علاقة (الدين) بكل من (الأنا) و(الضمير)…

هذه مقالة قيمة للطبيب والشاعر والمفكر الدكتور ياسر العيتي فيها تحليل عميق للعلاقة بين الدين والأنا والضمير ، وهي منقولة عن موقع مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية.

قبل أن أتحدث عن علاقة (الدين) بكل من (الأنا) و(الضمير) أريد أن أعرض تعريفاً بسيطاً لكل من هذه المصطلحات الثلاث. (الدين) هو ما يعتقد الإنسان أنها تعليمات إلهية موجهة إلى البشر عبر الوحي. (الضمير) هو ذلك الصوت الهادئ الموجود في داخل كل واحد منا والذي يخبرنا بالصواب والخطأ والجميل والقبيح. (الأنا) هي ذلك الصوت العالي المستبد الموجود في داخل كل واحد منا والذي يثبت نفسه بنفي الآخرين وإقصائهم. بعض المشتغلين بالشأن الديني يفهمون (الدين) من خلال (الأنا) ويتصف هؤلاء بالصفات التالية:

1- يعاملون الناس كأشياء يجب إصلاحها وتهذيبها وليسوا كبشر عاقلين يملكون حرية الاختيار.

2- لا يفرحون لنجاح الآخرين ويعتبرونه تهديداً لهم. هذا النوع من المشتغلين بالشأن الديني يتضايق إذا نجح غيره فحاز عدداً أكبر من الأتباع. هؤلاء يتمنون الفشل لغيرهم ويفرحون به.

3- يتضايقون من التقييم السلبي. إن هؤلاء يثورون عندما يسمعون أيَّ نقد لهم. إنهم فارغون من الداخل ويفتقرون إلى أي قيمة حقيقية يقدمونها للناس سواء على المستوى الفكري أو على مستوى الوقوف في وجه الظالمين وجعل حياة الناس أكثر كرامة وبسبب هذا الفراغ الداخلي والشعور بانعدام القيمة الحقيقية يصبح مدح الناس لهم هو المصدر الوحيد لشعورهم بالأمن فإذا فقدوا هذا المصدر وجاءهم من ينتقدهم شعروا بالفزع الشديد ولربما عاقبوا صاحب هذا النقد وشهّروا به (بدعوى شق عصا الطاعة أو عدم احترام العلم والعلماء!).

4- يتبنون عقلية الندرة. إن الذين يتبنون عقلية الندرة ينظرون إلى الحياة على أنها قالب محدود من الحلوى فإذا أخذ غيرهم حصة أكبر من هذا القالب فقد أخذ من حصتهم لذلك كما قلنا هؤلاء لا يتمنون النجاح لغيرهم ويعتبرون نجاح الآخرين تهديداً لهم.
هؤلاء لا يتورعون عن فعل أي شيء في سبيل الحفاظ على مواقعهم بدءاً من تضليل الناس بشغلهم بكل شيء له علاقة بالدين اللهمَّ إلا بما يحرك في نفوسهم معاني العزة والكرامة ويدفعهم إلى رفض الظلم والظالمين، وانتهاء بالوشاية ببعضهم البعض أمام أجهزة الأمن ليكون الواشي أقرب منزلة وأوفر حظاً عند هذه الأجهزة! هؤلاء لا يوجد في قاموسهم كلمة (تضحية) لأن الذي يعيش وفقاً لما يمليه عليه (الضمير) هو الذي يضحي أما الذي يعيش وفقاً لما تمليه عليه (الأنا) فيضحي بكل شيء في سبيل (أناه).. يضحي بالمبادئ وبمقاصد الدين وبالآخرين شركائه في العلم والدعوة فيكذب وينافق ويضلل ويشي بالآخرين أمام أجهزة الأمن ويبرر كل ذلك بالحفاظ على (موقعه) الذي يدّعي أنه يخدم الدين من خلاله، وما هذا (الموقع) إلا غلافٌ لـِ (أناه) المريضة المنتفخة المتورمة!

بالمقابل هناك مجموعة من المشتغلين بالشأن الديني يفهمون (الدين) من خلال (الضمير) ويتصف هؤلاء بالصفات التالية:
1- هم يعاملون الآخرين كبشر يتمتعون بنعمة العقل والتفكير. هؤلاء لا ينصبون أنفسهم أوصياء على عقول البشر ولا يحاولون إقناع الناس بأفكارهم وجعلهم نسخاً مكررة منهم. بل يعرضون ما لديهم من باب التذكير {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية 21-22) والتبليغ {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}(الرعد: 40) وزيادة الخيارات أمام الناس تاركين لهؤلاء الناس حرية الاختيار ومتقبلين لهم حتى لو كانوا مختلفين عنهم.

2- هم يفرحون لنجاح الآخرين ويعتبرون أي نجاح لخطيب أو داعية أو جماعة دينية – بل حتى نجاح المؤسسات غير الدينية التي تعمل لخدمة الإنسان – هو نجاح لهم وللقضية التي يعملون من أجلها وهي خدمة الدين وخدمة الإنسان الذي جاء الدين من أجله.

3- يرحبون بالتقييم السلبي ويقبلون الانتقاد لأنهم لا يستمدون شعورهم بالأمن من مديح الناس لهم وتقبيل الناس لأيديهم وإنما يستمدون هذا الشعور من داخلهم؛ من فهمهم لجوهر الدين الذي يكرم الإنسان ويحرره من العبودية لغير الله.

4- يتبنون عقلية الوفرة. إن الذين يتبنون عقلية الوفرة ينظرون إلى الحياة على أنها نبع متدفق يكفي الجميع فإذا غرف غيرهم أكثر من هذا النبع فلا يعني أنه قد أخذ من حصتهم! لذلك كما قلنا هم لا يتضايقون من نجاح الآخرين بل يفرحون به ويعتبرونه نجاحاً لهم.
إن هؤلاء لا يعتقدون أن بقاء الإسلام مرتبط ببقائهم في مواقعهم وبأن الإسلام سيختفي من على وجه الأرض وبأن الأمة ستضيع من بعدهم إذا نالهم الطاغوت أو نال جماعتهم أو مؤسساتهم بسوء أو منعهم من التدريس أو الخطابة، بل يعتقدون أن عزة الأمة مرتبطة بصدقهم وشجاعتهم ودفاعهم عن مصالح الناس وحقوقهم في وجه الظالمين المتكبرين لذلك هم يقولون كلمة الحق بحكمة وشجاعة موقنين بأنهم إذا فقدوا مواقعهم ثمناً لهذه الكلمة فإن هذه المواقع ستتحول إلى مواقع حقيقية في قلوب الناس، مواقع تكسبهم المصداقية وتدفع الناس إلى الثقة بهم، عندها سيصبحون قادة حقيقيين قادرين على قيادة الناس في دروب الحرية والكرامة بدلاً من أن يظلوا مجرد ديكورات يتباهى الناس بجلبها وعرضها في حفلاتهم وأفراحهم ومآتمهم! إن الذين يفهمون الدين من خلال الضمير لا يعتقدون أن الدين سيضيع من بعدهم وبأن الأمة عقمت فلن تلد مثلهم أبداً، بل يعتقدون أنهم إذا دفعوا حريتهم أو حياتهم ثمناً لكلمة الحق فإن الأمة ستُنبت ببركة صدقهم وشجاعتهم وتضحيتهم ألفَ عالم شجاع يلتقط منهم شعلة الحرية ويتابع طريقتهم في الذود عن حقوق الأمة وكرامتها فلا يعود في الأمة مكان لطاغية يؤله نفسه على العباد ويمشي بهم في دروب الاستبداد والفساد ويقودهم إلى الخراب والدمار.

في كل مجتمع من المجتمعات يوجد هذان النوعان من المشتغلين بالشأن الديني. نوع تضخمت (الأنا) الخاصة به وانتبجت فأصبح (الدين) في خدمة هذه (الأنا) المتورمة، هؤلاء يفهمهم الطغاة جيداً فيقربونهم ويخدعونهم بمعسول الكلام ليجعلوهم في نهاية المطاف جزءاً من منظومة (السحق) التي تسحق الإنسان وتحوله إلى عبد خانع للطواغيت باسم (الدين). وهناك نوع آخر من المشتغلين بالشأن الديني فهموا (الدين) من خلال (الضمير) فأصبحوا هم في خدمة (الدين) وأصبحوا هم و(الدين) في خدمة الإنسان الذي جاء الدين من أجل تكريمه والارتقاء به. إذا أردنا أن نعرف أياً من هذين النوعين من المشتغلين بالشأن الديني هو السائد في مجتمعٍ ما علينا أن ننظر إلى واقع الإنسان في ذلك المجتمع فإذا وجدنا الإنسان معززاً مكرماً يمارس إنسانيته وحقوقه فمعنى ذلك أن المشتغلين بالشأن الديني الذين يفهمون (الدين) من خلال (الضمير) هم أكثرية المشتغلين بالشأن الديني في هذا المجتمع، أما إذا وجدنا الإنسان ذليلاً مسحوقاً مهاناً مستباحاً مظلوماً فمعنى ذلك أن المشتغلين بالشأن الديني الذين يفهمون (الدين) من خلال (الأنا) هم الشريحة الغالبة.

الدكتور ياسر العيتي

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.