إيمان بلا أوصياء

المبادئ تقوم أساساً على الأخلاقيات ، التي  تتبلور في أنظمة وأحكام للحفاظ عليها ، وبعدها تأتي التفاصيل ثم التفريعات ، والتي قد يضخمها البعض لتصبح أقرب إلى التفاهات ، وقد يتشكل المزاج الاجتماعي ضمنها ليقود إلى التعصب ، فالعدوانية التي لا نتيجة لها إلا التوحش.

يبقى الدين من أعظم المبادئ التي يحملها البشر ، ولكنه يمتد أو ينكمش بمقدار نباهة أو غباء حملته.

هناك سؤال ملح : هل أرسل الله الأنبياء لإصلاح البشر؟ أم خلق الله الناس لخدمة الدين.


إنني أقرأ في القرآن الكريم مايلي:

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (آل عمران-21).

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة-8).

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) (الأعراف29).

(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ..) ..(الحديد- 25).

وهذه هي الخلاصة .. ليقوم الناس بالقسط (أي العدل) .

تصيب الإنسان الدهشة لكثرة ما أنجب الغرب من فلاسفة (وصمهم التاريخ بل قل سلك الكهنوت بالخارجين عن الدين) ، وهؤلاء كان لهم أثر هائل على كل الأفكار التي ظهرت في الغرب ، ووضعوا بصماتهم على ثقافة العالم الغربي كله وما ينبثق منها.

بعد التدقيق تجد أنهم ليسوا إلا كارهين للفكر الديني السقيم الذي كان الناس مكرهين على اتباعه ، والمفروض عليهم نتيجة تحالف بين السياسيين ورجال الكهنوت.

العديد منهم نشئوا في تربة دينية محضة ثم انقلبوا عليها ، والعديد منهم لم يكونوا في حياتهم من الأتقياء ولكنهم جميعاً يشتركون بأنهم يؤمنون بوجود إله عظيم لهذا الكون ، ولكنهم حاروا في معرفته! فاضطربت رؤاهم تبعاً لذلك! ولكن المدهش أنهم جميعاً كرهوا الدين الذي يطرحه الرهبان.

نذكر على سبيل المثال لا الحصر :  (غاليلو 1564-1642) ، (جيوردانو برنو 1548-1600) ، (ما كيافيلي 1469-1527) ، إيرازموس (1466-1536) ، (توماس مور 1478-1535) ، (بيير شارون 1541-1603) ، (فرانسيس بيكون 1561-1626) ، (رينيه ديكارت 1596-1650) ، جون لوك (1632-1704) ، سبينوزا (1632- 1677) ، (دافيد هيوم 1711-1776) ، (إيمانويل كانط 1724-1804) ، فولتيير (1694-1778) ، جون تولاند (1670-1722) شافتسبري (1671-1713) ، توماس بين (1737-1809) ، مونتسكيو (1689-1755) ، بنيامين فرانكلين (1706-1790) .. وعشرات غيرهم ..

سأسوق فقط كلمتين معبرتين أولاهما لميكيافيلي الذي يقول : “كلما اقترب الناس من كنيسة روما التي تمثل قمة الدين عندنا قل تدينهم . إن التدمير الذي سوف يلحق بالكنسية والثأر منها وشيك الحدوث ، ويرجع السبب في تدهور الإيطاليين الديني والأخلاقي إلى سوء ممارسات كنسية روما وقساوستها والأسوأ من هذا كله أن السياسة التي تتبعها الكنيسة الرومانية والمتمثلة في تقسيم البلاد سوف تكون وبالاً علينا وسبباً في خرابنا)[1].

والعبارة الأخرى لتوماس بين : “في جميع الأديان التي تم اختراعها لا يوجد دين أشد إهانة لله القدير ومدعاة لجهل الإنسان وأكثر عداوة للعقل وتناقضاً مع ذاته من ذلك الشيء المسمى بالمسيحية”[2].

لم يكن أولئك أعداء للدين ولا المسيحية الحقة ، ولكنهم خصوم شجعان لطغيان الرهبان.

ماهي الفائدة التي أريدها من هذا الكلام؟

ما مر بالأمم الأخرى نحن عرضة له أيضاً عندما ننسى الرسالة الحق ، وقد حذر الدكتور حسان حتحوت[3] الجاليات المسلمة في الغرب أن لا تفرح كثيراً بترك النصارى لكنائسهم وبيعهم لها ، لأن ما وقعوا فيه أن يمكن أن يتكرر في حق المسلمين.

وقد جمعتني الأيام بعالم مسلم (معه دكتوراه في الهندسة) فسألته أين تصلي الجمعة؟ فهز رأسه بأسف قائلاً : لا يجبرني الله على سماع بعض التفاهات التي يلقيها خطباء جهلة! أنا أصلي الظهر .. وذكر لي آخر أنه لم يطأ مسجداً منذ خمس سنوات للمستوى المعيب لبعض الخطباء ، ويوم الجمعة الماضي أقسم لي أحدهم أنه لن يصلي وراء فلان لأنه كاد أن ينسى الله لكثرة ماذكر من الثناء على بعض عباد الله.

وعندما كنت في الثانوية وما قبلها كان من النادر أن تجد ثلة من الشباب في الطريق وقت صلاة الجمعة! والآن تجدهم بالعشرات والمئات ، قريبين من المسجد ولا يصلون ، والذي أبعدهم خطاب ديني متخلف لا يزيد الناس إلا ضعفاً فيفرون منه محافظين على سلامتهم العقلية على الأقل.

المريض يجب أن يعرف أنه مصاب بعلة ما ليسارع إلى العلاج ، فإذا كان الطبيب غشاشاً فذلك المصرع الوخيم .

تخلف الأمة المسلمة لا يلغيه وجود بعض من يحملون الدين بصدق وأمانة ، لأنهم لا يحققون الكفاية ، وهناك من يحمل الدين السياسي الذي تفرخه الأنظمة الاستبدادية التي تتظاهر بفصل الدين عن الدولة في اتجاه واحد ، أي أنها تمنع الدين من التنفس ثم تتدخل في كل أمور الدين ، وتطرح رؤية دينية ليست فقط  تحريفاً للشريعة ، بل فيها أعظم الإهانة للإنسان الذي كرمه الله.

غفلة حملة الدين عن الالتحام بحياة الناس وغرقهم في التاريخ أو تماهيهم مع الأنظمة الاستبدادية هو منبع أساسي للفساد والإلحاد.

من أعجب الأمور تلك المعارك الهزيلة التي تجري بين المتدينين والعلمانيين وبشكل مضحك ، فبعض المتدينين (وأنا منهم) يجادلون في مساواة المرأة بالرجل ، ويقولون أن الدين يقدم تكاملاً لا تساوياً ، بينما يتحدث العلمانيون عن مساواة كاملة ، والطريف في الأمر أن قياس الفريقين كليهما فاسد ، لأنهما يقيسان على معدوم ، فلا يوجد رجل حر حتى يقال أن المرأة يجب أن تتكامل معه أو تساويه. , وأتمنى يوماً أن لايقع المتدينون والعلمانيون معاً في الفخ الذي يقال لكل طرف منهم فيه : نحن معكم ، ولكن الطرف الآخر يعمل بمكر ضدكم ، فيزداد الخصام ، بل أرجو أن يجتمعوا مع بعضهم تحت مظلة أنهم بشر خلقوا جميعاً من نفس واحدة ، وعليهم أن يبحثوا عن الصواب.

 

خلال التاريخ الإسلامي غيب جزء ليس بالقليل من الدين ، وأصبح هناك حمل ثقيل لا بد من جره أينما ذهبنا ، وهذا الجزء الثقيل ولدته التراكمات التاريخية ، وليس أمراً ضرورياً لا يمكن تجاوزه، وقد درسنا في كتب العقيدة أن من صفات الرسل الفطانة ، وهي شيء قطعي فلن يرسل الله إلى البشر رسولاً غبياً (أستغفر الله) وفي الحديث الصحيح أن العلماء ورثة الأنبياء ، ومن جمع الأمرين يتبين لنا أن أي غبي يتحدث عن الدين لا يمت إلى سلك العلماء بنسب (مهما كان نوع اللباس الذي يرتديه).

بعض حملة الدين يجعلونه حقل تجارب لمعرفتهم الهزيلة به ، وبالتالي يسببون له أفدح النكبات ، وقد بدأت ألاحظ توجه قسم من الناس إلى الإلحاد ، لا جحوداً لله بل يأساً مما يطرحه البعض من رؤية دينية هي محصلة الاستبداد والظلم.

عندما يصلح حملة الدين مساره طوعاً بنوع من إعادة الإحياء فإنهم يردون له بهاءه وعذوبته ، ولكنهم عندما يقسرون الناس على فهم خاص له ، فإن التصحيح يأتي حتى من خصومه والذين لا تكون لهم نية حسنة في الموضوع ولكنهم يقدمون خدمة للدين وهم لا يشعرون.

على سبيل المثال: البنى الدينية الواعية في المجتمع لا يمكن لها أن تتحالف مع الاستبداد فتبحث الأنظمة السياسية الاستبداديةُ عن مؤسساتٍ دينية متخلفة فتتحالف معها ، وتفرضها على الناس وتخنق كل فكر آخر لصالحها ، ويكون عملها الأساسي هو التخدير للناس وحمل الدين خارج طريقه إرضاء للفكر الاستبدادي ، واستثماراً لمنافع خسيسة يرميها الاستبداد في وجه المؤسسة المتخلفة فتبقى تحرث عليها زمناً طويلاً .

هذه المؤسسة المتخلفة تتخشب مع الوقت ، وتصبح عبئاً ثقيلاً ، ولا فائدة منها لأنها استهلكت تماماً ولم تبق لها أي جاذبية ، ولا بد من التخلص منها ، ولكن عملية التخلص لا تجري بيسر ، فاقتلاعها وهي العميلة الأصيلة يسبب هزة مرعبة في النفوس ، لأنه يعطي رسالة مفادها : لا تثقوا بنا ، ويحاول الأغبياء أو السذج زيادة الالتصاق بالهيئة المستبدة فيزداد نفور الناس منهم ، ويحصل هناك فائدة حقيقية للدين ، وهو خروجه من تحت السيطرة الاستبدادية.

نعم ، يخرج الدين من تحت سيطرة الاستبداد ، لأن الرموز الدينية التي كانت السادن الأساسي للظلم تفقد قدرتها على تعبئة الجماهير ، بل قل تخديرها ، لأنها لا تمتلك الوعي ، والاستبداد لايستطيع أن يتابع ضبط الجمهور العريض ، الذي يبدأ بالخروج إلى الساحة ليبحث عن الخلاص! دون أن يكون ممكوراً به أو مغسول الدماغ ، وسيبحث بعدها عن الحرية دون أن يشك في دينه ( لأنهم علموه أن الحرية ضد الدين) ، وسيبحث عن العدل بشوق (لأنهم لم يعودوا قادرين على إخباره أن الظلم قدر لا بد من الاستسلام له) ، ويبدأ الناس يفكرون أن نهب أموال الأمة ذنب أعظم بكثير من نظرات متلصصة لشاب رأى فتاة جميلة في الطريق ، ولا يعود الناس يجلدون أنفسهم من خلال استنفار وهمي يظنون معه أن المصائب بسببهم هم المساكين (والذين في القمة من المبرئين الأطهار) ولكن لأن هناك من يظلم ويؤله نفسه بلا انتهاء.

الكنائس في أميركا اللاتينية كانت إحدى مؤسسات الظلم لارتباطها بالفاتيكان (الداخل في لعبة القوى السياسية في العالم والذي يشارك في تقديم الغطاء للاستبداد العالمي مقابل منافع ليست للمسيحية بل لرجال الكهنوت) ولكن تلك الكنائس بدأت بالتمرد وخرج كثير منها من تحت طاعة روما ، فكانت إحدى قوى التحرر من الأنظمة الديكتاتورية المخيفة.

مهما بلغ أي حاكم من الغرور فإنه لن يفكر في أنه معصوم ، وقد يحكم بالقتل مرة فيخطئ ولكن الأخطر من ذلك أصحاب عمائم يتماهون مع الحاكم فيصدرون له فتاوى باطلة أخطر من السيف بكثير ، وتبقى تذبح إلى يوم الدين.

من صفات الدين الأساسية التسامح وحملة الدين الحق صمام أمان للمجتمعات ، ووسيط توازن ولكن عندما تجد حاملاً للدين ضيق الصدر مع مخالفيه ، لا يتوانى عن التأجيج ضدهم فيحكم على بعض الأمة بالكفر وعلى آخرين بالمروق ، وعلى ثلة أخرى بالإعدام ، فهل هذا إلا دليل فشله الذريع في مهمته فيعوض فشله بسياط الجلادين ، معلناً أنه وريث أصيل لمحاكم التفتيش الرهيبة ، ولكن في صيغتها المعاصرة.

خلال التاريخ استغل السياسيون الدهاة سذاجة بعض حملة الدين فأوحوا إليهم بالأفكار الفاسدة والتي يمكن أن تنتشر في كل وقت وأي مكان ، ولا توقفها إلا فطنة العلماء ، وأسوق على هذا بعض الحيل والخدع ، معتذراً عن تفصيل الأسماء لأن الغرق في التاريخ وتقديسه لا يزال له نصيب كبير بسبب الأعمال الطويلة لمؤسسات التخلف خلال القرون :

– عندما قتل أهل البيت الكرام ادعى الحاكم أنه لم يعلم (أرجف المؤرخون بذلك ، والسؤال : عندما علم ماذا فعل؟ لا شيء ، لأنه يريد ذلك ، ولكن لا يستطيع مواجهة الأمر لأنه سيفقد شرعيته فتولت المؤسسات المرتبطة تغطيته).

-قرار إعدام العديد من أئمة الأمة خلال التاريخ كان يتم تمريره عبر الولاة ، بحيث إذا تم الأمر تحقق مراد الخليفة ، وعندما لا يتم أو ينذر بشر ، تنقلب الأمور على الوالي ويتهم بالتصرف الفردي (ويصدق ذلك السذج).

– أحد الولاة اشتكى إلى الخليفة: يا أمير المؤمنين ، كلما هممت أن أعاقب رجلاً فر إليك فأكرمته! فابتسم الخليفة قائلاً : لا يصلح أن يساس الناس بسياسية واحدة ، ولكن تكون أنت للغلظة والشدة وأكون أنا للعفو والرحمة (القرار واحد ولكن طرق إخراجه تناسب فطنة أو غباء الناس).

– تعجبني جداً فطنة سلمان الفارسي عندما وقف في وجه الفاروق رضي الله عنهما ، وسأله من أين لك هذا؟ فلما شرح عمر الأمر قال سلمان : الآن مر نسمع ونطيع .. سلمان لم يعتذر من عمر عن المساءلة (لأنها حق للأمة أراد الحاكم أم لم يرد ، ولا استئذان له في حقوق الأمة)[4].لقد كان عمر حاكماً عظيماً لا يقفز فوق حقوق الرعية.

ملئت كتب التاريخ بالثناء على ملوك استغفلوا الصالحين الذين حولهم ، فأوهموهم ببعض الصلاح الفردي (حقيقياً كان أم مزوراً) فغرق فيه السذج! غافلين عن فسادهم الحقيقي ، فماذا يهم الأمة إن صلى الحاكم في اليوم والليلة مليون ركعة وهو يمص دماء شعبه ويكدس أموال المستضعفين ، لينفقها على حاشيته وعائلته ولهوه والشعراء والشيوخ المنافقين الذين يؤمون بابه.

في فضائيتين كنت أتابع بعض البرامج ، وأذهلني التوحش الموجود ، بل الطرح الغرائزي للموضوع ، وكانت إحداهما قناة تدافع عن أهل السنة والأخرى عن الشيعة  وبطريقة لا تؤدي إلا إلى الكراهية والبغضاء ، ورجوت لوكان هناك عقلاء يتحدثون من الطرفين ليقولا بصراحة : كفى حملاً لفكر العصمة عند السنة والشيعة ، لأن الطرفين متعصبون تعصباً شديداً ، وصار الحال الآن (لم يكن كذلك قبل عقود قليلة) أن أهل السنة يعتقدون بعصمة الصحابة الكرام رضي الله عنهم جميعا ، والشيعة يعتقدون بعصمة آل البيت عليهم السلام ، وضاعت الأمة التي ينبغي أن تكون هي العصمة عند الاضطراب.

لم ينته الأمر! ما هو السبب؟ مؤسسات متخلفة غارقة في أوهام التاريخ تؤجج الصراع وتستنفذ الطاقات ، وكل له دول وحكومات تدعمه … لم يكن هكذا السنة ولا الشيعة ، إذاَ فتش عن السياسة فالحق لا يضيع والخلاف ليس مدعاة للمجازر فكرية كانت أم جسدية. ماذا كان ستخسر البشرية ، أو قافلة الإيمان لو سكت الكل عما مضى ووضعوا أيديهم يبحثون عن صلاح الأرض والحياة.

نحن لا نخاف على الدين مهما أصابه ، بل نتألم لحملته السذج الذين يفقدون الاتجاهات ، وقد كتب الإمام العظيم الجويني في غياث الأمم أنه (.. لا يخلو الدهر عن المراسم الكلية ، ولا تعرى الصدور عن حفظ القواعد الشرعية … )[5] فالدين بمعناه الفطري لا يمكن اقتلاعه بحال ، وصحيح أنه في حالة الهجوم عليه أو ضعفه فإنه يفقد جزءاً من سطوة الأحكام والقوانين ( .. وإنما تعتاص التفاصيل والتقاسيم والتفريع ..) كما يقول الجويني ، ولكن حركة الحياة الفطرية التي أودعها الله في النفوس ترده إلى القوة! لا بل إلى الأخلاقية! خذ مثال ذلك النظام الربوي الذي أهلك الحرث والنسل ، كان يمكن لمجموعة رعناء أن تفجر كل مصرف قائلة أنه نظام يحارب الله! ولكن الجهود الأخلاقية لملايين المسلمين ظلت تحاول النأي عنه (لا بسبب قانون بل بسبب إخلاقي منشؤه الإيمان) ورغم أنها تضطر أن تلامسه في أجزاء عديدة من حياتها إلا أنه ترفضه ، وهذا النظام الربوي لأنه لا إنساني فسوف يتضعضع ، ودور المؤمنين هو إحياء أخلاقية أعظم تدير الحياة وليس السب والشتيمة.

في إحدى الدول الأوربية مشروع قانون لمنع المراهقين من تعاطي الخمور ، وفي مدينة أخرى اتخذت قرارات بتجفيف أحياء للدعارة!  ودهشت لجمعيات ضد السب واللعن تزرع أفكارها هنا وهناك .. الفطرة لا تزول ، يمكن للأخلاقية وحدها بالعمل الجاد والمتوازن أن تزرع القانون ، وليس القانون وحده قادراً أبداً أن يزرع الأخلاق.

تتجه دورة الحياة إلى الفطرة ، ولكن المشكلة مرة أخرى في المؤسسة الدينية التي كلما تخلفت ساقت الدين إلى حتفه.

ذكرت مرة قصة أخوات اهتدين إلى الله ، ثم أمسكت بهن عصابة دينية ألزمتهن بخيمة سوداء كاملة يرتدينها (هم أحرار)، وفي أحد الأيام أوقفت الشرطة في إحدى (المولات) التجارية بعض الأخوات لإخراج مسروقات من بين أثدائهن ، ويالها من فضيحة أذت كل مسلم ، وأتلفت صورة الإسلام ، لأن تلك العصابة تعرف عن التفاصيل ما تجهله عن الأخلاقيات التي جاء الدين الحق ليحف بها الحياة.

اضطهاد الدين هو تفكيك للعوالق التي تشله ، وإعادة استنبات له ، شاء مضطهدوه أم لم يفعلوا ، وليس لهم خيار في ذلك ، فموسى لن يربيه أي أحد ، بل سيربيه فرعون في قصره مرغماً ، والأنظمة الظالمة لاخيار لها ، فإن تفاهمت مع القوى الواعية كان ذلك لصلاح البلاد كلها ، وإن رفضت خربت مؤسستها الكهنوتية بيدها وحررت الناس من أحد أمكر الأدوات للاستعباد ، وهناك مقاصد أساسية يقوم الدين الحق عليها ، فإعلان الوحدانية لله والعبودية الكاملة له ، تعني أننا في كامل الحرية لأن سيدنا هو الله ، ولا يمكن أن نكون مستعبدين لمخلوق.

(ضحكت متألماً لعالم أقصي يوماً من أحد المواقع الدينية ظلماً ، ولما سئل عما إن كان سيتخذ موقفاً ما قال: أتريدون أن يأخذوا المنبر أيضاً!) وهو على فضله لم يدرك أنه لو ترك المنبر فسيقود الأمة إلى الحرية بدل أن يبقى تحت رحمة الظالمين.

العبودية لله تقتضي الحرية ، وعندما سندركها فنهاية الظلم ستكون أسهل مما نظن بكثير (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) (الرعد-17).

دفعت البشرية من حياتها قروناً طويلة تجري وراء سراب ، وعاشت شقاء مخيفاً تقاتل لما تظنه مفتاح الدخول إلى السماء ، طامعة أن يمن عليها رجال الدين بمسه على الأقل إن لم يكن باستعارته ، ولكنها نست حقيقة الدين والإيمان :

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ) (البقرة 186).

الدين الذي لا يخرج الناس من الظلم هو عين الفساد ، والدين الذي لا يتصدى لرد الحقوق إلى الناس هو باب الإلحاد ، والدين الذي يغرق الناس في  الفرعيات غافلاً عن مقاصد الدين هو عين الخرافة والضياع.

يا أساتذتنا وإخواننا العلماء في كل أرض ، لسنا أوصياء على الدين ولن يخسر شيئاً برحيلنا ، فنحن الذين نقوم به وليس هو الذي يقوم بنا .. صار عند الناس نفور شديد من مشايخ أي سلطة في كل البلاد ولا يثقون بمن يسكت عن الحق.

ثقوا تماماً أن الناس لا يبحثون عنا  بل يبحثون عن إيمان بلا أوصياء.

أحمد معاذ الخطيب الحسني

خطيب جامع بني أمية الكبير سابقاً


[1] – رمسيس عوض ، الإلحاد في الغرب ، القاهرة ، سينا للنشر 1997 ، 50.

[2] – الإلحاد في الغرب ، 162.

[3] – طبيب ومفكر وداعية من طراز نادر ، مصري الأصل ثم عمل في الكويت ، ثم استقر في الولايات المتحدة.

[4] – انظر في إحياء علوم الدين الفصل المدهش للغزالي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهل يحتاج إلى إذن الحاكم ، ومن المخجل أن العلماء لا يوقفون تلاميذهم على تلك المعاني.

[5] – أبي المعالي عبد الملك الجويني ، غياث الأمم ، 429.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.