سلسلة البناء الدعوي – 4

(سلسلة البناء الدعوي)
المبحث الرابع: مصارع الداعي
مطلب : آفات القلوب.
مطلب : عدم فهم المجتمع ثقافة وعادات.
مطلب : عدم فهم المجتمع إشكالات وضرورات.
مطلب : التعجل.
مطلب : الغرق في السياسة.
مطلب : حمل مالا يطيق.
تواجه الداعية أبواب فتن ومصارع عظيمة إن لم ينتبه إليها أودى بذخيرة الخير كلها، وكم من دعاة بذلوا كثيراً وغفلوا عن بوابات الهلكة فأردتهم وأحالت أعمالهم يباباً ، ومن أخطر المصارع التي قد يمتحن بها الدعاة إلى الله:
1-آفات القلوب : فإن المتصدي لهداية الخلق ربما نسي نفسه ، وصار يظن أنه يداويهم وهو عليل ، وقد تتعسر الأمور فينسب تعسرها إلى فساد الناس ، وينسى أن يفتش عما في قلبه ، وربما ظن لآفات فيه أنه من أهل الطريق ، وماشم بعدُ رائحتها ، و (العلم كالغيث ينزل من السماء ، حلوا صافيا ، فتشربه الشجار بعروقها ، فتحوله على قدر طعومها ، فيزداد المر مرارة والحلو حلاوة) . ومن أعظم الآفات التكبر: قالى تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، والتكبر ينقسم إلى باطن وظاهر: (فالباطن هو خلق في النفس ، والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح … وآفته عظيمة ، وغائلته هائلة ، وفيه يهلك الخواص من الخلق) ، (ومن اعتقد جزما ، أنه فوق أحد من عباد الله فقد أحبط بجهله جميع عمله) .
2- عدم فهم المجتمعات ثقافة وعادات وطباعا: تختلف طبائع المجتمعات البشرية وثقافاتها وعاداتها ، والمنهج الجامع في العلاقة معها هو قوله تعالى : يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ، وفي كل مجتمع روابط ثقافية واجتماعية ، يحافظ الأفراد والجماعات من خلالها على هوية خاصة ، ويلاحظ أنه (لم يأخذ أكثر فقهائنا عالمية الإسلام بعين الاعتبار -محددا منهاجياً- في تنظيرهم الفقهي لعلاقة المسلمين بغيرهم ، بل عبروا عن نو ع من الانطواء على الذات لايتناسب مع خصائص الرسالة الخاتمة والأمة المخرجة الشاهدة ، كما حدث نوع من التركيز على المحيط الجغرافي والاجتماعي بدرجة قد توحي إلى البعض بارتباط الإسلام بذلك المحيط الذي بلغه في فترة انتشاره الأولى) وفي بعض الأحيان تتصادم بعض تلك العادات والأبنية الثقافية والإجتماعية مع السلوكيات والتعاليم الشرعية ، والمشكلة أن الحلول المطروحة بعضها صدامي لدرجة أنه كفيل بإغلاق الأبواب في وجه الإسلام ، ويحسن التعامل مع تلك الأوضاع الثقافية بالصبر والإستيعاب ماأمكن ، مع غض النظر مؤقتاً عن بعضها ، ريثما تستدرك إختلالات أعظم ، ببنائها يصبح من الميسور تغيير سلبيات كثيرة . يقول الأستاذ عبد الكريم بكار: (وحدثني أحد الدعاة في ماليزية ؛ أنه قرأ نحواً من مئتي كتاب حول الثقافة الصينية حتى يُكَوِّن خلفية تمكنه من دعوة الصينيين إلى الإسلام بنجاح) . إن بعض الدعاة لايفهمون ثقافة الأمم التي يريدون الدعوة فيها ولذلك يخفقون، ويكفي توجيهاً في هذا المقام قوله : ((ياعائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أُخرج منه وألزقته بالأرض)) .
3- عدم فهم المجتمعات إشكالات وضرورات : قال الله تعالى : لايُكَلِّفُ اللهُ نَفساً إلاّ وسعَها ، والمعنى : (إلا يُسرها ولم يكلفها فوق طاقتها . وهذا قول حسن ، لأن الوسع مادون الطاقة ) ؛ وإن المقدور عليه في بعض المجتمعات قد يضحي متعذرا في مجتمعات أخرى ، وفقيه الدعوة عليه أن يتفهم إشكاليات الإلتزام والضرورات التي يعيشها الناس في كل بيئة ، فلا يحاول القفز فوق الحقائق ، ولايوصل من يدعوهم إلى جُدُرٍ صماء تسبب لهم مشقة غير متحملة ، أوتجنح بهم نحو الهروب من الإسلام والتفلت التدريجي منه ، (وهذا يتطلب فقها لترتيبات مطالب الشريعة ومقاصدها ، كما يتطلب فقها بالواقع المعاش ، ونوعا من البصيرة المسلحة بالخبرة في عواقب الأمور المترتبة على الإقدام على أمر ما ، والإحجام عنه .وهذا الفقه تشتد الحاجة إليه كلما ساءت الظروف والأحوال التي تمر بها الأمة ، حيث تكثر الخيارات الصعبة ، وتضيق سبل الحلول المطروحة ، وتصبح التضحية ببعض الخير وارتكاب بعض الشر أمرا لامفر منه . إن تنمية الإحساس بفقه الموازنات لدى مسلم اليوم ضرورية جدا حتى لانتعامل مع الأشياء على أنها كتلة صلدة ، وحتى نشعر أن في بعض الشر خياراً) . ومن أمثلة الحاجات، أنواع من العقود التي لايؤمن وجود بعض الإختلالات الشرعية فيها ، لخلو الزمان من أهل العلم الذين تقوم الحجة بهم ولاندراس الشريعة ، (فإذا درست وقد عرف بنو الزمان أنه كان في الشرع تعبدات مرعية في العقود ، وقد فاتتهم بانقراض العلماء ، وهم لايأمنون أن يوقعوا العقود مع الإخلال بعقود ‘بحدود’ الشرع وتعبداته ، على وجوه لوأدركها المفتون ، لحكموا بفسادها . وليس لهم من العقود بُد . ووضوح الحاجة إليها يغني عن تكلف بسطٍ فيها ، فليصدروا العقود عن التراضي ، فهو الأصل الذي لايغمُضُ مابقي من الشرع أصل وليجروا العقود على حكم الصحة ) . وهذا يشابه في وجوه كثيرة منه حال المسلمين في البلاد غير الإسلامية ، وكذلك الداخلون الجدد في الإسلام ، ممن لايتمكنون من تطبيق الأحكام والعقود والمعاملات الشرعية بكمالها . وعلى الداعية أن يفهم أحوال المجتمعات التي يتحرك فيها ، ليبني الأبعاد الشرعية بشكل محكم بعيد النظر ، يزيد ارتباط الناس بالإسلام حتى لوعجزوا عن حمل بعضه ، بدل أن يحملوا الكثيرمنه حملاً ظاهرياً ، وقد خوت القلوب من التمسك به والحرص عليه .
4- التعجل : إن الثمرة التي لم تنضج بعد لايجوز قطفها ، ولايمكن أكلها والاستفادة منها ، وإن قطفت قبل صلاحها فلا سبيل لإرجاعها؛ كثيرون هم الذين يقطفون الثمار الفجة بعجلتهم ، وبذلك تضيع جهود عظيمة أنفقوها ،وكان يمكن أن تعطي أعظم الفوائد لوصبروا قليلا. يضغط بعض الدعاة على المسلمين الجدد ويحاولون قطف الثمار ولما تنضج بعد ويذكر أحد المسلمين الغربيين نتيجة ذلك (فقد رأيت العديد من الأميركيين الذين يدخلون الإسلام ثم يخرجون منه ، وكان عدد من ارتد عن الإسلام يشكل نصف عدد من قابلتهم عبر السنين) ، ويفيد هنا الإصغاء إلى وصية الجيلاني : (لاتعجل، فإن من استعجل أخطأ أو كاد، ومن تأنى أصاب أوكاد أي كاد أن يصيب) .
5- الغرق في السياسة : (إن الحقيقة الإسلامية تعلو فوق كل سياسة ، إن السياسة تصلح أن تكون خادما للإسلام ، وحاشا أن يغدو السيد خادماً لخادمه) ؛ تلك العبارات العميقة قالها الإمام النورسي ِلما رآه من ولع البعض بالسياسة حتى أصبحت هي الميزان ، وهذا أمر خطير ، فالسياسة ليست غذاء حتى تكون مثل الخبز اليومي ، بل هي دواء يؤخذ ويُترك ، ويُتعامل معه وفق المصلحة العامة للمسلمين ، أما أن يصبح التفكير السياسي هو المسيطر والحاكم دائما ، فهذا معناه أمر واحد فقط ، أن تضعف الدعوة لحساب السياسة ، وتضيع التربية لصالح السياسة ، بل ويستهان بكثير من ضوابط الشريعة في سبيل السياسة .
6- حمل مالايطيق: إن مايواجهه الداعية من تحديات تؤدي إلى نوع من به الاستنفار الدائم ، وتأتي تعقيدات الحياة المعاصرة لتضيف إجهادات نفسية وجسمية تسبب له الإرهاق المتواصل ، ولايكون تجاوزه بمزيد من بذل الجهد المُنهك ، بل إن إعطاء النفس حقها ضرورة شرعية واقعية فـإن ((… لنفسك عليك حقاً … فأعط كل ذي حق حقه)) . وإن العمل بما هو فوق الطاقة يؤدي إلى إرهاق يزداد مع تزايد الجهد المبذول لأداء العمل ((مه عليكم بما تطيقون)) ، ولايحصل الأداء الأفضل بمزيد من التعب ، بل بإعطاء النفس حقها من الراحة ، لتنبعث إلى العمل بقابلية أكبر ويصبح المردود أعظم ، والداعية المرهق يقل إنتاجه وتتبعثر جهوده ، والإلتزام بالسنة هو الخير ، “وإن أحب الأعمال إلى الله مادام وإن قل” .

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف ركن الدعوة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.