كلمة أحمد معاذ الخطيب في ندوة “الإسلاميون والثورات العربية” – مركز الجزيرة للدراسات

نص الكلمة التي ألقاها أحمد معاذ الخطيب الحسني في ندوة: الإسلاميون والثورات العربية، والتي عقدها مركز الجزيرة للدراسات في الدوحة، وبثت على قناة الجزيرة مباشر، بتاريخ 11 أيلول 2012:

خروجا عن أعراف الندوات، فإني أطلب من الجميع الوقوف للدعاء، إجلالاً لشهداء ودماء شعب سورية العظيم التي تنزف تحت سمع العالم وبصره.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وبعد:
سورية تكاد تكون لُب العالم وروحه، بما جمعته من مكونات حضارة تمتد إلى عشرة آلاف عام، ومنها امتد الإسلام إلى الدنيا، ومازالت فيها أعرق كنائس الأرض، واستطاعت بشكل مدهش أن تضم كل المدارس الإسلامية الأم من الغزالي إلى ابن تيمية فابن عربي، وأردفت ذلك في العصر الحديث بجمال الدين القاسمي وطاهر الجزائري ومحب الدين الخطيب ومحسن الأمين.
سورية تختلف ثم تلتئم، وتمضي في صناعة نسيج اجتماعي فريد.

يُصنف البعض التيار الإسلامي في سورية إلى ثلاثة أقسام:
1- تيار ديني مدرسي.
2- تيار سياسي حزبي.
3- تيار شعبي عفوي.
التيار الشعبي سبق الجميع في البحث عن بنية الدين العميقة، ومفاهيم التسامح والحرية والعدالة، متخذا من رصيده العميق وبعض مرجعياته الشرعية غير متداوَلة الأسماء بنية فكرية وأخلاقية يتحرك بها.
لابد لفهم صعود التيارات الإسلامية في سورية من إدراك خصائص الشعب السوري، فهو شعب متسامح متدين منفتح على الجميع يرفض التطرف والظلم بطبعه، ويصبر ثم يتدفق، وقد انعكست هذه الخصائص على الحالة الراهنة التي لم يُدرك ماهيتها النظام الاستبدادي الذي جعل نفسه وصياً على الشعب خمسين عاماً.


يحيط بالتيارات الإسلامية مع شركائها من القوى الأخرى عوامل تولد سلبيات كبيرة ومن أهمها:

  1. ضعف الإدارة السياسية للأزمة، ومصادرة جزء منها لحساب قوى مختلفة تحاول الهيمنة على قرار الشعب السوري.
  2. التشويه الإعلامي للحراك السوري وخصوصاً الإسلامي بتصويره بؤرة للتطرف والإرهاب والأصولية، ويشارك في هذا التشويه إعلام النظام وبعض الأجهزة الإعلامية الغربية. لايوجد فكر تكفيري في سورية ولا يمكن أن ينجح ولا مستقبل له.
  3. محاولة بعض القوى الإسلامية المدعومة بالمال توجيه الساحة غافلة عن خصائص التدين الذي بلوره علماء بلاد الشام وشعبها خلال السنين، والذي هو منظومة حضارية متكاملة.
  4. تطرف بعض القوى العلمانية مستغلة علاقاتها الدولية والإعلامية لتجاوز الواقع وتصويره حسب أهوائها.
  5. عدم إدراك كثير من القوى الإسلامية أن سورية قد أصبحت ساحة للصراعات وتصفية الحسابات الدولية، وبذا يكاد يخرج القرار بالكلية من يد النظام أو يد الحراك الثوري السوري.
  6. أصبح واضحاً أن سورية يراد لها أن تخرج مدمرة البنية التحتية، منهكة القوى الاجتماعية، مشوهة الصورة الإسلامية، عاجزة القوى الأخرى، لصالح قوة اقليمية معروفة [إسرائيل]، وقد وقع طرفان في الأزمة، فكان أكبر فخ وقعت فيه الثورة هو الانجرار إلى حمل السلاح، وكان أكبر فخ وقع فيه النظام هو استخدام العنف المتوحش ضد شعب من أكثر شعوب العالم مدنية ورقياً.
  7. إن النظام بغروره وصلفه لم يُبق للشعب السوري طريقاً إلا حمل السلاح، فحمله مكرهاً يدافع عن دينه وعرضه وماله. إن الثورة السورية ليست ثورة عسكرية … ثوار سورية سلميون، وأذكر بهذه المناسبة شهداء مجزرة داريا التي كتب عنها روبرت فيسك مقالاً مجحفاً يعكس فيه رؤية النظام، متجاوزاً فيه ألفاً ومائة شهيد من الأبرياء سقطوا فيها، ومتناسياً غياث مطر شهيد سورية العظيم الذي كان يحمل الورود والماء البارد لأفراد النظام فقوبل بالاعتقال والتعذيب حتى الموت (كان يوم البارحة هو يوم الذكرى الأولى لاستشهاده بتاريخ 10 أيلول 2011).
  8. يحاول النظام تدمير الحامل الاجتماعي للثورة عن طريق تدمير المدن والتهجير والإفقار، غافلاً عن أن الدمار سيصيبه بشكل أوسع، والشعب قادر على الاستمرار، أما النظام فهو يدفع نفسه إلى الانتحار. [لا يمكن لثورة مهما طالت أو قويت أن تنتصر في حال عدم وجود حامل اجتماعي]، لذا فإن دعم الشعب السوري اجتماعياً ومادياً مهم إلى حد بعيد.
  9. لقد أصيب الحراك بنوع من العقم السياسي بسبب تصريحات معارضين اتخذوا من الشتم والسُباب للنظام واجهة لنيل الشعبية، وإذا كان الشارع معذوراً في تصرفاته بسبب آلامه، فإن النُخب السياسية مدعوة إلى ترشيد الشارع وقيادته بشكل سليم.


وبالمقابل فهناك إيجابيات كبيرة في الحراك الثوري السوري من أهمها:

  1. حجم التضحية الذي قدمه الشعب السوري (واسمحوا لي أن أطلق عليه اسم: أشجع شعوب العالم)، وقد دفع الشعب ثمناً غالياً لحريته، ولذا فلن يتراجع عن طريقه بعد كل هذه الآلام والعذابات.
  2. رغم كل حاولات جر الساحة إلى حرب طائفية، فإن الساحة لاتزال عصية على الانجرار الطائفي. إن الأزمة هي بين نظام استبدادي وشعب يتوق للحرية، وأقول بكل صراحة أن هناك قوى عالمية تحاول بكل الوسائل إيقاظ هذه النعرات بشكل حاد، من خلال دندنتها حول الأقليات وحقوق الأقليات. ولقد أصبح واجباً الحديث عن حقوق الأكثرية المغيبة، وليس فكر الثورة فكر الانتقام من أحد، بل يطالب بالعدل والمحاسبة لمن أساء، فهو حراك الحرية ضد الظلم وليس ضد فئة معينة.
  3. أوجدت الثورة السورية التحاماً رائعاً بين كافة مكونات الشعب السوري، وأبرزت للجميع آلام الجميع .. فلقد أحس الشعب السوري بآلام الأمة العميقة.. بمكونه الأساسي المغيب خمسن عاماً [أهل السنة الذين يشكلون الوعاء الأكبر الذي يضم كل مكونات المجتمع] .. أحس الشعب السوري بقلق المسيحيين ومشاركة العديد منهم في الحراك، وأنهم أعطوا سورية خلال السنين نكهة حضارية مميزة … وأحس الشعب السوري بآلام شعب الأكراد العظيم، والذي طوى آلامه عشرات السنين، وتتنازعه القوى العالمية متخذة منه جسراً إلى مآربها، ومازال عقلاؤه وهم كُثر يترفعون عن هذا الفخ المريب .. لقد أحس الشعب السوري بأجزائه كلها.
  4. أبرزت الأمة قيادات سياسية وشرعية غير معروفة من قبل، ولكنها تبشر بخير عميم، إذ تتصدى رغم طاقاتها المحدودة إلى نوع من الهمجية غير المسبوقة.
  5. أدت الثورة إلى إبعاد النمطية الفكرية، وقد تقدمت مفاهيم العدالة والمدنية والمواطنة .. وحتى الوطنية الحقة، وأتوقع خلال سنوات أن يقدم القادة والمفكرون الشباب لوناً من الفكر الحضاري المتقدم اللائق بسورية العريق.
  6. تتجه المجموعات العاملة على الأرض إلى المزيد من التوحد وإن لن يكن فإلى التنسيق، وأقول للإسلاميين والعرب وأخص الجاليات السورية في العالم بأن شعبكم بين خيارين: إما مذابح يومية ودمار شامل وتحطيم لبنيتكم التحية، أو ارتهان لقرارات دولية، ووحدكم بتعاونكم وإمدادكم شعبكم بالفكر والمال وكل أنواع القوة قادرون على تجاوز ذلك وبناء سورية المستقبلية والحرة.
  7. لقد خرج الشعب السوري من قمقم الوصاية لذا فإنه يرفض الوصاية الإيرانية والروسية والغربية، وقرار الشعب السوري سيتخذه الشعب السوري وحده.
  8. الشعب السوري رغم ربع مليون معتقل، وما يقارب خمسين ألف شهيد. رغم أكثر من مليوني مهاجر في الداخل وما يقارب مليون مهاجر إلى الخارج. رغم عشرات ألوف المعوقين والجرحى والمصابين .. رغم التشريد والثُكل واليُتم .. رغم كل ذلك فلا يزال ينادي بالحرية، وقد كان الأسبوع الماضي ذو دلالة مميزة إذ تجددت المظاهرات السلمية في كافة أنحاء سورية.

آلام الشعب والثورة أعظم من أن توصف، ولكن معنوياته أكبر من أن تتوقف، وستتابع طريقها معتمدة بعد الله على أمة صابرة وشعب عنيد لايرى دون الحرية سبيلاً.

بعد كل ذلك أقول: إننا مازلنا نبحث عن حل سياسي تجنيبا للبلد مزيداً من الدمار.
إن الحوار قد انتهى أوانه بعد مماطلة النظام في فتح أبوابه كسباً للوقت، ولكن التفاوض هو خيار عقلي وشرعي وسياسي لا يجوز القفز فوقه.
ليس التفاوض استسلاماً للباطل، بل اختيار لأقل الضررين، ووحده الشعب السوري الذي يعاني ويدفع من دمه كل يوم يفهم ما أعنيه تماماً، وإن التفاوض ليس إنقاذاً للنظام بل تفاوض على رحيله بأقل الخسائر لبلدنا الذي نحب، وضمن ضمانات دولية تشترك فيها الأطراف الإقليمية والدولية دون وصاية.
وأكرر أننا لا نريد ولا نرضى بالدمار ولا القتل، لأن هناك من يريد أن يصفي الشعب السوري بعضه بعضاً، ليتدخل بعدها فارضاً الوصاية والهيمنة.
وأخيراً فإن الربيع العربي هو بداية الطريق وليست نهايته، فالسياسة والحكم ماهي إلا وسائل وأمام الإسلاميين تحدٍ مستقبلي وهو تقديم نموذج حضاري إسلامي رائد، هدفه الأخير هو الإنسان الذي كرمه الله.
(والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

والسلام عليكم ورحمة الله.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف مختلفة, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.