لقد سقطت في الفتنة…

أحمد بن راشد بن سعيّد | 01-03-2011 00:39

في يوم الجمعة الماضي تحدث الخطيب الذي صليت معه في حي الصحافة بمدينة الرياض عن “الفتنة”، وموقف المسلم من الفتن، وأطال في تشريح المفهوم، من دون أن يسقطه على واقع محدد. وتوقعت أن يعرض الخطيب في ثنايا خطبته للثورة الليبية؛ لأنها هي التي تتسيد المشهد، وتهيمن على السياق، لكنه اكتفى بالتحذير من الفتن، مستشهداً بأحاديث نبوية منها: “إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً”؛ “ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه”، “أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك”؛ “بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل”؛ “إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الدخان يموت منها قلب الرجل كما يموت بدنه”؛ “يوشك أن يكون خير مال المسلم: غنم يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن”.

وأضاف الخطيب قائلاً إن للمسلم أن يدعو على نفسه بالموت خشية الفتنة، مستشهداً بالحديث: “اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم، فتوفني غير مفتون”، وبآثار عن الصحابة منها قول عمر: “اللهم إنه قد كبر سني، ورق عظمي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون”، وقول سفيان الثوري مبرراً تمنيه الموت: “ما يدريني لعلي أدخل بدعة، لعل أدخل فيما لا يحل لي، لعلي أدخل في فتنة، أكون قد مت، فسبقت هذا”.

وفي ختام الخطبة رفع الإمام يديه داعياً: “اللهم اقبضنا إليك غير مفتونين”، مكرراً ذلك ثلاث مرات. لم أؤمّن بالطبع على الدعاء؛ ليس لأنني أشتهي الفتنة، أو أسعى إلى الوقوع فيها، ولكن لأني لا أتفق معه في تعريفه لها. إنه يرى أن ما يجري في ليبيا فتنة، وربما يرى أن الثورتين المصرية والتونسية من الفتنة. لم يقل ذلك صراحة، ولكن السياق الوجداني والزماني قالها بصوت عال. ومعلوم أن السياق يلقي بظلاله على الحدث الخطابي، بل هو ركن من أركان الاتصال، ويفسر الجمهور الرسالة بناء على سياقها ومحيطها، وليس بناء على مضمونها ومفرداتها فحسب. تحدث الخطيب عن “القلاقل” و”الاضطرابات” التي تعصف ببلدان إسلامية، وعن حال “الرخاء” و”الأمن” التي تنعم بها بلدان أخرى. كان السياق نصاً بحد ذاته. لم يشر الخطيب من قريب أو من بعيد إلى المجازر التي تحدث لإخوته المسلمين في ليبيا، لم يرفع يديه بالدعاء لهم، وكأن آلاف الليبيين الذين يذبحهم “ولي الأمر” في طرابلس ليسوا إخوة لنا في الدين وشركاء لنا في المصير.

لم يتذكر الخطيب قول الله تعالى: “إنما المؤمنون إخوة”، وقول النبي (صلى الله عليه وسلم): “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”. لكنه تذكر “الفتنة”..وكررها كثيراً: فتنة..فتنة..فتنة.. فتنة..فتنة..

عجبت لقوم من “أهل العلم” يعظوننا في أمر الفتنة، و “الخروج” على الحاكم، ويتذكرون نصوصاً، ويدعون غيرها. ها هم أولاء يتذكرون أحاديث طاعة الولي، ويكررونها (وينسى بعضهم اشتراطها بالمعروف)، ثم يغفلون أحاديث أخرى مثل: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”، و”سيكون بعدي أمراء يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”. يقولون “الخروج” فتنة، التظاهرات “خروج”، والصبر على فساد الحال أهون من الفوضى/ الفتنة.

دعا خطيب مسجدنا أن يقبضه الله إليه غير مفتون، فليرحل إلى الجنان إن شاء الله، وعليه شآبيب الرحمة والغفران، أما أنا فسأدعو الله أن يمتعني بحياة طيبة أرى فيها أمتي تغتسل من أوساخ الطغيان، وتنتفض على المستبدين، وتخرج لنيل حرياتها، وانتزاع لقمتها من أشداق الذئاب، وتطهير مقدساتها من رجس صهيون وعملائه. عندما دعا الخطيب أن يُقبض قبل الفتنة تمتمت في نفسي: “ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار”.

لكنني، من وجه آخر، مفتون. نعم، مفتون حتى النخاع. مفتون أنا بأمتي الرائعة العظيمة التي استلمت زمام المبادرة، وأصابت دوائر صنع القرار في أميركا وأوروبا بالصدمة، مذهلة المستبدين الجاثمين على صدور ملايين العرب من الخليج إلى المحيط، ودافعة الجميع إلى مراجعة حساباتهم. مفتون أنا بالعرب الذين ظن كثيرون أنهم ماتوا، وأن غاية همهم “العيش” و”اللحمة”، فإذا هم يغنون أغنيات الحرية، وتتحرق قلوبهم شوقاً إلى بيت المقدس وأقصاه الأسير (سيدة ليبية ظهرت على شاشة “الجزيرة” لتقول: خلاص، لن نتوقف إلا على أبواب المسجد الأقصى، فهتفت لها: لبيك). مفتون أنا بحديث الصادق الأمين (صلى الله عليه وسلم): “أمتي كالمطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره”. آه..كم أعشق هذا المطر. لقد سقطت في “الفتنة”.

* أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الملك سعود بالرياض

ومحرر صحيفة “السعوديون”

www.saudiyoun.com

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.