المفاهيم الأساسية للدعوة الإسلامية في بلاد الغرب

المفاهيم الأساسية للدعوة الإسلامية في بلاد الغرب
سماحة القاضي الشيخ فيصل مولوي
المرشد الأعلى لاتحاد المنظمات الإسلامية في أوربة

رغم أن العنوان يتحدث عن الدعوة إلى الله في بلاد الغرب إلا أن الموضوع مفيد في سائر الأوقات والبلدان ويعمق الفقه الدعوي لذا نلفت أنظار الإخوة والأخوات إليه ونرجو الله أن ينفعنا به.

موقع دربنا
مقـدّمـــة – الفصل الأوَل : العاطفة – الفصل الثاني : الفكر – الفصل الثالث : أحكام متعلَقة بالقتال – الفصل الرابع : الإسلام أو الجزية أو القتال – الإكتفاء بالدعوة

المقدّمـــة
الحمد الله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد ..
يعيش المسلمون اليوم في بلاد الغرب أزمة فكرية شديدة ناتجة عن قناعتهم بكثير من الأفكار التي تلقّوها في بلادهم الشرقية، وهي تتعارض تماماً مع ظروفهم الجديدة في ديار الغرب، ومع مصالحهم الكثيرة فيها. وقد حصل الكثيرون منهم على جنسية تلك البلاد، فلم يعد من السهل مطالبتهم بالرجوع إلى بلادهم. كما أنّ الكثير منهم أصبح يقيم هناك بشكل دائم لسبب أو لآخر، فضلاً عن أنّ كثيراً من أبناء الغرب الأصليين قد اهتدوا إلى الإسلام، وليس من المعقول أن نطالبهم بترك أوطانهم في ظروف الحرية التي يتمتّعون بها هناك وأن يلتحقوا ببلاد المسلمين.
وجميع هؤلاء بحاجة إلى ثقافة إسلامية أصيلة تنظّم عيشهم في مجتمعات غير إسلامية.
وهذه دراسة متواضعة حول هذا الموضوع، أسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، إنّه سميع مجيب.

نحن جزء من المجتمع الذي نعيش فيه:
إنّ المسلم جزء من أمّته الإسلامية، وعلى هذا الأساس فمن الطبيعي أن يفكّر بمشاكلها، وأن يشعر بهمومها وأحزانها، وأن يتفاعل معها.
ولكنه حين اختار العيش في ديار الغرب، اختار أن يكون جزءاً من هذا المجتمع الذي يعيش فيه، فيجب عليه أيضاً أن يفكّر في هذا المجتمع: في قضاياه وهمومه ومشاكله من وجهة نظره الإسلامية، وهذا هو الذي يفرض عليه أن يبحث في شؤون الدعوة الإسلامية في هذه البلاد.
إن الاهتمام بقضايا الأمّة الإسلامية في الشرق سيكون عند الكثيرين هنا مجرّد اهتمام نظري لا طائل من ورائه، طالما أننا لا نستطيع أن نقدّم لبلادنا شيئاً ملموساً، بينما الواقع الذي نعيشه في بلاد الغرب إذا تفاعلنا معه يمكننا أن نقدّم له ولدعوتنا فيه شيئاً ملموساً. إننا إذا أغفلنا هذا الواقع، وبقينا مشدودين إلى بلادنا الأصلية، فسيكون الخسران نصيبنا في الحالتين: نتكلّم عن بلادنا ولا نقدّم لها شيئاً يذكر، ونهمل واقعنا ولا نقدّم لدعوتنا فيه شيئاً أيضاً.

نحن لا ندعو – بل لا نفكّر – أن نتخلّى عن أيّة قضية من قضايا أمّتنا، لكننا نريد أن نحسّ بالواقع الذي نعيش فيه، وأن ندرك أن هذا الواقع يفرض علينا ممارسة دعوية هامّة جداً، يمكن أن يكون لها أثر على مستقبلنا في هذه البلاد، أو على مستقبل هذه البلاد بالنسبة للدعوة الإسلامية.

تراث مخلوط بشوائب:
لقد جاء المسلمون من بلادهم بتراث هائل جداً، فيه من الإسلام النقي الشيء الكثير، ولكن فيه أيضاً الشيء الكثير مما ورثوه عن أجدادهم من عصور التعصّب والتخلّف. هناك الكثير من المواقف والمشاعر والأفكار التي لا تعبّر عن الإسلام في هذا العصر. وقد تكون مفيدة في وقتها ومناسبة له، لكنها لا يمكن أن تكون صورة الإسلام في هذا العصر، ومع ذلك حملناها في قلوبنا وعقولنا إلى هذه البلاد ونحن نظنّ أنها جزء من الإسـلام لا ينفكّ عنه، بينما هي في الحقيقة جزء من تاريخنا لا أكثر، وإذا كانت مقبولة من أجيال الأمّة السابقة فليس حتماً علينا أن نقبلها في هذا العصر، اللهمّ إلاّ لو كانت من ثوابت الإسلام القاطعة، وأنّى لها أن تكون؟

لقد ظلّت أفكارنا وعواطفنا مشدودة إلى أمور خلافية كثيرة في المجالات التاريخية والفكرية والفقهيّة، ولا يمكن أن نتحرّك في هذا المجتمع بهذا الركام من التراث تحرّكاً دعوياً مثمراً. إنّ هدفي في هذه الدراسة هو أن أوضح أهم الأسس التي تتناول الدعوة في بلاد الغرب. هناك إشكالات شرعية كثيرة، وكذلك هناك مئات وآلاف من الأسئلة، تدور حول تعامل المسلم في الغرب مع المجتمع الذي يعيش فيه، فلو اختصرنا الجواب وأوضحنا الأساسيات لهان الأمر، واستطاع كلّ منّا أن يفتي لنفسه في كثير من المسائل. إنَ ممارسة الدعوة في هذه البلاد تحتاج إلى فهم صحيح لمسألتين أساسيتين، لا يمكن بدونهما أن تكون هناك دعوة. المسألة الأولى: العاطفة، والمسألة الثانية: الفكر.

الفصل الأول: العاطفة
هل يمكنك أن تتصوّر نشوء عاطفة بينك كمسلم وبين غير المسلم – في هذه البلاد – تكون أساساً للدعوة؟
هل يمكنك أن تدعو إنساناً وأنت تحقد عليه؟ وأنت كاره له؟ بل تخطّط لحربه؟ هل يمكن أن تدعوه في هذه الحالة بالحكمة والموعظة الحسنة؟
إذا كنت تريد أن تدعو إنساناً، وأنت ترفض أن تسلّم عليه ابتداء، التزاماً بما تعارفنا على فهمه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلّم وهو وضع للحديث في غير موضعه: “لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام” . فهذا الحديث الخاص الذي قاله النبي الكريم في ظرف خاص، عندما كان اليهود في المدينة يتآمرون ويحقدون على المسلمين، وكان المسلمون إذا بدؤوهم بالسلام لا يردّون السلام عليهم، وإنّما يردّون بمزيد من الحقد والتآمر: (السام عليكم) أي الموت.. في هذا الجو، قال عليه الصلاة والسلام:”لا تبدؤوهم بالسلام”. فأصبح هذا الحديث في كتبنا أساس العلاقة بين المسلم وغير المسلم في جميع الظروف، ونسينا العشرات من الآيات الكريمة والمئات من الأحاديث الصحيحة التي تأمر بالسلام، وبردّ التحية بمثلها أو بأحسن منها، وغير ذلك.
أقول: كيف يمكن للمسلم أن يكون داعية لإنسان يتحرّج أن يبدأه بالسلام، أو يتكلّم معه بكلمة طيّبة، حتّى يظنّ غير المسلم أنّه ليس في قلب المسلم أيّة عاطفة نحو إنسان غير مسلم.
والسؤال مرة أخرى: هل يمكن أن تقوم علاقة حب بين المسلم وغير المسلم؟
أولاً : مراحل العلاقة بين المسلم وغير المسلم:
ولكي أجيب على هذا السؤال، سأركّز على تحديد العلاقة بين المسلم وغير المسلم في مراحل ثلاث، وردت جميعها في كتاب الله عزّ وجلّ وهي:
المرحلة الأولى: التعارف:
يقول المولى عزّ وجلّ: {يا أيّها النّاسُ إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}.
إذاً لا يمكن أن أرى إنساناً غير مسلم، وتكون أول بادرة منّي هي أن أدير له ظهري وأهرب منه، ليس لسبب سوى أنه غير مسلم، فلا أكلّمه، بينما لا توجد أية مشكلة بيني وبينه.
إذا كنت أيها الأخ المسلم داعية، فهذه أرض الله خصبة لدعوتك، والله عزّ وجلّ سخّرها لك كي تقوم بواجب الدعوة إلى الله، وتحقّق فيها نجاحاً وفلاحاً، إرضاءً لله ولرسوله.
فأقبِل على غير المسلم، وتعرّف عليه وعلى مشاكله إن لزم الأمر، فلعلّ هذا التعرّف يقرّب قلبه منك، ولعلّه يرتاح إليك، فتكون فرصة سانحة لدعوته إلى الله عزّ وجلّ. فالتعارف بين المسلم وغير المسلم مرحلة أساسية لا بدّ منها.

المرحلة الثانية: التعايش:
هل يجوز للمسلم أن يعيش مع غير المسلمين؟
الجواب: نعم ..
فهذه مسألة أساسية، تشهد لها الكثير من النصوص والآيات والأحاديث الشريفة والواقع. إذ ليس من المعقول أن لا يعيش المسلم إلاّ في جوّ إسلامي. وليس ذلك مطلوباً في شريعة الله إلاّ حين يخاف المسلم على نفسه أو على دينه. ولم يفعل ذلك المسلمون بل فعلوا عكسه، وكانوا يسافرون إلى البلاد غير الإسلامية ويتعايشون مع أهلها بأخلاق الإسلام، وكان ذلك سبباً في دخول كثير من هذه الشعوب في الإسلام. وقد حدّد الله سبحانه وتعالى أساس هذا التعايش بقوله: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم، إنّ الله يحبّ المقسطين}.
إذا لم يبدأك غير المسلم بحرب، ولا أخرجك من ديارك، ولا ظاهر على إخراجك، فهذا إنسان يجوز أن تعيش معه، وعند ذلك يجب عليك أن تلتزم بالبرّ والقسط.

البرّ أعلى درجات حسن الخلق:
انظروا إلى هذا المعنى القرآني العظيم (البرّ) وهو أعلى درجات حسن الخلق، ومنه برّ الإنسان لأمّه وأبيه، فهو أعلى درجات حسن الخلق، والمطلوب منّا كمسلمين أن نتعامل بهذا البرّ مع غير المسلمين، وأن نتعامل معهم أيضاً بالقسط وهو العدل، فلا يجوز لك أن تظلم غير المسلم، بل يجب عليك أن تقف إلى جانبه إذا كان الحقّ معه، ولو كان الخصم أخاك المسلم.

هذه قِيَم أخلاقية عظيمة ومسائل شرعية أساسية نتعايش بها مع غير المسلمين. والله تعالى لم يفرضها علينا كي ندير ظهورنا لغير المسلمين، ولا نتعامل معهم، وإنّما فرضها علينا كي تكون هي الأساس لهذا التعايش الذي يقتضيه الواقع.
لقد خلق الله – عزّ وجلّ – البشر هكذا: متنوّعين، متعدّدين، ولو شاء سبحانه لجعلهم أمّة واحدة، {.. ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك، ولذلك خلقهم ..} ثم طلب منهم أن يتعارفوا، وأن يتعايشوا بهذا البرّ والقسط.

المرحلة الثالثة: التعاون:
تتعارف أولاً مع غير المسلمين ..
ثمّ تتعايش بمحبة وانفتاح معهم ..
ثم .. أليس عندك مسائل شرعية محددة؟ ..
هل يصعب أن تجد بعض هذه المسائل الشرعية تحقّق مصلحتك، وفي نفس الوقت تحقّق مصالح غير المسلمين؟
إذا وقع الانسجام في مسألة ما، فمن الممكن أن يقع التعاون، ما المانع في ذلك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم – كما نعرف جميعاً – تحدّث عن”حِلف الفضول” وكان ذلك في الجاهلية، حيث اجتمع رؤساء قريش وزعماؤها وتعاهدوا فيما بينهم على: مساعدة الضعيف، وإغاثة الملهوف، ومساعدة المحتاج، إلى ما هنالك من مكارم الأخلاق، وحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في الإسلام بعد ذلك: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حِلفاً ما أحبّ أنّ لي به حُمر النِّعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت” .
يجوز لنا إذاً أن نلبّي دعوة لغير المسلمين، إذا كانت على أساس يرضي الله عزّ وجلّ، فإذا كانت لدينا مسائل نعتبرها شرعية، وغير المسلمين يتبنّونها لأسباب أخرى، فإننا يمكن أن نتعاون معهم على تحقيقها طالما أنها تعتبر مشروعة عندنا، وما أكثر أمثال هذه المسائل

إذاً فالمراحل التي تحدّد ملامح العلاقة بين المسلم وغير المسلم هي: التعارف .. ثمّ التعايش على أسس شرعية .. ثمّ التعاون على الأمور المتفق عليها المشروعة في ديننا.

ثانياً: الروابط الاجتماعية بين البشر:
أنتقل بعد ذلك إلى ناحية أخرى في تحديد العلاقة بين المسلم وغير المسلم.
خلق الله سبحانه وتعالى البشر وأقام بينهم روابط متعددة، يتعاونون بها على شؤون الحياة، وحولها يتلاقون.
من هذه الروابط:
أولاً : رابطة الإنسانية :
وهي التي تربط بينك وبين كل إنسان على وجه الأرض، شئت هذا أم أبيت، فأنت من ذريّة آدم وهو من ذريّة آدم، وأنت إنسان وهو إنسان كذلك. والإنسان مكلّف من عند الله بتكليف واحد، سواء امتثل لهذا التكليف أم لا. ولذلـك تجد الكثير من آيات القرآن الكريم توجّه الخطـاب للناس جميعاً: {.. يا أيها الناس ..}. وقد ورد لفظ (الناس) أكثر من مائتي مرة في كتاب الله، فضلاً عن غيرها من الألفاظ التي تعبّر عن وحدة الجنس البشري، وتشير بالتالي إلى وجود رابطة بين هؤلاء الناس، وهي التي نسمّيها الرابطة الإنسانية. لأنها موجودة عند أي إنسان تجاه جميع الناس. هذه الرابطة بالنسبة لنا كمسلمين ترتّب علينا واجبات وحقوقاً شرعية تجدها مفصّلة في كتب الفقه والأخلاق والدعوة، ولا حاجة إلى ذكرها في هذا المقام.

ثانياً : رابطة القوميّة :
وهي أقوى من الرابطة الأولى، فالإنسان يلتقي مع قومه – وهم مجموعة من الناس – على أمور أكثر من مجرّد الرابطة الإنسانية. إنه يعيش عادة مع قومه، ويتكلّم بلسانهم، وله معهم مصالح مشتركة، وبينه وبينهم في الغالب قواسم مشتركة كثيرة. ولا شكّ أنّ هذه الرابطة موجودة ولها تأثيرها في واقع الفرد ودنيا الناس. ولذلك فقد ورد ذكر لفظ (القوم) ومشتقّاته في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمائة وأربعين مرة.

ثالثاً : رابطة العائلة :
وهي تمتدّ على ثلاث دوائر:
الأولى: وتشمل الوالدين والأولاد والزوجة ومن يسكن معهم من الأقارب في نفس الدار.
الثانية: تشمل سائر الأقرباء من العصَبات والنساء وذوي الأرحام.
الثالثة: تشمل سائر الأقرباء الذين ينتسبون إلى جدّ واحد مهما كان بعيداً.
هذه الرابطة تترتّب عليها آثار أكبر في حياة الإنسان، ولذلك خصّتها الشريعة بقدر كبير من الأحكام، سواء ما يتعلّق بالأبوين والزوجة والأولاد، أو بالمحارم، أو بالمواريث، أو بالعاقلة (وهم الأقرباء الذين يلتزمون بمساعدة أحدهم في دفع الدّية إذا ارتكب جريمة قتل خطأ)، أو غير ذلك.

رابعاً : رابطة المصلحة :
وهي التي تربط مجموعة من الناس بمصالح مشتركة يريد كل واحد منهم الحفاظ عليها ودعمها، كالنقابات التي تربط بين العاملين في مجال واحد، وقد لا يكون بينهم رابط آخر.
فهذا التعايش الدائم والمصالح المتبادلة تولّد رابطة بينك وبين هؤلاء القوم.

خامساً : رابطة الإقامة :
فالذي يقيم في بلد ما يشعر تجاه هذا البلد برابطة تشدّه إلى مكان إقامته الجديدة. فالمسلم إذا أقام ببلد غير إسلامي، والعربي حين يقيم في بلد غير عربي، والمسيحي حين يقيم في بلد إسلامي _ غير بلده _ كل هؤلاء يشعرون برابطة خاصة تجاه بلد الإقامة الجديد، قد يكون فيها شيء من الحب والاحترام، وقد تكون نوعاً من الحقد والكراهية بحسب المعاملة التي يلقاها في هذا البلد الجديد، وهذه الروابط هي مشاعر فطرية بشرية طبيعية.

سادساً : الرابطة الإسلامية :
أما الرابطة الإسلامية فهي التي تربط المسلم بأخيه المسلم، وهي تشمل كل من يقول: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله. إنها الرابطة العقائدية التي تهيمن على ما سواها من الروابط جميعاً وتغلبها عند التنازع، لكنها مع ذلك لا تلغي أية رابطة منها على الإطلاق. والإشكالية الحاصلة هنا هي أنّ بعض المسلمين يظنّ أنّ هذه الرابطة تلغي جميع الروابط الأخرى ولا يعترف إلاّ بها، مع أنّ هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. فالله عزّ وجلّ يقول: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشَوْن كسادها ومساكنُ ترضَوْنها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتيَ الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: (وفي الآية دليل على وجوب حبّ الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمّة، وأنّ ذلك مقدّم على كلّ محبوب). ومعنى ذلك أنّ حبّ الله ورسوله لم يلغِ أنواع الحب الأخرى، ولكنّه يقدَّم عليها فقط.
لقد أشارت الآية الكريمة إلى رابطة الأبوّة والبنوّة والأخوّة والزوجية والعشيرة (القومية) والمصالح المتمثّلة بالأموال والتجارة ورابطة المساكن أي الإقامة، واستعملت كلمة (أحبّ إليكم)، فالله تعالى لم يُنكر علينا هذه الروابط وما ينشأ عنها من حب، ولكنه أنكر علينا أن يكون هذا الحب أكبر من حبّنا لله ورسوله، فالمطلوب أن يكون الحب لله أكبر من أيّ حب آخر. وحين التعارض فإن المسلم يغلب حبّه لله والتزامه بأحكام شريعته على مقتضيات جميع الروابط الأخرى. أمّا إذا لم يقع التعارض فأنت تعيش وفي قلبك حب لهذه العناصر الدنيوية طالما أنها لا تتعارض مع حبّك لله أو حبّك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً لا بدّ أن ينشأ عن هذه الروابط التي أشار إليها ربّ العالمين حبّ، لأنّ الإنسان يعيش مع الإنسان الآخر إمّا بحبّ أو ببغض. والحبّ درجات والبغض درجات. فالحبّ قد يكون في أدنى الدرجات أو أعلاها، والبغض كذلك، ولا يمكن أن يرتبط أي إنسان بآخر إلاّ بأحد هذين الشعورين بشكل من الأشكال.
هنا أجد من الواجب أن أنتقل إلى توضيح مسألة أخرى في غاية الأهمية، وخاصة بالنسبة لمن يعيش مع غير المسلمين فأقول:

ثالثاً: حبّ المسلم لغير المسلم:
هل يجوز لمسلم أن يشعر بحب نحو غير المسلمين؟ اسمعوا لقول الله عزّ وجلّ: {ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه، وإذا رأوكم عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل موتوا بغيظكم} . المقصود بهذه الآية اليهود على رأي أكثر المفسّرين، والمنافقون على رأي بعضهم. يقول الطبري في تفسير هذه الآية: (.. فأنتم إذا كنتم أيها المؤمنون تؤمنون بالكتب كلها، وتعلمون أنّ الذي نهيتكم عنه أن تتخذوهم بطانة من دونكم هم كفار بجحودهم ذلك كله، من عهود الله إليهم، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه، أولى بعداوتكم إيّاهم وبغضائهم وغشّهم، منهم بعداوتكم وبغضائكم ..). (.. وفي هذه الآية إبانة من الله عزّ وجلّ عن حال الفريقين، أعني المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان، كما حدّثنا بشر عن … قتادة قوله: [هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور].آل عمران 19
، فوالله إن المؤمن ليحبّ المنافق ويأوي له – أي يرقّ له – ويرحمه، ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن لأباد خضراءه) .
ويقول السيد محمد رشيد رضا في تفسير هذه الآية: (فالقرآن ينطق بأفصح عبارة وأصرحها، واصفاً المسلمين بهذا الوصف، الذي هو أثر من آثار الإسلام، وهو أنهم يحبّون أشدّ الناس عداوة لهم، الذين لا يقصّرون في إفساد أمرهم وتمنّي عنتهم، على أن بغضاءهم لهم ظاهرة، وما خفي منها أكبر مما ظهر .. أليس حبّ المؤمنين لأولئك اليهود الغادرين الكائدين، وإقرار القرآن إيّاهم على ذلك لأنه أثر من آثار الإسلام في نفوسهم، هو أقوى البراهين على أنّ هذا الدين دين حبّ ورحمة وتسامح، لا يمكن أن يصوّب العقل نظره إلى أعلى منه في ذلك). وبعد كلام طويل يقول السيد رضا: (ونتيجة هذا كله: إن الإنسان يكون في التساهل والمحبة والرحمة لإخوانه البشر على قدر تمسّكه بالإيمان الصحيح، وقربه من الحق والصواب فيه. وكيف لا يكون كذلك، والله يقول لخيار المؤمنين: {ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم}، فبهذا نحتج على من يزعم أن ديننا يغرينا ببغض المخالف لنا ..) .
وإيّاك أن تفهم من ذلك أنّ حبّك للمسلم هو كحبّك لغير المسلم، هناك فارق كبير، فالمسلم إنما تحبّه لإيمانه بالله ورسوله، ولالتزامه بالعقيدة الصافية الصحيحة، حتى وإن لم تلقه، ولم تكن بينك وبينه مصلحة، لأنك إنما تحبه لأجل الله الذي ربط الإيمان به بينكما، حتى لو وقع بينك وبينه خلاف، فليس ذلك بمزيل لمحبّته من قلبك أبداً.
كما أنّه لا يمكن أن يكون في قلبك حبّ لغير المسلم بسبب كفره، فهذا أمر محال، لكن قد يكون في قلبك حبّ له لاعتبارات أخـرى. قد يكون صادقاً فتحبّ فيه صدقه، وقد يكون وفياً فتحبّ فيه وفاء العهد، وقد يكون معك أميناً في التجارة فتحبّ فيه هذه الأمانة، وأنت تحبّ له الهداية في كلّ الأحوال. هذه المشاعر قد توجد بينك وبين غير المسلم، وهي تختلف عن الحب في الله الذي لا يمكن أن يكون إلاّ لإنسان مسلم، والذي يكون مجرّداً من كل الاعتبارات الأخرى، بينما حب الكافر حين يوجد لا بدّ أن يكون مرتبطاً بأسباب أخرى. وقد ورد في أسرى بدر من المشركين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو كان المطعم بن عديّ حياً ثمّ كلّمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له” . وهو دليل على وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم بن عدي لدوره في حمايته عندما عاد من الطائف، ولدوره في تمزيق صحيفة المقاطعة، وكان مشركاً في الحالتين. هذا الشعور من النبي عليه الصلاة والسلام نحو المطعم يحمل في طيّاته نوعاً من الحبّ الفطري لقيم الشهامة والشجاعة، وليس أبداً من نوع الحب العقائدي.

حبّ المسلم لزوجته الكتابية:
ومما يؤيّد هذه الفكرة أنّ الله عزّ وجلّ أباح للمسلمين الزواج بالكتابيات كما هو معروف. وقد خلق الله تعالى نوعاً من الحبّ والمودة بين الزوجين تكفل استمرار الحياة الزوجية، رغم كل الإشكالات. قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودَّة ورحمة، إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون}.
فالرجل المسلم يحبّ زوجته الكتابية، والله تعالى هو الذي خلق هذه المحبة في قلبه، فهل يجوز أن ينهاه عنها؟ أعني هل يمكن أن يباح للمسلم الزواج من كتابية ثم يطلب منه أن لا يودّها ويحبّها؟ هذا غير معقول، فلو كان لا يجوز له مودّتها، لنهاه عزّ وجلّ عن الزواج منها.
إذاً يمكن أن تكون هناك مودّة بين المسلم وغير المسلم، ولكن ليس لكفره وضلاله _ معاذ الله _ ولكن لاعتبارات أخرى مشروعة، منها رابطة الزوجية، فإن الزوجة ولو كانت كتابية تشارك زوجها في كثير من المشاعر، ويمكن أن يتفاهما فيها معاً.
كما يمكن أن تكون هناك مشاعر فطرية وروابط اجتماعية بين المسلم وغير المسلم، إذا وجدت مثل هذه الاعتبارات المشروعة كالعهد والجوار والتعامل وغيرها. إنه إذا لم يكن هناك نوع من المحبّة أو نوع من الاحترام أو الخلق الطيّب بينك وبين غير المسلم، فلا يمكن أن تنجح في دعوتك أبداً. قال تعالى: {أُدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن..} .
هذا أساس من أسس الدعوة، وهو أن يكون هناك حوار بالتي هي أحسن، وأن تكون هناك حكمة، وموعظة حسنة. هذه كلها لا تتوفّر إلاّ بوجود مشاعر بين الداعي والمدعو، قد تسميها حباً باعتبار، وقد تسميها مودة باعتبار آخر. وليس هو بلا شكّ من الحب في الله، وليس من المودة التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها في كتابه الكريم.

المودة المنهي عنها:
قال تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}.
فالمودة التي نهى الله عنها في هذه الآية هي لمن كفر وحادّ الله ورسوله، وليس فقط لمن كفر، بل هو من زاد على كفره أنّه يحادّ الله ورسوله، ويحارب الإسلام والمسلمين، لكن لو افترضنا أنّ هناك إنساناً كافراً غير محارب لله ورسوله، ولم يحادّ الله ورسـوله – وقد تتوفّر فيه بعض الصفات الطيّبة والقيم الراقية – فلا بأس أن نقدّر فيه هذه الصفات أو القيم أو الاعتبارات لأنها بقية من رصيد الفطرة عنده، وهي مقبولة من الناحية الشرعية، بل إنّ الرسول صلىّ الله عليه وسلّم يجعل هذه القيم أساس رسالته حين يقول: “بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق” .
ذكر الشوكاني في تفسيره أنّ هذه الآية { لا تجدُ قوماً يؤمنون ..} نزلت في أبي عُبيدة بن الجرّاح عندما قتل والده في غزوة بدر، وقد أخرج ذلك ابن أبي حاتم والطبري والحاكم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه. وذكر القرطبي مثل هذا القول عن ابن مسعود. كما ذكر أنّ هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة لمّا كتب إلى أهل مكّة بمسير النبي صلى الله عليه وسلّم إليهم عام الفتح. وذكر من سبب نزولها أو تفسيراً لها موقف أبي بكر عندما دعا ابنه عبد الله للمبارزة، وموقف مصعب بن عمير عندما قتل أخاه عبيد بن عمير. وموقف عمر بن الخطاب عندما قتل خاله العاص بن هشام، وموقف عليّ وحمزة عندما قتلا عقبة وشيبة والوليد. وكلّ هذه المواقف تؤكّد أنّ المودّة المنهيّ عنها في هذه الآية هي لمن جمع مع الكفر المحاربة. يؤيد ذلك ما سبق أن ذكرناه من جواز مودة المسلم لزوجته الكتابية وفق نص القرآن الكريم، لأنها لا يمكن أن تكون محاربة بسبب رباط الزوجية، فإذا حصلت الحرب منها فينبغي أن تزول المودة لأنها تصبح غير مشروعة.
نستنتج من هذا أنّ العاطفة يمكن ويجب أن تكون موجودة تجاه إنسان تريد أن تدعوه إلى الله عزّ وجلّ، وهذه العاطفة هي جزء صغير من عاطفة الحب التي أرادها الله عزّ وجلّ خالصة له، وأراد أن يكون الحبّ والبغض للناس الآخرين خالصاً أيضاً له سبحانه. هذا هو الأساس الذي يعتبر أقوى من كل ما عداه، ويغلب كلّ ما عداه .. لكن يمكن أن يكون ضمن هذا الحب الكبير جزء يبذل لغير المسلمين في حدود ما يرضي الله، إمّا عاطفة وإمّا حواراً بالتي هي أحسن، أو موعظة، أو خدمة، أو تضحية، أو تعاوناً على أمر مشروع، فهذه كلها جزئيات، لكن لا بدّ أن تكون موجودة لأنها تعبّر عن حقيقة الرسالة الإسلامية التي جعلها الله {رحمة للعالمين} وتساعد على نجاح الدعوة إلى الله.

الإسلام جاء رحمة للناس جميعاً:
إذا أعلن الكافر الحرب عليّ ، فلا يمكن أن يكون في قلبي ذرة حبّ نحوه ، لكننا نعيش – في بلاد الغرب – اليوم في وسط مسالم ولو كان مخالفاً لنا في الدين، وعندنا رفاق وجيران من غير المسلمين، وقد يكون من بين هؤلاء من هو قريب جداً منّا، وقد تشعر أيها الأخ المسلم بنوع من العلاقة بينك وبين هؤلاء، وقد تستحي أو تتحرّج أن تسمّيها حباً أو مودة، إنه لا حرج في ذلك حسب الفهم الصحيح للآيات التي مرّت بنا وفق أسباب نزولها، وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فهذه عواطف لا علاقة لها بالإيمان، وإنما هي عواطف متصلة باعتبارات مشروعة بالنسبة لنا نحن المسلمين، ومثل هذه الاعتبارات المشروعة، قد تنشأ عنها عواطف فطرية، وهذه لا يمكن ولا يُتصوّر أن تتعارض مع الحبّ في الله، فضلاً عن أن تتغلّب على ذلك الحب الذي يعتبر أصلاً من أصول الإيمان. إن أوثق عرى الإيمان هو: الحب في الله والبغض في الله. ومما يؤكّد مشروعيّة هذه العواطف أنّ الله عزّ وجلّ أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “لن تؤمنوا حتى تراحموا. قالوا يا رسول الله كلّنا رحيم، قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة الناس، رحمة عامة” . وقال أيضاً: “إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” . وهل الرحمة تجاه الناس جميعاً إلاّ نوع من العاطفة؟!

الحب الفطري والحب العقائدي:
من كل ما تقدّم يتبيّن لنا أنّ هناك نوعين من الحبّ. حبّ فطري وحبّ عقائدي.
– الحبّ الفطري: وهو أثر من آثار الشهوات، قال تعالى: {زُيِّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: “حُبِّب إليّ من دنياكم الطيب والنساء، وجُعِلت قُرّة عيني في الصلاة” .
يقول الإمام الغزالي عن هذا النوع من الحب: (هو حبّ بالطبع وشهوة النفس، ويتصوّر ذلك ممّن لا يؤمن بالله. إلاّ أنه إن اتصل به غرض مذموم صار مذموماً، وإن لم يتصل به غرض مذموم فهو مباح لا يوصف بحمد ولا ذمّ). فالحب الذي نتحدّث عنه مع غير المسلمين لا يكون إلاّ من هذا النوع الفطري. فقد تحبّ امرأة غير مسلمة لجمالها أو خلقها، هذا أمر فطري. ويكون مذموماً إذا اتصل به أمر حرام كالخلوة أو الاختلاط المحرّم أو الزنى، ويكون مباحاً إذا اتصل به غرض مباح كالزواج. وقد تحبّ إنساناً غير مسلم لحسن خلقه، أو كمال عقله، أو لقرابة بينك وبينه، أو لمصلحة لك عنده، أو لألفة بينكما أو غير ذلك. فإذا لم يتصل بهذا الحب أمر مذموم فهو مباح، وعلى المسلم أن يستفيد من هذا الحب في دعوة هذا الإنسان إلى الله تعالى. كما ورد عن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ، الصحابي الصالح الذي كان أبوه منافقاً، وكان يحبّه لأنه والده، ويحبّ له الهداية، والرسول يأمره بحسن معاملة أبيه رغم نفاقه، لكن هذا الحب الفطري لم يدفعه للانتصار لأبيه ضدّ المسلمين، ولو حصل ذلك لكان حباً مذموماً، ولكنه انتصر للإسلام ضدّ أبيه كما حدث بعد غزوة بني المصطلق.
– الحب العقائدي: وهو حب الله ورسوله، والحب في الله ولله. وهو ثمرة من ثمرات الإيمان، وجزء من عقيدة المسلم. وبه يتعلّق التكليف الشرعي، لأنّ واجب المسلم أن يحب أخاه المسلم ولو لم يكن بينهما تناسب أو انسجام أو قرابة أو مصلحة، بل يحبّه لأنّه مسلم. ولذلك اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلاوة الإيمان “أن يحبَّ المرء لا يحبّه إلاّ لله” . وتحدّث عن السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه ومنهم: “رجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه” . وقال:”لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا ..” . ومثل هذه الأحاديث كثير.

هل يعتبر غير المسلمين (إخوة):
وقد يتحرّج بعض المسلمين من اعتبار غير المسلمين إخواناً لهم، وإذا استعمل البعض كلمة (إخواننا النصارى)، ترى الكثير من الشباب المسلم يهيج ويثور قائلاً: كيف تسمّون النصارى إخواناً لنا والله عزّ وجلّ يقول: {إنّما المؤمنون إخوة}.
إنهم يفهمون من هذه الآية أنّ الأخوّة محصورة بين المؤمنين، ولا يمكن أن تشمل غيرهم، وهذا ليس صحيحاً، للأدلّة التالية:
1. لقد وصف الله عزّ وجلّ الأنبياء بأنهم إخوة لأقوامهم الكفّار. قال تعالى:
{وإلى عادٍ أخاهم هوداً}.
{وإلى مدين أخاهم شعيباً}.
{وإلى ثمود أخاهم صالحاً}.
وقال تعالى:
{إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون؟}.
{إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتّقون؟}.
{إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون؟}.

هؤلاء الأنبياء: نوح وهود وصالح وشعيب، اعتبرهم الله إخواناً لأقوامهم، فهذا تصريح من القرآن بوجود أخوّة قوميّة رغم اختلاف الدين.
2. وقد أبقى الله تعالى وصف الأخوّة حتّى مع الإنسان الكافر المحارب، وذلك في قوله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ..}. فالأخوّة الإنسانية موجودة، والأخوّة القومية موجودة، والأخوّة النسبية موجودة، وقد يكون معها أخوّة الإسلام فتزداد قوّة ومتانة، وقد لا يكون معها أخوّة إسلامية، فتبقى كل أنواع هذه الأخوّة إلى جانب بعضها، وعند التعارض يغلّب المسلم أخوّته الإسلامية على كل ما عداها.

أمّا الآية الكريمة {إنّما المؤمنون إخوة} فمعناها أنّ العلاقة بين المؤمنين لا يمكن أن تكون إلاّ علاقة أخوّة في الله، ولكنها لا تحصر الأخوّة فقط بين المؤمنين. إذ الأخوّة قد يكون لها سبب آخر بين المؤمنين وغير المؤمنين، فقد تكون أخوّة قومية أو أخوّة بشرية أو قد تكون صداقة مبنية على المصالح المشروعة.
ومن جهة أخرى فقد تكون العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين حرباً أو عداوة أو أحقاداً، أمّا بين المسلمين فالعلاقة ينبغي أن تكون دائماً قائمة على الأخوّة في الله.
إذا نظرنا إلى هذه الآية في ضوء الآيات الأخرى، فإننا نتوصّل إلى النتيجة التالية: أنّ كل هذه الروابط البشرية روابط فطرية، غير أنّ أقوى رابطة تربطني ببشر هي رابطة الأخوّة في الله، وهذه لا يمكن التنازل عنها أو التفريط فيها أو الاستحياء منها.

لكن هذه الرابطة القوية ليست وحيدة ولا تمنع أن يكون بيني وبين غير المسلمين أخوّة من نوع آخر، أقدّر فيها القرابة النسبية أو القومية أو الإنسانية، فهذه لها قدرها وتلك لها قدرها، والذي يغلّب واحدة على أخرى عند التعارض أمر الله تعالى وشريعته.

هل كل كافر حربي؟ – ليسوا سواء – علة القتال: الحرابة وليس الكفر – السلم هو الأصل

الفصل الثاني: الفكر
أكثر من ثلث المسلمين يعيشون اليوم في بلاد غير إسلامية، وتنتشر بينهم مجموعة من الأفكار ورثوها من تراث الإسلام الزاخر، لكن بعضها كان متأثراً بظروف الأمة التاريخية، ويحتاج اليوم إلى الكثير من النقد والتصحيح، حتى يكون منسجماً مع المبادئ الشرعية الثابتة.
من هذه المفاهيم اعتبار كل كافر حربياً، وبالتالي إباحة دمه وماله، ومعاملته بأخلاق الحرب من جواز الكذب والاحتيال فضلاً عن الحقد والكراهية. وقد سمعت مثل هذا الكلام بنفسي من أحد المشايخ الذين تقلّدهم مجموعة من الناس.
وأسارع إلى القول بأن كثيراً من الفقهاء وإن كانوا يعتبرون الكافر حربياً من حيث المبدأ – وهذا ما سنناقشه فيما بعد – إلاّ أنهم لا يرون جواز معاملته بأخلاق الحرب إلاّ حين تقع الحرب فعلاً بيننا وبينه. وكل النصوص الواردة في إباحة الكذب والاحتيال في الحرب محصورة بقيام الحرب الفعلية، وقد ذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم عند الكلام عن حديث “الحرب خدعة”: (اتفق العلماء على جواز خداع الكفّار في الحرب كيف أمكن الخداع، إلاّ أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحلّ) ، فضلاً عن أنّ المجاهد المسلم يظلّ متمسّكاً بأخلاق الإسلام حتّى أثناء القتال فلا يجوز له قتل الأطفال أو النسـاء غير المقاتلات، أو الشيوخ غير المقاتلين، أو الرهبان في الصوامع، أو العسفاء – أي الخدم الأجراء – أو التجار، وفي كل ذلك وردت نصوص صريحة، وقد قاس عليها جمهور الفقهاء كل من لا يقدر على القتال أو لم يقاتل فعلاً كالأعمى والمريض المزمن والمعتوه والفلاح. ولا يجوز للمجاهدين التمثيل بجثث الأعداء إلاّ إذا كان معاملة بالمثل، والأفضل لهم العفو وعدم التمثيل. ولا يجوز التخريب والتحريق إلاّ إذا كان من ضرورات القتال. وتلخّص وصيّة أبي بكر لأول جيش خرج من الجزيرة العربية لقتال الروم كل هذه المعاني: (لا تمثّلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلاّ لمأكلة. وسوف تمرّون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له) . وبما أن حالة الحرب الفعلية ليست قائمة بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون في بلاد غير إسلامية، سواء كانوا مواطنين أو مقيمين، فإن كل حديث عن استباحة الدماء والأموال – للأفراد أو الدولة – مناقض لمبادئ الإسلام وأخلاقه ولا يبيحه أحد من العلماء على الإطلاق.

هل كل كافر حربي؟
1. لا يكون الكافر حربياً إلاّ إذا أعلن هو- أو دولته – الحرب على المسلمين أو إذا أعلن المسلمون الحرب عليه أو على دولته، لأسباب مشروعة. وعند ذلك فقط يمكن أن نطبّق في معاملته أحكام الحرب.
2. إذا لم يقع إعلان الحرب كما ذكرنا في البند السابق، فإن كل كافر يمكن أن يكون حربياً، وهذا ما يعنيه الفقهاء عندما يتحدّثون عن الكافر بأنه حربي، وبالتالي فيجب على المسـلمين أن يكونوا حذرين منه حتى تنقطع حربيّته بعهد، فيلتزم المسلمون معه بأحكام العهد.
3. يمكن أن يقع بين الكافر والمسلم عهد فردي فيجب الالتزام به بينهما.
وقد يقع العهد بين الكافر ودولة مسلمة، فيجب الوفاء به أيضاً من قبل جميع المسلمين رعايا هذه الدولة. ومنه عقد الذمة وهو عهد مؤبّد وعقد الأمان الذي يدخل بموجبه الكافر دار الإسلام وهو عهد مؤقّت.
وقد يقع بين المسلم ودولة كافرة، فيجب على المسلم الوفاء به كذلك، كما لو دخل المسلم دار الكفر للتجارة قديماً، وكما يدخل اليوم بالتأشيرة.
وقد يقع بين دولة مسلمة ودولة كافرة، فيجب الالتزام به كصلح الحديبية قديماً، وميثاق الأمم المتحدة اليوم.
وكتب الفقهاء غنيّة بذكر تفاصيل هذه الحالات الثلاث، التي يحكمها جميعاً قوله تعالى: {.. وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولاً ..}. وقد اعتبر الله تعالى نقض العهود من أخلاق اليهود {.. أوَ كلّما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ..؟} ومن أخلاق المشركين {.. الذين عاهدتَ منهم ثمّ ينقضون عهدهم في كلّ مرّة وهم لا يتّقون}. أمّا المسلمون فمن أخلاقهم الوفاء بالعهود {.. والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ..} {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}.

ليسوا سواء ..
إذاً، فإن غير المسلمين من الناحية القانونية، يكونون تجاه المسلمين في إحدى الحالات: الحرب الفعلية، احتمال الحرب، العهد. ولا يصح أن نعتبرهم دائماً محاربين فعلاً حتى نبرّر معاملتنا إياهم بأحكام الحرب.
بل إن القرآن الكريم ميّز غير المسلمين، حتى من جهة قربهم أو بعدهم عن الإسلام كدين، وعن المسلمين كأمّة. قال تعالى: {لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا. ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى، ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهباناً، وأنهم لا يستكبرون} وقال تعالى: {ليسوا سواءً. من أهل الكتاب أمّة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ..}.
ذكر الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير هذه الآية قول الإمام محمد عبده أنّ هذه الآية (دليل على أنّ دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء، وأنّ كلّ من أخذه بإذعان، وعمل فيه بإخلاص، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فهو من الصالحين ..). وعقّب على ذلك بقوله: (وظاهر أنّ هذا كالذي قبله، في أهل الكتاب حال كونهم على دينهم، خلافاً لمفسّرنا “الجلال” وغيره، الذين حملوا المدح على من أسلم منهم، فإن المسلمين لا يُمدحون بوصف أنّهم من أهل الكتاب، وإنّما يُمدحون بعنوان المؤمنين). وختم الشيخ رضا بقوله: (إنّ استقامة بعض أهل الكتاب على الحقّ من دينهم لا ينافي ما حقّقناه في تفسير التوراة والإنجيل في أوّل السورة من ضياع كتبهم وتحريف بعضهم لما في أيديهم منها).
وهذا يعني أنّه حتى من الناحية العاطفية، فإن المسلم يشعر أن النصراني أقرب إليه من اليهودي. ويشعر أن الكتابي إجمالاً أقرب إليه من المجوسي أو الوثني. وقد عبّر القرآن عن ذلك بالإشارة إلى فرح المسلمين يوم ينتصر الروم وهم أهل كتاب على الفرس المجوس. قال تعالى: {الم. غُلبت الرومُ في أدنى الأرض، وهم من بعد غَلَبِهم سيُغلبون. في بضع سنين. لله الأمر من قبل ومن بعد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو القوي العزيز}

علَة القتال: الحرابة وليس الكفر
بحث الفقهاء في مباحث الجهاد عن العلة التي تبيح للمسلمين قتل الأعداء، فقال جمهورهم من المالكية والحنفية والحنابلة أن علة القتال هي الحرابة – أي المحاربة – والمقاتلة والاعتداء، وليس مجرد الكفر ، بينما يرى الشافعي في أحد قوليه أن علة القتال هي الكفر. ورأي الجمهور في هذه المسألة هو الراجح، وقد بنوه على الأدلة التالية:
1. آيات كثيرة صريحة تؤكّد أن سبب قتال المسلمين لغيرهم هو العدوان الصادر منهم. {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين} {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة} {وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة ..} {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحبّ المقسطين} . وقد اتفق أكثر المحققين أن هذه الآيات محكمة وليست من المنسوخ.
2. الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تمنع قتل كثير من الكفّار لأنّهم لم يحاربوا أو لعدم قدرتهم على القتال، منها الأحاديث التي تمنع قتل المرأة لأنها لا تقاتل والصبيان لأنهم لا يقاتلون، وقد ورد هذا المعنى عند البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه وغيرهم. وقد ذكر أبو داود وابن ماجه منع قتل العسيف وصحح الألباني الروايتين (صحيح سنن أبي داود رقم 2324 وصحيح سنن ابن ماجه2294) والعسيف هو الأجير المستخدم في أمور لا تتصل بالقتال كالفلاحين والعمال في المصانع، وعمال النظافة في الطرقات والأطباء والممرضين وموظفي المستشفيات. وورد في سنن أبي داود منع قتل الشيخ الفاني، كما ورد فيها الأمر بقتل شيوخ المشركين، وجمع الشوكاني بين الروايتين بأن الشيخ المنهي عن قتله هو الفاني الذي لم يبق فيه نفع للكفار، والشيخ المأمور بقتله هو من بقي فيه نفع للكفار ولو بالرأي كدريد بن الصمة الذي كان صاحب رأي في الحرب فقتل وقد نيّف عن المائة .
ولأن علة القتل هي المحاربة وليست الكفر فقد أوصى أبو بكر جيشه أن لا يتعرّضوا لمن حبسوا أنفسهم في الصوامع وأن لا يقتلوا امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً . ومع أن الإمام الشافعي يجيز قتل غير النساء والأطفال ولو لم يشتركوا في القتال، إلاّ أنه لا يرى قتل الرهبان اتباعاً لأبي بكر.
وقد ورد في مصنّف أبن أبي شيبة (أنهم كانوا لا يقتلون تجار المشركين) .
وقد قاس الفقهاء – الذين يرون أن علة القتال هي الحرابة وليس الكفر – على هذه النصوص كل من كان غير قادر على القتال كالمقعد والأعمى ويابس الشق – أي المشلول – والأعمى ومقطوع الرجل واليد من خلاف ومقطوع اليمنى والمعتوه والراهب في صومعته والسائح الذي لا يخالط الناس والرهبان في الكنائس والأديرة . ويرى المالكية منع قتل سبعة هم: المرأة والصبي والمعتوه والشيخ الفاني والزمن – أي المصاب بمرض مزمن – والأعمى والراهب المنعزل بالدير أو الصومعة وعند الحنابلة لا يجوز قتل الصبي ولا المرأة ولا الشيخ الفاني ولا زمِن ولا أعمى ولا راهب .
3. أنه لو كان القتل لمجرّد الكفر جائزاً، لكان هذا مناقضاً لعدم الإكراه على الدين. وهذه مسألة لا خلاف عليها بين جميع العلماء، والنصوص القاطعة الصريحة في القرآن الكريم تؤكّدها. قال تعالى: {لا إكراه في الدين ..} وقال لنبيّه {أفأنت تُكره الناس حتّى يكونوا مؤمنين؟} {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ..} {لكم دينكم ولي دين}.
كما أن الثابت في سنّة النبي صلى الله عليه وسلّم أنه أسر الكثير من المشركين ولكنه لم يكره أحداً على الإسلام. وقد قتل بعضهم لأسباب أخرى غير الكفر، وفدى بعضهم، وأطلق سراح البعض. ولو كان القتل واجباً لمجرّد الكفر لم يكن يجوز تركهم. والله تعالى عندما ذكر حكم الأسرى قال: {فإمّا منّاً بعدُ وإمّا فداءً ..} وهذه من أواخر ما نزل من القرآن، ولم يأمر فيها بقتل الأسرى، بل لم يجعل هذا الأمر أحد الاحتمالات الأساسية، مما يعني استبعاده إلاّ إذا وجد ظرف خاص يبرره، ولذلك اتفق جمهور الفقهاء على تخيير الإمام عند تحديد مصير الأسرى بين المنّ أو الفداء أو القتل حسب مصلحة المسلمين، مستندين في ذلك إلى أنّ الرسول (ص) أمر بقتل بعض الأسرى لأسباب خاصّة تتعلّق بجرائم وممارسات ارتكبوها وليس لمجرّد الكفر، وإلاّ لأمر بقتل الجميع ولم يكن للتخيير معنى.

السلم هو الأصل:
ولقد كثرت مباحث الفقهاء حول أحكام الحرب، فلا تكاد تجد كتاباً فقهياً إلاً ويتناولها بشيء من التفصيل. ونحن نلاحظ أن جميع آراء الفقهاء تنطلق من نصوص ثابتة في القرآن الكريم أو السنّة المطهرة، ولكنها تعالج واقعاً تاريخياً معيناً. بل إن النصوص نفسها قسمان:
– منها ما يرتبط بالواقع الذي وردت فيه هذه النصوص فهو علاج لها، ولا تعبّر بالضرورة عن أحكام مطلقة.
– ومنها ما يتعلّق بالمبادئ والقيم الإسلامية التي نزل القرآن لنشرها بين الناس، وإقامة الحياة الإنسانية وفقها، فهي تعتبر أحكاماً مطلقة.
إن الواقع البشري الذي وردت فيه نصوص القرآن الكريم والسنّة المطهرة المتعلّقة بالقتال، ثم جاءت آراء الفقهاء تعالجه منذ العصر الأول حتى انهيار الخلافة العثمانية في أوائل هذا القرن يتميّز بما يلي:
1. سيطرة الأنظمة الاستبدادية على جميع الشعوب المحيطة. هذه الأنظمة كانت تمنع على الناس حرية اختيار الدين الذي يشاؤون، بل وتلزمهم بمذهب الدولة الرسمي، وتبيح قتل المخالف حتى ولو كان مواطناً. ولم يكن هذا الأمر مقتصراً على بلاد الروم وفارس في العصور الإسلامية الأولى، بل امتدّ ليشمل الدول الأوروبية حتى هذا القرن. وإذا كان الإكراه الديني لم يعد موجوداً تجاه المواطنين في نفس الدولة بسبب انتشار الفكر العلماني، إلاّ أن الحقد الديني لا يزال يشكّل خلفيّة أساسية في التفكير الأوروبي والغربي – عند الشعوب أو عند الحكّام – ضد الإسلام والمسلمين بشكل خاص. ويظهر بين الحين والآخر في ممارسات ضد الإسلام والمسلمين تتجاوز حتى مسائل الحريات الشخصية وحقوق الإنسان كمسألة الحجاب.
2. سيطرة فكرة الحرب والقتل والعنف بشكل عام، وضدّ الإسلام والمسلمين بشكل خاص. نلاحظ ذلك عند بداية البعثة النبوية في المرحلة المكّية، واستمر الأمر على هذا المنوال في المرحلة المدنية، ثم بدأ العدوان على الجزيرة العربية من قبل الروم والفرس، وظهر إصرار الحكّام على منع شعوبهم من الدخول في الإسلام، فكانت الحروب الإسلامية كلها إمّا رداً لعدوان واقع، أو منعاً لعدوان متوقّع، أو رغبة في تخليص الشعوب من الأنظمة المستبدة لتختار ما تريد بحرية كاملة. إن هذا الجو المسيطر على العالم كله، جو الحرب والتآمر والكيد ومنع الحريات كان له أثره الكبير على كثير من الأحكام الفقهية التفصيلية المتعلّقة بالجهاد.
ورغم الضغوط الهائلة لهذه الظروف التاريخية على التفكير الإسلامي الفقهي، إلاّ أننا نجد عند فقهائنا دائماً التزاماً بالقيم الإسلامية المطلقة وحرصاً عليها وتغليباً لها في كل الظروف. من ذلك:
بعض الأحكام الفقهية المتعلّقة بالقتال:
1. اعتبار المحاربة هي علة القتل والقتال، وليس مجرّد الكفر كما مرّ بنا آنفاً.
2. تأكيد الحرية الدينية لجميع الناس، انطلاقاً من الآية الكريمة {لا إكراه في الدين ..}. وجمهور المحقّقين من الفقهاء والمفسّرين على أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة ولا مخصوصة، وهذا ما ذكره ابن تيمية في رسالة القتال. وهذا ما اختاره ابن كثير والطبري والألوسي والجصاص والقرطبي وأبو حيان وغيرهم. بالإضافة إلى أن معنى عدم الإكراه مؤيد بعشرات من الآيات والأحاديث الصحيحة، وبفعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، وبممارسة حكّام المسلمين منذ الخلافة الراشدة حتى انهيار الدولة العثمانية، حيث لم يذكر التاريخ عملية إكراه واحدة في أي عصر من هذه العصور.
3. يذكر كثير من الفقهاء أن (الأصل في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين الحرب) ولكنهم لم يريدوا بذلك ما يتوهّمه كثير من الناس اليوم. ولو أردنا أن نمحّص مقصود الفقهاء في عصرهم حسب لغة عصرنا لقلنا أنهم يقصدون بتلك العبارة (أن الأصل في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين احتمال الحرب) وليس حتمية الحرب. وذلك واضح مما يذكرونه من أحكام تتعلّق بنزع صفة الحربي لأقل سبب.
– فالحربي يحصل على الأمان من أي مسلم بالغ عاقل، بل حتى من الصبي المميّز وهو الذي جاوز السبع سنوات عند مالك وأحمد ومحمد بن الحسن .
– وإذا دخل الحربي دار الإسلام بغير أمان، ماذا يحصل له؟ الفهم المتبادر عندنا أن يقتل لأنه حربي وليس عنده أمان. لكن الفقهاء يقولون: لو قال – أي الحربي – دخلت لسماع كلام الله تعالى، أو دخلت رسولاً – سواء كان معه كتاب أو لم يكن – أو دخلت بأمان مسلم دون أن يأتي ببيّنة على ذلك صُدِّق ولم يتعرّض له لاحتمال ما يدّعيه، ولأن قصده ذلك يؤمنه من غير احتياج إلى تأمين. هذا قول الشافعية والحنابلة. وعند المالكية يُردّ إلى مأمنه إلاّ أن توجد قرينة كذب. وعند الأحناف يطالب بالبيّنة لإمكانها غالباً . ولم يقل أحد من الفقهاء إنّه يُقتل لمجرّد أنّه كافر حربي، مع أنّه يُعتبر حربياً في نظر الجميع.
– والحربي يمكن أن يصير ذمياً بالتراضي، أو بالإقامة مدة سنة في دار الإسلام .
إذاً فالحربي في مثل هذه الحالات لا يعامل بأخلاق الحرب ولا تطبّق عليه أحكامها.
إنه لا يعتبر حربياً بالفعل وتطبّق عليه أحكام الحرب، إلاّ عند قيام الحرب الفعلية بينه وبين المسلمين. لكن بما أن الراجح في التاريخ الماضي أن الكفار الحربيين كانوا دائماً يستعدون لحرب المسلمين ويخوضون هذه الحرب كلّما أمكنهم ذلك، وحتى لا يقصّر المسلمون في الاستعداد المقابل، اعتبر الفقهاء أن (أحكام الحرب) واقعياً ترجّح قيام حالة الحرب من جانبهم، مهما كنّا نفضّل السلام. ولذلك قالوا باعتبار الحرب هي الأصل في العلاقات مع الكفّار، بناءً على هذا الواقع.
4. وانطلاقاً من ذلك فإننا نرى أن ما ينسب إلى جمهور الفقهاء من (أن الأصل في العلاقات الحرب) يفهم في هذا العصر على غير ما قصده الفقهاء في عصورهم. بل إننا نقول إن عبارة (الأصل في العلاقات السلم) هي التي تعبّر عن نظرة الإسلام الأساسية للعلاقات الإنسانية، وهي تنسجم مع ما قصده فقهاؤنا في عصورهم ولنا على ذلك الأدلة التالية:
أ. إنّ الله تعالى خلق الإنسان، وكلّفه بالإيمان به وبعبادته، وسمح له إن شاء أن يكفر، وجعل عاقبة كفره شقاء في الدنيا وعذاباً في الآخرة، ولم يعاقبه على كفره بالقتل، قال تعالى:
{يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتقون ..}
{والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}
{ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً، ونحشره يوم القيامة أعمى ..}
{وقل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إنّا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سُرادقها، وإن يستغيثوا يُغاثوا بماء كالمُهل يشوي الوجوه، بئس الشراب وساءت مرتفقاً}
ب. إنّ الله تعالى أرسل الرسل لجميع الناس { وإن من أمّة إلاّ خلا فيها نذير } ، وحصر مهمّة الرسل بالبلاغ فقط { فهل على الرسل إلاّ البلاغ المبين؟}. وأضاف لسيدنا محمد خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم مهمّة التعليم والتزكية، قال تعالى: {هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين}.
ث وممّا لا يشكّ فيه عاقل أنّ السلم هو الوضع الأمثل مع الكافرين لقيام الرسل بواجب التبليغ والتعليم والتزكية.
. عندما شرع الله تعالى الجهاد للمسلمين، وأمر به نبيّه صلى الله عليه وسلم، وذلك من أجل حماية المسلمين وحماية الدعوة لإسلامية، أمر المسلمين قبل الحرب وبعدها بالدعوة لأنّها الأصل، وهي المهمّة الأولى لهم.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميراً على جيش أوصاه إذا لقي عدوّه من المشركين: “أُدعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم ..” وعندما أرسل علي بن أبي طالب لقتال اليهود يوم خيبر قال له: “أُدعهم إل الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمُر النِّعَم” .
والإيمان بالله وعبادته لا تكون بالإكراه، بل بالدعوة والإقناع، وهذه تكون في جوّ السلم أفضل بكثير من جوّ الحرب، الذي يستثير الغرائز تحت ستار الدفاع عن النفس. ولمّا كان السلم هو أفضل الظروف لانتشار الدعوة، كان هو الأصل في العلاقات الإنسانية.
ث. كلمة (الأصل) في عبارة (الأصل في العلاقات الإنسانية السلم أو الحرب)، إمّا أن تعني الأقدم زماناً، أو الأهمّ، أو الأساس.
– فإن كانت تعني (الأقدم زماناً) فالأصل هو السلم بإجماع الفقهاء الذين يوجبون البدء بالدعوة قبل القتال. وإذا كان القليل من الفقهاء قد أجازوا قتال الكفّار ولو لم تبلغهم الدعوة فقد خالفوا في ذلك أحكاماً شرعية بدهيّة، حتّى قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم تحت هذا الرأي: إنه باطل.
– وإن كانت تعني (الأهمّ)، فإنّ السلم يكون تارة هو الأهمّ بل هو الأوجب أحياناً، كما أنّ الحرب في بعض الظروف تكون هي الأهمّ. وليس هناك خلاف على ذلك بين العقلاء، فكيف يكون هناك خلاف بين الفقهاء؟.
– وإن كان المعنى هو (الأساس) الذي تُبنى عليه العلاقات بين الناس فهو السلم أيضاً، لأنّه أفضل ظرف لتبليغ الدعوة، ولأنّه أساس التعارف الذي أمر به ربّ العالمين {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، ولأنّه مناط التجارة التي أجمع الفقهاء على إباحتها مع دار الحرب.
ج. إنّ القتال شُرع في الإسلام لسببين، وعلى ذلك أجمع الفقهاء قديماً وحديثاً:
– الدفاع عن المسلمين: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إنّ الله لا يحبّ المعتدين}.
– منع الفتنة، أي الدفاع عن حرية الإنسان في اختيار الدين الذي يشاء {وقاتلوهم حتّى لا تكـون فتنـة..}
ومعنى ذلك أنّه إذا لم يقع أحد هذين السببين فلا يجوز للمسلمين أن يلجأوا إلى القتال، ممّا يؤكّد أنّ الأصل في العلاقات السلم وليس الحرب.
ح. أمّا جواز قتال غير المسلمين من أجل إجبارهم على الخضوع للنظام الإسلامي، مع المحافظة على حرّيتهم في عدم اعتناق الإسلام فهو رأي قال به بعض الفقهاء قديماً وحديثاً، لكنّنا نعتقد خطأ هذا الرأي لمصادمته لمبدأ {لا إكراه في الدين}.
والدين يشمل العقيدة والنظام، والإكراه على الخضوع للنظام الإسلامي لا يجوز في رأينا إلاّ إذا كان نتيجة حرب تسبّب بها غير المسلمين، وبهدف منع تجدّد أسباب الحرب في المستقبل، حرصاً على العلاقات السلمية بين الناس.
فضلاً عن أنّ مثل هذا الرأي – حتّى ولو كان صحيحاً من الناحية النظرية – لا يمكن قبوله شرعاً في العصر الحاضر، حيث يملك غير المسلمين القنابل الذرّية والهيدروجينية وأسلحة الدمار الشامل.
فلو افترضنا أنّنا أقمنا دولة إسلامية من أقوى دول الأرض، وأنّ هذه الدولة استطاعت أن تجمع الشعوب الإسلامية بكلّ إمكانيّاتها البشرية والاقتصادية والعسكرية.
ثمّ أرادت هذه الدولة أن تقوم بواجبها في الدعوة إلى دين الله فما الذي يحصل؟
إنّ الأنظمة الحاكمة اليوم في البلاد الغربية غير المسلمة تعتبر حرّية التفكير والتعبير واعتناق العقيدة من حقوق الإنسان الأساسية، فلو أنّ هذه الدول لم تمنع الدعاة إلى الله، ولم تسجن أو تقتل من دخل في الإسلام من أبنائها كما يحدث حتى الآن، واستطاع المسلمون أن يستعملوا كلّ الوسائل العصرية المتاحة للدعوة، من قنوات فضائية وإنترنت وكتب وأشرطة ومجلاّت.
ماذا يمكن أن يكون موقف الدولة الإسلامية؟

الإسلام أو الجزية أو القتال:
يظنّ البعض أنّ الموقف الشرعي الواجب على هذه الدولة المسلمة أن تخيّر الدول الأخرى بين الإسلام أو الجزية أو القتال التزاماً بظاهر بعض الأحاديث الصحيحة عندما تفهم مقطوعة عن ظروفها التاريخية.
وهذا في رأينا غير صحيح، وتسلسل النصوص الشرعية والأحداث التاريخية يؤيّد ذلك. فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن استقرّ له الأمر في المدينة المنوّرة، كتب رسائل إلى الملوك من حوله يدعوهم إلى الإسلام وإلى الإيمان بالله وحده لا شريك له. فكتب إلى قيصر ملك الروم، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى المقوقس عظيم القبط، وإلى الحارث ملك تخوم الشام. وطلب من هؤلاء الملوك أن يبلّغوا دعوته إلى شعوبهم، وإلاّ فإنّهم يتحمّلون إثم هؤلاء الناس. وذلك بسبب ما كان معروفاً أنّ الملوك يمنعون شعوبهم أن يدينوا بغير دينهم.
ثمّ كانت الفتوحات الإسلامية، وكان تخيير هؤلاء بين الإسلام أو الجزية أو القتال مبنياً على سببين:
الأول: هو مبادرة بعضهم إلى قتال المسلمين كما حدث مع كسرى الذي مزّق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكتب إلى نائبه في اليمن (باذان) أن يبعث له هذا الذي يدّعي أنّه نبي. وكما حدث مع الحارث الغسّاني الذي رمى كتاب النبي وعزم أن يسير إليه ليقاتله، وكما حدث في غزوة تبوك عندما تجمّع الروم لغزو المدينة، وقتلوا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما ورد في كتب السيرة.
الثاني: هو منع هؤلاء الملوك لشعوبهم من حرّية قبول الإسلام أو رفضه بناء على العرف العام – في تلك العصور – الذي يمنع الشعوب أن تعتقد ديناً يخالف دين ملوكها. وهذا ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حمّل الملوك مسؤولية رعاياهم، وهذه هي الفتنة التي أمر المسلمون بالقتال لرفعها عن جميع الناس.
إذاً فتخيير الشعوب غير المسلمة بين الإسلام أو الجزية أو القتال ليس حكماً إلزامياً مطلقاً في جميع الظروف، إنّما هو حكم شرعي يترتّب على:
البدء بالقتال ضد المسلمين
وعلى فتنة الناس ومنعهم من الدخول في الإسلام.
وحين لا يحصل أيّ من هذين السببين يكون الواجب الدعوة فقط. وهذا ما يؤيّده الحديث المشهور الذي رواه الإمام مالك
دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم” وعندما سُئل عن صحّة هذا الحديث قال: (ما زال الناس يتحامون غزوهم).

الاكتفاء بالدعوة:
ولو أنّ الدولة المسلمة في هذا العصر رأت أن تخيّر الدول الأخرى بين الإسلام أو الجزية أو القتال فماذا يحدث؟
من الطبيعي أن ترفض هذه الدول الدخول في الإسلام طالما أنّ هذه الدعوة تأتيها ضمن تهديد، وليس بالحكمة والموعظة الحسنة، ولما عندها من شبهات وأحقاد ضدّ الإسلام.

ليس هناك إذاً إلاّ القتال.
إنّ حرباً كهذه لو اندلعت في وجود التقنية الحديثة والرؤوس النووية والأسلحة البيولوجية والكيماوية الفتّاكة، فإنّها ستؤدّي حتماً إلى دمار شامل للبشرية كلّها ومنها المسلمون. فهل هذا هو المقصود؟ وهل من المعقول أن يسعى الإسلام لقتل المسلمين وإنهاء الدعوة إلى الله كلّياً بسبب هذا التصرّف؟
رحم الله فقهاءنا الأقدمين الذين لفتوا النظر إلى العمل بالمآلات ، ومعناه أنّ العمل المباح أصلاً يمكن أن يكون حراماً إذا أدّى في ظرف معيّن إلى الحرام.
ومن أجل ذلك فإنّنا نقول في هذا العصر: طالما أنّ باب الدعوة مفتوح، وطالما أنّ بإمكان غير المسلم أن يدخل في الإسلام دون أن يتعرّض إلى إيذاء أو قتل، فإنّ السبب الشرعي للقتال غير موجود. وأنّ الاكتفاء بالدعوة إلى الله عزّ وجلّ وإلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن هو الواجب الأول والأخير. فالله تعالى استخلف الإنسان في الأرض لعمارتها لا لتخريبها، والإسلام دين الله ينظّم كيفية عمارة الأرض على الوجه المراد.
والدعوة إلى الله تعالى هي أحسن كلمة وأحسن عمل يقوم به المسلم {ومن أحسنُ قولاً ممّن دعا إلى الله وعمِلَ صالحاً وقال: إنّني من المسلمين؟}. ومن الطبيعي أن تواجَه الدعوة بكلّ أنواع التآمر والكيد من أتباع الشيطان، ولكنّ الله تعالى علّمنا كيف نواجه كلّ هذه الحملات المضادة مهما بلغ سوءها فقال: {إدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم}. فالكلمة الطيّبة وردّ السيّئة بالحسنة هو الذي ينتزع من الصدور كلّ أنواع الغلّ والحقد، ويجعلها مستعدّة لقبول هذه الدعوة المباركة. ومثل هذه الدرجة – أي ردّ السيّئة بالحسنة – والتسامح مع الآخرين حتّى عند إساءتهم، هي درجة عالية جداً {وما يلقّاها إلاّ الذين صبروا، وما يلقّاها إلاّ ذو حظٍ عظيم}.
حشرنا الله تعالى في زمرة هؤلاء الدعاة الصابرين. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف ركن الدعوة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.