أحاول أن أثني القلم كيلا يبوح بكل ماعنده، مؤثراً السلامة بين كل أنواع الأوصياء الذين نصبوا أنفسهم آلهة فوق رقابنا سواء كانوا حكاماً ضج من ظلمهم أهل الأرض وسخط عليهم أهل السماء، أم من بعض المنتسبين إلى الجسم الديني المتآكل الذين ما بلي الدين بل الحياة بمصيبة إلا ولهم القدح المعلى فيها، أو كانوا من فتات الطرفين ممن فقههم الأوحد السؤال عن دم الذباب وأمام أعينهم ينسكب دم آل البيت الأطهار.
ثم أذكر قولة الإمام أحمد رحمه الله: “إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق!”فيصر القلم بعدها على نقش بعض الحروف مهما كانت معانيها مرة.
لا حرية في الإسلام فهو قائم على العبودية، عبارة اهترأت لكثرة ما لاكتها أفواه المدافعين الأغبياء عن الإسلام، ممن سحبوا العبودية لله فصيروها عبودية لغير الله ، وصار الحديث عن الحريات العامة قرين الكفر في عقولهم الكليلة!
إن المؤمن مادام عبداً خالصاً لله فكيف يشرك في عبوديته تلك أحداً، وكيف يكون عبداً لله ثم لا يكون في أوفر حرية مع من سواه!
لم تكن إشكالية الحرية آخر المصائب بل صدمني مؤخراً ما ذكره طالب علم من أن من الخطأ ذكر عبارة (الأبرياء في الأرض) وقال أن بعض العلماء أخبروه أن هذا كلام باطل وأنه لا يوجد في الشريعة الإسلامية أبرياء!! وإنما يوجد: لا تقتلوا شيخاً ولا طفلاً ولا امرأة؛ أما ما عدا ذلك فمباح الدم!!
حاولت أن أمسك نفسي أمام هذا الافتراء على الله والإجرام بحق البشرية والتطاول على كتاب الله (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُون).[المائدة:32] وقد ساق القرطبي عن ابن عباس أن “من قتل نفساً واحدة وانتهك حرمتها، فهو مثل مَن قتل الناس جميعاً، ومن ترك قتل نفسٍ واحدة وصان حرمتها واستحياها خوفاً من الله، فهو كمن أحيا الناس جميعاً).
ومذهب الكوفيين وما نقل عن الثوري من حرمة دماء كافة الناس (مؤمنهم وغير مؤمنهم) أولى بالإعمال من مذاهب لم يخطر في بال أئمتها ما يسوقه جهلة أتباعهم اليوم ممن يقولون للناس عملياً: دمائكم مهدورة والمجتمع الإسلامي لا أمان فيه ولا ضمان لأحد والكل مهدورالدم.
لفهم بعض آراء الفقهاء القدامى رحمهم الله (والتي نجزم بانتهاء فعاليتها الاجتهادية اليوم قناعة بمذهب شيخنا الغزالي [المعاصر] رحمه الله) نضرب مثالاً بما يلي: تستخدم الدول في بعض الأحيان مايسمى بحالة الطوارئ لفرض النظام أو مواجهة ظروف شديدة تحتاج إلى حزم ، وبعدها تستقر الأمور وترجع الحياة إلى طبيعتها وتلغى الأحكام المؤقتة، وهذا حال العديد من الأحكام حتى الشرعية، ومنها إعطاء الأولوية في حفظ الدماء لعنصر الأمة وجوهرها، وبعد ذلك فلا بد أن تكون هناك مساواة وعدل في الدماء وغير الدماء، وإلا فلماذا نطالب برفع قوانين الطوارئ، وهناك من يسحب علينا من أصحاب العمائم ماهو أمر وأقسى!
الأنظمة القمعية وحدها تستمر بها أحكام الطوارئ عقوداً وتتغير الدنيا والأنظمة تزداد تصلباً (وهو ما يقودها للفناء في النهاية) وتقفز الحكومات فوق دساتيرها وتبدأ الأمة بالتداعي وحرفيو قوانين الطوارئ يسومون الأمة الرعب والفزع ويزجونها في المضايق وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وخصوصاً إذا ترافق ذلك مع سوء الإدارة ونهب الأموال وفشو الظلم وعدم تكافؤ الفرص، وتنفيس لعقد نفسية وتاريخية.
لقد ذكرنا مراراً أن هناك ثلاث تحديات أمام القافلة الإسلامية اليوم، وهي الهيمنة الخارجية، والاستبداد السياسي، والنخر الداخلي، وطفنا حول الموضوع مراراً، وسنقتحم جزءاً منه الآن. ولكن علينا الانتباه الشديد إلى أنه من الخطورة بمكان الانهماك بإحدى تلك المسائل الثلاث دون الفطنة لأخواتها لأننا مهما أصلحنا فإن الفيروسات الثلاثية القاتلة متضافرة فيما بينها (وكل منها تحته آلاف الفيروسات الفرعية) وستتسلل من النوافذ الباقية لتخرب كل جهد نبذله، لذا لا بد من العمل على المحاور الثلاثة معاً، وليتقاسم العاملون أجزاءه ، ولكن عليهم جميعاً أن يكونوا في غاية الفطنة له. ولما أنهكني (فيروس إلكتروني) زار حاسبي أحضرت العديد من البرامج للتخلص منه ولكن هيهات، ثم أخبرني المختص أنه قد تمكن في الأعماق وأن حاسبي نفسه أصبح خير وطن له وهو الذي يعينه على إعادة التشكل والحركة والتدمير، وليس هناك من حل إلا إعادة هيكلة الجهاز كله من أوله إلى آخره.
هذا هو حال الأمة اليوم فنحن نتحدث عن الهيمنة الخارجية (الفيروس الثالث) ونتعجب كيف يمكن احتلال أفغانستان والعراق وفلسطين، وكيف تقاد لبنان وتساق السودان، وكيف تمتص الثروات وتصادر القرارات ونحن أمة المليار ومائتي مليون مسلم! أصحاب الحضارة والسيادة وألوية النصر المعقودة أبداً (كلمات عاطفية رنانة لا تغتر بها إن لم تعرف أسباب النصر والخذلان) .. ولكن بالله عليكم كيف يمكن الحد منها وأغلب حكام المسلمين (الفيروس الثاني) خونة حتى العظم، ونحن أمة سيطرت عليها العواطف وتفتنها العبارات الطنانة، ونقبل كل حاكم ونصفق له بغض النظر عن الطريقة التي أتى بها.
إن سبب قبولنا للحكام الظالمين هو العامل الأخطر وهو النخر الداخلي (الفيروس الأول) وأنا أزعم أنه شيء صنعه جسم ديني ممتد هيأ الأمة وأعاد هيكلتها بحيث أنه لم يعد أمامها مخرج وكلما حاولت الخروج عادت لما خرجت منه (كالحمار يدور حول الرحى والذي ارتحل منه هو الذي ارتحل إليه ، حسب عبارة ابن عطاء الله).
في العديد من الدول الأفريقية ظاهرة طريفة وهي أنه في يوم الاستقلال تجد الحاكم وقد اصطف بجانبه العديد من الحكام السابقين، وقد يكون بينهم خلافات وزج أحدهم الآخر في سجنه لكنهم في النهاية أبعد منا بكثير عن الاستبداد، وعندهم حظ من الشورى أوسع مما في أكثر بلادنا، أما حادثة استدعاء هرقل لأبي سفيان فتحمل عبرة ملفتة، فإن هرقل عندما فكر بالدخول في الإسلام نخر بطارقته، فنزل عند رأيهم وقال أنه كان يختبرهم، وهذا يدل على أن الاستبداد عندهم رغم ظلمهم أقل مما عندنا وأن للشورى حظاً ليس بالقليل في حكمهم، ويعزز هذا ماجاء من تعقيب في حديث المستورد القرشي الوارد في صحيح مسلم من أن الروم أمنع الناس من ظلم الملوك.
لوكان هناك حاكم عربي فكر في أن يتبع دين الشيطان لما أخذ رأي أحد، ولو أنه جن في الليل فقرر الحرب في الصباح مفنياً البلاد والعباد لما جرؤ أحد على اعتراضه، ولو أنه جعل السلام الخيار الاستراتيجي لصفق قطيع الأنعام للحكمة البالغة والنظر الدقيق فالأمر لايحتاج إلى أخذ رأي عاقل ولا مشاورة حكيم فإن القائد الفذ له من صفات الألوهية مايغنيه عن كل عون! وستجد مع كل قرار للحاكم ألف صاحب عمامة دجال يسابق الناس في التصفيق والدبك والصياح.
لست ساخطاً على الحكام بمقدار ما أرثي لهم، ولكن المسؤولية الأولى تقع على أكتاف أصحاب العمائم، وفساد اليوم ليس وليد الحاضر بل هو عفن تاريخي متأصل صنع عمائم خلال مئات السنين وكان هو المدرسة الأولى في تأصيل الذل في النفوس.
النبي الهادي r كان يكثر من مشاورة أصحابه، ولكن بعدها زرع فينا زرعاً أن الشورى لا تلزم حاكماً وأن الأمة قطيع يسوقه الحاكم كما يريد، وصار الاستبداد والذل شيئاً يتمرغ به بعض طلاب العلم بحيث لم يبق فيهم بقية لإنكار منكر ولا إقامة معروف.
وقد يفتن حاكم بمنصبه فيعتقد المسكين أو تعتقد زبانيته الفانية أنه باق إلى الأبد، قبل أن تضمه حفرة الموت وتقتلعه من مكانه اقتلاعاً.
والحكم إلى الأبد قريب إلى نفوس الحكام، ولكن قيادة الدعوة إلى الأبد أخطر بكثير، وقد مر ببعض الحركات الإسلامية في القرن الماضي من موجع النكبات ما لايحصيه كتاب، وكان أحد أزماتها الأساسية أنها لم تقرر خطها بالضبط، فهي نظرياً تدعو إلى التربية ولكنها عملياً تحمل في بذورها مكونات عنفية لم تجد الشجاعة للتنصل منها إلا منذ فترات قريبة!
على الحركة الدعوية أن تقرر بصراحة إن كانت فصيلاً عسكرياً أم مدرسة تربوية، وبهذا تضمن في أن لا تجر إلى خط لم تتبناه بسبب مكونات متناقضة ظاهرها الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وباطنها: في ظل السيف تربينا …. ولو فطنت بالأمس إلى مافطنت إليه من قريب لنجت من مصارع قاتلة.
والآن عندنا أزمة داخلية (وفيروس في الأعماق) وعلى الحركات الإسلامية أن تكون شجاعة في اتخاذ قرار حوله!
هل الإمارة إلى الأبد أم يجب حدها بمدة أو خطوط واضحة! قد لا يشعر البعض بأزمة في الموضوع ولكن لو سابقنا الزمان قليلاً لرأينا أن كل حركة (مهما حفتها قرائن الشورى العامة) فهي في النهاية كما يقول الأستاذ الراشد لابد منصبغة بلون زعمائها، ووضع مدد لهم يعيد العافية إلى أي جماعة ويبعد عنها التأثيرات الخاصة القاتلة ويصحح لها مساراً يمنع منه الآن هيبة القيادة وما يذكر من وحدة الصف والظروف الصعبة (وهي مفردات وياللأسف يتشارك فيها الإسلاميون مع جلاديهم من الحكام الظالمين) … وعملياً فقوانين الطوارئ موجودة في كلا الطرفين.
أظن أن الصواب هو في تحديد مدة قابلة للتكرار مرة واحدة، ثم يصبح القادة السابقون مرشدين روحيين وملهمين فكريين ويكون لهم من الاحترام والتقدير أضعاف ما كان لهم في زمن القيادة الفعلية، وينصرفون إلى جمع تجاربهم ليقدموها للقادة الجدد بريئة من السلبيات، محيطة بالظروف، فيأخذها الجدد ويضعون معها روحهم وهمتهم فيكون هناك تجديد ونهوض وانبعاث … وإلا فكيف ننادي بإزالة حالة الطوارئ ونحن أول من يعيشها.
إن انتقال السلطة بشكل سلمي وهادئ خلال تاريخنا الدعوي محدود جداً … وفي عصرنا الحاضر فإن هناك تجارب معدودة (ضمن ما أعلم) ومن أشهرها ترك رئيس الجمهورية السودانية عبد الرحمن سوار الذهب السلطة لمن بعده بعدما استقرت الأمور (سوار الذهب داعية من طراز رفيع وهو أمين منظمة إسلامية عالمية للدعوة إلى الله) … واليوم تقديم الطيب أردوغان رفيق دربه عبد الله غول ليكون أول رئيس لتركية يحمل صفة إسلامية واضحة! وكفى أردوغان فضيلة أنه لم يتشوف ليكون رئيساً للجمهورية، فكلنا لبنات في درب هذا الدين مهما كان موقعنا.
انتشرت بيننا مقولات لابد من حد لآثارها السلبية ومنها قول بعضهم: آخر شهوة تخرج من قلوب الصديقين حب الرئاسة! غفرانك اللهم فما الحكمة أننا من أكثر الأمم عشقاً للرئاسة!
وسار بين عامة المريدين فكر التمحور حول الشخص لا الفكرة، والزعيم الملهم لا المبدأ:
وليس على الله بمستغرب أن يجمع العالم في واحد
ومما أسره لي مدير مؤسسة شرعية أنه لا يريد فلاناً من التلاميذ ويفضل عليه نموذجاً آخر من المريدين ممن يقبلون يده أمام الناس حتى يكون لأهل العلم هيبتهم.
وأذكر أن طالباً فصل من معهد شرعي ظلماً وحاول البعض تلافي الأمر فأصر أصحاب القرار لأنه صدر ولا رجعة فيه حفاظاً على هيبة المعهد، ونطق مربٍ فاضل فقال لهم: وأين هيبة الإسلام؟
ومنذ سنوات كنت أزور أخاً لي في الله فقال أن عند زوجته استفهاماً، وذلك أن الشيخة التي تحضر الأخت عندها دروس الدين ربما أتت وهي معكرة المزاج فتوزع الاتهامات على الحاضرات من بنات المسلمين، (ولديها مهارة تمثيل تفوق أعظم الممثلين) وتزعم أن المجلس ثقيل! ولا بد أن فلانة من الحاضرات قد عملت أثقالاً من الذنوب حتى تعكر قلب المرشدة الصالحة!!
إذا لم يكن الضلال في مثل هذا فأين يكون، وهل بداية الذل إلا تلك الأبواب من أبواب الشياطين … وقلت للأخت: أرجو أن تكون لديك الشجاعة لتقولي لأمثال تلك المدعية للولاية والكرامات: إذا كنت تحسين بضيق الصدر فانظري إلى ما تعملين أنت من الذنوب، ولعل من أعظمها اعتقادك العصمة واحتقارك لعمل الناس.
إضافة إلى تلك الانحرافات فقد فشا في صفوف الأمة حديث لايصح الاحتجاج به! وهو: “صلوا وراء كل بر ٍّ وفاجر” وهو حديث منقطع! نعم صلى بعض سلف الأمة وراء الفجار حرصاً على الجماعة، أما أن يكون أمراً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغير مسلم ولا ثابت، وطرقه كلها واهية جداً كما ذكر الحافظ، بل قال أبو أحمد الحاكم: هذا حديث منكر! فانظر كيف صار في الأمة ديناً فتح الباب للفجار لا في إمامة الصلاة بل في إمامة الأمة كلها! وأقوى منه رغم أنه ضعيف حديث الدارقطني: “اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدُكم فيما بينكم وبين ربكم”، والحديث الأقوى ما أخرجه ابن ماجة عن ابن عباس أن ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً ومنهم “رجلاً أمَّ قوماً وهم له كارهون” قال العراقي: وإسناده حسن، وقد وردت فيه روايات “يقوي بعضها بعضاً فينتهض بها على تحريم أن يكون الرجل إماماً لقوم يكرهونه” كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار 3/177. كما يقول الشوكاني أنه ثبت عن علي رضي الله عنه مرفوعاً : “لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه” 3/163.
يتعاون الفكر الخرافي مع الفكر الاستبدادي بشكل ممنهج ومدروس لتخدير العباد، ويحرص الظالمون على إيجاج مرجعيات دينية تشغل الناس بالصغائر والتوافه وتغض نظرها بل لا تجرؤ على طرح مسألة تمس بالفراعين، ومن يقرأ بعض ماورد من الصفات الكفرية التي نسبت إلى بعض العلماء قادة الأمة (وهم منها براء) يعلم أثرها الإذلالي المخيف في نفوس الرعاع، وقد قرأت أشعاراً كفرية يزعم صاحبها بحق نفسه أنه:
كل الناس بالبيت طائف وأنا البيت طائف بخيامي
ثم يقول إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنما خمدت النيران حوله! لما بصق عليها ذلك الولي العظيم.
وبدهي أن تلك الشركيات تنتقل بالإيحاء إلى القطعان الغافلة من البشر الذين لم يكفهم مصابهم بالظالمين فابتلوا بسدنة وكهنة قلبوا عالي الدين أسفله، وبدل أن يعلموهم أن النبي الهادي قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، صار هناك تركيز على أن الشيخ إن لم يعلم الغيب الصراح فهو قريب من علمه! وأخبرني رجل عالم أثق بدينه وصلاحه أن أول سيره كان في مسجد أحد الأحياء مع جماعة من الدجالين قبل أن ينجيه الله، وكان الشيخ يبث جهازه الأمني في المساء قريب منتصف الليل في الطرقات … وربما صادف أحد التلاميذ أحد أفراد الجهاز فيظن لبراءة قلبه أن الله قد أكرمه برؤية احد الأحباب في الله والذي كان يبادره قائلاً: خير إن شاء الله، أين كنت؟ وربما أفضى التلميذ ببعض المعلومات عن مشكلة أو حادثة جعلته يذهب هنا أو هناك أو يتأخر .. ويمضيان وقد غمر التلميذ عبق الحب في الله وأما الآخر فيجمع كل مالديه ثم يتصل بالشيخ بطريقة لا بد أن أجهزة المخابرات ستحسد الشيوخ عليها!
وبعد درس صلاة الفجر يقول الشيخ الدجال: البعض لا يعرفون أن الشيخ قد فتح الله عليه، وهو يعلم مافي قلوب تلامذته وإلا لم يكن شيخ صدق، والواحد يتأخر عن إدراك الجماعة الأولى ليس لعذر مقبول، بل لأن ابن خالته جاء من السفر، وبقي عنده حتى الثانية عشرة ليلاً، وبعد العشاء جرت أحاديث شيء منها مفيد وأكثرها من كلام أهل الغفلة! ..ويالطيف .. لولا كرامة الشيخ عند الله لاحترق التلميذ بغفلته!
ويبهت التلميذ ويزداد اعتقاده في ولاية الشيخ، ويصبح ناشراً لها بين إخوانه وجهاز الأمن يزود الشيخ بالمعلومات .. إلى أن يرحم الله المريد فيفتضح أمر الشيخ عنده كما حصل بمحدثي .. ولكن هناك كثيرين خرجوا من الالتزام كله وأصبح المسجد وأهل العلم أبغض شيء إليهم.
إذا كان الشيخ يعلم الغيب، والشيخ كله قابل للبس في أيدي أو أرجل الأجهزة الأمنية الحقيقية! فقل لي أين صار المريد؟
حقيقة أعجبني يوماً ما ذكره الطبيب الشاعر والكاتب المفكر ياسر العيتي بما خلاصته أن أولئك الغشاشين المنافقين سوف يكونون أول المنقلبين على الحكام الذين ربوهم، فإنهم زرعوا فيهم قلة الأمانة مع الله فكيف سيكونون معهم.
إن هذا التشبث الخطير بالمواقع هو المدد العملي في النفوس المعوجة لإيجاد منافذ كلما ضاقت السبل على الحكام، وهو من الممهدات لهم في نفوس الناس لقبول الذل والإجحاف بالحقوق ونهب خيرات الأمة، ومصادرة قراراتها، بل القبول بقطع أعناق وأرزاق أبنائها تجاوباً مع المخدرات التي يوزعها الدجالون تحت راية الدين، وليس من نهاية لذلك النفق في النهاية إلا الفناء للجميع!
أمن أجل أن الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم تحدد مدة لهما للحكم صار مقبولاً أن يبقى الحاكم إلى الأبد! بل بلغ السفه بالبعض أن ولى أكثر من ولي عهد من بعده كي لا يضيع الكرسي من أيدي ذريته لا بارك الله بها ولا بأمثالها! وولي في بعض الفترات أطفال لا يعرف واحدهم أن ينظف نفسه! فكيف ينهض بأمة!!
قل لي عن حاكم كان يقف فرد من رعيته فيقول له: ياعمر لا سمع لك ولا طاعة! وذلك من أجل ثوب أطول من ثوبه ظن ظناً أن عمر قد استأثر به من دون الناس!
ألم تتعلم الأمة خلال أكثر من ألف عام أن الذين طال بهم الحكم وكانوا من الصالحين قلة تعد على الأصابع، وأن المقابل السلبي سبب أعظم التداعيات في هذه الأمة، وأن انتقال السلطة السياسية بشكل سلمي ومدروس هو عين الصواب وهو مدخل للاستقرار والازدهار، وأن الواحدية في كل شيء عقيمة لا تنجب ومليئة بالعقد فلا ينتفع بها! وأخطرها واحدية الحكم والقرار!
ألم تتعلم الأمة أن جمع كل السلطات في يد شخص أو أسرة أو حزب هو نوع من ادعاء الألوهية! وأن تقرير مدة معينة للحكم يرحل الحاكم بعدها إلى بيته معززاً مكرماً ليس فيه إشكال شرعي كبير ولاصغير، وأن الأمة حينما يتكرر فيها الزعماء والقادة ويتبادلون الأدوار برضى الناس واتفاقهم فإن في ذلك أكبر ضمان لحصول العدل ومنع الظلم والانفراد بالرأي، وهو أكبر عامل في تجنيب البلاد الكوارث كلها والأخطار، ويبقى العديد من الفعاليات الحية تحت تصرف الأمة.
الهيمنة الخارجية مهما طالت فليس لها قرار، وهاهي أنياب الوحش الأميركي تتكسر في العراق وأفغانستان، والاستبداد السياسي فضح أمره وبدأ طوفان الحرية يعلو مده ليطيح بكل ظلاَّمٍ للعباد … وليست المشكلة الأساسية في هذين الفيروسين على خطورتهما .. ابحثوا عن الفيروس الأول المتواري بخبث في الأعماق، فمن دون إيقافه ستعود آلاف الفيروسات القاتلة لتزرع الضعف وتخنق الأمة وتخرب دروب نهضتها من جديد.
أحمد معاذ الخطيب الحسني
كلمة شهر شعبان المعظم 1428هـ الموافق 1 أيلول 2007م