العلامة الشهيد الدكتور صبحي الصالح

العلامة الشهيد الدكتور صبحي الصالح
(1345-1407هـ/ 1926-1986م)
مثل الشمس الساطعة في أيام الشتاء الباردة ، ومثل العافية بعد المرض كان قدوم صبحي الصالح في الساعة الثامنة والنصف من صباح كل يوم إلى مقر جمعية رعاية أطفال المسلمين في لبنان ، فينفق وقته في الإشراف على مدرستها لرعاية الأيتام ، ومتابعة مدرسة أخرى لتعليم العلماء المسلمين اللغات الأجنبية … وكان قدومه يملأ النفوس بهجة بعمامته المهيبة ووجهه المشع بالنور وابتسامته التي لم تكن تفارق شفتيه ، والتي تبعث الأمل وتخفف عسر الحياة في وجه كل من يلقاه.
تأخر الشيخ صباح يوم الثلاثاء الخامس من صفر 1407هـ الموافق للسابع من تشرين الأول عام 1986 لأنه ذهب لرفع كربة طفل ، ولمساعدة أحد طلابه الفقراء .
كان يستقل سيارة أجرة كل يوم ويشتري في طريقه جريدة الصباح … لكنه في ذلك اليوم لم يقرأ سوى عناوينها ، ولم يتح له أن يدخل جمعية الأطفال فعند وقفت سيارة الأجرة وهم بالنزول اندفع باتجاهه مجرمان ملثمان يركبان دراجة نارية ومن مسافة قريبة جداً أطلقت عليه ثلاث رصاصات دخلت في جبهته وتحت عينه وفي فكه … لتنقله فيما نرجو الله إلى عالم الشهداء.
لم يكن صبحي الصالح يسد ثغرات عظيمة في مجتمعه وبلده وحتى في الأمة المسلمة فحسب بل كان يمثل بحق الإنسان الذي كرمه الله ، فحقق كرامة الله فيه بنموذج قل نظيره في المعرفة والتقى والسمو والتسامح … لم يفقده فقط أيتام لبنان.. ولكن المسلمين جميعهم فقدوه، وخصوصاً أهل السنة والجماعة في لبنان فقد خسروا باستشهاده أحد أهم مرجعياتهم التي أعطتهم توازناً ورؤية حضارية واسعة وآفاقاً إيمانية مؤثرة … وساهمت في نقلهم من الغبش الحضاري والتشرذم إلى الرؤية الحكيمة والنظر البعيد، “وكان الصالح مقتنعاً أن حضارة العصر دائرة في الفراغ، مستعدة للرحيل … وكان يؤكد أن ضياع قيمة الإنسان هو الذي أضاع قيمة الحضارة، بين جماد المتحرك وتحرك الجماد، وبين انتصار الغريزة وانهزام العاطفة، وبين نفاق السياسة وعزلة الدين … وبرغم هذا كله كان الشهيد الصالح يتوقع حلول حضارة تقبل محل حضارة ترحل، وتوقع نور يسطع في أعقاب نجم يأفل، وإيناع حقول تثمر وسط روضات تذبل ..
إنها من الأفق البعيد تومض وتلوح …إنها من جديد حضارة الإنسان، لأنها حضارة الدين وقيم الروح”.

العلامة صبحي الصالح طرابلسي المولد من عائلة تركية الأصل ، نبغ فيها عدد من العلماء ، كأخيه الشيخ ناصر رئيس المحاكم الشرعية في لبنان ، والشيخ طه صابونجي مفتي لبنان الشمالي .
– درس في طرابلس وأتم دراسته الثانوية المدنية والشرعية في دار التربية والتعليم فيها ، ثم حصل على الشهادة العالية (الإجازة) من كلية أصول الدين في الأزهر الشريف عام 1947م ثم الأزهر ثم العالمية عام 1947م ثم سافر إلى فرنسة فنال شهادة دكتوراة الدولة في الآداب من جامعة السوربون عام 1954.
– قضى حوالي ثمانية وعشرين عاماً في التدريس الجامعي، في جامعة بغداد (1954-1956م)، وفي جامعة دمشق (1956- 1963م)، وفي بيروت العربية عمل أستاذاً للإسلاميات وفقه اللغة منذ تأسيسها وحتى استشهاده، وفي الجامعة الأردنية (1971-1973م)، وكان فيها رئيساً لقسم أصول الدين، وعين أستاذاً في الجامعة اللبنانية منذ عام 1963، وانتخب رئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها فيها منذ عام 1975، ثم عين مديراً لكلية الآداب والعلوم الإنسانية عام 1977م، ثم صار أستاذ كرسي الإسلاميات وفقه اللغة فيها. وحاضر أستاذاً زائراً في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، والكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين في الجامعة التونسية، وسمي في جامعة ليون الثالثة بفرنسة مشرفاً على رسائل الدكتوراة في الدراسات الحضارية واللغوية والإسلامية.
– نائب رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في لبنان.
– رئيس اللجنة العليا للقرن الخامس عشر الهجري.
– الأمين العام لرابطة علماء لبنان.
– عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة ، وأكاديمية المملكة المغربية ، والمجمع العلمي العراقي ، ولجنة الإشراف على الموسوعة العربية الكبرى.
منحته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم جائزة “التفكير الاجتهادي في الإسلام”.

– كان للعلامة الشهيد شخصية قوية ، وبديهة حاضرة ، وحضور محبب ، وجاذبية عفوية، وقد كان له في التلفزيون الأردني منذ أكثر من ثلاثة عقود مساجلات علمية راقية جداً مع بعض العلماء، وكان يدير ذلك الأستاذ الكبير ظافر القاسمي وهو ابن العلامة الشيخ جمال الدين، رحمهم الله جميعاً، أما في العراق فكان جامع أبي حنيفة في منطقة الأعظمية يكتظ بالشباب الملتزم العطش إلى المعرفة والعلم عندما كان يحاضر فيه العلامة الصالح ، ومن الطرائف الأليمة أنه كانت بين الشيخ الصالح وسيدي الوالد (محمد أبو الفرج الخطيب الحسني) رحمهما صحبة عميقة، واجتمعا في كلية أصول الدين في الأزهر، وكان الوالد هو أول أمين عام لاتحاد الطلاب السوريين في القاهرة، وواضع نظامه الأساسي، وكان يكتب بعض الأوراق بالعربية ويقوم الصالح بترجمتها إلى الفرنسية (وقد كان بارعاً فيها) ولست أعلم بالضبط عن ماذا كانت تلك الأوراق! مازلت أبحث لعلي أجد جواباً.
ولكن كما كان لهما مشرب متقارب في الحياة فقد اجتمعا في مشرب الموت، ومساء الاثنين مات سيدي الوالد فجأة وبعد أقل من اثنتي عشرة ساعة انتقل الصالح إلى جوار الله بطلقات مجرمة، فكان المصاب في قلبي مضاعفاً بفقد الوالد ثم استشهاد الصالح، رحمهما الله جميعاً.
من مؤلفات الشهيد الدكتور صبحي الصالح :
1- الإسلام والمجتمع العصري
2- النظم الإسلامية:نشأتها وتطورها ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1385هـ، 608ص.
3- المرأة في الإسلام ، بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1400هـ،57ص.
4- نهج البلاغة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ضبط نصوصه وابتكر فهارسه العلمية، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1387هـ، 853ص.
5- أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية (تحقيق وتعليق) ، ط2، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1401هـ، 2مج.
6- شرح الشروط العمرية (مجرداً من أحكام أهل الذمة) ، 1391هـ.
7- دراسات في فقه اللغة ، دمشق ، مطبعة جامعة دمشق،1379هـ ، 412ص.
8- مباحث في علوم القرآن، ط14، بيروت ، دار العلم للملايين، 1402هـ، 381ص.
9- الإسلام ومستقبل الحضارة، ط2، دمشق ، دار قتيبة، بيروت ، دار الشورى، 1410هـ،442ص.
10- منهل الواردين شرح رياض الصالحين للنووي، ط5، بيروت ، دار العلم للملايين، 1397هـ،2مج.
11- الإسلام والمجتمع العصري، حوار ثلاثي حول الدين وقضايا الساعة، بيروت، دار الآداب، 1398هـ، 272ص.
12- فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية/لويس غردية-جورج قنواتي، ترجمة بالاشتراك مع فريد جبر، ط2، بيروت، دار العلم للملايين، 1398-1403هـ، 3مج.
13- علوم الحديث ومصطلحه، ط8 ، بيروت، دار العلم للملايين، 1411هـ، 448ص.
14- معالم الشريعة الإسلامية، ط2، بيروت، دار العلم للملايين، 1398هـ، 422ص.
من بيروت مضت جنازة الصالح إلى طرابلس الشام بلد العلماء .. وفي الطريق وقفت كل مناطق لبنان وطوائفه ومذاهبة والدموع تترقرق في أعينها .. لأنه كان العالم الذي يلم الناس إذا افترقوا ويحيي فيهم الإنسانية إذا أطلت غرائز الوحوش، وأحنى الجميع رؤوسهم إجلالاً لموكب العالم المهيب، أما قتلته من المجرمين فظنوا أنه صبحي الصالح ومدرسته قد انتهوا ومازالوا يجهلون أن وراء الدجى يلد الفجر الجديد.

مصادر الترجمة :
– محمد خير رمضان يوسف ، تتمة الأعلام للزركلي ، بيروت ، دار ابن حزم ، 1418هـم1998م ، 1، 241.
– أحمد العلاونة ، ذيل الأعلام ، جدة ، دار المنارة ، 1418هـ/1998م ، 103.
– مجلة الشراع (أسبوعية – سياسية-عربية) ، السنة الخامسة، العدد239، الإثنين 13تشرين الأول 1968.ص 11-13.
– صبحي الصالح، الإسلام ومستقبل الحضارة، ط2، بيروت، دار الشورى، 1990.
– معلومات شفهية خاصة
– ملاحظة : صورة العلامة الصالح موجودة في قسم الصور

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف الأعلام, الراحلون, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.