حديث الشيخ (10)

تذكرة الشيخ

قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
قال أبو العرفان : كانت الجارية ترتدي حلة وردية زاهية ، وقد تقدمها عطرها الفواح ، واكتملت زينتها ، ولكنها بدت حزينة أسيفة على غير عادتها .
وألقت نظرة سريعة على الحاضرين ، فلما رأت يسارًا وجمت وتسمَّرت في مكانها .. وبدا عليها وكأنها فوجئت .. كـأنها لم تكن تعلم بمجيئه .. وحولت نظرها إلى حكيم .. فضحك هذا وقال :
– إنه يسار .. ألا تعرفينه ؟
وتقدَّمت على مهل ، فسلمت على يسار ، ومالت إليه ، ورحَّبت به ، ولكن بتحفظ واحترام كثير ..
وجلست إلى جانبه .
فلم يتحمل حبيب هذا ، فترك المجلس وخرج وهو ينفخ من شدة التأثر ، ولما رأى القلق الذي اعترى يسارًا ، بادر يقول :
– لا عليك .. إنه سيعود .. وسيشرب الخمر حتى ينسى نفسه .
وكان يسار يتمنى ألا يعود حبيب .. لأنه شعر بأشد الحرج في حضوره ، وهنا رفع حكيم كأسًا ، قدَّمه إلى يسار وهو يقول :
– خذ .. اشرب ..
وهزَّ هذا رأسه ، ونظر في عيني الجارية كأنَّه يستنجد بها ، فلم يجد لديها الرغبة في ذلك ، وأشارت بيدها تمنعه ..
فالتفت يقول :
– أنا لا أشرب الخمر ..
وضحك أبو محمود وهو يمد يده بالكأس ويقول :
– اشرب .. اشرب يا يسار ..
إنها تزيل عنك الخجل ، وتذهب الهم ، وتنسيك الدنيا ، ولا تعيش إلا هذه اللحظات .
وتردد يسار .. وقال مرة أخرى :
– لا .. أنا لا أشرب الخمر .
وخيل إليه في تلك الساعة ، أن الدنيا تدور به .. فقد نما إليه أن صاحبه أبا الحسين عندما سمع بما آل إليه أمره ، قال :
– اتركوه .. فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه ، متمثلاً بالحديث .
وطرق سمعه قول أبي أنس :
– كنت والله أظن أن أساسه أقوى من هذا ..
ولم يعلق ناقل الخبر .. وكأنه يؤيد ما قاله !
والتفت يسار ينظر إلى هذا الواقف على الذي يحمل كأس الخمر بيده ، ويحثه على الشرب ..
– اشرب .. اشرب .. خذه يا يسار .
وطالعه وجه أمه الحزينة المتألمة ، وهي تنظر إليه ولا تستطيع شيئًا ، وأخته الصغيرة سناء ، وهل تحمل قطتها الكبيرة ، تنظر إليه بإشفاق ..
وعاد صوت حكيم يقول بإلحاح :
– أين أنت يا يسار .. خذ .
وقرَّبه منه ، فتناوله يسار .. وبقي الكأس في يده ..
وهنا أطلق أبو محمود ضحكة عالية ، وكأنه قد نال غاية ما كان يتمناه .. وصرخ وقد استبد به الفرح :
– عليَّ بحبيب بن مسعود .. أين هو .. ألم أقل له .. سأسقيه الخمر بيدي ؟
ولم يفهم يسار معنى لما قال حكيم ، وظلَّ يدور في دوَّامة من الأفكار ، وأخذت صور أصحابه الفتية الذين كان قد قضى شطر حياته معهم في المسجد وكان الشيخ يحدثهم ..
أخذت صور هؤلاء تتعاقب عليه ..
فإذا بأبي الذهب يعض على يده ..
وتخيل أبا الحسين ، علي بن حسين ، بوجهه المستدير ، وشعره القصير ، وهدوئه المعتاد ، وابتسامته الخفيفة اللطيفة ، وإيماءاته القريبة البعيدة .. تخيَّله وكأنه يقول :
– إنه لم يبتعد كثيرًا ، ومهما ابتعد فسوف يعود ..
أما أبو محمود ، فقد مضى يهذي في نشوة المنتصر :
– لقد بذلت للجارية ألف دينار لكي تأتي بك إلى هنا ..
لقد أقسمت أن أسقيك الخمر بيدي ..
اشرب .. اشرب يا يسار ..
أين حبيب بن مسعود ؟
والتفت يسار ينظر إلى سرشير ..
أحقًا ما يقول هذا ؟
إنه لا يكاد يصدق مما يسمع ..
ألف دينار من أجل أن يسلبوه دينه ؟!
من أجل الإيقاع به بين فكي الشيطان !
ونظر في عيني الجارية ، فروَّعها منظره .. وهزَّت رأسها تنفي بكل شدة وتقول :
– لا تصدقه .. لا تصدقه يا يسار .. إنه ..
كان سعيد بن منصور ، قد وضع الكأس أمامه ، وبسط ذراعيه على المائدة ، وجلس يتسلَّى بالنظر إلى ما يدور ..
وبقي حسَّان بن معيقيب ساكتًا ، سارحًا في تأملاته وأحزانه التي لا تنتهي مردِّدًا بين فترة وأخرى بصوت خفيض رتيب :
– مناد دعا زهدًا فخف له قلبي ..
وتذكر يسار في تلك اللحظة ..
كان أبو أنس قد التقى به عصر هذا اليوم في السوق الكبير ، وسلَّمه رقعة مطوية قال إن الشيخ قد بعثها له ..
وحوَّل الكأس من يده اليمنى إلى اليسرى ، وخفضها حتى لامست المائدة ، ثم مدَّ يده يتحسس الرقعة في جيبه ، فأخرجها ، وفضَّها ، فقرأ فيها :
(( إني أذكِّرك .. إن الشيطان سوف يدخل عليك من أبواب شتى ، وعلى رأسها المرأة .. فاعتصم منه بذكر الله الدائم ، وبغض نظرك ، وتلاوة القرآن .
وذكر نفسك ، أن وجه المرأة الجميل هذا ، صائر إلى جيفة قذرة يقتتل عليها الدود ، وأن في الجنة من الحور العين ما تستحي منهن الشمس الطالعة )) .
كانت الرقعة بخط الشيخ نفسه ..
إن الشيخ لم ينسه ولم يهجره كما خيل له ..
هاهو يذكِّره ..
ويحذِّره ..
وكان أبو محمود مستمرًا في الضحك ، مستمرًا في إغرائه على شرب الكأس .
أما الجارية ، فقد لاحظت التغير الذي طرأ على وجهه ، فسحب نفسها قليلاً قليلاً ، ولاذت بقرب حسَّان . وأخذ سعيد بن منصور ينظر إلى القناديل التي بدأ نورها يسطع ..
ومضى أبو محمود يحثُّه ويغريه :
– اشرب .. لابد أن تشرب ..
أنا الذي جئت بك إلى هنا .. أنا الذي أخرجتك مما كنت فيه من العبادة .. أنا الذي أخرجتك من المسجد ..!
متِّع نفسك .. انس الدنيا .. فغدًا نموت .. نموت ونترك الدنيا لغيرنا ..
وزادت كلمات حكيم في يقظته ..
غدًا نموت .. ونقف بين يدي الله للحساب .. سيحاسبنا على كل شيء .. على كل خطوة ، كل كلمة ، كل معصية ، وسوف يهتف كثير من الناس : } يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا { .
ونكس رأسه ينظر في الرقعة ، وخيل إليه كأنه يسمع صوت الشيخ يحدِّثه .. يحذِّره .. يطرق أذنيه : (( إني أذكِّرك .. إن الشيطان سوف يدخل عليك من أبواب شتى ، وعلى رأسها المرأة .. فاعتصم منه بذكر الله الدائم … )) .
وقبض أبو محمود على يد يسار التي تحمل الكأس ، وأراد أن يرفعها إلى فمه وهو يقول :
– اشرب .. اشرب يا يسار .
وعاد حبيب بن مسعود كما ذكر سعيد ، وصرخ من مكانه محذِّرًا :
– لا .. لا تشرب يا يسار .. لا تشرب .
سر أبو محمود لرؤية حبيب ، وأراد أن يريه كيف يستطيع أن يسقيه الخمر بيده .. وراح يلح على يسار وهو يقبض على يده يريد أن يرفعها بالكأس إلى فمه .. وكان في عمله هذا فرحًا مزهوًا كأنه يقوم بما يستحق عليه الثناء والتقدير ..!!
وهتف يخاطب حبيبًا :
– انظر .. ها أنا أسقيه الخمر بيدي .. ألم أقل لك ؟
وكان يسار قد وصل إلى حدٍّ لا يطيق معه الصبر .. فانفجر غاضبًا ، ونهض ثائرًا ..
ورمى الكأس في وجه حكيم .
وركل المائدة بقدمه .. فتحطَّم كل ما كان عليها .
وانهال على حكيم ضربًا ..
وأظلمت الدنيا في عينيه ..
وانقلبت المائدة .
وهربت الجارية وقد أصابتها شظايا كأس تحطم بالقرب منها فجرح ساقها .. ولم يقف في وجه يسار شيء .
لقد قذف بكل ما في نفسه ..
مرة واحدة ..
لقد جمع الران الذي تراكم على قلبه ، وكوَّره وألقى به في وجه حكيم .. وفرح حبيب بن مسعود ..
وتنهَّد حسَّان بن معيقيب وهو يجلس صامتًا مبتسمًا وقد أعجبه المشهد .. ولم يحاول سعيد بن منصور شيئًا يقلل من هياج يسار ..
وخرج يسار .. وصوت الشيخ يرن في أذنيه :
(( إن وجـه المرأة الجميل هذا ، صائر إلى جيفة قذرة يقتتل عليها الدود ، وإن في الجنة من الحور ما تستحي منهن الشمس الطالعة )) .
واهتزَّت النخلة طربًا وهي تشيع يسارًا ..
ولمعت الفوانيس بنور جميل ..
وشعر كأن الجدران ، والبيوت ، والدنيا ..
الدنيا كلها ، ترحب به ..
أين كان كل هذه المدة ؟
ومضى في طريقه إلى المسجد ..
إنه يريد أن يرى الشيخ ..
أن يجلس بين يديه ..
أن يعترف بتقصيره ..
وكان الطريق طويلاً ، والمنعطفات كثيرة ، والبيوت تقف على الجانبين .. ولم يسمع أصوات المسلمين عليه ..
ولا الفقير الذي مد يده يسأله الصدقة ..
ولا أحدًا من الناس ..
كان يريد أن يصل إلى المسجد ..
أن يعود إلى سابق عهده ..
أن يعود إلى الله بقلب تائب خاشع منيب ..
لم يكن يظن أنه يستطيع أن يفارق أحدًا من أصحابه ..
لم يكن يظن انه يستطيع أن يبتعد عنهم ..
كيف ابتعد كل هذه المدة ؟
لقد كان في رحلة خطرة .. المحظوظ فيها من يعود منها سالمًا .. لا له ولا عليه ..
لقد كان صغيرًا يوم بدأ يعتاد المساجد .
وكان صغيرًا يوم أخذ يتردد على حديث الشيخ .
كان أبو الذهب يطرق عليه الباب كل يوم .. يوقظه ، ثم يقوده من يده في طريقه إلى المسجد . كان يحنو عليه ، كما يحنو الأخ الكبير على أخيه الصغير ..
إنه يتذكر تلك الأيام ، وتلك اللحظات .
لقد كانت ملء السمع وملء البصر ..
وعبود .. الفتى الطويل الأسمر ، الذي أمضى سنوات عديدة وهو يحاول العثور على فتاة لكي يخطبها لنفسه . فلم يوفق !
لأنه لم يجد الفتاة التي تناسبه ، أو التي تناسب أمه كما يقول أخوه !!
وعبدالله بن الشيخ إبراهيم ، الفتي الطيب .. اللطيف الوديع ، الذي ذهب يدرس الطب .. والذي كان يراه يذرع ساحة المسجد ذهابًا وإيابًا وهو يحاول حفظ سورة التوبة ..
وأبو أنس .. وخلاصاته التي لا تنتهي ، ودعاباته ، وروحه المرحة ، ومشاريعه الكثيرة التي يبنيها في الهواء ، وحكاياته عن أمه ، وكم مرة تخطئ في العد .
وأبو الحسن .. علي بن حسين .. وسمته الهادئ اللطيف ، ودروسه الفقهية التي تعلمها في المدرسة المستنصرية .. وصاحبه جاسم الذي لم يكن يفارقه في ذهابه وإيابه ، وقصته مع الشاب الذي سخر من صلاته ، فرأى ذلك الشاب رجلاً يأتيه في المنام وينهال على ظهره ضربًا بالسياط ، حتى استيقظ وأثر السياط ظاهر على ظهره !!
وغيرهم .. وغيرهم ..
كانوا يحيطون به .. يحبونه .
بل يراه بعضهم قدوة له .. ويتمنى لو بلغ مبلغه !
أيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟!!
ومضى يسار يريد أن يصل إلى المسجد قبل انفضاض الجماعة من صلاة العشاء .. إنه لا يريد أن يطرق على الشيخ باب بيته .. لأنه لم يتعود أن يزوره في الليل ..
وتمنَّى لو استطاع أن يطير .. أن يصل ..
وتذكر العم عثمان ( أبو البحر ) .. هذا الذي تجاوز المائة من العمر .. والذي وقف مرة يخاطبه ويقول :
– ليتني نشأت في طاعة الله كما نشأت يا يسار .. فهنيئًا لك ..
ثم رفع المنديل يسمح دمعة ترقرقت بها عينه وقال :
– لقد طال أجلي وقلَّ عملي ..
إنه لا ينسى هذا ..
ولا ينسى والده ، وكان يتمتم بعد صلاة الفجر فيقول :
– الحمد لله الذي رزقني ولدًا صالحًا تصل دعواته إلى قبري .
وأمه الحزينة المسكينة .. التي كانت تنظر إليه وتبكي بصمت ، والتي سمعها قبل أيام تقول لأبيه بصوت خافت :
– لا أدري ما الذي جرى ليسار .. كلمه يا رجل .. كلمه لعله يحدثك .
وأخته الصغيرة سناء .. لم يعد يداعبها .. ولا يسألها عن قطتها .. حتى شكت لأمها فقالت :
– لماذا لا يكلمني يسار ؟ هل هو مريض ؟
والشيخ ..
لقد كان يحبه كثيرًا ، كان لا يمل سماع حديثه . كان يرغب بالمزيد المزيد ..
وهل لدى الشيخ إلا كل نافع مفيد ؟ كان يتحدث وكأنه يغرف من بحر ليس له ساحل ..
إنه في طريقه إليه ..
سيقص عليه ما جرى ..
سيقول له ..
ماذا يقول ..؟
ورأى المسجد أمامه .. ببنائه القديم ، وجدرانه التي يخيل للناظر إليها أنها توشك على التداعي ، ومئذنته المتواضعة ..
وتقدم بخطوات بطيئة مترددة ..
لقد شعر كأن حجارة المسجد تنظر إليه بعتاب ..
وكأن جدرانه التي تتطلع إليه بصمت قد فرحت بقدومه ..
إن هذا المسجد يعرفه .. إن كل حجارة فيه تعرفه ..
كم مرة حضر إلى المسجد قبل أن يحضر أي إنسان ..
كم مرة قضى الساعات الطوال .. قائمًا مصليًا ، أو قارئًا للقرآن .. أو ذاكرًا لله تعالى ..
لقد كان مكانه في الصف الأول من صلاة الجماعة ..
ومع التكبيرة الأولى ..
وتعدى باب المسجد وهو يقدم رجله اليمنى ويقول :
– اللهم افتح لي أبواب رحمتك ..
إن أبواب رحمة الله مفتوحة دائمًا ، لم تغلق في ساعة من ليل أو نهار ..
أين التائبون .. الآيبون .. النادمون ..
هذه الشجرة الكبيرة في ساحة المسجد .. في مكانها لم تتحرك .
والفوانيس المضيئة ..
وزير الماء ..
وخادم المسجد .. حميد بن سلوم الرقاق .
وتقدَّم يسار ..
كان المصلون قد خرجوا ..
ولكنه لم ييأس .. فلعل الشيخ تخلَّف بعد صلاة العشاء ..
وصدق ظنه ..
كان الشيخ واقفًا ، مستندًا بظهره إلى الدعامة الوسطى من المسجد ، وكان ينظر إلى يسار ، بعين الوالد الرفيق الرحيم ..
وتقدم يسار ..
خجلاً مترددًا كأنه يحمل أوزار الدنيا ..
واقترب منه ..
فسلَّم عليه ..
وهيئ له كأنه سمع الشيخ يرد عليه ..
وشعر بيده توضع على كتفه ..
وسمع صوته المضمخ بعبير القرآن وهو يتلو :
} قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعًا . إنه هو الغفور الرحيم { .
وهشَّ قلبه لهذه الآية.. وشعر كأنه يسمعها لأول مرة.. تحملها الملائكة.. ويهتف بها المسجد..
وشعر كأن كل شيء ..
حتى الفوانيس الكبيرة ..
وحتى النخلة الواقفة هناك ..
وكل حجر في هذا البناء الطاهر ..
استقبله .. فرح به .. سر بعودته .. فتح ذراعيه له ..
وأراد يسار أن يقول شيئًا أن يتكلم ..
أن يقص على الشيخ ما جرى له ..
ولكنه لم يستطع ..
لقد تحوَّلت كلماته إلى دموع .
وعاد صوت الشيخ ، الهادئ الوقور يتلو من القرآن الكريم .. ما وجد فيه يسار ، شفاء ، وأملاً ، ورحمة ، ورغبة في العودة إلى الله : } وإني لغفَّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى { .

 

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كتب, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.