كيلا نحج عند رجوع الناس – 2006-01-07

نبهنا أساتذتنا أحسن الله إليهم إلى أن للعوام كلمات يستخدمونها بمعنى مجازي ، كقولهم: (الله يطعمك الحج والناس راجعة) ، ويقصدون بذلك أنك حاولت تدارك الأمر بعد فوات الأوان ؛ ونبهونا إلى أن ذلك لا يحسُن من الدعاة وأهل العلم ، لأن فيه شبهة بالدعاء بفوات الخير، ولا ينبغي أن ندعو لأحد بمثل ذلك احتراماً لتلك الشعيرة العظيمة ، فالحج محّاء للذنوب ، وهو ملتقى الأمة الذي تستعيد فيها وحدتها وتلم فيه شعثها وتبعَثُ فيه من كل جهة منها ثلة ينوبون عمن خلفهم بالاستدراك والافتقار والولادة من جديد في حمل الأمانة وإصلاح السريرة وصدق الأخوة ، واستعادة الروح الواحدة التي تمزقها عوامل ضعف شتى يزيدها ضعف داخلي هائل ، وكيد خارجي مبين.
ولكن فقه ذلك يحتاج إلى توسيع ، فكما أن هناك من ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش فكذلك هناك من ليس له من حجه إلا التعب والنصب وكثيرة هي الأمور التي لا ينبغي للحاج أن يلتفت إليها كيلا تعطب حجه الآفات.
هناك من يبحث عن نزهة سياحية إلى جزر الهاواي داخل عرفات وهناك من ترى شفتيه لاتنطقان إلا بتلبية ضارعة كأنه يحاول أن يعوض عن تقصير أمة غافلة وراءه وقد غرغرت الدموع في عينيه وكاد محجراه يلتصقان بالسماء .
هناك من يحدثك عن بعد فندقه عن الحرم وآخر ذاب شوقاً إلى بيت الله وحدا به حادي الإيمان فلم ينتظر رفقة قاعد وكفى بالشوق له حاملاً.
هناك من يبحث عن مكان وسيع مريح له وحده في روضة النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم ، وثمة من هدَّه البكاء وخشع قلبه وكاد يقفز من صدره حباًً وشوقاً إذ من الله عليه بزيارة الحبيب الهادي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والصلاة في البقعة التي انطلق منها النور فعم الأرض وكان للمسلمين من أرضها دولة وكيان وصولة زرعت الهداية والحضارة في جنبات الأرض.
هناك من يفر من زحام الصلاة على الجنازة في بيت الله الحرام ويتسلسل هرباً من الجموع المتدفقة ، ورجل يصور نفسه كأنه هو الميت ، وهو في بيت الله الكريم العظيم الحليم ، وقد قام على جنازته (لا أربعون رجلاً من الموحدين كما ورد في الحديث الشريف) بل ملايين المفتقرين الشافعين الضارعين في أخيهم وهو في بيت الكريم وضيافته ؛ فيتمثل الرجل ذلك فلا تراه إلا وهو يرجو الله أن يهبه مثل أولئك المتشفعين بأخيهم في أكرم البقاع.
صور كثيرة أعظم من أن يحيط بها عد ، ومن أدام الفكرة كان له بكل شيء عبرة.
مامنا أحد إلا ويرجو الله أن يذيقه طعم الإيمان وحلاوته وأن يملأ قلبه بذلك الخير العظيم ، فإن من فوَّتَ مراد الله منه على خطر عظيم …. فما بالنا بمن ذهب يحج وقد رجع الناس!
تلك المقولة المبسطة (الحج عند رجوع الناس) نخشى أن تلف الكثير من أعمالنا دون أن ندري!
في إحدى البلاد الإسلامية التي تعرض فيها المسلمون لقمع وحشي في فترة من فترات التاريخ الحديث تغيرت بعض الظروف ، وزال بعض الغمة ، وصار للمسلمين هامش من الحرية نسبي ، فنسوا كل ما مضى ، كيف حصل الموضوع؟ ؛ لقد حاص بعض العلمانيين كعادتهم يتحدثون عن الأسرة واضطهاد المرأة … ومقولات أخرى! (وكلامهم فيه صواب وخطأ وحق وباطل) فلجأ بعض الدعاة الأفاضل الكرام إلى استعداء الدولة على خصومهم (التي تريد كسب الاسلاميين اليوم بعد أن وطئتهم بالأمس وطئاً وأبادت خضرائهم وأكلت الطائع والبرئ بحجة المبطل والمذنب) واللجوء على رجال الأمن ، وكأنهم نسوا أننا كلنا بشر وماوقعنا فيه من الظلم لانرضاه لغيرنا ، والقمع الذي تعرضنا له حاشا أن نذيقه لغيرنا ، بل إننا لوقدرنا على خصومنا لما كان الحكم بيننا إلا الحق ثم الحق ثم الحق فلسنا ممن يشتهي إسالة الدماء وليس فينا إلا من يعفو ويغفر ويحب في أعماق قلبه أن يهدي الله قومه إلى الإسلام فإنهم قوم لايعلمون ، ولو أننا حملة هذا الدين بأمانة وحق فعلينا أن ننهي الخصومات الفكرية بعملنا الصالح وحجتنا البينة الواضحة وفكرنا السابق الناطق (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة-256) ، نعم نلجأ للدولة والأمن في المسائل الجنائية ولكن لا نلجأ إليهم أبداً في مسألة وخصومة فكرية ، ولا نكرر دورة القمع على أيدينا ولا ندعهم حكماً بيننا وبين الناس ، ولا نقبل أن نوضع في مواجهة ثلة من الناس مهما تاهت مشاربهم ؛ كي نفوت فرصة أن يقبلوا يوماً أن يوضعوا في مواجهتنا ، ولا نبني قوتنا على ضعف ذوي السلطان ، ولا نرضى أن نصبح أوراقاً في أيديهم ولا نقايض حقاً معلوماً لنا بصفقات مستقبلية كلها تحسب علينا ، ولا نضيع فرصة نمو طاقاتنا وصقل علمنا وخبرتنا بالاعتماد على من هو بحاجة لعوننا … إن الفكر السقيم يواجه بالفكر المتوضئ النظيف … هذه مسألة … ومسألة أخرى:
دعت إدارة إحدى التلفزيونات العربية داعية فاضلاً إلى ندوة تلفزيونية ، فإذا بمذيعة وامرأتين معه وكلهن سوافر ، ولم يكن الداعية يتوقع ذلك فقدر أن المصلحة تقتضي عدم إضاعة هذه الفرصة ، فتكلم على مرأى من الناس كلهم ومسمع ، لا في خلوة ولا وضع مشين ، وقال لي : أشهد أن الأختين لم تتكلما بكلمة تخدش من الإسلام ولم تسيئا إليه بحرف بل تكلمتا صواباً وخيراً ونرجو الله أن يهدينا جميعاً إلى مزيد من الالتزام والعمل الصالح …
قال الداعية الفاضل : لقد تلقيت خلال ساعات أكثر من مائة مكالمة ، لم تعترض علي واحدة منها في أمر منهجي ولا فكرة ذكرتها بل كلها انتقاد لجلوسي ذلك المجلس ، وأنا فوجئت بالموضوع ولو استطعت أن أكون في وضع أفضل لما قصرت ، وعلينا أن نبذل جهدنا ما استطعنا كي نوجد جواً أقرب إلى الأبعاد الشرعية ما استطعنا! ولكن : لماذا مازلنا نحرق بعضنا حرقاً ، لماذا لايقول الإنسان لأخيه: الصواب كذا والأفضل كذا ، ولكني أقدر ظرفك يا أخي واجتهادك رغم أنني أخالفك ، وأدعوك في المرة القادمة إلى أن تطلب كذا وتحقق كذا … لماذا نعيش في غرفة ليس لها إلا نافذة واحدة ، لماذا لا ندرك الظرف ثم نحاول أن نغيره … بعمل يعين كل منا فيه الآخر دون أن يذبحه ويتمم كل منا فيه نقص الآخر … ولماذا لانستثمر الموجود أو نبني المقصود إن لم يرضنا الأول بدل أن نعيش على ناطحات من السراب.
تلك فضائيات فيها سلبيات كثيرة كثيرة ، ولكن! ماذا بعد؟ لقد فرحنا بوجود بعض الفضائيات الإسلامية ولكننا فوجئنا بأن النظارات التي تضعها ذات لون واحد تريد أن تصبغ الدنيا كلها به …. وليس سرأ أن بعض العاملين في إحدى الفضائيات قد انفصلوا عن بعضهم لأن ضيق مشاربهم لم تسمح لهم بالعمل ضمن صيغة إسلامية أعظم ولا الشعور بخطر مرعب زاحف!
إن تغيير الوضع السلبي إلى الوضع الإيجابي والأسلم شرعاً لا يحصل بالذبح بين العوام ولا بالتنظير ونحن بعيدون عن الساحة العملية ….
… بعد نقاش … اقترح أحد الأفاضل أن يكون المستضاف في الندوة امرأة مسلمة مفكرة قوية الحجة والبينة فازداد عجبي ، وسألت: وهل تسعى وتُخرج مناهجنا امرأة مسلمة متمكنة تستطيع الخوض في المتاهات الفكرية التي تتحرك بسرعة هائلة في وجه المد الإسلامي ، وهل نعد لذلك إعداداً مسبقاً ، أم أننا وبكل صراحة من أكبر عوائق حصول ذلك عملياً ، وأننا نتحدث عن ذلك عند الأزمة ، وفوق المنابر ، وللدعاية أحياناً ،وربما صادفنا مصادفة! داعية مسلمة بنت نفسها بنفسها بعد جهد هائل لاختراق الحصار ، وهي أندر من قطر السماء في الصحراء المقفرة الجدباء ، فوقتها نمد معها الجسور ونحمد الله على وجودها ، ثم نذبحها من الوريد إلى الوريد بلا شفقة ولا رحمة ( وعندي حول ذلك أمثلة مخجلة) وإن لم نجد تلك البطلة المنقذة رجعنا متحسرين شاكين متذمرين ، فإن تغير الوضع رجعنا إلى نوم طويل …
لماذا يذهب البعض إلى الحج عند رجوع الناس؟ ولماذا لم يكتشف بعض إخواننا المخلصين أن أهل القبلة جميعاً يد على من سواهم ، وان مناهج التفسيق والتبديع والتضليل والتكفير إنما هي عورات ينبغي سترها بل مناهج موت ينبغي دفنها حيث مقرها الطبيعي أن تدس على هون في التراب.
لماذا مازال عقل بعض المسلمين (وأقول بعض ولكنهم يضعون الأغلب في المتاهات) عقلاً متقهقراً إنسحابياً لايدرك الأمور إلا بعد فوات الوقت وذهاب الموسم!
نحن نتقهقر لأننا ننسحب ونتقوقع ولا يغير من طبيعة ذلك دعم تقوقعنا بالمال الوافر وكثرة احتشاد الطاقات وعلو الأصوات ، فإن سنن الله لا تحابي أحداً (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) (سورة الرعد – آية 17) .
أما الإتقان الجماعي للعمل فأمر له بحث طويل وخاص ولكنني أقول الآن : إن كل إهمال فردي في أي عمل باب خلل في العمل كله ، والعمل الصالح الفردي يأتي بعد الجماعي أو معه لا قبله … وتحضرني أبيات أنشدها المنشد الإسلامي أبي مازن بارك الله فيه :

قد اتسع الخرق والراقعون نيام ويقظانهم حائرون
وذو الرأي فيهم بطئ الخطا بليد المدى عزمه خائر
وذو العزم جُنَّ أنانية وأفسده المسلك الجائر

نعم كاد بعض ذوي العزم أن يجنوا من أنانية من حولهم وفساد مسلكهم ، وعلينا أن نصحح ونعمل ونفتح باب الأمل للأمة … وأن نضحي بضيق تصوراتنا وإذا كنا لانعمل أو لا نستطيع أن نعمل فلنفسح المجال للعاملين ، ولننصحهم نصيحة محب ، وإن لم يقبلوا فلنعد النظر في تصوراتنا فربما كنا نحن الذين جانبهم الصواب ….
فلندرك أيها الإخوة الأحبة والخوات الغاليات أن لكل وقت عبادته التي لاتصح إلا فيه ، ومن أفطر يوماً من رمضان عامداً لم يقضه صوم الدهر كله وإن صامه …. ولانريد أن نذهب إلى الحج أيضاً وقد رجع الناس .
تقبل الله منا جميعاً طاعاتنا وصالح أعمالنا وغفر ذنوبنا وتقصيرنا ،وبارك لنا فيكم جميعاً وجعلكم مفاتيح لكل خير مغاليق لكل شر ، وكل عام وأمة الإسلام بنعمة وعافية وقوة وخير.
– نوجه الشكر الجزيل لكل الإخوة والأخوات الذين أكرمونا برسائلهم الطيبة وشكر الله لهم ونرجو أن نكون عند حسن ظنهم جميعاً.
– نعتذر عن التأخر في الإجابة عن بعض الأسئلة ولكنها ستأتي تباعاً
– أرسل أحد الإخوة ( لفتة ) طيبة عن الإخوة ستجدونها في منائر في الدرب – تذكرة ، ونرحب بمواضيع دعوية تناسب خط الموقع.
نستودعكم الله تعالى …. وعيداً مباركاً

أخوكم : أحمد معاذ الخطيب الحسني

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.