كتاب الصلاة
723 – هذا كتابٌ عظيمُ الموقع في الشرع ، لم يتشعب أصلٌ في التكاليفِ تشَّعبَه ، ولم يتهذب بالمباحث قطبٌ من أقطاب الدين تهذَّبَه ، والسبب فيه أنه من أعظم شعائر الإسلام ، والناسُ على تاراتهم وتباينِ طبقاتهم مواظبون على إقامة وظائف الصلوات مثابرون على رعاية الأوقات ، باحثون عما يتعلق بها من الشرائط والأركان والهيئات .
فهي لذلك لا تندرس على ممرّ الدهور ، ولا يمحق ذكر أُصولها عن الصدور .
وليس يليق بهذا الكتاب ذكر أصولها وفروعها ومسائلها ، والتنبيه على مُغمَضَاتها وغوائلها ؛ فإنها مستقصارةٌ في فنّ الفقه ، وإنما يتعلق بهذا الفن من الكلام فصلٌ واحدٌ جامعٌ ، يحوي جميعَ الغرض ، ونحن نستاقُه على ما ينبغي ـ إن شاء الله عز وجل ـ مفرّعاً من الأصول التي قدمناها في كتاب الطهارة فنقول :
724 – ما استمرّ في الناس العلمُ بوجوبه فإنهم يقيمونه ، وما ذهب عن ذكر أهل الدهر جملةً ، فلا تكليفَ عليهم فيه ، وسقوطُ ما عسُر الوصولُ إليه في الزمان لا يُسقطُ الممكنَ ؛ فإن من الأُصول الشائعة التي لا تكاد تُنسى ، ما أُقيمت أصولُ الشريعة أن المقدورَ عليه لا يسقطُ بسقوطِ المعجوز عنه .
725– وإن اعترض في هذا الدهر شيءٌ ، اختلف العلماءُ في وجوبه كالطمأنينةِ في الركوع والسجود ، وعلم بنو الزمانِ الاختلافَ ، ولم يُحيطوا بأصحاب المذاهب ، أو أحاطوا بهم ، ولكن كان دَرَسَ تحقيقُ صفاتهم ، وتعذّرَ على المسترشدين النظرُ في أعيان المقلِّدين على ما يليق باستطاعتهم في تخيرّ الأئمة ، فما يقع كذلك ، فقد تعارضَ القولُ بالوجوب فيه ونفيُ الوجوب ، فما كان كذلك ، فقد يظن الفطنُ أنه يتعين الأخذ بالوجوب بناءً على أن من شك فلم يدرِ أَثلاثاً صلّى الظهرَ أم أربعاً ، فإنه يأخذ بالثلاث المستيقنة ويصلى ركعةً أخرى ، ويكون الشك في ركعةٍ من ركعات الصلاة كالشك في إقامةِ أصل الصلاة ، وليكن هذا رأي بعض الأئمة .
726 – وليس هذا المسلك متفقاً عليه بين علماء الشريعة . والنظرُ في هذا من دقيق القول في فروع الفقه ، فإذا كان بناء الكلام على شغور الزمان عن العلم بالتفاصيل ، فليس يليق بهذا الزمان تأسيسُ الكلام على مظنونٍ فيه في دقيق الفقه ، فإن ظن العامي لا معوّل عليه ، وقد تعذر سبيلُ تأسيس التقليد ، وتخيّر المفتي ، فالوجهُ القطعُ بسقوط وجوب ما لم يَعلم أهل الزمانُ وجوبَه .
وإن اعترضت صورةٌ تعارضَ فيها إمكانُ التحريم والوجوبِ ، ولم يتأَتَّ الوصولُ إلى الإحاطة بأَحدهما ، فهذا مما يسقطُ التكليف فيه رأساً ، كما سبق تقريرُه في أحكام الحيض المختلطِ بالاستحاضة . فهذا يتعلق بأهل الزمان الذي وصفناه .
727 – ومما نُجريه في ذلك أنه إذا جرى في الصلاة ما أشكلَ أنه يُفسد الصلاة أم لا ، فقد يخطر للناظر أن الأصلَ المرجوعَ إليه بقاءُ وجوبِ الصلاة إلى أن يتحقق براءِةُ الذمة منها .
ولكن الذي يجبُ الجريانُ عليه في حكم الزمان المشتملِ على ذكر القواعد الكلية مع التعري عن التفاصيل الجزئية أن القضاءَ لا يجب ؛ فإِن التفاصيل إذا دَرَست ، لم يأمن مصلٍّ عن جريانِ ما هو من قبيل المفسدات في صلاته ، ولكن المؤاخذةَ بهذا شديدة ثم لا يأمن قاضٍ في عين قضائه عن قريبٍ مما وقع له في الأداءِ ، والأصول الكليةُ قاضيةٌ بإسقاط القضاءِ فيما هذا سبيله .
ونحن نجد لذلك أمثلةً مع الاحتواءِ على أُصول الشريعة وتفاصيلها ، فإن من ارتاب في أن الصلاة التي مضت هل كانت على موجَب الشرع ؟ وهل استجمعت شرائطَ الصحة ؟ وهل اتفق الإتيانُ بأركانها في إِبّانها ؟ فلا مبالاةَ بهذه الخطرات ؛ إذ لا يخلو من أمثالها مكلَّفُ ، وإن بذل كنهَ جهده ، وإن تناهى في استفراغ جِدّه .
ثم لا يسلمُ القضاءُ من الارتياب الذي فُرض وقوعُه في الأداءِ .
728 – فالذي ينبني الأمرُ عليه في عُروِّ الزمان عن ذكر التفاصيل أن لا يؤاخذ أَهلُ الزمان بما لا يعلمون وجوبَه جملةً باتّة .
729 – ومما يُهذَّبُ به غرضُنا في هذا الفن أنه لو طرأَ على الصلاة ما يعلمُ المصلي أنه يقتضي سجودَ السهو ، فإنه يسجد ، ولو استراب في أنه هل يقتضي السجود ، وكان محفوظاً في الزمان أن تركَ سجود السهو لا يبطل الصلاةَ ، والسجودُ الزائدُ عمداً من غير مقتضٍ يبطل الصلاةَ ، فالذي يقتضيه هذا الأصل أن لا يسجد المستريبُ .
وإن كان هذا الأصل منسياً في الزمان ، فسجد المستريبُ ، لم نقضِ ببطلان صلاته ، فإنه لم يزد سجوداً عامداً .
وهذا يلتحق بأطراف الكلام فيما يطرأ على الصلاة ، ولا يدري المصلي أنه مفسدٌ لها .
ولو فرض مثلُ هذا في الزمانِ المشتملِ على العلم بالتفاصيل ، وكان سجد رجل ظانا أنه مأمورٌ بالسجود ، ففتوى معظم العلماءِ أنه لا تبطل صلاتهُ .
فهذا منتهى غرضنا في كتاب الصلاة .
كتاب الزكاة
730 – القول فيها مع فرض دروس التفاصيل يتعلق بأمرين:
أحدهما ـ أن ما استيقن أهلُ الزمان وجوبه أخرجوه ، وأوصلوه إلى مستحقيه ، وما ترددوا في وجوبه لم يثبت وجوبُه عليهم ؛ فإن الوجوب من غير بالموجِب ، ومن غير استمكانٍ من الإِحاطة به محالٌ ، وإذا كان الزمانُ خالياً عن حملةِ العلوم بالتفاريع ، فأهل الدهر غير مستمكنين من الوصول إلى العلم . وقد وقع الاحترازُ بتقييد الكلام بالتمكن عمن يجب عليه شيء في توافر العلماءِ ، وهو لا يدريه ، فإنه مستمكنٌ من البحث والوصول إلى العلم بمُسَائلة أُولي العلم .
فهذا أحد الأمرين .
731 – والثاني أنه إذا ظهر ضررُ المحتاجين واعتاصَ مقدارُ الواجب على الموسرين المثرين ، فهذا يتعلق بأمرٍ كلي في إنفاذ المشرفين على الضَّيَاع ، وسيأتي ذلك ببيان شاف على الإشباع . إن شاء الله عز وجل .
كتاب الصوم
732 – فأما صومُ شهر رمضان فإنه على موجَب اطراد العرف لا يُنسى ما ذكرت أُصولُ الشريعة ، والمرعي فيه ما تقدم تقريره ، فما يُستيقنُ في الزمان وجوبُه ، أقامه المكلفون ، وما شُك في وجوبه لا يجب .
733 – ولو فرضت صورةٌ يتعارضُ فيها أمران متناقضان ولا سبيل إلى تقرير الجمع بينهما ، وليس أحدهما أولى بالتخيل والحسبان من الثاني ، فيسقط التكليفُ فيه أصلا ، مثل أن يجتمع إمكانُ تحريم شيءٍ وإيجابِه ، كما تكرر وتقرر مراراً فيما تقدم .
734 – والقولُ في الحج يقرُب من القول في غيره من العبادات .
735 – وسبيلُنا أن نذكر الآن باباً جامعاً ، يحوي أموراً كلية تكثُر فائدتها ، وتظهر عائدتُها ، في تقدير خلو الزمان ، ولا يستغني بنو زماننا عنها .
والله ولي الإعانة وبفضله وطوله .
باب
في الأمور الكلية والقضايا التكليفية
736 – فنقول : لا غَناءَ عن الإحاطة بالمكاسب ؛ فإن فيها قَوامُ الدين والدنيا . فنذكر فيها ما يليق بالأغراض الكلية ، ثم نذكر قواعد في المناكحات ، ثم نختتم الكلام بذكر فصول في الزواجر ، والإِيالات ، ونستفتح القولَ في المرتبة الرابعة إن شاء الله عز وجل .
737 – فأما القول في المكاسب فنقدم على مقصودنا في خلو الزمان عن تفاصيل الشريعة فصلاً نفيساً ، ونتخذه تأصيلاً لغرضنا وتأسيساً ، وهذا الفصل لا يوازيه في أحكام المعاملات فصلٌ ولا يضاهيه في الشرف أصل ، وقد حار في مضمونه عقولُ أرباب الألباب ، ولم يحُمْ على المدرك السديد في أَحدٌ من الأصحاب ، ولست أنتـقص أئمة الدين وعلماءِ المسلمين ولا أعزيهم إلى الفتور والقصور عن مسالك المتأخرين ، ولكن الأولين رضي الله عنهم ما دفعوا إلى مقصود هذا الفصل ، ولم تتغشهم هواجمُ المحن والفتن ، فكانوا في الزمان الأول لا يضعون المسائلَ قبل وقوعها ، فلم يتعرضوا للمباحث التي سأخوض فيها ، ولم يعتنوا بمعانيها . وها أنا أذكر نُتفا ، أعتدها تُحَفاً عند المدّرعين مدارعَ الورع وأَتخذها يداً عند طبقات الخلق جُمَع .
738 – فأَفرض أولاً حالةً وأُجري فيها مقاصدَ ، ثم أبتني عليها قواعدَ ، وأضبطها بروابطَ ومعاقد ، وأمهدُها أُصولاً تهدي إلى مراشد . فأقول :
لو فسدت المكاسب كلُّها ، وطبَّقَ طَبقَ الأرضِ الحرامُ في المطاعم والملابس وما تحويه الأيدي ـ وليس حكم زماننا ببعيد عن هذا ـ فلو اتفق ما وصفناه ، فلا سبيل إلى حمل الخلق ـ والحالة هذه ـ على الانكفاف عن الأقوات ، والتعرّي عن البزَّة .
739 – وأقرب مسالك تمتد إليها بصيرة الفطن في ذلك تلقي الأَمر من إباحة الميتات عند المخمصة والضرورات ، وقد قال الفقهاء : لا تحل الميتة إلا لمضطر ، يخاف على مهجته وحُشاشته ، لو لم يَسدُّ جوعته . ثم اضطربت مذاهبهم في أنه إذا اضطر المرءُ ، فإلى أي حد يستبيح من الميتة : فذهب ذاهبون إلى أنه يقتصر على سد رمقه ، ولا يتعداه ، وصار آخرون إلى أنه يسدُّ جوعته في الميتة .
ولو خضت في تحقيق ذلك ، لطال الباب بما لا يتعلق بمقصود الكتاب .
وإن هذا فصل يقلّ في الزمان من يحيط بحقيقته ، فمن أراده ، فليطلبه من تعليقات المعتمدين عنا ، إلى أن يُتيح الله لنا مجموعاً في مذهب الإمام الشافعي رحمه الله .
740 – ومقدارُ غرضنا من ذلك : أنه قد يظن ظان أن حكم الأنام إذا عمهم الحرامُ حكمُ المضطر في تعاطي الميتة ، وليس الأمر كذلك ؛ فإن الناس لو ارتقبوا فيما يطعمون أن ينتهوا إلى حالة الضرورة ، وفي الانتهاء إليها سقوطُ القوى وانتكاثُ المِرر ، وانتقاضُ البنية ، سيمّا إذا تكرر اعتيادُ المصير إلى هذه الغاية ، ففي ذلك انقطاعُ المحترفين عن حرفهم وصناعاتهم ، وفيه الإِفضاءُ إلى ارتفاع الزرع والحراثة ، وطرائقِ الاكتساب ، وإصلاح المعايش التي بها قوامُ الخلق قاطبةً ، وقصاراه هلاكُ الناس أجمعين ، ومنهم ذو النجدة والبأْس ، وحفظةِ الثغور من جنود المسلمين ، وإذا وهَوْا ووهنوا ، وضعفوا واستكانوا ، استجرأ الكفار ، وتخللوا ديار الإسلام ، وانقطع السلك ، وتبترَّ النظام .
741 – ونحن على اضطرار من عقولنا نعلم أن الشرع لم يَرِد بما يؤدي إلى بوار أهل الدنيا ، ثم يتبعُها اندراسُ الدين ، وإن شرَطْنا في حق آحادٍ من الناس في وقائعَ نادرةٍ أن ينتهوا إلى الضرورة ، فليس في اشتراط ذلك ما يجر فساداً في الأمور الكلية .
ثم إنّ ضعفَ الآحاد بطوارئَ نادرةٍ إن جرت أمراضاً وأعراضاً ، فالدنيا قائمةٌ على استقلالها بقوامها ورجالها ، ونحن مع بقاء الموادّ منها نرجو للمنكوبين أن يسلَمُوا ويَستبلِّوا عما بُلوا به .
742 – فالقول المجمل في ذلك إلى أن نفصِّله : أن الحرام إذا طبَّق الزمانَ وأهلَه ، ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلاً ، فلهم أن يأخذوا منه قدرَ الحاجة ، ولا تُشترط الضرورةُ التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس ، بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزل الضرورة ، في حق الواحد المضطر ، فإن الواحد المضطرّ لو صابر ضرورته ، ولم يتعاط الميتة ، لهلك . ولو صابر الناس حاجاتهم ، وتعدَّوها إلى الضرورة ، لهلك الناس قاطبة ، ففي تعدّي الكافةِ الحاجةَ من خوف الهلاك ، ما في تعدّي الضرورة في حق الآحاد .
فافهموا ترشدوا .
743 – بل لو هلك واحدٌ ، لم يؤدِّ هلاكُه إلى خرْم الأُمور الكلية ، الدنيوية والدينية ، ولو تعدّى الناسُ الحاجةَ ، لهلكوا بالمسلك الذي ذكرناه من عند آخرهم .
وما عندي أنه يخفى مدر ك الحق الآن بعد هذا البيان على مسترشد .
744 – فإذا تقرر قطعاً أن المرعيَّ الحاجةُ ، فالحاجةُ لفظةٌ مبهمة لا يضبط فيها قول ، والمقدر الذي باَن أن الضرورةَ وخوفَ الروح ليس مشروطاً فيما نحن فيه ، كما يُشترط في تفاصيل الشرع في حق الآحاد في إِباحة الميتة وطعامِ الغير ، وليس من الممكن أن نأتي بعبارةٍ عن الحاجة نضبطها ضبطَ التخصيص والتمييز ، حتى تتميز تميز المسميات والمتلقبات ، بذكر أسمائها وألقابها ، ولكنَّ أقصى الإمكانِ في ذلك من البيان تقريبٌ وحسنُ ترتيبٍ ، ينبه على الغرض ، فنقول :
745 – لسنا نعني بالحاجةِ تشوُّفَ الناس إلى الطعام ، وتشوقَها إليه ، فربَّ مشتهٍ لشيءٍ لا يضره الانكفافُ عنه ، فلا معتبر بالتشهي والتشوف ، فالمرعي إذاً دفعُ الضِّرارِ ، واستمرارُ الناس على ما يقيم قواهم ، وربما يستبان الشيءُ بذكر نقيضه .
ومما يُضطر محاولُ البيان إليه أنه قد يتمكن من التنصص على ما يبغيه بعبارةٍ رشيقة ، تُشعرُ بالحقيقة ، والحد الذي يميز المحدودَ عما عداه ، وربما لا يصادف عبارةً ناصة ، فتقتضي الحالة أن يقتطع عما يريدُ تمييزَه ما ليس منه ، نفياً وإثباتاً ، فلا يزال يَلقُط أطرافَ الكلام ويطويها حتى يُفضي بالتفصيل إلى الغرض المقصود .
وهذا سبيلنا فيما دُفعنا إليه، فقد ذكرنا الحاجةَ ، وهي مبهمةٌ فاقتطعنا من الإبهام التشوفَ والتشهيِّ المحضَ من غير فرضِ ضرارٍ من الانكفاف ، ومما نقطعه أن الانكفاف عن الطعام قد لا يستعقبُ ضعفاًً ووهناً حاجزاً عن التقلب في الحال ، ولكن إذا تكرر الصبرُ على ذلك الحد من الجوع ، أورث ضعفاً ، فلا نُكلف هذا الضربَ من الامتناع .
746 – ويتحصل من مجموع ما نَفينا وأثبتنا أن الناس يأخذون ما لو تركوه لتضرَّروا في الحال أو في المآل ، والضرارُ الذي ذكرناه في أدراج الكلام عَنَيْنا به ما يُتوقَّع منه فسادُ البنية ، أو ضعفٌ يصدُّ عن التصرف والتقلب في أُمور المعاش .
747 – فإن قيل : هلا جعلتم المعتبر في الفصل ما ينتفعُ به المتناول ؟
قلنا : هذه سؤال عَمٍ عن مسالك المراشد ، فإنا إن أقمنا الحاجةَ العامةَ في حق الناس كافَّة مقامَ الضرورة في حق الواحد في استباحة ما هو محرم عند فرض الاختيار ، فمن المحال أن يسوغ الازديادُ من الحرام ، انتفاعاً ، وترفُّهاً ، وتنعماً .
فهذا منتهى البيان في هذا الشأن .
748 – ويتصل الآن بذلك القولُ في أجناس المطعومات ، ثم إذا نجز ، اندفعنا في الملابس والمساكن ، وما في معانيها ، فنقول :
الأقوات بجملتها مندرجةٌ تحت الضبط المقدم ، ومن جملتها اللحوم .
749 – فإن قيل : هلاَّ اكتفى الناس بالخبز وما في معناه ، في ابتلائهم بملابسة الحرام ؟
قلنا : من أحاط بما أوضحناه فيما قدمنا ، هان عليه مدركُ الكلام في ذلك ، فإِنا اعتمدنا الضرارَ وتوقَعه ، ولا شك أن في انقطاع الناس عن اللحوم ضراراً عظيماً ، يؤدي إلى إنهاك الأنفس وحل القوى . ثم إذا تبين ذلك ، فلا تعيين فيما يتعاطاه الناسُ من هذه الفنون ، مع فرض القول في أن جميعَها محرم ٌ .
فليقع الوقوفُ على المنتهى الذي اعتبرناه في محاولة درءِ الضرار .
750 – وأما الأدوية والعقاقيرُ التي تستعمل ، فمنعُ استعمالها مع مسيس الحاجة إليها يجر ضراراً . وقد سبق القول في ذلك .
751 – فإن قيل : ما ترون في الفواكه التي ليست أقواتاً ولا أدوية ؟ ؟
752 – قلنا : ما من صنف منها إلا ويسدُّ مسدًّا ، فَلْيُعتَبر فيها درءُ الضرار بها ، فما يدرأ استعمالُه ضِرارا ، فهو ملتحق بالأجناس التي تقدَّم ذكرها .
فهذا منتهى القول في صنوف الأطعمة .
753 – فأَما الملابس ، فإنها تنقسمُ قسمين :
أحدهما ـ ما في استعماله درءُ الضرار ، فسبيل إباحته كسبيل الأطعمة .
والقسم الثاني ـ ما لا يدرأ ضِرارا ، ولكن يتعلق لُبسُه بستر ما يجب ستره ، أو برعاية المروءَة .
754 – فأما ستر العورة ، فهو ملتحق بما يدفعُ استعمالُه الضرارَ من المطاعم والملابس ، فإن تكليفَ الناس التعري عظيمُ الوقع ، وهو أوقع في النفوس من ضرر الجوع والضعف ، ووضوحُ هذا يُغني عن الإطناب فيه .
ونحن على قطعٍ نعلم أنه لا يليق بمحاسن الشريعة تكليفُ الرجال والنساءِ التعري مع إِمكان الستر .
755 – وأما ما يتعلق بالمروءَة من اللُّبس ، فأذكر قبله معتبراً منصوصاً عليه للأئمة رضي الله عنهم .
قالوا : من أفلس وأحاطت به الديونُ ، واقتضى رأيُ القاضي ضربَ حجرٍ عليه عند استدعاء غرمائه ، فإنا نُبقي له دستَ ثوبٍ ، ولا نتركه بإزارٍ يستر عورتَه .
فإذا أَبْقَوْا له إقامةً لمروءَته أثواباً ، وإن كان قضاءُ الديون الحالّة محتوماً ، فلا يبعد أن يسوغَ في شمول التحريم لُبسُ ما يتضمن تركُ لُبسه خَرْماً للمروءَة ، ثم ذلك يختلف باختلاف المناصب والمراتب .
ولا يتبين الغرض من هذا الفصل إلا بمزيد كشف .
756 – فنقول : ما من رجل إلا وهو يتردّد بين طورين في المحنة والمعافاة ، ثم بين طرفي حاليه أحوالٌ متوسطة ، ثم له في كل حالة من حالاته التي يلابسها اقتصادٌ ، وتوسطٌ ، واقتصارٌ على الأقل ، وتناهٍ في التحمل ، فإن اقتصر ، لم يعدّ خارماً لمنصبه ، وإن طلب النهاية ، لم يعدّ مسرفاً ، وإن اقتصر ، كان بين طرفي الإقلال والكمال ، ثم المحجور عليه المفلسُ ، يتركُ عليه دستُ ثوبٍ يليق بمنصبه ، ويكتفَى بأقل المنازل مع رعاية منصبه . فالوجه أن نقول : إذا عم التحريمُ ، اكتفى كلٌّ بما يُترك عليه من الثياب لو حجر عليه .
757 – فإن قيل : لو عَرِي رجلٌ ، ووجد ثوباً لغيره ليس معه مالكُه ، ودخل عليه وقتُ الصلاة ، فإنه يصلي عارياً ، ولا يلبس ما ليس له .
قلنا : لأن المرعيَّ في حق الآحادِ حقيقةُ الضرورة ، وقد ذكرنا أنه لا يُرعَى فيما يعمُّ الكافةَ الضرورةَ ، بل يكتفى بحاجةٍ ظاهرة .
والمقدارُ الذي ذكرناه من اللُّبس في حكم الحاجة الظاهرة ، والدليلُ عليه ما ذكرناه من حكم المفلس .
ثم هذا الذي ذكرته في لُبس المروءَة مع عموم التحريمِ ظاهرٌ في مسالك الظنون ، ولا يبلغُ القولُ فيه عندي مبلغَ القطع .
والذي قدمته في المطاعم مقطوعٌ به .
وكذلك المقدار الذي يتعلق بستر العورة مقطوعٌ به ؛ فإن الناس ينقطعون بسب التعرّي عن التقلّب والتصرف ، كما يمتنعون بضعف الأبدان ووهن الأركان عن المكاسب .
758 – وهذه جملٌ في المطاعم والملابس كاملةٌ أتينا فيها بالبدائع والآيات ، مقيّدةٌ بالحجج والبينات ، وإنما يعرِفُ قدرَها متعمقٌ في العلوم موفق .
759 – فأَما المساكنُ ، فإِني أَرى مسكنَ الرجل من أظهر ما تمس إليه حاجتُه ، والكِنُّ الذي يؤويه وعيلتَه وذريتَه ، مما لا غناء به عنه .
وهذا الفصل مفروض فيه إذا عم التحريم ، ولم يجد أهلُ الأصقاع والبقاع متحولا عن ديارهم إلى مواضع مباحة ، ولم يستمكنوا من إحياءِ موات وإنشاء مساكن ، سوى ما هم ساكنوها .
760 – فإن قيل : ما اتخذتموه معتبرَكم في الملابس المفلسُ المحجوزُ عليه ، ثم لا يُترك على المفلس مسكنُه .
قلنا : سببُ ذلك أنه في غالب الأمر نجد كِـنًّا بأجرة نَزْرة ، فليكتَفِ بذلك .
والذي دُفعنا إليه لا يؤثر هذا المعنى فيه ، فإن المجتنَب عند عموم التحريم ملابسة المحرمات ، وهذا المعنى يطَّرد في البقاع المستأجرة وغيرها . فإذاً تقرر التحاق المساكن بالحاجات ، وبطل النظر إلى المملوك والمستأجَر لعموم التحريم ، ولا طريق إلاَّ ما قدّمناه .
761 – ثم يتعين الاكتفاءُ بمقدار الحاجة ويحرم ما يتعلّق بالترفّه والتنعُّم .
فهذا مبلغٌ كافٍ فيما أردناه . فإِن شذّت عنّا صورٌ في الفصل المفروض لم نتعرّض لها ، ففيما مهدناه بيانُ ما تركناه .
762 – ومما يتعلق بتتمة البيان في ذلك أن جميع ما ذكرناه فيه إذا عمت المحرماتُ ، وانحسمت الطرقُ إلى الحلال ، فأما إذا تمكن الناس من تحصيل ما يحلّ ، فيتعيّن عليهم تركُ الحرام واحتمال الكَلّ في كسب ما يحلّ ، وهذا فيه إذا كان ما يتمكنون منه مُغْنياً كافياً دارئاً للضرورات ، سادًّا للحاجة .
فأما إذا كان لا يسدّ الحاجة العامة ، ولكنه يأخذ مأخذاً ويسد مسداً ، فيجبُ الاعتناءُ بتحصيله ، ثم بقية الحاجة تتدارك بما لا يحل ، على التفصيل المقدم .
763 – فإن قيل : ما ذكرتموه فيه إذا طَّبقت المحرماتُ طبقَ الأرض ، واستوعب الحرامُ طبقات الأنام . فما القول فيه إذا اختص ذلك بناحيةٍ من النواحي . ؟ ؟
قلنا : إن تمكن أهلها من الانتقال إلى مواضعَ ، يقتدرون فيها على تحصيل الحلال ، تعيّن ذلك .
764 – فإن تعذَّر ذلك عليهم ، وهم جمٌّ غفير ، وعدد كبير ولو اقتصروا على سدّ الرمَق ، وانتظروا انقضاءَ أوقات الضرورات ، لانقطعوا عن مطالبهم ، فالقول فيهم كالقول في الناس كافة ، فليأخذوا أقدار حاجاتهم ، كما فصلناها .
فهذا نهاية المطلب في دراية هذه القاعدة العظيمة .