حدث في ميانمار – 2007-10-01

الأنظمة الحاكمة في الدول العربية هي مقدمات الانهيار الحضاري والتداعي الاجتماعي، فقد قامت بتهميش الشعوب وإلقاء الكرة في ملعب الاستعمار والهيمنة الخارجية بينما هي تتسابق لعقد الصفقات من أجل استمرار وجودها وبطريقة المقايضة الوحشية واللا إنسانية.

ولما كانت تلك الأنظمة تصفوية ودموية لذا فإنها لم تقصر في حراثة المجتمع مستخدمة كل آليات القمع والصهر والإكراه، وقد نجحت إلى حد بعيد في تحطيم الحياة البشرية، وإيجاد مجتمعات مشوهة ومسكونة بشبح الرعب، ولكن عندما يفقد المجتمع آليات وجوده الفطرية فإنه يتحول إلى كتلة مشلولة، وهي بالضبط بداية الثقل على أكتاف كل نظام استبدادي، حيث يفقد القدرة على الاستمرار لأنه لم يعد هناك شيء للقمع، ويصاب بعمى ألوان تشخيصي تجعل مظالمه نوعاً من العادة التي لا يستطيع الرجوع عنها، وفي نفس الوقت تتخشب مبادئه وتصبح مدعاة للسخرية بل إنها تسير نحو فنائها كلما تردد ذكرها، بسبب ما تدخره في أعماقها وتحمله من ترميزات الفشل والانتهازية وفقدان الاتجاه.

تتحول كافة قوى المجتمع إلى أشياء خاضعة للمصادرة وإعادة التشكيل، وهذا كسب ظاهر وفي نفس الوقت مصرع وخيم، فإن انعدام المعارضة القوية يؤدي إلى السبات بحيث لا تكون القلة الباقية كافية للإقلاع، وبذا تُحرم النخبة المستبدة من إنذارات الاعتراض والتمرد فيزداد اطمئنانها إلى وضعها، وتمارس إدمان التخلف والهيمنة وتفقد قوى التحريك المعارضة التي تجعلها تتنبه إلى حتميات التداعي.

ولما كان شأن الوطن ومن فيه أغلى من السرور بتلك المقدمات السائقة نحو الانهيار رغم الشعور المر بالظلم، وحرصاً على التنبه لعل هناك من يسمع ببصيرته فيصحو لينجو نذكر ببعض الأمثلة المتواضعة جداً بين أمواج الفساد الهائلة التي يعلو مدها يوماً وراء آخر … وقد يكون هناك يوماً إنذار أخير وإقامة للحجة على الكبار النائمين الذين نريدهم أن يستيقظوا ويصلحوا أو يرحلوا …

إن الأمثلة بسيطة للغاية ولكنها تخزن في أعماقها نموذج التعالي على الناس وتنذر ببداية المصرع وبداية التفلت والعجز عن فهم سنن الفناء والتلاشي …

منذ شهر تقريباً نزل رجال أشداء من سيارتهم (في ساحة الجسر الأبيض بدمشق) وقام أحدهم مستخدماً عقب مسدسه! و أمام الناس جميعاً  بضرب شاب في مقتبل العمر حتى أدماه لأنه أبى أن يتجاوز إشارة المرور الحمراء، والتي ظن المتخلفون أن صفتهم الأمنية تسمح لهم بتجاوزها، لا بسبب قانوني بل عن طريق احتقار البشر وتجاوز القانون وإرهاب الناس والإساءة إلى الدولة بسبب العقلية البدائية والمتوحشة التي يحملونها! ولما تدخلت زوجة الشاب انهال عليها الأبطال فأشبعوها ضرباً ولكماً …

أما في مزرعة نصري على طريق جوبر (شرقي دمشق) فقد توفي طفل رضيع بسبب الغازات الخانقة التي استخدمت لإخراج المواطنين المساكين من بيوتهم بالقسر والإكراه، دون أن يؤمن لهم بديل سكني في بلد صارت أسعار المنازل فيه أغلى من شقق حي مانهاتن في نيويورك!

وفي كفر سوسة (جنوب غرب دمشق) هدمت مئات البيوت وقد وُعد أصحابها بتأمين سكن لهم  حيث تقوم بيوتٌ لم يمدد لها ماء ولا كهرباء أو في مكان آخر  بداية العام القادم! وعلى الوعد ياكمون …

إن من الفساد والظلم العريض أن يرمى الناس في الشوارع قبل تأمين بديل، وبديل مناسب، ولا يجوز أن يخلى مواطن من بيته بهذه الطريقة الهمجية التي يستطيع الإنسان  بسهولة  أن يعرف أثرها السلبي المخيف في قلوب الناس …

أما الباصات الصغيرة، فقد صار من المخجل النظر في جنباتها لأن أكثرها مهترئ  إلى درجة لا تصدق، والضرائب لم تدع لأصحابها أي وفر لإصلاحها، لأن المواطن صار يشعر أنه ممصوص الدم حتى الثمالة وأن هناك من  يسمح له بالأكل والشرب فقط كيلا يموت ويخرج اسمه في المحطات الفضائية … بأنه شهيد الجوع وضحية مصاصي الدماء، وذكر سائق أن الدولة تقيم من نفسها رباً للبشر وأنه قد فُرضت على السيارات ضريبة  تسمى ضريبة البيئة! وكأن من فرض هذه الضريبة هو الذي خلق الهواء! فيعز عليه فساده ، بينما القوانين المزاجية والظالمة والبدائية هي التي تفسد لا البيئة فقط بل تقتل النفوس والأرواح وتدمر الحيوان والنبات والبشر بل حتى الحجر.

أما الطامة الأكبر والصدمة الأخطر فهي حق الرد على الطيران الإسرائيلي، والذي سبب في الشارع من المشاعر ما لا أريد أن أذكره … ومرحى لأبطال ضرب المواطنين بأعقاب المسدسات، وقتل الأطفال الرضع بالغازات الخانقة، وتهديم بيوت الكادحين والفقراء …. فقد وفروا الرد على اختراقات الصهاينة وفتكوا بأبناء الشعب وأطفاله .. وأوسعوا شباب الأمة وبناتها لكماً ورفساً وضرباً.

الظلم يملأ المجتمع، ونداء إلى أصحاب النفوذ أن كفوا عن الظلم (لأجلكم لا لأجل المواطنين فقد قارب أن لا يكون هناك شيء يخسروه) واتركوا عنجهيتكم ، وكفاكم وصاية على البلاد والعباد ، فلقد قارب أن يطفح الكيل ولا تغرنكم قوتكم وإحكامكم قبضاتكم على أنفاس هذا الشعب الطيب المسكين ، فقد مضى قبلكم من كانوا أشد بأساً وقوة ، وثقوا أنكم مهما تفرعنتم فإنكم لن تخرقوا الأرض ولن تبلغوا الجبال طولاً ، وعندما ستقع الواقعة وتحل نهاية الظلم فأنتم أول من سيدفع الثمن، وهو أمر لا نريده لكم ، وأنتم تكتبون في كل يوم وثيقة بالصلح مع الشعب أو بالقطيعة معه، ونحن لا نريد لكم هذا المصير لأنكم إذا أوصلتموه إلى تلك النهاية فستكون نهايتكم نهاية أتباع شاه إيران وصدام وتشاوشيسكو … ولن ينجو ظالم منكم حتى من محاسبته على صفعة لوجه مواطن برئ.

رمضان شهر الرحمة وعند الظالمين شهر تخريب البيوت وسماع أنين المظلومين … والسكر فوق أشلاء وطن يستباح فلا يترك أبناؤه للدفاع عنه ولا يقوم بحقه الأوصياء!

إن سورية بلدنا ومن ليست له الشجاعة الكافية لحمايتها فليرحل مفسحاً الطريق للمخلصين من أبنائها الذين مازال فيهم بقية تنكأ العدو وتسر الصديق.

أما الطامة التي هي أعظم من كل ذلك فهي المنابر الخرساء التي تلهي الناس بل تخدرهم ، وذكر بعض الناس أن خطيب مسجد ….. قد طلب من الناس عدم الممانعة في الخروج من بيوتهم عند هدمها لأن البيوت البديلة مؤمنة! … فقلت : قد يعتاد السياسيون على الكذب بحكم السياسة ، ولكن عندما يكذب خطيب مسجد ويصبح حذاء لمصالح أصحاب النفوذ أو الأموال فمعنى ذلك أنه لا يحمل كثيراً و لا قليلاً  من الدين الذي أنزله الله والذي أساسه القيام بالعدل والسعي في مصالح الناس ونصرة الضعيف!! ترى لماذا لم يطالب ذلك الخطيب بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين بمناسبة رمضان المبارك وقد صدرت أحكام بالعفو عن بعض المجرمين الجنائيين، ولماذا لم يطالب ذلك الخطيب وأمثاله بمحاكمة قتلة الطفل الرضيع في مزرعة نصري من أول السلسلة إلى آخرها، ولماذا لم يطالب بأن ترد سورية الصمود والتصدي على العدوان الإسرائيلي اللئيم، ولماذا لا يطالب بتخفيف الضرائب التي تنهك المواطنين وكثير منها ليس له مستند قانوني ولماذا لم يطالب بمحاكمة علنية لكل مسؤول كبير أو صغير أوقف قانوناً أو أعاق حقاً أو استغل سلطته لمصالحه الخاصة أو أخذ رشوة أو ….

لماذا لا يطالب الخطيب بإلغاء حكم الحزب الواحد، وإطلاق الحريات العامة …

لماذا لا يطالب بمحاسبة المسؤولين عن الاستهتار باللغة العربية والسماح للافتات الأجنبية أن تملأ كل ميدان ومحل ومتجر. ولماذا لا يسأل لماذا يحترق في كل عام جزء كبير من غابات بلادنا الغالية.

لماذا لم يطالب بحصر  أموال المسؤولين جميعاً ثم مصادرة الحرام منها وتوزيعها على الفقراء والكادحين والمعدمين الذين يزداد عددهم يوماً بعد يوم!

لماذا لا يطالب بأن يخرج بعض حملة الخطاب الديني من كهف التخلف والخرافة، فيكفوا عن تحديث الناس في رمضان وغير رمضان بالمبالغات التي لا تثبت في نقل ولا تقر في عقل ، مما كتب عنه ابن حزم قديماً في رسالته الباهرة قبل أن تستولي الخرافة على العقول.

لم أتوقع من أحد أعضاء مجلس الشعب أن يأتي فيضطجع أمام جرافة تريد تخريب البيوت احتجاجاً حتى يعطى أصحاب البيوت بيوتاً بديلة ومناسبة ,( واشدد أن تكون البدائل مناسبة أي تعادل في قيمتها البيت المدمر) … ولكنني ألوم كل صاحب عمامة ليس له هم إلا الولائم فهو يسمن والإسلام ينحف على قولة العلامة محمد الغزالي، وألوم كل صاحب عمامة اشتغل بالطعام في رمضان ومئات الألوف تزداد أحوالهم المعيشية بؤساً وفقراً، وألوم كل صاحب عمامة لم يجد في نفسه ذرة من شجاعة الصبية الأميركية (راشيل كوري) وقد عز عليها أن تدمر الجرافات الإسرائيلية بيوت الآمنين فكانت درعاً بشرياً لم ينسحب وسكبت دمها أمام بيوت الفلسطينيين … (وإذا كان قد غُفر لامرأة بشربة ماء سقتها لكلب ، فيارب اغفر لكل عبد قام يدفع الظلم عن العباد المستضعفين)..

يذكر المفكر نادر الطراز علي شريعتي في كتابه : العودة إلى الذات ص 69 ما خلاصته : أن بطرس الأكبر مصلح روسية كان يدرس في هولندا ، ويقارن بين عمرانها ورقيها والخراب في روسية، وكان يفكر دائماً بعمل ينهض ببلاده! وفجأة اكتشف أن السبب الرئيس في نبض الحياة والعمل والحماس والثروة والتقدم هو أن الرجال الهولنديين رجال منظمون وذو شخصية ومتحضرون، لأنهم يحلقون لحاهم بالموسى كل صباح وللنظافة عندهم أهمية كبرى! وعلى العكس فإن السبب الرئيس في اضطراب الشعب الروسي وتأخره هو تلك اللحى الكثة الطويلة المتدلية إلى الصرة والتي وصلت عند البعض إلى أسفل سافلين … وعاد بطرس الأكبر ليصدر أوامره باجتثاث اللحى من جذورها، وبدأ الجنود المسلحون بالمقصات يطاردون الملتحين الفارين في الأزقة، واشتعلت نيران (ثورة اللحى) بين مختلف الطبقات الاجتماعية ولقيت مقاومة هائلة (بالمناسبة فقد كان الهجوم موجهاً ضد الموظفين الصغار والعمال والفقراء وليس إلى الأغنياء والقادة وأصحاب الأملاك ورجال الدين …) ثم انتصرت عقلية القيصر العظيم الحضارية كي تلحق روسية بفلك الدول الكبرى، واستطاع بطرس الأكبر تغيير سحنة المجتمع الظاهرة … ولكن لم يتغير في الحقيقة شيء …

العقلية الاستبدادية سواء كان صاحبها سياسياً أم رجل دين هو حامل مقص من مقصات بطرس الأكبر … يتاجر بالشعارات ويعيش الأوهام …

ليس رمضان شهر القصص ولا الولائم ولا المجاملات … ليكن رمضان شهر التحرر من الظلم والانقلاب على الفساد في الأرض … ليكن رمضان شهر الشهادة في سبيل الحق ودفع الأذى … وليكن رمضان شهر الصوت الداوي في وجه الظالمين … وشهر الخروج من شهوات الجسد … وشهوات النفس ..

شهر التوبة من الجبن والذل والضعف والخور … شهر التوبة من الانسحاب والخنوع … شهر إعلان العبودية لله ، وأن  في أعيننا وقلوبنا وأرواحنا كل ما فوق التراب تراب.

وليكن شهر رمضان لأهل العلم وأصحاب المنابر الصادقين شهر إحياء لما مات في الأمة من الحقوق.

أما من يتسترون بالدين اليوم فيظهرون مثل الطواويس  ويعملون أحذية في أرجل الظالمين فلهم إن أرادوا العبرة سلف في دجالي الدين في البلقان إذ انهارت الشيوعية وانهارت معها مؤسساتها الأمنية فينشر كتاب بالوثائق عن أسماء بعض من كانوا يضعون العمائم وهم عملاء لفروع الأمن ، فيذكر اسم كل واحد منهم واسم الجهة الذي يرجع إليها ومن هو المسؤول عنه، وماذا قدم من خدمات والأجور التي أخذها والتكاليف التي طلبت منه … ويا لها من فضيحة كانت لها عواقب مرعبة .. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى …

أما أهل الصلاح والتقوى فيتوارثون منهج ابن هرمز فيما يرويه عنه مالك بن أنس يقول: كنت آتي ابن هرمز، فيأمر الجارية فتغلق الباب، وترخي الستر، ثم يذكر أول هذه الأمة، ويذكر العدل، ثم يبكي حتى تخضل لحيته.

قال: ثم خرج مع محمد ابن عبد الله (النفس الزكية) رضي الله عنه، فقال: والله مافيك قتال! قال: قد علمتُ ولكن يراني الجاهل فيقتدي بي .( مقاتل الطالبيين 246 نقلاً عن الطبري 9/229).

هذا نموذج سامق من قمم نصرة الحق … أما من صارت تلك النماذج بعيدة عنه فأحوال الدنيا الحاضرة تذكره ، وعار أن يقوم الرهبان البوذيون في ميانمار (بورما سابقاً)  بالتحرك ضد الظلم والخروج بعشرات الألوف في الشوارع وتقديم القرابين البشرية وقوفاً في وجه الظلم الذي يحيق بالشعب،  ثم تجد بعض المنتسبين إلى دوحة الإسلام العظيم يطوفون بين المغانم والأسلاب وفتات موائد الأغنياء وأصحاب النفوذ.

أما أنتم : أيها المسلم الشجاع وأيتها الأخت المباركة فتذكروا أنه في رمضان فتحت مكة وجرت غزوة بدر الكبرى وانتصر المثنى على الفرس ، وفيه بني المسجد النبوي وفيه كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، وفيه كان بدء الوحي إلى النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم

لقد اعتاد الناس على كتمان آلامهم في أعماقهم لشدة القمع وحرام اليوم أن يتم هذا، فلنرفع أصواتنا نصرة لكل مظلوم ومضطهد، ولتشتبك أيدينا وقلوبنا ونحن نقف في وجه الفساد، ولنمرن أنفسنا على أن لا نهاب سياط الجلادين ولا سجونهم، ولنملأ الأرض بسير المحرومين.

لا يكن أحدكم أليفاً للظلم ولا صاحباً، وإن ظلم أحد فانشروا قصة ظلمه في كل سبيل وأعلوا الصوت وبثوا أخبار المظلومين في كل سبيل …

ليس رمضان شهر الطعام والموائد والفكر الخرافي…. بل شهر النصر على الظالمين.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

 

كتبه أحمد معاذ الخطيب الحسني

الكلمة الشهرية : رمضان المبارك 1428هـ / 1 تشرين الأول 2007م

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.