في ذكرى ولادة الهادي عليه الصلاة والسلام

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ{[1] ، وأصلي وأسلم على خير الخلق سيدنا محمد }فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [2]، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الغر المباركين وسائر المتبعين المهتدين وبعد : فهذ أيام الذكرى العظيمة ذكرى ولادة الهادي عليه الصلاة والسلام وما أشد حاجتنا للاقتداء به في كل سبيل، ومن قرأ كتاب العلامة أبي الحسن الندوي (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) عرف ماذا يحل بالحياة عندما ينأى المسلمون عنها ، ومن يقرأ سيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدرك ماذا يحل بالمسلمين إذا بعدوا عن منهج نبيهم الهادي ، ولاشك أن جوانح كل مسلم تضم من الحب لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما لم تشهده البشرية يوماً حباً لأحد ، وهذا الحب الدافق ينبغي أن يمده اتباع صادق وعلم صحيح ، وما أكثر حبنا للنبي الهادي عليه الصلاة والسلام وما أكثر حاجتنا إلى زيادة التفقه في سيرته وخلقه ومنهجه ، و (المراد من التفقه علم راسخ في القلب ؛ ضارب بعروقه في النفس ، ظاهر أثره على الجوارح ؛ بحيث لايمكن صاحبه ارتكاب مايخالف ذلك العلم وإلا لم يكن عالماً)[3].

كيف للعين الكليلة أن تحيط بالنور كله ، وكيف للسواقي الصغيرة أن تحمل البحر الزخّار ، وكيف للنفوس الفانية أن تدرك الجلال كله والافتقار كله في ليلة يقومها سيد الخلق عليه الصلاة والسلام يبكي ويتضرع إلى الله في قومه الذين آذوه فما لقوا منه إلا البر وذروة الإحسان: )إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ([4].
وكيف للعليل أن يعرف العافية ، ولمن لم يعرف حب الهادي لأمته أن يتذوق عذوبة كلامه عليه الصلاة والسلام : (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً ، فجعل الجنادبُ والفراشُ يَقعنَ فيها وهو يذُبـُّهُنَّ عنها ، وأنا آخذ بحُجَزِكُم عن النار وأنتم تفلتون من يدي)[5]، ,وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ-[6] .

فياسيرة محمد عليه الصلاة والسلام ابعثي روحك فينا ، ويامنهج الإيمان جدد رِي صَادينا: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة: فأفضلها قول لاإله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان)[7].
ذكر العلامة صلاح الدين المنجد[8] أسماء أكثر من ألفين وخمسمائة كتاب باللغة العربية وحدها ، منها ستة كتب في صفات نعاله عليه الصلاة والسلام! ، فهل ترى على الأرض أمة تحب أحداً كما يحب أتباع محمدٍ محمداً عليه الصلاة والسلام.
ولقد بلغ من محبة النبي عليه الصلاة والسلام في قلب القاضي أبي شجاع صاحب متن الغاية والتقريب ، وقد خدم الحجرة النبوية الشريفة زماناً ، أنه استأذن في أن يدفن في أقرب مكان إلى الحجرة التي شرفها الله بنبيه عليه الصلاة والسلام ثم صاحبيه رضي الله عنهما ، وأن توضع على قبره شاهدة صغيرة يكتب عليها (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد).

أما اللواء المرحوم عبد الكريم العابد فحدثني أنه كان أثناء خدمته العسكرية يتعجب مما يسمع عن رقة قلوب كثير من المؤمنين ، وحرارة عاطفتهم عندما يذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وكان يعزو ذلك إلى بساطتهم ، وضعف قلوبهم (فهم ليسوا مثل محدثنا الذي قابل الرؤساء والملوك وخاض الحروب وشارك في الانقلابات) ، ومضت الأيام وصار الرجل متقاعداً ، وكتبت له زيارة الحبيب المصطفى ، فقال : أحسست بالهيبة الشديدة عندما اقتربت الطائرة من المدينة المنورة زادها الله شرفاً ، ومن الفندق انطلقنا تجاه المسجد النبوي وبدأت أحس بوجل في قلبي ، ثم ارتعاش في يديَّ ، وكلما اقتربنا زاد الأمر فلما لاحت القبة الخضراء زادها الله بهاء بدأت أحس بركبتي تضعفان … وأنا أتجلد وأحس بتهيب عظيم ، ولما دخلت المسجد بدأ جسمي كله بالارتجاف ، فلما صرت أمام المواجهة الشريفة لم تخرج من فمي الكلمات وأنا أريد ان أقول :السلام عليك ياسيدي يارسول الله بل سبقتني العبرات وأخذت أرتجف مثل أوراق الخريف في يوم عاصف والدموع تنسكب من عيني وتجري .. لقد عرفت وقتها جهلي ومن هو رسول الله محمد … صلى الله على محمد وآل محمد وصحب محمد … ,لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا-[9].

دعونا ياشباب الإسلام وبناته الأبرار نزداد تعرفاً على نبينا الهادي ونملأ قلوبنا من محبته ، دعونا نرقق أفئدتنا ونروي ظمأنا من كريم سجاياه وأخلاقه في كل مكان وحين ، ولا نستنفر لمحبته فقط إذا تطاول الصغار وماهم ببالغيه.
إن البشرية كلها تئن وتتخبط تبحث عن هاد في عتمة الليل ومن لها غيركم ياأبناء وبنات الإسلام تنشرون النور ، وتخرجون البشرية من التيه العظيم؟ من يفقه سيرة محمد عليه الصلاة والسلام ومنهجه ، فيعيد مد الإسلام في الأرض حضارة ومدنية ومنهج عافية وتوازن وشمول وكرامة وولاء لله.

وياسيدي يارسول الله :

أي ذكرى أهجتها أي ذكرى[10]
فاستهلت على شفاهي شعرا
أنت ألهمتني النشيدَ وأوحيـ
ـتَ لي اللحن يعربياً أغـرا
أنت أرعشت أنمُلي فوق أوتا
ري فسالت على رَبابي سحرا
خفَقَ القلب عند ذكراك يهفو
وعلت في فمي التسابيح تَترى
وجناحي المَهيـض واهٍ مُعَنىَّ
وعلى مخلبي دمــائي حُمرا
رغم دنيا الأذى وغدر زماني
عِشت حراً وسوف أُدفن حرا
أمةٌ أخجلَ الزمان كَراهـا
واعتراها الهوانُ طوراً فطورا
ذَكِّري قومي الغفاة زمانـا
ذكريهم قد تنفع اليومَ ذكرى
وأغاني الجراح أشجى أغانٍ
هدهدتها الآلام عصراً فعصرا
فإذا ما أسكبتُ دمعي لحناً
يوم ميلادكَ الوضيء فعُـذرا
هي ذكراكَ قد أثارت شجوني
هي ذكراكَ يالها اليوم ذكرى

اللهم قد أحببنا نبيك الهادي عليه الصلاة والسلام رغم كثرة التقصير ، وملأت محبته قلوبنا رغم بعدنا عن كثير مما مننت به علينا من خلقه العظيم ، فأكرمنا بحسن الاتباع له والتخلق بأخلاقه ، ثم هبنا بمحبتنا فيه لشفاعته عندك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجز عنا سيدنا محمداً صلى الله عليه وآله ماهو أهله واجعلنا تحت لواءه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وصلي عليه في الأولين والآخرين وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الهداة الفاتحين ، واجعلنا ممن }دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{[11].

كتبه أفقر العباد إلى الله
أحمد معاذ الخطيب الحسني

[1] – سورة سبأ ، الآية 1.
[2] – سورة الأعراف ، الآية 157.
[3] – جمال الدين القاسمي ، محاسن التأويل ، سورة التوبة ، الآية 122 ، المجلد 8 ، ص3300.
[4] – سورة المائدة ، ص 118.
[5] – أحمد بن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، كتاب الرقاق ، باب الانتهاء عن المعاصي ، الحديث (6483).
[6] – سورة الحجرات ، الآية 7.
[7] – يحيى بن شرف النووي (676هـ/1277م) ، شرح صحيح مسلم ، دم ، المطبعة الكستلية ، 1283هـ ، كتاب الإيمان ، باب بيان عدد شعب الإيمان ، ، 1 ، ص 126.
[8] – في كتابه : معجم ما ألف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وقد طبعته دار الكتاب الجديد ، بيروت ، 1402هـ/1982م.
[9] – سورة الفتح ، الآية 9.
[10] – من قصيدة ألقاها الأديب عبد السلام الجزائري بعنوان: سأظل باسمك الحياة صداحاً في حفل أقامته جمعية التمدن الإسلامي بدمشق ، ونشرته مجلة التمدن في عدد جمادى الأولى 1367هـ/نيسان 1948م.
[11] – سورة يونس ، الآية 10.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.