العلامة القاضي الشيخ محمد مرشد عابدين (رحمه الله)

هذه الكلمات لم أرد لها أن تبقى حبيسة الورق، وكان مقدراً للعبد الفقير أن يلقيها بتاريخ 8 شباط 2008 م خلال محاضرة تأبينية للشيخ رحمه الله، في مقر جمعية التمدن الإسلامي باسم الجمعية، وضمن برنامجها الثقافي الشتوي لعام 1429هـ/2008م ، كون الشيخ أمضى أكثر من سبعين سنة عضواً فيها! إلا أن هناك من اتصل بنا وطلب إيقاف المحاضرات لأن هناك من يقوم بدراسة ….. !!!! ويجب أن تأتي موافقة ……..!!! رغم كل قانونية إجراءاتنا …. ومازلنا ننتظر الموافقة …. ولا ندري على ماذا!!!

أسرة آل عابدين أقدم أسرة علمية دمشقية على الإطلاق فقد أتى جدهم الأعلى إسماعيل بن حسين الحراني الحسيني (347هـ/958م ) من بغداد إلى دمشق، وتولى نقابة الأشراف فيها سنة 330هـ/941م ، ويرجع اسم الأسرة إلى جدهم صلاح الدين بن نجم الدين الملقب بعابدين تشبيهاً له بجده الإمام علي زين العابدين رضي الله عنه وكثرة عبادته وصلاحه.
ينتهي نسب الأسرة إلى الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم جميعاً) زوج السيدة فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتلتقي أسرتا عابدين والحمزاوي في جدهما الأعلى السيد حسين النتيف رحمه الله.
آل عابدين من أعرق أسر العلم في الشام ومنهم العلامة الفذ محمد أمين (1252هـ/1836م) صاحب الحاشية المشهورة والتصانيف النادرة، ومنهم العلامة علاء الدين (1306هـ/1888م) صاحب الهدية العلائية ، ومنهم مفتي الشام محمد أبي اليسر (1401هـ/1981م) الطبيب والفقيه والمؤرخ والمجاهد ، وشقيقه العلامة القاضي الشيخ محمد مرشد بن أبي الخير … وهو مسك ختام تلك الدوحة العلمية الباسقة في بلاد الشام ، والتي نرجو الله أن يجعل من أبنائها خلف الخير لسلف العلم والفتيا والفضل والمجد.
في يوم الخميس 27 ذي القعدة 1428هـ الموافق 29تشرين الثاني 2007م قضى الله أن يرحل عن هذه الدنيا الفانية بقية العلماء الأفذاذ من آل عابدين القاضي الشيخ محمد مرشد وقد تجاوز من العمر التسعين.
ولد الشيخ مرشد رحمه الله تعالى عام 1333هـ/1914م ، ونشأ في رعاية والده محمد أبي الخير (1344هـ/1925م) وكان مفتي الشام ، ومن كبار علمائها وقضاتها ، ولكن اليتم لحق الشيخ مرشد فاعتنى به أخوه الأكبر علامة الشام ومفتيها الطبيب أبي اليسر رحمه الله ، وزرع في قلبه حب العلم التي تميزت به أسرة آل عابدين ، وهو أستاذه الأساسي وقد تخرج به وأجيز منه إجازة عامة ، فضلاً عن إجازة بأعلى الأسانيد من والده رحمهم الله جميعاً.
نشأ الشيخ مرشد عالماً فقيهاً حقوقياً ، عمل مدة في المحاماة وقاضياً في الحسكة والنبك ، ودوما ودمشق ، ثم نائباً لرئيس محكمة التمييز ، ثم رئيساً لمحكمة النقض ، وعضواً في مجلس الإفتاء الأعلى ، ومدرساً في مساجد دمشق ، وخطيباً لجامع الورد الكبير.
من زملائه في الجامعة السورية وقد تخرج منها عام 1935م السادة الأعلام: معروف الدواليبي، محمد المبارك، أحمد مظهر العظمة .. ومن زملائه في القضاء السادة العلماء: عبد الرؤوف الإسطواني ، علي الطنطاوي ، محمد بشير الباني..
تميز الشيخ فضلاً عن العلم بأخلاق رفيعة تليق بالعلماء الكبار فقد كان شديد التواضع (ولا أعرف عنه أنه رشح نفسه لمنصب) يكاد اللطف يقطر منه ، ولم يكن يحب تصدر المجالس و لا يبحث عن الشهرة ، لا يكاد يجالسه أحد إلا ويشعر كأنه من أصحاب الشيخ القدماء لمباسطته ضيوفه وبشاشته ومؤانسته ، وكانت فيه دعابة رائقة ، ونكتة لطيفة ، وحديث عذب ، مع هدوء ووقار ، ليس بصاحب فضول ، وحتى إذا حزم فقد كان حزمه معجوناً باللطف ، محفوفاً بالحلم ، ولم يكن متعصباً لمذهبه الحنفي بل يطرحه بطريقة سلسة تجمع بين رأي الفقيه وإقناع القانوني ، ولا يمل الإنسان من حديثه لكثرة مافيه من العلم والأدب والخبرات.
وقد شرفني يوماً بحضور خطبة الجمعة وبصعوبة قبل أن يؤم الناس ، وليس في المسجد من هو أعلم منه ، وكأنه من زمرة من قال عنه أهل التربية : عارف بلا نَفس.
كان للشيخ رحمه الله دار في الزبداني وكان يقضي أيام الصيف فيها ، ويقصده أصحابه ومن أبرزهم قريبه الأستاذ ظهير الدين الكزبري رحمه الله رئيس جمعية التمدن الإسلامي والأمين العام لوزارة الأوقاف ، وحدث ماشئت عن العلم والفائدة واللطف والأدب في تلك المجالس.
مما كتبه الشيخ رحمه الله كتاب الدر الثمين في نسب السادة الطاهرين. وتكملة التقرير في التكرير (وأصلها لوالده في علوم القرآن) ، ومرشد الحيران إلى بحوث القرآن، وقصص الأنبياء ، وكتاب في الحج، ومجموعة أدعية.
واكب الشيخ تأسيس جمعية التمدن الإسلامي بدمشق، وهو من رعيلها الأول ، وبقي في هيئتها العامة حتى وفاته رحمه الله ، وقد كتب في مجلتها ثلاث مقالات (عن المرأة في الإسلام : السنة الأولى، الجزء الثامن ، ص 293، 1354هـ) ، ومقالة عن نصاب الزكاة (السنة الأولى ، العدد العاشر ، ص 402، 1354هـ) ، ومقالة عن تصحيح حكم شرعي (السنة الثانية ، العدد السابع، ص333، 1355هـ) .
ومما ذكره الشيخ رحمه الله في مقالته الأولى رأي طريف حول مشاركة المرأة في الانتخابات ، فهو لا يمنعها منه (فإنها غير ممنوعة عليهن بالنص ولكنها تمنع عليهن لملازمتها لأشياء محظورة) وذكر منها الاختلاط ، وأن الخصوم تقوم بينهم المنافسة المادية والمعنوية فيطعنون في بعضهم وقد يتعرضون للأمور الشخصية وهذا مما يحط من قدر المرأة.
فالشيخ لا يرى حرمة المشاركة (كما تظن بعض الجماعات الإسلامية اليوم وتطلق فيه الحرمة) ولكنه يريد درء الأذى عن المرأة من تغولات السياسة ، وهو شأن الشيخ مع الأمور السياسية إذ لم يكن يحبها ولا يحب الخوض فيها.
ومن طريف رأيه كذلك أنه فضلاً عن الاختلاط فإنه لم تجعل في يد المرأة الإمامة والقضاء لرقة عواطفها وعدم تمكنها من تحمل المشاق (فإن الإمامة تقتضي السهر على أمور العباد ، وشيئاً من الخشونة التي لاتقوى المرأة عليها … ) وكأني بلطف الشيخ كسوة يكسوها كل ما يصادفه حتى فيما يطرحه من الأحكام والآراء.
أما مقالته الثانية فكتبها رداً على سؤال عن نصاب الزكاة وجه إلى المجلة فحولته إلى الشيخ رحمه الله فرد بجواب وافر اختصرته المجلة ، وذكر الشيخ في الجواب أن الأصل فيما عدا (الحجرين – الذهب والفضة- كالماس والياقوت والزبرجد والجواهر والأوراق المالية! المستعملة في زماننا ، وسائر العروض لا زكاة فيها إلا إذا كانت بنية التجارة!) وقد تعبقه محررالمجلة في الهامش بقوله: وهل تقاس الأوراق المالية على سائر العروض؟ وهي بحكم النقد عملياً!.
وأبت أمانة الشيخ العلمية إلا أن ُتظهر الصواب فإذا بمقالته الثالثة بعنوان : تصحيح حكم شرعي، وجاء فيها: (لقد ذكرت في المقال المنشور في العدد الممتاز من السنة الأولى من مجلتكم الغراء أن الأوراق المالية حكمها كالعروض فلا زكاة فيها إلا بنية التجارة …. وبما أن ذلك خطأ وسهو جئت راجياً تصحيح الحكم الشرعي في ذلك كما يأتي ..) ثم ساق الشيخ جملة من آراء العلماء وكتب بعدها مايلي : (فمن هنا يتضح حكم الورق المستعمل في زماننا عملة رائجة ففيه الزكاة ولو لم ينوه للتجارة، ولا يعامل معاملة عروض التجارة …. إذ الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ويكثر السؤال عن ذلك في هذه الآونة ، وإذا ظهر لأحد شيء فيه فليبين الحكم الشرعي وأنا له من الشاكرين ، وفوق كل علم عليم).
أكرم الله الشيخ حتى أيامه الأخيرة بكامل قواه، وقبيل وفاته بأسابيع كان يتابع برنامجاً تلفزيونياً لأحد العلماء، فإذا بالعالم يجلنبه الصواب في مسألة ، فيبادر الشيخ رحمه الله إلى الاتصال به وتصحيحها.
تزوج الشيخ رحمه الله عام 1327هـ السيدة عفاف بنت مسلم عابدين (من الأبطال الوطنيين الذين أعدمهم جمال باشا السفاح في بيروت) ولم يعقب الشيخ ذرية، وإنما أعقب السيرة العطرة في العلم والفضل والنبل والإخلاص.

نعزي أنفسنا وعلماء دمشق وعائلة العلم والفضل آل عابدين ذرية العترة الطاهرة وأقرباء فقيدنا وإخواننا الكرام في جمعية التمدن الإسلامي بوفاة كبيرنا وعالمنا القاضي العلامة مرشد عابدين رحمه الله ونسأل الله أن يعلي مقامه عنده وأن يخلف عائلته وبلده وأهل العلم بعده بخير.
اللهم اكتب لنا الأجر في مصابنا وعوضنا خيراً عنها ، وإن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مراجع البحث:
1- معجم الأسر والأعلام الدمشقية، د.محمد شريف الصواف، دمشق، بيت الحكمة،2/625.
2- مجلة التمدن الإسلامي ، السنة الأولى 1354هـ، والسنة الثانية 1355هـ.
3- غرر الشآم، د.عبد العزيز الخطيب الحسني، دمشق،دار حسان،2/996.
4- ذكريات عائلية وشخصية

أحمد معاذ الخطيب الحسني

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف الأعلام, الراحلون, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.