حديث الشيخ (4)

في بيت الجارية

قال محمد بن إسحاق الموصلي :
لم يكن أما يسار إلا أن يغير طريق ذهابه إلى محل أبيه ، لكي يتجنب رؤية الجارية ، سيسلك الطريق المعاكس ، وإن كان طويلاً ، ولم يتعود على سلوكه من قبل .
ولكن .. ما العمل ..
ومضى في الطريق المعاكس ، فرأى كثيرًا من الأشخاص الذين يعرفهم ، ومر بأبي الفداء ، حاملاً طفله فداء الدين وقفًا أمام بيته . وكان طفله قد تماثل للشفاء ، فأخذ يبتسم للمارة وهو يحرك يده ويتلفت برأسه الصغير ووجهه المتورد المتفتح كزهرة القداح .. وكانت بعض الأشجار قد خلعت أرديتها وأخذت تتهيأ لاستقبال الربيع .
ومضى يسار ، وحمد الله على السلامة ، فد مر اليوم الأول والثاني والثالث دون أن يراها . ولكن صورتها لم تغادر خياله .. وصوتها يهمس في أذنه ، ونظرتها .. وفي كل يوم يزداد شوقًا وتلهفًا .. والمكان الذي احتلته في قلبه بدأ يتسع . ولكنه كان يقاوم ويحاول أن يأسو جراح قلبه .
قال أبو الحسن الورَّاق : في مساء اليوم الرابع ، ذهب يسار بعد صلاة العشاء ، إلى بيت القاضي الشيخ محمد صالح ، وكان مجلس الشيخ عامرًا بالمسائل الفقهية الجلية ، والحكم الثاقبة ، والنوادر اللطيفة ، وأقباس من جنائن الحديث والتاريخ والأدب . وكان الشيخ المفوه ، يدير الحديث ويأتي بكل طريف وحديث .
وقد تأخر ذلك المساء في بيت القاضي ، فلما خرج ، كانت السماء قد ادلهمت بالغيوم ، وأخذت ترسل رذاذًا ، فأسرع يسار إلى منزله ، خشية أن يدركه المطر . وقبل أن يصل إلى البيت بخطوات ، برز من زاوية مظلمة ، رجل متوسط القامة ، أسود ، وقال بصوت هادئ :
– هل تسمح يا سيدي ؟
ونظر إليه يسار ، وتين ملامحه ، إنه خادم الجارية .. مريد .. وعاد هذا يقول مرة أخرى :
– إن سيدتي مريضة .. وهي تود أن تراك .
لقد ظن أنه تخلص منها نهائيًا ، وظن أنها لن تعترض طريقه . ولكن هاهو خادمها العربيد يأتي ليذكِّره بها ، ليجذبه إليها .
قال يسار وقد تملكه الغضب :
– اغرب عن وجهي .
ولكن الخادم بقي في مكانه وقال بصوت خفيض :
– إنها مريضة يا سيدي ..
وهتف يسار قائلاً :
– ويحك يا رجل . وما شأني بمرضها ؟
وسكت قليلاً ثم أضاف :
– ادع لها طبيبًا .
فأجاب الخادم بلهجة صادقة :
– لم أجد الطبيب في بيته يا سيدي . فأرسلتني أدعوك .
ولما نظر إليه يسار متعجبًا ومستغربًا ، أضاف الخادم يقول :
– ربما تريد أن تسرُّك بأمر يا سيدي .
قال يسار وقد رفع يده يهم بطرق الباب :
– لتسر واحدًا من معارفها .
وتأخر الخادم خطوة وقال :
ولكنها لا تثق إلا بك .
وهتف يسار وهو يريد أن يتخلص :
– من أين تعرفني يا رجل ؟
فأجاب الخادم بكل جدية :
– من من الناس من لا يعرفك يا سيدي .. من من الناس في بغداد من لا يعرف يسارًا ..
ولما رآه ساكتًا مضى في كلامه :
– إنها يا سيدي في حالة يرثى لها .. إنك لو رأيتها يا سيدي ، لرق لها قلبك ..
من يدري .. ربما لا تعيش إلى الغد .!
ولم برق في السماء ، ومسَّت قلبه العبارة الأخيرة ، فهتف مأخوذًا :
– لا تعيش إلى الغد ؟
وهزَّ الخادم رأسه وهو يؤكد :
– الأعمار بيد الله يا سيدي .
استوضح قائلاً :
– وماذا تظنها تريد ؟
فطأطأ رأسه ، وقال بصوت يَنُمُّ عن التأثر والحزن العميق :
– ربما تريد أن تتوب .
وغمَغم يسار ، وكأنه لا يصدق ما يسمع :
– وما الذي يمنعها من التوبة ؟
الله يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن كثير .
قال وهو يرفع رأسه الذي تساقط عليه الرذاذ ، وقال :
– ربما تريد أن تبوح لك بسر ..
ودق قلب يسار وهو يحرك شفتيه :
– سر ؟
ولم يشعر يسار إلا كما يشعر السابح الذي ألقي في اليم ، فنال منه الجهد والتعب ، وأخذت الأمواج تتقاذفه إلى حيث تشتهي ولا يشتهي ..!!
قال أبو العرفان : وفي الطريق سأله الخادم قائلاً :
– لقد قلت لي مرة .. اتق الله واجتنب المعاصي .
والتفت يسار ، ليرى مدى الصدق في سؤاله ، فلم يستطع أن يتبين من معالم وجهه . ولكن نبرات صوته أوحت بأكثر مما يستطيع وجهه الملفوف بالظلام أن يوحي . وكان الرذاذ الخفيف اللطيف ينزل متمهلاً وكأن السماء تداعب به وجه الأرض .
وأجاب يسار بعد أن سار خطوات وقال :
– اترك ما أنت فيه ..
وقبل أن يسأله الخادم ، وقف وأضاف :
– إن أرض الله واسعة .
كانت الفوانيس تبدو باسمة مستسلمة مسرورة بما ترسل السماء من رذاذ ، وكان بعضها يبدو خائفًا وجلاً قد انخنس نوره مترقبًا لما قد تأتي به بعد ذلك ، ولاسيما في هذا الموسم من آخر الشتاء .
ولما اقتربا من بيت الجارية ، قال يسار :
– لا تتركني وحدي ..
ولم يفهم الخادم ما يريد .. فأضاف موضحًا :
– لا يجوز لرجل أن يختلي بامرأة غريبة عنه .
عندما فتح الخادم باب الغرفة التي ترقد فيها الفتاة ، طارت إلى أنف يسار رائحة مسك فتيق ، وبدت الغرفة في تأثيث فاخر ، وفي صدرها سرير قرطبي ، يتدلى فوقه سراجان يقال أن حكيم بن محمود قد أتى بهما من بلاد الفرنك ، في آخر سفرة له إلى تلك البقاع . وقد تمددت الجارية على ذلك السرير القرطبي بعد أن وصل الغطاء الأبيض الموشى بخيط الموصلين إلى صدرها .. وارتاح شعرها الأسود الطويل على ترائبها .
كانت الجارية تئن وتتأوه ، وتتلوى من الألم . ولم يصدق يسار أول الأمر ، وقد تسمرت قدماه في أول الغرفة ، وظن أنه قد خدع ! ولكن تردده لم يطل .. فقد التفتت إليه بعينيها المتضرعتين ، فخفق فؤاده وانجذب إليها كالمسحور ، حتى إذا صار قريبًا منها قال بصوت اجتهد أن يكون خافتًا كأنه من دنيا الأحلام :
– سرشير ..
وأجابته بعينيها ، وهي تصغي إليه ، تستمع لألحان صوته العذب ، وصدرها الذي يغطي بعضه شعرها الطويل الأسود اللامع ، يعلو ويهبط .. وراح يسار يردد كالنائم :
– كيف حالك يا سرشير ؟
وتبسمت وهي تغالب دمعة متألمة ، وقالت بصوت يشبه الأنين :
– لقد خشيت أن أموت ولا أسمع اسمي يتردد على لسانك ..
فهتف كالمأخوذ :
– سرشير ..
وأجابته وقد نسيت أنها مريضة :
– يسار ..
قال :
– أنت ملء القلب يا سرشير .
وتحرجت الدمعة على خدها طربًا ، وقالت والابتسامة تشرق على وجهها :
– يسار .. أنا ..
وهتف مرة أخرى :
– أنت يا سرشير .. أنت ملء القلب .
وانتقلت على أنغام صوته ، إلى عالم مملوء بالرياحين ، فتحركت في مكانها وأرادت أن تجلس ، ولكن الألم عاودها .. فتأوَّهت ، وتلوت في فراشها وأخذت تئن أنينًا يشبه النحيب . وكان ينظر إليها ، ويحس بقلبه الغض يتلوى معها ، ويئن ، ويتمنى لو زال عنها الألم .
كانت جدران الغرفة مصبوغة باللون الوردي الفاتح والسراجان المتدليان فوق السرير يضيفان على الغرفة بهاءً ورونقًا ، والموقد الصيني في جانب الغرفة يشيع الدفء .
وعندما خفَّت عنها وطأة الألم ، نظرت إليه بعينين تنطق بالندم وقالت :
– إنني ..
وتطلَّع إليها ، إلى شفتيها القرمزيتين ، إلى حبات العرق التي تصببت على جبينها نتيجة الحمى ، يريد أن يسمع ما تقول ..
ولكن الدموع غلبتها ..
لقد أرادت أن تخبره بكل شيء ، بكل ما جرى ، أرادت أن تعتذر .. أن تقول له إنها لم تكن تدري أنها ستواجه فتى من نور ينهزم أمامه الظلام ، لو أراد أن يسلك فجًا لسلك الشيطان فجًا غيره ..
لقد تساقط حولها كثيرون ..
انهالوا على أقدامها ..
تمنى الواحد منهم لو يحظى منها بنظرة ، بابتسامة ، بكلمة ..
أية كلمة تنطق بها ..
أمَّا هو ..
هذا الفتى الراهب ..
وعادت تنظر إلى وجهه الجميل الذي تحتضنه بكل حنان لحية دافئة تزيده جاذبية وجمالاً .. وأخذت تشتار لذيذ الشهد من عينيه التي تومض ببريقٍ يخطف القلوب ..
وكان لا يزال يتطلع إلى شفتيها القرمزيتين يريد أن يسمع ما تقول ..
عندما قال لها بصوته المتألم :
– أنتِ تبكين يا سرشير .
قالت وهي تنظر إليه متشبثة :
– إنني أخشى أن أموت .
وهتف دون وعي :
– عافاك الله يا سرشير .
ثم أضاف يطمئنها :
– إن صحتك جيدة .
قالت ، وقد سرها أن تنظر إلى عينيه اللتين روَّعهما كلامها :
– هل تريدني أن أعيش ؟
قال :
– إنها إرادة الله ..
وبقلب ينبض بالإيمان والتقوى أضاف :
– والحياة ليست بأيدينا .. إنه مالكنا .
قالت وهي تتألم :
– ولكني مثقلة بالذنوب .
فهتف من صميم قلبه الموجع :
– توبي إلى الله .. اسأليه أن يغفر لك .
ونظرت إليه بضراعة ، وقالت :
– لماذا لا تدعو لي يا يسار ..
وقبل أن يحرك شفتيه قالت :
– أنت مستجاب الدعاء ..
وهزَّ رأسه وهو يجب ، بأسلوب العارف :
– إن الله يجيب المضطر إذا دعاه .
وأدارت رأسها إلى الناحية الأخرى ، وهي تبكي بصمت فلما رأى الدموع تنساب على خدِّها ، تحطمت جميع الأقفال التي أقامها على قلبه ، وفتحت الأبواب كلها دفعة واحدة .. وهتف كالمجنون :
– سرشير ..
وأضاف متضرعًا :
– كفكفي دموعك يا عزيزتي .. ارحمي قلبي .
والتفتت إليه وقالت :
– أنت تحبني .. أليس كذلك ؟
وتولَّت العيون الجواب ، وسكتت لغة الكلام ، من أين للألسن أن تفهم لغة العيون ؟!
وأرادت مرة أخرى أن تبوح له بما في نفسها ، أن تخبره بكل ما جرى .. ولكن في اللحظة التي فتحت فيها فمها لتتكلم ، دخل الخادم يحمل الدواء في قدح .
– هذا الدواء يفيد يا سيدتي ..
وكانت لا تزال تنظر إلى يسار .. فأسرع يتناول الدواء من الخادم ، واعتدلت في الفراش ، وتمنت لو يسقيها الدواء بيده ..
وقرب يده بالقدح ، وانتظر أن تمد يدها لتأخذه وقال :
– خذي .. بسم الله المشافي ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .
– وتناولت القدح ، وشربته على دفعات .. ثم بقيت لحظات رافعة رأسها ، تنظر إلى سطر منقوش على حائط الغرفة لم تتبين معالم كلماته ، ثم عادت فتمددت ، وسحبت الغطاء ، وأخذ صدرها يعلو ويهبط ، وسمعها تئن أنينًا خافتًا وتتوجع ..
ثم هدأ صدرها ، واستسلمت للنوم ..
وبقي يسار ينظر إليها وكأنه في حلم .. ثم التفت إلى الخادم ، وسأله بصوت خافت :
– منذ متى وهي على هذه الحال ؟
فأجاب الخادم ، وكان يبدو على ضوء القناديل الخافتة فاحم السواد :
– منذ يومين يا سيدي .
قال يسار :
– وهل تناولت دواء خلال اليومين ؟
فهز رأسه قائلاً :
– هذه أول مرة تتناول فيها الدواء .. من يدك .
وسكت مريد قليلاً ثم أضاف :
– لقد كانت تلح علي أن أدعوك .. منذ اليوم الأول لمرضها ، كانت تقول : لابد أن يعلم .. أريد أن أحدثه بكل شيء .
ونهض يسار ، وهو يلقي عليها نظرة عطف وحنان ، وقال :
– سأعودها غدًا .. إن شاء الله .

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كتب, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.