(ولا تبخسوا الناس أشياءهم) … ليس الواقع هو البديل

نقل الإمام القرطبي عن قتادة في تفسير قوله تعالى “وإذا الموءُدَةُ سُئلت” أن الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته ويغذو كلبه! والموءُدة هي المقتولةُ، وهي الجارية تدفن وهي حية، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيؤودها أي يثقلها حتى تموت! …


سأل أحد رجال الأعمال الغيورين: لماذا تنجح مشاريع الشرق والغرب ومشاريعنا دائماً ضعيفة إن لم تكن معدومة! الجواب فيما سبق أعلاه تماماً، أهل الجاهلية يغذون كلابهم ويقتلون بناتهم، وكثيرون ينتمون وراثياً ونباتياً إلى قافلة الإيمان، وهمهم الربح الخاص وبقشرة إسلامية ولا يشترط  في هذا الربح أن يكون مادياً.

حال الأمة اليوم أنها موؤدة كبرى كثيرون يدفنونها ثم يصرخون باحثين عنها!

عندما تمر أزمة بالأمة يشعر الناس بالاستنفار، فإذا انتهت عاد الأكثرون  إلى السكون بل الموت الحضاري، ولا يستمر أي مشروع نهضة لأن المحرك للعمل ليس الوعي العنيد، بل الحالة المؤقتة التي ما أن تنتهي حتى ينتهي التفكير، ويبقى قلائل من الذين يفكرون ولا سند لهم فيحترقون ، وإذا حصلت النجاة من أزمة عاصفة، أو قل: عند توهم النجاة فإن بعضنا يظن أن واقعنا ومعطياته هو السبب، ولا يدرك الأسباب البعيدة (أغلب الأنظمة التي تحكم المسلمين عندما تقترب من لفظ أنفاسها الأخيرة تبدأ بالتقرب من الإسلاميين استدراكاً لما اقترفته أيديها، ويبدأ بعض المساكين بالتهريج ظانين أن حالة من التقوى والصلاح قد دبت في قلوب الظالمين) ، وفي كل الحالات يلزمنا أن نفكر بالآثار المستقبلية ، و بما قاله أحد الحكماء من أن نجاحنا نصفه بسببنا ونصفه من أخطاء خصومنا.

ظن بعض المتحمسين أنه قد كسرت شوكة الولايات المتحدة في أحداث نيويورك، ولكنه نسي أن يدها صارت في قلب العالم الإسلامي كله، ولم يعد هناك تيار ما بعيد عنها (والتيار الذي يزعم نجاته منها في بلد هو مرتبط بها في بلد مجاور بحكم الاضطرار ولا يشترط العمالة) والتعامل معها صارت تستخدم فيه وسائل تحفها ملاحظات ملفتة (صار بقاء القوات الأميركية والبريطانية مطلباً للسنة والشيعة في العراق حقناً للدماء، لأن بعض الأطراف السنية والشيعية قتلت من إخوانها في الدين ما لم تفعله بالمحتلين).

إذا أخفقت الوسائل التي نستخدمها فستتحول إلى مطلب استشهادي، وإذا نجحت فستتحول إلى رمز بطولي! وكلاهما اندغما في داخل بنيتنا العميقة وصارا كائنين جذريين في تفكيرنا (وربما يكون الأمران في غاية الانحراف).

ربما يمكن فهم الأمر بمثال آخر أبسط : (في أحد السجون تم إضراب للاحتجاج على المعاملة اللا إنسانية واقتحم الجنود المكان! وصادروا بعض أدوات الرفاهية ومنها أجهزة التلفزيون .. وقرر السجناء القيام باحتجاج آخر! ولكن هذه المرة لاسترداد التلفزيونات) .. لقد تحولت القضية تماماً ..

في الحركة نحو الأمام  والنهوض لا يكفي تلك الطرق الغائمة في تحديد الصواب والخطأ! لابد أن ندرس بعمق ثم نقرر أن فكرة أو رأياً أو فتوى ما…  كانت مناسبة في ظرف زماني ومكاني محدد، وأنها غير مناسبة في ظرف آخر، وأنها لاتناسب واقعاً ثالثاً … ويجب أن نعترف ونقرر أن فلاناً أخطأ في موضوع معين وأصاب في آخر … لابد أن نقول أن الجماعة الفلانية لديها إيجابيات في أمور معينة وسلبيات في غيرها .. لابد أن نخرج من مبدأ العصمة الذي ارتديناه جميعاً وألبسناه للحكام والعلماء والجماعات والأفكار .. لابد من أن ندندن دائماً على الآية الكريمة (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ )، أي: ولا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوهم إياها، كما ذكر أكثر من مفسر.

قليلة جداً الجماعات التي أجرت نقداً حقيقياً لما فعلت، ولما كانت تقوم به من دور .. لأن النتيجة هي إما إحراق كل شيء سابق (وهي كارثة بالفعل) وإما التبرير واستئناف القداسة والعصمة .. ونحن أهل السنة والجماعة من أهم ميزاتنا رفض العصمة للأشخاص عدا الأنبياء صلوات الله عليهم الذين هم معصومون فيما يبلغونه من الوحي ومعصومون من أخطاء تقدح بمكانة النبوة المتألقة.

فكر العصمة هذا جر وسيبقى يجر نكبات على الأمة ، لأنه يدور في العموميات والإطلاقات وفكر التبرير (لا يعني رفض التبرير قبول فكر الإحراق).

يسافر الشاب المسلم المتدين إلى بلاد الغرب ورأسه مملوء بكره الغرب (دون تمييز بين نظام عالمي ماكر وشعوب ظامئة إلى من يذكرها بالله) لأن من فقهوه زرعوا في رأسه فكرة دار الحرب ودار الإسلام ، وهي اجتهاد فقهي لا يلزم الأمة.

لا يتعلم الشباب أن الغرب فيه سلبيات وإيجابيات اتباعاً للآية الكريمة: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) بل يتعلم الخوف وفقه الانسحاب والتقوقع الذي يقود إلى الذوبان بعد الانبهار التالي للصدمة الحضارية، أو يؤدي إلى التعاطي الصدامي ، وقلائل ينجون من هذا ليدركوا بعد سنوات أن ساحات الكسب واسعة، ولكنها تحتاج إلى مهارة خاصة، لايمكن تلقيها من عقليات ضيقة.

كثيرة هي النعم في الغرب ومن أعظمها الحرية (ترافق عند جزء من الجسم الديني شيئاً قريباً من الكفر والفساد والانحراف) .. وهم لا يتعاطون معها كأمر يحتاج إلى نظر تفصيلي دقيق، بل يطلقون الكلام بالجملة (لأن الإسلام ضد الحرية) ..

كما أن هناك عقلية سلبية بدائية تصول وتجول تحاول الهيمنة لتخنق المستقبل بعد أن أضاعت الحاضر وتاهت في التاريخ.

ما يزال الناس في بلاد المسلمين الأصلية يتمتعون برصيد اجتماعي وثقافي متجذر مهما حفته السلبيات فهو يساهم في تأخير التآكل وإعاقة الانهيار! ولكن المسلمين في الغرب أمل واعد، ومشروع نهضة لست أخشى عليه من المكر هناك ولكن أخشى عليه من الخداع والتمويه من هنا (من بلاد المسلمين) بتحميله سلبياتنا وطرق تفكيرنا المعوجة وأمراضنا وعاداتنا الاجتماعية …. أخاف أكثر من الفساد العقلي! فندرة العلماء بينهم أدت إلى اجترار ما يقدم لهم من وجبات مطبوخة في مكان آخر انتهت صلاحيتها منذ أمد بعيد.

لا أكاد أفتح بريدي إلا وأجد سؤالاً أو أكثر عن الهجرة إلى الغرب، أو الإقامة هناك وعن حل ذلك أوحرمته بسبب سيول فتاوى التحريم ، وقد أجبت في الموقع عن الأمر عدة مرات، ولكن الذي يفزعني حقيقة ليس الجواب الذي أعتقد أنه واحد من الأحكام الخمسة (الوجوب، الندب، الإباحة، الكراهة، التحريم) بل الضخ الدائم ممن هم في الشرق إلى من هم في الغرب، وبشكل ظاهره النصح والحرص ولكنه محشو بكل عقد التاريخ والحاضر، وقد ذكرت مرات أن بعض من يفتي بعدم جواز الإقامة في بلاد الغرب إنما يفعل أمراً واحداً وهو شل قدرات المقيمين واستنفارهم (لا للمحافظة على وجودهم هناك) بل للقتال في معارك التاريخ عقدية كانت أم فقهية أم عرفية، باختصار جرهم إلى معاركنا نحن من دون عونهم في أزماتهم هم.

(كانت هناك دار حرب حقيقية لا توهمية مثلما هو الوضع اليوم)  ولكن بعض العلماء السابقين كانوا أبعد نظراً بما لايقارن مع الوضع الحالي:

– سئل الإمام الرملي (919-1004هـ) محمد بن أحمد؛ عن المسلمين الساكنين في أراغون (من أراضي الأندلس)، وهم تحت السلطان النصراني فيأخذ منهم خراج الأرض بقدر ما يصيبونه منها، ولم يتعد عليهم بظلم، ولهم جوامع يصلون فيها، ويظهرون شعائر الإسلام عياناً، ويقيمون شريعة الله جهراً، فهل تجب عليهم الهجرة أم لا؟ فأجاب: (بأنه لا تجب الهجرة على هؤلاء المسلمين من وطنهم، لقدرتهم على إظهار دينهم به، ولأنه صلى الله عليه وسلم بعث عثمان بن عفان رضي الله عنه يوم الحديبية إلى مكة لقدرته على إظهار دينه بها، بل لا تجوز الهجرة منه لأنه يرجى بإقامتهم به إسلام غيرهم، ولأنه دار إسلام، فلو هاجروا منه صار دار حرب).

المصدر: فتاوى الإمام الرملي المطبوعة على متن الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي، ج4- ص53-54.

أما الإمام ابن حجر العسقلاني (773-852هـ) فينقل عن الماوردي مايلي: (إذا قدر [المسلم] على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام).

انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري ، م7، ص 270. كتاب مناقب الأنصار.

كما أن التعاطي الفقهي والدعوي يكاد يكون غائباً تماماً عما قاله الإمام ابن تيمية (661-728هـ) من أن (التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد ، لايمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم ، فإنه لايطيق ذلك ، وإذا لم يُطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال ، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم أو الأمير أن يوجبه جميعه ابتداءً ، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لايمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان ، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه ، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات ، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل ، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط ، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل ؛ لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أوالتحريم ، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجباً في الأصل ، والله أعلم).

(انظر: أحمد بن تيمية ، مجموع الفتاوى ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ، الرباط ، المكتب التعليمي السعودي بالمغرب ، دت ، 20 ، 60).

ويبقى هناك بون بعيد بين فكر الإمام عبد القادر الجيلاني (470-561هـ)  ) وواقع اليوم إذ يقول رحمه الله (في الفتح الرباني على ما أذكر): (لا يضحك في وجه الفاسق إلا العارف)،(المتزهد في أول الطريق يهرب من الناس والعارف يطلبهم) …

كما أنني أخشى بحق إذا ظهر الإمام الجويني (419-478هـ) وحاول أن ينشر فقهه الذي ذكره في كتاب غياث الأمم في التياث الظلم (ربع الكتاب الأخير) أن يتعرض للتضييق الشديد عليه من الجماعات المنتشرة في الساحة لأنه مما لا تتحمله أكثر العقول في هذا الزمان.

ليس في الإسلام طابقين، واحد سري وآخر علني .. ليس الإسلام فقهاً وحركة وتشريعاً مثل جدار أصم يعانق أسوار الصين الشاهقة، ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم شامل للزمان والمكان والظرف ، أما ما نحمله نحن فشيء منه المفيد وشيء لابد من تجاوز أكثره.

سمعت السؤال التالي من تاجر لصاحب عمامة ذو شأن: جاري غير مسلم ويلقي علي السلام! فهل يجوز أن أرد عليه؟ والتفت الشيخ يمنة ويسرة بحذر ثم قال بثقة (بعد أن أيقن بخلو الطريق) لا .. لا تسلم عليه.

إن خصوصيات عدم البدء بالسلام على بعض أهل الكتاب بسبب كيدهم في ظرف معين قد طوت كل معاني الآية الكريمة: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) (النساء-86) …

هل نحن العرب لا تطيق عقولنا النظر في الاحتمالات؟ هل طريقة تفكيرنا محدودة ببعد واحد إذا خرجنا منه ضاع كل شيء فنحن نعانق ذلك البعد اليتيم ليل نهار.

أترى أن قلة ماندرسه من علوم الرياضيات والاحتمالات سببت جفافاً ذهنياً لم تعد تنفع معه موسعات الشرايين .. وهل ضيق النظر تحول خلال مئات السنين إلى سلوك حفر آثاره في صبغياتنا وصفاتنا الوراثية؟

بصراحة إن بعض العلماء مازالوا يدندنون حول المفاهيم التاريخية المرتبطة بظرف ما فيعطونها حكم الإطلاق، وقد سمعت من أحدهم أن المسلمين في البلاد الغربية يجب أن يهاجروا منها لأنها ديار كفر فقلت سبحان الله إن المسلمين الصابرين (الذين تركهم معظم العالم الإسلامي دون دعم ، أو دعمهم بطريقة متخلفة زادتهم حيرة) قد أصبح العديد منهم أكثر منا وعياً وأكثر قدرة على الحركة بالإسلام، وللعلم فإن عدة دول أوربية مرشحة لتكون خلال مابين عشرين إلى أربعين سنة ذات غالبية إسلامية (أقصد أكثر من نصف عدد السكان) ومن هذه الدول ألمانية وفرنسة وهولاندا وبلجيكا وروسية!! نعم ياسيدي ، ونحن بحاجة إلى فقه متحرك كشاف يعطي هؤلاء المسلمين المزيد من القوة والإدراك والوعي بالإسلام لكي يكون رحمة للعالمين، ويقيم حضارة ربانية ، وجزء من فقهنا (وأعتذر عن العبارة القاسية) شديد التخلف بل لعله من كوابح تحرك الإسلام في الأرض ، وبعض علمائنا لا يجرؤ على الخروج مما حفظ ولو قيد أنملة لأنه تعلم ويعلم الناس أن الدين يقف على رجل واحدة (هي مذهب ذلك العالم) ولا يتحمل أن يمد نظره إلى مذاهب متسعة (هي جزء أصيل من الدين والفقه والعلم) ليعطي المسلمين بحبوحة (قائمة على علم وإدراك عميق لكليات الشريعة ثم جزئياتها) .. ويمتد ذلك من فقه الطهارة إلى فقه الدولة.

لم تعد الفتاوى الشاملة صحيحة في إطلاقاتها! هناك حالات دقيقة ، والدنيا كلها نحت نحو الاختصاص الدقيق (وهو شيء لا يعارض الشرع ولا العقل) حتى أن طبيب الأسنان قال لي أنا أسحب لك العصب ولكن أرسلك إلى طبيب آخر لحشو السن ، وإلى ثالث للتلبيس (فكل له اختصاصه) ، ولكن فتوى واحدة (لا حظ أنها اجتهاد بشري في النهاية وليست آية ولا حديثاً صحيحاً ) تبقى شاملة الزمان والمكان والشعوب والأمم والظروف كلها … لأكثر من ألف سنة … هذا يا سيدي الفاضل عين التخلف والتجميد للإسلام وأهل الإسلام! لذا لا يوجد فتوى عامة شاملة لا لمن يقيم في الشام ولا لمن يقيم في الصين ولا حتى المقيم في بلاد الواق الواق.

ملأت الجماعات المختلفة الأرض بذكر مناقبها لكن انتقادها الداخلي لنفسها خجول جداً ونحن مضطرون لأن ننوب عنها بذكر بعض الأمثلة لا غمطاً لأصغر فضيلة لديها بل حرصاً عليها وعلى الإسلام الذي هو أعز وأجل واعظم.

لم ينتقل معظم التصوف إلى الغرب تربية وسلوكاً وأخلاقاً، بل حفته الخرافة والدجل أوالارتزاق والوشاية بباقي المسلمين أوالتجهيل والإفساد في الاعتقاد والخلق والدين (أخبرتني أخت عن مجموعة حضرت معها مرة واحدة ثم تركتها ؛ ليس فيها ما يوحي أن لها علاقة بالدين إلا زي يلبسه شيخهم الذي جعل لهم أدعية خاصة مع المزمار والعود! ثم تشرب بعدها الخمور! في الزاوية …) ..

ودخل العديدون من الشباب في متاهة عندما أخذ أحدهم يدرسهم (إحياء علوم الدين) من ألفه إلى يائه، فزرع فيهم من الوساوس مالم يخطر ببال! لأن إيجابيات الإحياء للإمام الغزالي رحمه الله إنما هي كأمثال الأدوية قد تكون لها فائدة كبيرة للمرضى، أما السليم فإنه إذا تعاطى الدواء هلك! ومايلزمه هو الغذاء لا الدواء! وأمراضه لها أدوية أخرى لا توجد في الإحياء ولا في غيره، بل لا تجدها إلا في القرآن الكريم وسيرته عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله.

أما إخواننا السلفيون فقسم منهم ما يزال جفاؤه وتعاليه ويبوسته مانعة له عن ربط النص بالمقصد ومازال يحصر الإسلام بأضيق مما هو عليه، ولم يستفد كثيراً من بيئة الحرية في طرح إسلام نقي صاف بعيد عن الكدورات، بل استنسخ فقهاً محدوداً أعطى أئمته عملياً من العصمة قريباً مما أعطاه الخرافيون من المتصوفة لشيوخهم فتجد الضيق والتكرار والتحريج على الناس بما فيه سعة! في مجتمعات لا تعرف الله في قليل ولا كثير .. وبعض حملة هذا التيار يتعاملون وكأن الله لم يخلق إلا الإمام الفلاني للأمة، فإن لم يكن فقهه مناسباً لزمن أو بيئة ما فلتُعَلَّب الدنيا كلها لتحشر بين يديه!! … وقد أنفق هذا التيار في الولايات المتحدة مثلاً مئات وربما آلاف ملايين الدولارات لدعم ما يراه الإسلام، فلما أتت مصيبة نيويورك لم تجد لكل مابنوه رصيداً قليلاً ولا كثيراً في الشعب الأميركي لأنهم كانوا منشغلين ببناء المذهب لا الدعوة ..

أما التيارات الإسلامية السياسية فهي مشكلة حقيقية، إذ يدير أغلبها هواة حقيقيون لم يدرس أحدهم السياسة يوماً ولم يتخصص بها، وهم لا يؤسسون للأمة شيئاً فعلياً لا في الغرب ولا في الشرق، ومع الوقت يغدون (دون أن يحسوا) جزءاً من مخططات الدول الغربية في بلادهم! وهم ينفقون الأوقات والأموال والجهود في معارك ضحلة وجزئية لم تثبت للإسلام رأساً ولا قدماً.

لا يعني هذا أن الكلام السابق يستغرق الجميع بل هو لتوضيح عمق المأساة التي يعيشها المسلمون في الغرب، وأنهم حقيقة أقرب إلى الأيتام، وبحاجة إلى يد حانية تمدهم بالطريقة الصحيحة والطريق القويم.

أحد الدعاة (وهو طبيب بالمناسبة) تكلم في مركز غربي عن وجوب محبة النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم! ثم أفاض إلى أن قال (لشدة المحبة) أنه يتمنى أن يكون (هو) بول النبي عليه الصلاة والسلام!!!! فهل هذه هي الدعوة، وهل صار مقام الهادي مبخوس الحق إلى هذه الدرجة!

في بلد آخر دخلت فتيات في الإسلام بجهود دعاة كثر ولكن خطاً تكفيرياً حربياً تلقفهن في النهاية، وأقنعهن بوجوب تغطية الوجه، ثم أقنعهن أن أموال الكفار مباحة ، فدخلن محجبات مجلببات إلى مركز تجاري ليسرقن ما أحله لهن أولئك المفتون الجهلة، وسجلت الكاميرات ماقمن به، وأتى الحرس ليخرجوا بعض الأغراض من بين أثدائهن!!! (أمام الجميع) .. فهل لهذا الخط علاقة بالدعوة إلى الله ..

الآية الكريمة: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) تغيب أحياناً … وبديع الزمان رحمه الله كان يتألم ويخشى العاقبة فنبه من وَرَاءَه قائلاً: (إن سيئة واحدة إذا ألقاها فرد منا في ساحة هذا الوجود يوشك أن تصبح بعد سنوات من الزمن جريمة لا تنسب إلى فرد ولا تنحصر في شخص ، بل تنصبغ بها ملايين من النفوس الإسلامية ، وستكشف لكم الأيام والأعوام القادمة عن أمثلة كثيرة لصدق هذه الحقيقة) الخطبة الشامية – ص21.

لا تكفي إدانة الغرب، ولا الصراخ في الليل والنهار على بقية أشلائه، فهو الذي يقف في العالم كله على مقدرات بلادنا وجثث نسائنا وأطفالنا وشيوخنا واقتصادنا وسياستنا بل علمنا وثقافتنا! هل هو نوع من الغباء نقوم به أم ضرب من التخدير نوهم به الشعوب المسكينة أن النصر قد لاح من وراء خطابات نارية لا تقدم في ميزان العمل المنتج والفعال شيئاً! ولعلها تعين الظالمين إذ توهم الأمة أنهم معها في خندق واحد ضد الغرب الكافر .. والحق أن الحكام الظالمين هم الذين أباحوا الأمة لكل أنواع الاحتلال، وهم الذين كمموا أفواه الأحرار فيها وهم الذين ينفذون مآرب الطامعين بها.

العالم الغربي يحمل بذور فنائه في داخله، هذا صحيح، ولكن ماذا نحمل نحن؟ ماذا جهزنا للأمانة التي حملنا الله إياها، ماذا نعد للبشرية المنكوبة بمناهج الشرق والغرب الغافلة عن الله … كيف سنرث هذه الأرض وكيف سنصلحها؟

ماذا أعددنا .. بلاداً مليئة بالظلم والفساد! أم حكاماً يظن أحدهم أنه لم ينزل على الأرض ملاك بمثل طهره وقداسته! أم شعوباً خانعة أدمنت الظلم حتى ظنته رحمة من السماء! أم بعض المتاجرين بالدين والإيمان مما يسبحون بحمد الظالمين والطغاة ليل نهار … حاشا أن نكون مثل الضباع التي تنتظر بقايا الأسود حتى تأكل من فتاتها وفرائسها وعلى مائدتها.

تكلم أحدهم (داعية فاضل) عن تكريم الإسلام للمرأة، وهاجم الغرب هجوماً غير مسبوق فيما يتعلق بالأسرة ، وقد أصاب في أكثر ما ذكر، بل الأمر أعظم مما قال بكثير، فأحببت أن أتعرف عليه .. فأخبرني قريب له بأن لا أكترث كثيراً بكلامه لأنه منذ أيام كسَّر كرسياً خشبياً على أكتاف زوجته المسكينة التي أحال حياتها إلى جحيم! لنصلح أنفسنا أولاً قبل الوقوف على أشلاء الآخرين.

وتسأل عن النظام السياسي في الإسلام فتجد غالباً أحد جوابين: إن كان الأخ سنياً أحالك إلى الأحكام السلطانية للماوردي (والماوردي إمام كبير عظيم يحتاج إلى من يحمل روحه ويمضي بالقافلة إلى الأمام) وإن كان الأخ شيعياً حدثك عن ولاية الفقيه (وهي نظرية اخترعها آية الله منتظري (فك الله أسره) ثم نقضها! لما رأى من الإجحاف في استخدامها ومصادرة عقول الناس بها) .. ومنهج النبي الهادي الذي كان يجعل الأمة تفهم الساحة المشتركة بينها وباقي البشر كاد أن يضيع، فأين إعلانه عن قبول حلف الفضول لودعي إليه ، وأين: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، بل أين هي عالمية الإسلام التي نتغنى بها ونحن ندفنها كما تدفن المؤودة ، أين هي “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” فلا تسمع إلا أن الديمقراطية كفر والحرية فجور والعدالة بدعة والعلمانية من عمل الشيطان (هكذا بإطلاق)، وهذا كلام مناسب لخطيب متحمس ذو سبعة عشر عاماً في قرية نائية فلت منه لسانه في لحظة حماس دافق.

متى سندقق الأمور بمبضع الجراح لا بساطور الجزار، فنقول بدقة وفقه وتقوى وفهم ماسبق وما سيأتي: هذا القسم مقبول وهذا القسم مرفوض، وهذه النظرية جزء منها لا إشكال لنا معه، والجزء الآخر نتعاطى معه ضمن الظروف والجزء الثالث لا مجال لدينا لقبوله بحال! لقد كان لدينا خطاب تعميمي إطلاقي نأى عنه صدور العلم الأوائل في هذه الأمة لكن السياسة خلال التاريخ صهرته فضاعت ملامح أجزاء منه، ولكنه بقي موجوداً إلى أن أجهزت الأنظمة الثورية العربية على بقاياه وعمقت تلك الروح التي هي أقرب إلى روح الجاهلية الأولى منها إلى روح أهل العلم المدققين المنصفين.

“قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس! فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كَرَّةً بعد فَرَّة وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك”

– صحيح مسلم، باب الفتن وأشراط الساعة، 2898.

عقلية الوأد والقتل لم تنته بل هي ثقافة ضاربة في الجذور، لم تدع مفصلاً إلا وتسللت إليه، وإن لم يمكن القتل الفعلي فلا أقل من الضرب المناسب (لا يُظن بالعدو إلا الخراب والأذى والإجرام ، ولكن مابال ثقافة القتل والوأد تزدهر، ونفسية التوحش تنطلق مما لم يعد الإنسان يطيق احتماله بين أبناء الأمة الواحدة ..في العراق واليمن .. في الجزائر والسودان وآخره في لبنان …) .

على مستوى متواضع  طلب مني أخ يدير مركزاً إسلامياً في أن أعينه في تحفيظ القرآن الكريم للأطفال الصغار، الذين أحسست معهم أني أصافح ملائكة نزلوا من السماء، ولم يعكر الأمر إلا رجل قاسي الملامح اقتحم المكان وبيده عصا (خيرزانه) طولها متران ونيف ، وكانت كفيلة بإعادة الاستقرار والأمن وقمع كل وشوشات الأطفال وزقزقاتهم (تشابه في دورها كتائب حفظ النظام في الدول العربية الرشيدة) .. وقلت للأخ: لماذا هذا الرجل هنا ومن هو؟ ولماذا يسمح له بالضرب؟ فأجاب بأنه الإمام السابق واحتراماً لسابقاته في الخير فقد أبقي له مجال مفتوح! وليس بإمكان أحد أن يحد من صلاحياته! فقلت والأطفال! ماهو الأثر عليهم؟ فقال: إنهم يأتون بضغط الأهل! ولكنهم بعد الصف السادس يهجرون المسجد! وخصوصاً الفتيات! وأي محاولة للإكراه فسيقوم الطفل بالاتصال بالشرطة! وعندها فسيكون الأهل في مأزق!

هؤلاء الأطفال والذين سيغدون شباباً كارهين للمسجد أو عندهم قابلية للذوبان ليسوا نتيجة تأمر عليهم من الغرب ، ولا سياسات ماكرة تبعدهم عن دينهم، وليسوا أشخاصاً سيئين، بل بالعكس لعل أكثرهم يحمل فطرة رائقة قل منا من يحملها، ولكنهم وئدوا تحت الجهل المتراكم، وبعض طفيلي الدعوة عندما يسمع بأخبارهم قد يقول: لو كان فيهم خير لما انحرفوا! وينسى أنهم ضحية تخلف الأمة وتقاعسها بل ربما يقوم بعض الدعاة منا بمعاص قلبية وانحرافات أخلاقية أسوأ من كل مايقع به أولئك …. ودعيت لإلقاء ندوة علمية يحضرها بعض الدعاة، فإذا بأحدهم يمتنع عن مصافحتي فدهشت لذلك! فأخذني على طرف وأخبرني هامساً بأن الحكومة تعزل الأئمة الذين لا يصافحون النساء! (لم أستطع التأكد من الموضوع) ولم يشأ الرجل أن يقع في الحرج! فأعلن لمن حوله أنه لا يصافح أحداً (لا من الرجال ولا النساء) وهذا يعتبر من الحريات الشخصية فيكون سبباً للنجاة!

أما في لندن فلم تصدق أختان مسلمتان أذنيهما عندما أخبرتهما أنه لا دليل على أن صوت المرأة عورة، لأنهما بعد جهد شديد استطاعتا تأسيس برنامج في إحدى محطات الراديو يبث للجالية المسلمة، ويقدر عدد المستمعين له بنصف مليون شخص، ولكن البرنامج توقف لأن صوت المرأة عورة، ولو كانت تدعو إلى الله بجد بينما بعض الدعاة الرسميين مثل الأموات بل اللصوص لا هم لهم إلا تكديس الأموال، وليبق أبناء وبنات وبيوت المسلمين نهبة لكل فكر فاجر شرود.

إن لم يكن الوأد للأمة في الأمثلة السابقة فكيف يكون؟

ليس واقعنا المزري على كل صعيد هو البديل (رغم وفرة الخير فينا) وإن الحضارات الراشدة لاتدمر ماقبلها مثل المغول والتتار، بل تأخذ أفضل ماعندها وتتجنب مقاتلها وتعيد استيلاد الحق في جنباتها ، ثم تعجن ما ورثته بروحها ومبادئها فتخرج النموذج الفريد.

عقود قليلة تفصلنا عن فرصة استلام راية البشرية، وينبغي أن نستعد لها لا بتخلفنا ولا بجهلنا بل بمنهج حضاري إيماني يجعل الحضارة بين أيدٍ صالحة، ويجعل تلك الأيدي الصالحة ممتدة بالخير، موصولة القلب مع الله، وعندها فستخرج البشرية كلها من الظلمات إلى النور، وعندها فقط تتحقق الرسالة وتغدو الأمة كلها: الرحمة الكبرى للعالمين.

أحمد معاذ الخطيب الحسني

دمشق الشام/ 6 جمادى الأولى 1429هـ/ 11 آيار 2008م

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.