مفهوم فصل الدين عن الدولة

د. مازن موفق هاشم
10/7/2012

مصطلح فصل الدين عن الدولة هو من جملة المصطلحات الوافدة التي تُفرض على السياق العربي الإسلامي قسراً ويُساء الاستشهاد بها في غير بيئتها الثقافية. وأول الاختلاط في الأمر هو أن المصطلح في أصله هو فصل الكنسية عن الدولة، وليس الدين عن الدولة. وبهذه الملاحظة فقط يمكن أن ننهي جدال لا داعي له؛ غير أنه ينفع مناقشة بعض القضايا المتعلقة لزيادة البيان ونفي سوء الفهم.

وكما هو معروف، كان للكنيسة في التاريخ الأروبي إشكالية خاصة، حيث أنها تحالفت على نحو كامل مع السياسة إلى درجة أنها رافقت حملات الاستعمار وكانت جزءاً لا يتجزأ منها، ومن ناحية أخرى حاربت العلم والعلماء. وللدقة العلمية تجب الإشارة إلى بعض المفارقات، فالنشاط الديني للكنسية ساهم في دعم التعلّم والقدرة على القراءة، كما أن الخدمات الاجتماعية للكنسية لم تنقطع. غير أنّ الفساد حلّ بها وبدوائرها العليا خصوصاً والترهّل أصاب مؤسستها البيروقراطية، وأصرّت على الخرافات الموروثة في أمورٍ علمية تطبيقية بحتة، ولم تنفكّ عن السياسية سواء في الصراع داخل أروبة أو في غزوها الاستلابي للعالم. وهكذا ساهم نسقها الفكري الجامد في بزوغ العلمانية الناشزة في الثقافة الأروبية، ودعى انغماسها في الحروب الدينية الأروبية إلى تعزيز مفهوم فصل المؤسسة الدينية عن الدولة.

ولنا أن نذكّر بأن مقولة فصل الكنيسة عن الدولة ليس لها صلة وثيقة في سياق الحضارة الصينية أو الحضارة الهندية – برغم دورٍ للدين في السياسة – والمقولة أقل لصوقية في سياق التجربة التاريخية المسلمة.

وبالنسبة للتجربة المسلمة، علينا استحضار نقطة فاصلة وهي غياب فكرة الهرمية اللاهوتية في الفكر الإسلامي غير الإمامي الإنثا عشري. وهذا يحرم التشكيلاتِ السياسية المسلمة من أسس تصورية ومن منازع شعورية توطّئ لفكرة الحكم الثيوقراطي. كما أن عدم وجود كنيسة أو مؤسسة بيروقراطية دينية في التجربة المسلمة يعرقل محاولة الاستحواذ الكامل على الدين وتوظيفه التامّ للسياسي.

إن استحضار هذه النقطة مهم لما ينبّه من عدم انطباق مفهوم فصل الكنيسة عن الدولة على التجربة المسلمة. غير أن هذا لا يعني أن السياسة في تاريخ المسلمين لم تحاول توظيف الدين لخدمتها، فالسياسة هي السياسة لا تفتأ من محاولة الهيمنة على أي صعيد حياتي وتوظيفه لصالحها. وكما هو معروف، جرى ترويض الطرح السياسي الإسلامي السنّي وإخضاعه من خلال الادعاءات والشارات، فتطور موقع الخليفة من خادم خاضع للمساءلة إلى انتحال لقب ظل الله في الأرض، وتطور جزء من الفقه السياسي – ويجب التأكيد على أنه جزء – ليصبح فقه طاعة مبالغة فيها. ولكن لما كانت العقيدة دوماً أقوى من السياسة، فإن تألقات النص الخالد كانت باستمرار تُخرج المتفاعلين معه عن أسر السياسة وهواها التسلطي.

لقد كانت طبقة العلماء في تاريخ المسلمين – في مجملها – في موقف المعارضة وليس في سدة الحكم. كما أنها اعتركت مع معضلة الموازنة بين إخلال الاستقرار في مجتمعات رغيدة راسخة و الخروج على الحكم بسبب تجاوزاته وعدم استقامته الكاملة مع مقتضيات الشريعة. فمثلاً لم يكن أئمة المذاهب ولا العلماء المتأخرين من بعدهم خلفاء ولا سلاطين، بل سجن بعضهم بسبب مواقفهم المعارضة للإرادة السياسة. كل ما في الأمر أن طبقة العلماء الفقهاء وجدت مكانها الطبيعي في القضاء، مع تردّد ومواقف متباينة في قبولهم موقع المستشار للحكم؛ أما الدور الرئيسي للعلماء والمشايخ فقد كان في ساحة النشاط الأهلي أو ما يسمى اليوم بالمجتمع المدني. ولهذا فإن التاريخ المسلم في مخيلة وسطي المسلم اليوم هو تاريخ عزة وسؤدد وحرية وعدل مؤسس بتقوى دينية.

ولا يعني هذا أنه لم يحدث استبداد في التاريخ المسلم، ولكنه كان استبداداً سياسياً أولاً ولم يتمركز في دائرة المؤسسة الدينية. مشكلة طبقة العلماء كانت في الناحية الفكرية والانحياز نحو الجمود، ومشكلة طبقة المشايخ كانت في الغفلة عن دخول الدروشة إلى الضمير المسلم. وصحيح أن الجمود الفكري والخمول النفسي يُنشئ مناخاً مناسباً للاستبداد، غير أن هناك فرق بين أن تمارس السلطلة الدينية الاستبداد السياسي بشكل مباشر بنفسها ومن خلال مؤسستها و أن تكون معبراً في حالات الغفلة تارة وقوة غير راضية أو مطالبة أو مقارعة في أحيان أخرى.

لم ينفرد العلماء المسلمون بالساحة السياسية ولم يكن عندهم مؤسسة تمكنهم ذلك، وغلب عليهم التجافي عن المشاركة فيها، والذي جرى كان نوعاً من التخصص حيث استقلت المؤسسة السياسية وشكلت لنفسها دواوينها وشبكات نفوذها وفرضت أولوياتها. وهذا لا يقدح بأنه بقيت المرجعية الكبرى للإسلام، وبقيت قيمه هي القيم التي تنافح عنها المنظومة الحياتية، وظلّ المتوقع من السياسة أن تنافح عن المصالح الكبرى للأمة. وكان موقع الصفوة الدينية أقرب إلى موقع الحارس المراقب، وحين يشعر المجتمع أن مصالحه الكبرى قد فرّطت بها السياسة فإنه ينتفض تحت إمرة النخبة الدينية.

غير أنه إذا اقتربنا من العصر الحديث فإن موضع الدولة من الناطقين باسم الدين بدأ بالتغير. فالعثمانيون اخترعوا منصب المفتي وأدخلوا بيروقراطيتهم إلى ساحة العلماء، كما شجعوا على تقنين الفقه. والمفارقة أنّ التقنين كان جزءاً من الاستجابة للحداثة وجزءاً من حركة الإصلاح العثماني – التنظيمات – التي تأثرت بالأنموذج الأروبي على نحو أو آخر. لكن يبدو أن ذلك لم يحرم الزخم الديني من حيويته واستقلاليته، فالدين كان عنصراً أساسياً بارزاً في حركة التحرر من الاستعمار.

والتاريخ القديم يجب أن لا يكون نقطة تركيزنا بقدر ما نركز على حقبة الدولة الحديثة بعد الاستعمار. فمحاصرة الدين وتوظيفه الكامل إنما حدثت تحت الحكومات العَلْمانية التي وضعت نصب أعينها الأنموذج الحداثي الغربي. وهكذا نُهبت أملاك الأوقاف وتشكلت طبقة دينية موظفة عند الحكم يصعب أن تخالفه، ثم تدرّج الأمر إلى أن صارت المؤسسة الدينية الرسمية تدعم الظلم وتساهم في صياغة تلفيقات الحكم وتدليسه. ولا عجب أن فضحت الثورة العربية –فيما فضحت- شبه المؤسسة الدينية برغم الحضور القوي للمعاني الدينية في الثورة.

وبغض النظر عن هذا السياق التاريخي، فكرة فصل الدين عن الدولة غير متصورة. يعني إذا كان الدين أفكاراً في الرأس ومشاعر في القلب، فكيف يفصل اللاعبُ السياسي فكره وقلبه عما يمارسه؟ وإذا كان الدين رؤية كونية كلية فهو مثله مثل غيره من التوجهات الفكرية التي لها رؤية. وإذا كان لبّ الدين توجهاً خلقياً، فهل نريد دولة بلا ضوابط أخلاقية، دولة نفعية بحتة؟ والدول العلمانية المعاصرة تدّعي أنها تتبنى قيماً إنسانية أو ليبرالية أو ديمقراطية. إذاً المسألة هي وزن هذه القيم وتقدير رقـيّها أو مناسبتها… وليس تطهير السياسية من القيم. ومرة أخرى، إنّ فصل المؤسسة الدينية عن الدولة مفهوم، ولكن فصل الدين عن الدولة عبارة مختلطة لا تستقيم.

السؤال هنا إذا كانت الجماعات الإسلامية تمثل مؤسسة دينية أم لا. شبكات العلماء أو الأزهر مثلاً هي التي تشبه المؤسسة الدينية، برغم أن ليس لها صلاحيات مجذرة في أصل الرؤية الإسلامية تتجاوز النصيحة وتخريج القول المرجعي؛ كما أنه ليس لها أي قدرة على الإكراه وفرض الإنفاذ. الجماعات الإسلامية أبعد عن صورة المؤسسة الدينية. غير أنه برغم ذلك لا ينفع دخول الجماعات الإسلامية كما هي في السياسة. الجماعات الإسلامية تركز على تربية الفرد وإصلاح المجتمع من خلال العمل الأهلي، وهذا ليس هو مسلك السياسة. الجماعات الإسلامية بهيكلتها ومنطقها الحركي لا تناسب السياسة العليا على مستوى الدولة. ولقد أدركت الحركات الإسلامية الكبرى هذه الإشكالية فأنشأت لحركتها أحزاباً. غير أنه لم تسمح الظروف بعدُ ولم يسمح الوقت لهذه الأحزاب أن تنشئ ساحاتها المتمايزة بوضوح عن جماعتها الأم.

والخلاصة، التجافي بين الحراك الديني والسلطة السياسي كان هو الغالب في تاريخ المسلمين. وإذا كان هذا التباعد قد حرم السياسة من الالتزام الأخلاقي الكامل، فإنه بآن حفظ على الشبكات الدينية ونشاطها الرعوي درجة عالية من الاستقلال. ومع عدم إنكار أنه في محاولة التعامل مع الحداثة أخذت الدولة مركزية طافحة في قطاعات من الفكر الإسلامي، فإن المراجعات تشهد على تجاوز هذا المرحلة. وإنّ غياب المؤسسة الدينية في الخط السنّي وغياب العشّ التصوري لسلطتها المطلقة يحول دون احتمال ظهور استبدادٍ مجذرٍ دينياً. العسف الذي شهدته بلادنا في الحقبة المعاصرة أتى من عدم فصل الجيش والأمن عن السياسة، لا الدين عن السياسة. وإن ترديد عبارة فصل الدين عن الدولة كحلٍّ لبلدنا هو كمن يحاول الشفاء من مرضه بتطبيب داء جاره لا دائه هو.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف مختلفة, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.