يا أمة فزعت من جهلها الأمم

من عبر المربين العميقة أن رجلاً سمع بعالم فاضل يقصده الناس ليستفيدوا منه فذهب إليه ظاناً أن أمر التربية سهل (على طريقة بعض التجار ، أي أن الأمر يمر بوليمة وبعض النكت ثم النفاق بإظهار التقوى ثم يشترون الشيخ) ومرت أيام والرجل يحاول التودد [بطرق خاصة] إلى العالم الذي كان لا يقصر في الترحيب به والعناية به كسائر الزوار، ولكنه لا يلتفت إليه فيما وراء ذلك! وبعد أيام ضجر الرجل! فقال للمربي: كيف لا تهتم بي وتدلني على الطريق! وقد قطعت إليك مسافة بعيدة! فقال العالم مبتسماً: يابني ..الطريق أمامك، ليس الأمر بقطع المسافات! فارق نفسك خطوة واحدة فتعرف ماهو المطلوب!!


هذه القصة لاتعني شخصاً ما بمقدار ما تصف حال أمة، ولكن القياس لدينا ضعيف، ويصبح من الصعب الارتقاء من المثال الفردي لإدراك آثاره الشاملة على صعيد المجتمع من دون تبصر عميق ووعي متقدم لابد من البحث عنه ولو كان يشابه البحث عن  إبرة في كومة من القش!

لا أكاد أذهب إلى عقد قران إلا وأجد بعض المتكلمين يتحدثون عن ذوبان الأسرة في الغرب والفساد الأخلاقي والاجتماعي هناك (وقد يكون في كلامهم كثير من الحق وشيء من عدم الدقة) ولكني أتعجب دائماً من فكر لا يبنى إلا على أشلاء الآخرين، وأخشى أنه إذا لم يكن ثمة غرب نهاجمه أن لا يكون لدينا شيء نتكلم عنه، والأعجب والأغرب من ذلك أننا نتكلم عن مجتمعاتنا وكأنها فردوس الزمان، وأعجوبة الأرض وقد صار عندي ما يشبه اليقين أن الفساد العميق في مجتمعاتنا لا يقل بحال عن أي بقعة في الأرض ولكن كل مجتمع له نوعه الخاص من الفساد.

بناء الأسرة المسلمة أمر عظيم، ولكن تلك البراعم الفتية تتقوض تحت وطأة التخلف العقلي الذي قد نمارسه! وما نجنيه بالجهد الهائل خلال سنوات يقوضه البعض خلال لحظات ، وملف الأسرة المسلمة (ولا أقصد الإطلاق أو التعميم) ملف عجيب فيه من التخلف والبدائية والتعقيد بل والانحطاط ما لم يخطر ببال.

والعبد الفقير من أضيق الناس ساحة (بفضل من اتبعوا سياسة الإعدام الاجتماعي بحرماني من كل فرصة للتواصل مع الناس) وسبب هذا الأمر لي ابتعاداً عن خوض الساحات العامة، ورغم ذلك فأنا أنفق من الساعات الطوال ما لا أعده في حل الخلافات العائلية والأسرية رغم الاعتذار عن أكثرها، حتى لأكاد أقوم بعد انصراف بعض المتخاصمين من عندي لأتصل بطبيب من أطباء القلب ليدركني بسبب ما أتوهمه من أن قلبي يوشك على التوقف  لما يصيبني من الكآبة والهم الذي يعتريني بسبب زيادة التفكك الأسري والخصومات التافهة التي تشرد الأسر وتدمر الحياة.

صرت أفكر بجد في تصرفات العاقل والسفيه وكيف أن الشريعة رعاية لمصالح العباد تقيم على السفيه ولياً يرعى مصالحه لعدم قدرته على القيام بها، ولا تأذن له في التصرف لما يجره على نفسه وغيره من البلاء!

ثم نظرت إلى الخصومات في البيوت فوجدت أن القسم الأعظم منها يدخل تحت مسمى السفاهة من دون ارتياب، وسبب الأمر مقدمات وأمور لا مجال لشرحها الآن! ولكن!! هل الشريعة التي تحرص على السفيه فتقيم عليه وصياً عاقلاً وقاضياً مشرفاً يحوطونه ويرعونه من وراءه حرصاً عليه وعلى غيره! هل هذه الشريعة قاصرة عن رعاية المجتمعات ورد التصرفات السفيهة لقليل أو كثير من أفرادها إلى وصي هو الشرع نفسه حفظاً لمادة المجتمع كله من التآكل والذوبان!

من أكثر الأمور إيلاماً ما تنفصم به عرى البيوت بسبب الطلاق! ولا يكاد يمر يوم إلا ونرى فيه بأعيننا وتحت سمعنا وبصرنا دمار البيوت وخراب الأسر وضياع الأطفال والنساء، والسبب ليس فقط ضيق صدور بعض الرجال أو جهلهم أو حمقهم أو حتى جنونهم، بل يشارك في الأمر أهل علم يقاتلون عن بعض الأحكام بما لايكادون يفعلونه لو دكت أركان البيت الحرام.

فهل حقيقة أن الطلاق قد وقع؟

لم أجد عند الكثيرين فقه سماحة مفتي مصر العلامة الدكتور محمد علي جمعه حفظه الله وسائر علماء الأمة العاملين، (لايثق الناس بعلمه لأنه عين مفتياً من قبل الحكومة، بل لأنه عالم فاضل موثوق قبل المنصب وبعده، وقد ارتفعت به الفتوى ولم يرتفع هو بالمنصب)  والذي أصغيت إليه يتكلم في إحدى الفضائيات قائلاً: لو أنني أنا علي جمعة طلقت امرأتي! فـ … [مقاطعة من مقدم البرنامج .. أبعد الله الشر عن مولانا…] فيقول الشيخ: لا … الأمر لايتم إلا بشيء يتعلق بعلي جمعة!! لو أنني طلقت امرأتي ثلاثاً مرة واحدة، فأنا شافعي ولا يكون الطلاق قد وقع إلا ثلاثاً، ولكن لوجاء أحد يسألني عن نفس المسألة كمفتي للديار المصرية! فحرصاً على الأسرة والزوجة والأطفال، فأنا أفتيه أن طلاق الثلاث إنما يقع واحدة، التزاماً بما قررته لجنة الفتوى في الأزهر في آخر العشرينات [من القرن العشرين] وهي لجنة ضمت كبار العلماء وقرارها يجب أن يحترم ، فليس كلما تغير المفتي نقض كل ماقبله!

هذه السماحة بل الفقه العميق في الدين يناقضها تصرف أشخاص يلعنون أم وأب كل من يفتي بأن طلاق الثلاث واحدة [لست أناقش القضية فقهياً بل المحاكمة التي تقودها] وهم يسدون كل طريق لإقلال الخسائر الفادحة التي تلحق ببنى الأسر المسلمة اليوم! رغم أنهم يقولون (نظرياً على الأقل) بأن حكم الحاكم يرفع الخلاف! ورغم أن المحاكم الشرعية في سورية ومصر وبلاد الحرمين الشريفين تفتي أن طلاق الثلاث إنما يقع واحدة! لكنهم غارقون في جزئية أرتهم أن الإسلام سوف يتقوض إذا انتشر في الأرض فقه يخالف مذهبهم ورؤيتهم! اللهم إلا إذا طلقت إحدى بناتهم أو قريباتهم فهناك يبدو الأمر مقبولاً، والدين فيه سعة وتصبح الفتوى المغايرة ذات وجهة نظر [في سجلات علامة الحنابلة الشيخ أحمد الشامي رحمه الله تواقيع عدة أشخاص معروفين شديدي التعصب ، كان لهم شرف تصديع آلاف البيوت، فلما طلقت بنت أحدهم وذعر صهره لتقوض الأسرة، وجد الرجل أن من المناسب والمصلحة الشرعية (له وله فقط … ولتذهب بنات الناس إلى الجحيم) أن يستعين بفتوى المحاكم الشرعية ورأي العلامة الشامي خروجاً من العاقبة الأليمة …..

موضوع طلاق الثلاث منته في نظري، وهو لا يقع إلا واحدة … ولكن هناك مسألة أدق وأخطر وبحاجة إلى بحث واعتماد!

كنت أقرأ كتاباً اسمه: فلتسقط الخرافة للأستاذ عبد الإله بكار (شقيق المفكر المعروف الدكتور عبد الكريم) وهو جزء من سلسلة روائع أفكار رواد الإصلاح والتغيير في العالم الإسلامي، والحلقة عن الشيخ محمد عبده، ولفت نظري رأي الشيخ  في الطلاق إذ يقول رحمه الله: “إذا أرادت الحكومة أن تفعل خيراً للأمة فعليها أن تضع نظاماً للطلاق على الوجه الآتي:

المادة الأولى: كل زوج يريد أن يطلق زوجته، فعليه أن يحضر أمام القاضي الشرعي أو المأذون ويخبره بالشقاق الذي بينه وبين زوجته.

المادة الثانية: يجب على القاضي أو المأذون أن يرشد الزوج إلى ما ورد في الكتاب والسنة مما يدل على أن الطلاق ممقوت عند الله تعالى، ويأمره أن يتروى لمدة أسبوع.

المادة الثالثة: إذا أصر الزوج بعد مضي الأسبوع على نية الطلاق، فعلى القاضي أو المأذون أن يبعث حكماً من أهل الزوج وحكماً من أهل الزوجة أو عدلين من الأجانب ليصلحا بينهما.

المادة الرابعة: إذا لم ينجح الحكمان في الإصلاح فعليهما أن يقدما تقريراً للقاضي وعند ذلك يأذن القاضي للزوج في الطلاق [هو إعلام باستنفاذ فرص الطلاق، وليس صلاحية منع فالحق للمُطلِّق].

المادة الخامسة: لايصح الطلاق إلا إذا وقع أمام القاضي أو المأذون وبحضور شاهدين ولا يقبل إثباته إلا بوثيقة رسمية.  (من تسقط الخرافة،96 نقلاً عن الأعمال الكاملة 2/123.

إن ماذكره الشيخ يوجه المصلحة المرسلة لتصون الأسر والبيوت، وقد يكون للبعض اعتراض على بعض كلماته أو صياغته ، فليكن ولكن مقصده عظيم، وفيه وجهة نظر دقيقة، واشتراط الشاهدين ليس ببدعة، وليس الشيخ محمد عبده أول من أتى به.

لابد من ذكر مسألة مهمة وهي أن بعض أهل العلم يحرقون الطريق في وجه أي مخالف وقد يكون أكثر المستمعين من غير المختصين إن لم يكونوا من الجهلة، ومنذ مدة ألقيت في دمشق الشام خطب جمعة نقل لي أنه قد هوجم فيها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا هجوماً غير مسبوق، حتى قيل في بعضهم أنهم أئمة ضلال! ولا أعذر العالم الفاضل فيما تكلم به لأنني لا أرضي أن يأتي أحد بعد سنوات فيتهم منهجه كله بالضلال بسبب قصور يعتريه ونحن نعلمه ونحسه ونعاني منه ليل نهار.

مفتي مصر الشيخ محمد عبده رحمه الله  كان له نظر سديد في عدة أمور منها الطلاق، ولكنه وقع ضحية هجوم ماحق من عالم آخر هو الشيخ مصطفى صبري رحمه الله ، والذي لا تكاد توجد نقيصة إلا ألحقها بالشيخ محمد عبده  … وكلا الرجلين رحمهما الله غيور على الإسلام ، كل من طريق! وكل أحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب المقام صلى الله عليه وآله وسلم.

لماذا أذكر هذه المداخلة؟ لكيلا يكون قد وقع في سمع بعض الناس الاتهام ولم يعلم مقام أولئك الرجال فتذهب أية فائدة قد تذكر بسبب قصور العلم وكلال الذهن.

وقد كنا صغاراً نسمع بالمسألة من أوثق الناس فلا نزال نراجع أهل العلم ومواقع المسائل حتى تطمئن قلوبنا ، وإن وجدنا حيدة عن الصواب رجعنا إلى الصواب! وقد صار كثير من طلاب العلم اليوم مثل المسجلات لها آلات وليس فيها عقل وهي تسجل ما يلقى إليها ولا تراجع في مسألة فلو أن المركب كله قد غرق لما قام معترض.

في كل عصر يقوم مصلحون يحاولون انتشال الأمة مما هي فيه فيهاجمهم المتعصبون ومحدود الأفق ويقلبون المركب بالجميع. ومن مآسي الزمان أن العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي وهو من أجل أهل زمانه علماً وفضلاً قد لقي أشد العنت وهو يحاول الإصلاح في الأمة حتى كتب به (المشايخ الأفاضل ….) وشايات كاذبة إلى المخابرات العثمانية والسلطان في استانبول (لدينا نسخة رديئة من هؤلاء اليوم) واتهموه باختراع مذهب جديد سموه بهتاناً المذهب الجمالي، فقام تلميذه الأمير عادل أرسلان بتأليف قصيدة يفضح فيها حال خصوم القاسمي الذين يتظاهرون بالفقه ويسمون أنفسهم فقهاء وهم عن الفقهاء الحق بعيدون وإنما صنعتهم التعصب والاجترار في الكلام والطعام والوشاية بأهل الحق، ومما جاء في تلك القصيدة:

يا أيها الفقهاء أول من درى              أن البطاطا شرح متن البامية

إني رأيت الشورباء حزينة                 أضحت على أذيالكم مترامية

فكلوا المحاشي والمواشي جملة           تهتز من فوق بقول نامية

أظننتم الدستور حرم أكلها                  لا والذي خلق العقول السامية

ما دخل وهابيتي في أمركم                 ماذا اخترمت لتنكروا إسلاميه

هي شيعة لا تشتم الكوسا فما              الداعي لتكفيري ودق عظامية

ماخنتكم في صحبة المحشي               ولا أفسدت بالتقليل منه صياميه

طباخ روحو شافع لي عندكم              مني عليه تحيتي وسلاميه

أشهى لدي لو أنه يودي بكم                من أكله وبذاك نيل مراميه

كذبت درويناً فحين بلوتكم                 صدقته وكففت عنه ملاميه

سبحان من سمك السماك ومن برى        هذي الخلائق لا أطيل كلاميه

في تفسيره متحدثاً عن الإشهاد في الطلاق والمراجعة؛ تعقيباً على الآية الثانية من سورة الطلاق بقوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذَوَي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله، ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن يتق الله يجعل مخرجا) ، قال الإمام القاسمي: “وهذا الإشهاد على المراجعة والطلاق مندوب، ومنهم من ذهب إلى وجوبه عليهما، ومنهم من فرق بين المراجعة فأوجبه فيها، وبين الطلاق فاستحبه، وظاهر الأمر في الآية الوجوب فيهما، والترجيح يجب أن يكون بدليل مرجح، ومما يؤيد الوجوب أن الأوامر في الآية كلها قبل وبعد ، للوجوب إجماعاً، ولا دليل يصرف الأمر بالإشهاد عن ظاهره، فبقي كسابقه ولاحقه ، وإن كان القِرانُ لايفيد المشاركة في الحكم ، إلا أنه عاضد ومؤيد ، إذا لم يوجد صارف. ثم الأمر بالإشهاد عند الطلاق ، يدل على أن الحلف بالطلاق، أو تعليق وقوعه بأمر ، كله مما لا يعد طلاقاً في الشرع، لأن ماطلب فيه الإشهاد لابد أن ينوي فيه إيقاعه ويعزم عليه ويتهيأ له ، وجدير بعصمة ينوي حلها ، وكانت معقودة أوثق عقد أن يُشهد عليها، بعد أن سبقها مراجعة من حكمين من قِبل الزوجين ، كما أشارت إليه آية الحكم ، فليتدبر الطلاق المشروع ، والطلاق المبتدع ، وبالله التوفيق” : محاسن التأويل ، 16/5836.

ويقول العلامة القاضي أحمد محمد شاكر في كتابه نظام الطلاق في الإسلام (ط2-1389هـ ص 118) :  “… قوله: (وأشهدوا) راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً، والأمر للوجوب، لأنه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إلى غير الوجوب-كالندب- إلا بقرينة، ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب. بل القرائن هنا تؤيد حمله على الوجوب: لأن الطلاق عمل استثنائي يقوم به الرجل –وهو أحد طرفي العقد- وحده؛ سواء أوافقته المرأة أم لا …. وتترتب عليه حقوق للرجل قِبل المرأة وحقوق للمرأة قِبل الرجل وكذلك الرجعة، ويخشى فيهما الإنكار من أحدهما، فإشهاد الشهود يرفع احتمال الجحد، ويثبت لكل منهما حقه قِبل الآخر. فمن أشهد على طلاقه فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حد الله الذي حده له، فوقع عمله باطلاً، لا يترتب عليه أي أثر من آثاره”.

ثم ذكر شاكر أن هذا هو اختيار ابن عباس وعطاء والسدي.

وكانت حصلت مراسلة بين الإمام القاسمي وصاحب مجلة العرفان في صيدا عام 1330 هجرية فأرسل القاسمي رسالة مطولة حول الأمر ذكر فيها بالأسانيد أن من الذاهبين إلى القول بوجوب الإشهاد عند الطلاق ، الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعمران بن حصين رضي الله عنه ومن التابعين من أئمة أهل البيت: محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما السلام (عبارة طالما استخدمها علماء أهل السنة فلا ترتعب أيها القارئ منها) ومن أئمة أهل السنة عطاء وابن جريج وابن سيرين رضي الله عنهم أجمعين. (ستنشر قريباً في كتاب أجوبة المسائل) …

لذا فمن ادعى الإجماع على عدم لزوم الإشهاد فقد غلط أفلا يكفي كل من ذكروا! أما عند الإمامية فلا يقع الطلاق دون إشهاد بلا خلاف أعلمه.

وكما قرر علماء الأصول فإن الاجتهاد لا ينقض بمثله وحاجة الأمة تقتضي أن لا يكون الطلاق كلام مجنون أو نزوة سفيه بل قرار عاقل راشد.

في الفقه سعة ورشاد ويجب ضبط الأمور وإلا كثرت الثغرات ثم أودت بالأمة كلها، وصيانة البيوت بتبنى الاجتهاد القائل بعدم وقوع الطلاق من دون شاهدين هو سحب للبساط من أيدي من لا يعرفون الحقوق، وإعادة الأمن إلى ملايين السر المسلمة التي تتصدع وبعض السادة العلماء غارق في التاريخ غافل عن النكبات.

هناك نقطة أخرة مخوفة، وقد عانيت منها معاناة شديدة بما رأيته من بعض الشباب قليلي الدين ممن يعقد عقده الشرعي على فتاة (دون توثيق في المحكمة) ثم يسافر وينقطع عن الفتاة أو يبقيها في عصمته وهو لا يريدها نكاية وكيداً ومكراً، والفتاة المسكينة محبوسة بالعقد، وقد تعلمتُ من علامة الأحناف الشيخ الجليل محمد أديب الكلاس حفظه الله وعافاه .. أن لايكون هناك عقد لمسافر إلا وعصمة الفتاة في يدها، حتى إذا سافر وانقطع وتعنت وبان أصله طلقت الفتاة نفسها منه وارتاحت دون أن تفنى سنوات عمرها تحت رحمة مروءته بل قل فجوره وتلاعبه ببنات الناس. وأنا أقول لكل أخت يريد أحد أن يعقد عليها ويريد السفر أن لا ترضى إلا أن تكون العصمة في يدها وتشترط ذلك جهاراً نهاراً (أما إذا وثق الأمر في المحكمة فالطرفان وما يرتضيان) وضيق صدر ساعة (لأن من طبع بعض الرجال أن تكون الرجولة عند بعضهم لا تتم إلا بالهيمنة على النساء وهم كالخرفان مع الظالمين) خير من شقاء عمر (وكم من فتيات صالحات ذقن من الهوان والأسى ما لايعلمه إلا الله).

وما قرره العلامة الكلاس هو عين الإدراك للمصالح الشرعية ، وقد سبق للعلامة القاسمي أن ذكر ماهو أوسع من ذلك فقال: “فكم يشكو آل الزوجة غيبة الزوج في بلاد أميركا مثلاً وانقطاع خبره وطول مدة غيبته وإهماله إقامة وكيل عنه ينفق على زوجته   …. وعدم صبرها على ذلك لا سيما مع قلة ذات يدها وفقر حاله! وكذلك يعتبر عقد الحنابلة الشروط التي تحصل عند العقد وهي ما يقتضيه العقد أو تنتفع به المرأة فكله لازم للزوج بمعنى ثبوت الخيار لها بعدمه ، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (مقاطع الحقوق عند الشروط) ….” (من الرسالة الموعود بها للقاسمي وستنشر قريباً) .

والخلاصة أنني وإتباعا لمن ذكرت واقتناعاً برأيهم وبسبب ما يحصل من التجاوز والتعنت في استخدام الحق فإنني أعتقد أن الطلاق لايقع من دون شاهدين، ونصيحة خالصة لوجه الله أوصي من يزوج ابنته ولم يوثق عقدها أن يجعل العصمة في يدها (حتى يوثق العقد) حرصاً على كرامة ابنته وسعادتها (كائناً ماكان العاقد ابن الكرام).

بعض المصائب الكبرى حلها بسيط ، وقد أعجبني مثال ذكره الدكتور الشيخ محمد شريف الصواف بارك الله في علمه وحياته (وهو عالم فاضل وخطيب موفق وله جهود علمية ودعوية طيبة) عندما تكلم عن حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال: ابن أخت رجل القوم منهم، في حديث إجارة أم هانئ، وأشار إلى العنت والسجالات القانونية من أجل منح أبناء المرأة المتزوجة من أجنبي جنسية الأم مع أن الأمر فيه توجيه شرعي.

وأقول: إن الشيء الذي تزعم الدول المتقدمة قانونياً السبق فيه اليوم ما زال بعيد المنال في عالمنا الإسلامي بسبب جهل الحكومات المفرط بحقوق البشر، وسكوت غالب الجسم الديني عن إبداء رأي فيه لأنه يظن أنها المشكلة لا تخصه! والأمر في الحقيقة هو مشكلة عويصة وحلها بسيط بل فيه توجيه شرعي واضح صريح.

موضوع الأسرة والطلاق وضرورة تبني اجتهاد قديم لضرورات معاصرة هو من نفس النوع سينهي الكثير من المشاكل التي ندور حول الرحى باحثين عن حل لها ولا حل.

ربما سيضحك بعض الناس عندما يسمعون ماقاله الرجل البدوي مادحاً أحد الخلفاء:

أنت كالكلب في الوفاء          وكالتيس في قراع الخطوب

أما أنا فأبكي أحياناً ليس لفقر مفردات الرجل في التعبير فهو معذور إذ لا شيء حوله إلا الكلاب والتيوس [ومعذرة من القراء الكرام] ، ولكني أتمثل الأمة الغنية بالفقه الموارة بالمقاصد وقد انكمشت فضاق فكرها عن نفسها وأنكرت ذاتها وعاشت في قمقم لا تريد الخروج منه ..

تزيد المصيبة في ديار الغرب فتصبح غربة وكربة وشقاء، إذ فوق انكماش الفقه تحيط الابتلاءات، وتصدع الأسرة هناك قد يكون مصيره أبناء في ملاجئ الكنائس للأيتام أو بعض النوادي الليلية لفتيات تصدعت أسرهن بسبب فقيه آت من العصور الوسطى لا يفهم الفقه ولا يفهم ظروف الحياة.

 

قبل أن أنتهي من كتابة كلمة هذا الشهر أتتني رسالة من أخت فاضلة أنشرها دون تعليق اليوم أو أي اختصار لها… وقد أعود إليها فهي بحق تشخص بصدق جزءاً من المأساة التي نحن عنها غافلون.

سيدي الكريم: السلام عليكم و رحمة الله و بركاته،

لقد التمست في فكرك شيئا مختلفا جعلني أطمع في إنصافك و لو قليلا فيما يجول ببالي و خاطري. فرغم كل محاولاتي الفاشلة في طرح تساؤلات تخصني كشابة مسلمة معاصرة و تخص الكثيرات ممن هم مثلي، لا أزال أجد إجابات تبث في روحي عزيمة واثبة نحو قيادة انقلاب على مجتمعاتنا “الملتزمة” المتخلفة التي تدعي الإنصاف فيما يتعلق بالمرأة. سيدي الكريم لم أكن لألجأ إليك و أنا الشابة الواثقة من عدل خالقي و بارئي لولا أن المفاهيم اختلطت علي  ولولا أنني بدأت أخشى على نفسي الانزلاق في الحرام الذي بات غائما عندي أو التعصب و التمسك بأشياء لم أعد أدري إن كانت مطلوبة في ديني أساسا لأتمسك بها.

سؤالي باختصار و بشكل مباشر، هل المرأة في الإسلام مخلوق من الدرجة الثانية؟
إذا كان الجواب نعم، فأجبني بهذه الحقيقة وأرحني و اختصر علي بارك الله بك.

فلقد تعب تفكيري من الأجوبة المزيفة التي يملؤها اللف و الدوران و التزيين الرديء في غير محله من أصحاب العمائم و رجال الفكر و نساء الدعوة ممن يتشدقون بأهمية دور المرأة دون الانتباه لتصرفاتهم التي تناقض أقوالهم.

أما إذا كان الجواب لا، فلماذا يا سيدي لا نجد من رجال الدين قبل رجال المجتمع الإنصاف اللازم في تربية الأبناء التربية الدينية المتوازنة والصحيحة البعيدة عن الذكورية البحتة و التعصب الذي يثير في نفسي الغثيان. لعلك تظنني قد خرجت للتو من آخر اجتماع لإحدى جمعيات تحرير المرأة. لا والله فلطالما كنت ضد شعاراتها التافهة. إلا أنني أستصرخكم يا أصحاب العقول الراجحة أن تنصفوا في مفاهيمكم و تعينونا على العبور الصعب في ممر الحياة التي باتت تثقل علينا كما تثقل عليكم.

أين دور المرأة المسلمة يا سيدي و أين الإعداد اللازم لها لتشارككم الحياة و تعينكم عليها؟ قل لي يا سيدي إن كان علي أن أحبس بين أربع جدران كي أرضي ربي ثم مجتمعي علما بأني أملك من الطاقة ما يكفي للمشاركة في حل كثير من المشاكل. و علما أن طاقتي هذه قد تصرف في منافذ أخرى معظمها من النوع التافه إذا ما أغلقت على نفسي في البيت. ولا تقل لي أن أتوجه لتحفيظ القرآن فهو مجال لا يوجد فيه تقصير في بلدنا و لله الحمد. فما أقصده يتعلق بمجالات أخرى يكاد يكون دور المرأة الملتزمة فيها معطل تماما بسبب تثبيطها من الرجال المحيطين بها و ألوم رجال الدين أولا في ذلك.

يستفزني موقف أمهات الشباب عندما يتصلن بنا للخطبة و يعتذرن من والدتي عندما يعلمن أنني أنوي دراسة الماجستير و الدكتوراه في مجال دراستي. هل ينقص من أنوثتي أومن إسلامي إذا عقدت العزم على المضي في دراستي المتعلقة بإدارة الأعمال و الاقتصاد أو حتى العمل في هذا المجال؟ أم أن نجاحي في مثل هذه المجالات يخيف من يدعون الرجولة من الذكور؟

جاء إلينا خاطب مرة و هو الشاب الطبيب والملتزم والحافظ لكتاب الله. أدهشني عندما توجه إلي بالحديث و هو المتعلم و كان أول تساؤلاته إذا ما كنت أجيد الطبخ!.

أجبته كاظمة غيظي بأنني أجيد الأكل و لا أجيد الطبخ فابتسم ظاناً أني أمازحه.

أتساءل ما إذا كان هناك من الشباب من يهمه بصدق أن يسأل عن فكر شريكة حياته المستقبلية،دراستها، مستقبلها، عملها أو أي شيء يخص دورها كمسلمة في مجتمع إسلامي يعاني من النكبات ما يعاني.

لم يسبق لي أن رأيت شابا ملتزما يشجع زوجته على العمل و الدراسة من أجل نهضة المجتمع و الأمة. فالمواقف تقسم إما بالضغط عليها كي تعمل من أجل المشاركة في المصاريف. أو الانغلاق في المنزل للتفرغ لإمتاع نظره و عينيه التي لا يملؤها إلا التراب.

فبالله عليك يا سيدي ما الذي نتوقعه من شباب مسلم كهذا؟

لا أنكر أن في شبابنا الخير الكثير و أنا أراهن على ذلك دوما و لكني و بأمانة و صدق بت أنفر من فكرة ارتباطي بشاب ملتزم. لأني و ببساطة بت أخاف على نفسي ظلمه و انغلاقه على مفاهيمه التي تلقنها منذ نعومة أظفاره. و لا أقصد طبعا أن أزكي الشاب غير الملتزم على الملتزم فالزوج الملتزم و إن كان متخلفا أحب إلي من كنوز الدنيا كلها و لكني أطالب بالإنصااااف. و لا أقصد بالإنصاف مصارعة الرجال في معترك الحياة و لكني أتساءل عن دوري الحقيقي؟ حجمه؟ ما هيته؟ حقيقته؟

والله إني لأستغرب أشد الاستغراب من شباب و رجال يدعون الالتزام و يعجبون بكل ما تملكه المرأة الغربية أو المتحررة من فكر و عزيمة و شخصية تفرضها بعملها و جمالها و في نفس الوقت يستنكرون على نسائهم متابعة تعليمهم و الخوض في معترك الحياة بحجة حمايتها من الاختلاط بغير المحارم. وفي الوقت نفسه يبيحون لأنفسهم الاختلاط بفتيات من كافة الأشكال و الألوان مع تبادل كافة أنواع الأحاديث الخارجية و الداخلية و من ثم نسمع بازدياد نسب خيانات الرجال و انقلابهم على أسرهم و نسائهم المتخلفين الذين لم يواكبوا تطور الحياة و يفهموهم كما يجب. أي نوع من الأنانية يعيش فيها الرجل المسلم في أيامنا هذه. سيادة من النوع الثقيل و المتخلف و المتعجرف دون إنتاجية عالية و دون القيام بواجباتهم المترتبة عليهم مع تعطيل كااااااااامل لعقل مخلوق بشري يدعى المرأة. كل هذا يحدث تحت مسمى الدين. فأين الدين من ذلك؟

استوقفني تذمر أحد الشباب المسلم من زوجته المسكينة التي لم يمض  على زواجه منها الستة أشهر و هو يشتكي من قلة معرفتها بأمور الحياة. قالها بحرقة “لا تعرف شيئا”. فضحكت في نفسي قلت سبحان الله لو كانت تعلم شيئا و لو كانت امرأة ذات عقل راجح و فكر و دراية بأمور الحياة المختلفة و أمور الحياة الزوجية لاستوجبه ذلك أن يحبسها بين أربع جدران كي لا تتنفس و لا ترى النور و لا يراها النور من بعده. كيف ترى النور و زوجها النور نفسه ، خلقه الله كي لا ترى الدنيا إلا من خلال عينيه هو فحسب. و هو يمضي لرؤية ما يحلو له و يستمتع بما لذ و طاب من متع الحياة.

احترنا في أمر الشباب المسلم، فإذا كانت البنت قد تربت التربية التقليدية المحافظة و لم يسعفها الحظ أن تتعلم من أمور الحياة ما يجب عليها أن تتعلمه تذمر منها الشاب المسلم الذي يرى من أهوال الانفتاح و التطور و الفساد أيضا ما يرى. فلا تعجبه بنت الناس و الأوادم. أما إذا كانت البنت أكثر انفتاحا و حالفها الحظ بالتعلم و الاختلاط بالمجتمع و الفهم و الدراية و حتى الاطلاع على “بعض من كل” مفاتن الحياة التي اطلع عليها (و هي لا تزال طبعا بنت ناس وأوادم)،ثارت ثائرته و جن جنونه و استنفرت كافة هرموناته الذكرية في اجتماع عاجل يدرس كيفية تحطيمها و الإغلاق عليها في قمقم التخلف و الرجعية.

لأول مرة في حياتي أشك في ذكائي و قدرتي على المحاكمة و أنا التي لطالما وثقت من قدرتي على التغيير للأفضل و من دوري كشابة مسلمة في نماء المجتمع الإسلامي و تطويره و المشاركة في وضع أساساته و حتى النهوض به. ليس وحدي هذا مؤكد فلا أنادي بسيادة المرأة العالم. و لكن المشكلة أن مفهوم دوري بات مخلوطا في فكري فلم أعد أدري أي درب أسلك. هل محرم علي أن أعمل و أدرس علما أنه يتوجب علي الاختلاط بالصالح و الطالح و غير المحارم من الرجال. ناهيك عن نوعية اختلاطي بهم. فهل أكون عاقدة الحاجبين العبوس البؤوس المتناهية في اللؤم كي يعلم قدره كل من تسول له نفسه الاقتراب ليسألني عن معلومة أو فكرة أو حتى عن حالي و الأهل و إلقاء تحية الصباح علي؟ أم أنه لا مانع من اللباقة بحدود ما يسمحه الشرع. و ما هي تلك الحدود؟ و الله لم أعد أعرفها لكثرة ما تخبطت الأفكار في رأسي. بت أشك في تصرفاتي و أنعت نفسي بالنورية لمجرد أنني رددت السلام على أحد زملائي بلطف. لا أقول الخضوع في القول وإنما اللباقة العامة. بت لا أدري هل أتجاهل أي زميل لي في العمل كي لا يظن أني أتحرش به أم أتصرف بطبيبعة يستوجبها عملي. هل الأفضل من ذلك كله الانعزال و البحث عن عمل متعلق بالأولاد و التدريس علما أنني لا أحب هذا المجال كثيرا. هل أنعزل , أجلس في بيتي يكون أحسن حتى؟ هل أتعلم الطبخ منذ اليوم و أتفرغ لتعلم كيفية إرضاء الزوج من اليوم كي يكون زوجي المسلم الذي قد لا يأتي أصلا سعيد حظ بي في يوم من الأيام؟

أعينونا على تصحيح مفاهيمنا كي يعلم كل منا شبابا و بناتنا دوره و إضافاته و يعلم كل منا حدوده فيحترم و يعين كل منا الآخر .

هذه رسالة الأخت كاملة وهي جزء من مشكلة لا بد من إدراك مافيها من معاناة …. وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض.

لن يكون للأمة موقع في هذه الأرض وستبقى تنكمش فاعليتها في الحياة مهما كثرت عددياً (كغثاء السيل) إلى أن تعرف مشاكلها بعمق وتبحث عن حل جاد لها وتعيد استنباط الحياة من إسلامها مرة أخرى كي لا تصبح فتنة للناس وكي لا تفزع من جهلها وغيابها عن ساحات الحياة … الشعوب والأمم.

 

أحمد معاذ الخطيب الحسني

دمشق الشام: 28 جمادى الآخرة 1429/ 2 تموز 2008

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.