وهي محكومة من حكومات غير مسلمة بعضها كافر وبعضها ظالم وبعضها عميل … ولا يجوز للأمة أن تتوقف لهذا بل ينبغي أن تمتد دون انبهار بالغرب (والسبب هو أن فلسفته في التعامل معنا قائمة على النفاق ومنظوماته مفصلة له وهو يفقد البوصلة إذ احتك مع الأمم والشعوب الأخرى) ودون استسلام لواقعه (لأن ذلك الواقع فيه ثغرات وعوامل فناء كامنة) ودون عداء لأفراده ومواطنيه الذين يعاملوننا بالحسنى (لأن كثيرين منهم على الفطرة النقية) ، ودون ظلم لهم (لأنه ماتزال فيهم وداخل بلادهم على الأقل إيجابيات كثيرة علينا أن نعترف بها ونتعرف عليها ونكون المثمرين لها) …

مفهوم الأمة الممتدة هو ماندندن عليه لا الأمة المحبوسة التي بُني أكثرنا عليها (والتي تدفعنا إلى الخوف من فقدان العلاقة مع الأمة)، وهي الأمة الفعالة المتفاعلة لا الأمة الهاربة المنسحبة، وهي الأمة الواعية لا الأمة المبهورة.

بقي هناك أمر يظنه بعض الإخوة، وهو أننا سنفقد المرجعية بهذه الطريقة ، وسنفقد القدرة على التوجه ضمن سير موحد … وهذا غرق في الوهم فقل لي أين هي البوصلة وأين هو التوجه الواحد … إن الحركة وحدها ستفرز الأصلح وستجمع الناس على مرجعية الفكرة وهي المرجعية الضعيفة حتى الآن لدينا، فنحن مرتبطون بمرجعيات الأشخاص في الواقع والتاريخ … وإذا خرجت عن الأشخاص يكاد المركب كله يغرق … ومن الطرائف أن بعض الشيوخ اليوم وبسبب انتشار الكلام (كنوع من الموضة) عن عمل المؤسسات فإنه يحاول أن يجر جماعته إلى ذلك ناسياً أن المؤسسة لها بنية لا تختزل في النهاية في شخص قائد ولا حاكم ولا شيخ .. لأنها تسمى حينئذ ديكتاتورية أو مزرعة أو حيلة للالتفاف وإظهار المؤسسة كمظهر خاو وراءه الاستبداد الذي يدخل من النوافذ الخلفية.

وبعد ذلك فإن الأمر ليس خروجاً من اجتهاد منضبط (كما يظن بعض الإخوة) إلى تفلت وإن هناك من يجتهد في عالم اليوم من أجل إرساء فكر (لا لربط الناس بمرجعية شخصية) يعيد للأمة توازنها قليلاً ويقوم بتعريف المصطلحات ويجدد فهم الواقع الذي صارت فيه الأمة والظرف الذي يحيط بها ..

من آخر مابين يدي من الكتب العدد الثاني من قضايا الأمة التي تصدرها لجنة التأليف والترجمة التابعة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهو بعنوان : المسلم مواطناً في أوربا، وهو للمستشار الشيخ فيصل المولوي .. وفي الطرق كتب طه جابر العلواني وراشد الغنوشي ومحمد بن المختار الشنقيطي .. وآخرون وكتاب العلامة المولوي محاولة رائدة (وغير كافية أو نهائية) لبلورة توجه شرعي أكثر واقعية في التعامل مع كثير من المستجدات الطارئة.

عندما تغيب الصورة الكلية تحتل أجزاء منها موقعها، وتصبح القضية الأساس هي الحفاظ على الفرع  الذي نتوهم أنه الأصل .. ومادام كل عقلاء الأرض يسلمون بأن الجزء لايمكن أن يحتوي الكل، فمعنى ذلك أن المشقة والعنت والتعصب المخيف بل التشرذم ثم الفناء هو النتيجة الوحيدة لتلك العملية المغلوطة.

المسلم قادر على أن يعيش في الغرب دون انبهار ولا ذوبان ودون عطالة ولا تهور .. وسيعاني من أمور كثيرة وسيصبر … ولكنه يجب أن يخرج من الأقفاص الذهبية التي حبست الطيور .. وعلى يديه ستمتد الأمة بمرونة ونسبية هي عين الاستقرار والثبات .. وستصبح المرجعية فكراً قد يمثله أشخاص لكنه لا يجمد بين أيديهم لأنه أوسع وأكبر منهم جميعاً.

وقد يكون في بعض أفكارنا (بل إن فيها قطعاً مايحتاج إلى المراجعة والتداول والتقويم) وهو أمر يجب علينا شرعياً وأخلاقياً أن نفتح له عقولنا وقلوبنا ونتعامل بإيجابية مع آثاره ..ولكننا سنمد بساط الأمة في كل اتجاه وبه ستُجعل كل أرض طيبة للمؤمنين مسجداً وطهوراً.  …. وللحديث بقية بإذن الله ….

 

أحمد معاذ الخطيب الحسني

دمشق 27 جمادى الأولى 1429هـ/31 آيار 2008 م

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.