صعود العدالة والتنمية … والذهاب إلى جنون ستان – 2007-08-04

هذه المقالة كتبتها بمناسبة انتصار حزب العدالة والتنمية في تركية، ولكن أردت أن تبدأ بمقدمة موقظة حارقة، والبداية من المستشفى المنصوري الكبير: والذي “أنشأه في مصر الملك المنصور سيف الدين قلاوون عام 683هـ /1284م ،وكان آية من آيات الدنيا في التنظيم والترتيب ، جعل الدخول إليه والانتفاع منه مباحا لجميع الناس من ذكر وأنثى وحر وعبد وملك ورعية ، وجعل لمن يخرج منه من المرضى عند برئه كسوة ، ومن مات جُهِّزَ وكُفِّنَ ودُفِن ؛ وعين فيه الأطباء من مختلف فروع الطب ، كما وظف له الفراشين والخَدمة لخدمة المرضى ، وإصلاح أماكنهم وتنظيفها وغسل ثيابهم وخدمتهم في الحمام ، بحيث كان لكل مريض شخصان يقومان بخدمته ، وجعل لكل مريض سريراً وفرشاً كاملاً ، وأفرد لكل طائفة من المرضى أماكن تختص بهم ، ورتب فيه مكانا يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء دروس الطب على الطلبة ؛ ومن أروع ما فيه أن الاستفادة منه ليست مقصورة على من يقيم فيه من المرضى ، بل رتب لمن يطلب وهو في منزله ما يحتاج إليه من الأشربة والأغذية والأدوية … وأدى هذا المستشفى عمله الإنساني الجليل حتى أخبرَ بعض أطباء العيون الذين عملوا فيه ؛ أنه كان يعالج فيه كل يوم من المرضى الداخلين إليه والناقهين الخارجين أربعة آلاف نفس ، ولا يخرج منه كل من يبرأ من مرض حتى يعطى كسوة للباسه ، ودراهم لنفقاته حتى لايضطر للالتجاء إلى العمل الشاق فور خروجه. ومن أروع مافيه أيضا النص في وقفيته على أن يقدم طعام كل مريض بزبدية خاصة به من غير أن يستعملها مريض آخر ، ووجوب تغطيتها وإيصالها إلى المريض بهذا الشكل ، ومن أروع ما فيه أيضا ؛ أن المؤرقين فيه من المرضى كانوا يعزلون في قاعة منفردة يشنفون فيها آذانهم بسماع ألحان الموسيقى الشجية ، أو يتسلون باستماع القصص يلقيها عليهم القصاص ، وكان الناقهون منهم تمثل أمامهم الروايات المضحكة ، ومشاهد من الرقص البلدي [الذي يتعارفه أهل القرى] ، وكان المؤذنون في المسجد الملاصق له يؤذنون في السحر قبل ميعاد الفجر بساعتين ، وينشدون الأناشيد بأصوات ندية[1] تخفيفا لآلام المرضى الذين يضجرهم السهر وطول الوقت”[2].
ثم اندثرت الحضارة في النفوس، وتحول ذلك الصرح العظيم بسبب الجهل المرعب إلى حال لاتُصدق ، فقد زار البيمارستان أحد الباحثين في أواسط القرن التاسع عشر فقال عنه : “ولقد تخرب ولم يبق منه سوى تربة مؤسسة يأتي إليها المرضى يزورون مخلفات السلطان! بقصد الشفاء: فيمسون عمامته لشفاء أوجاع الرأس، وقفطانه للشفاء من الحميات المتقطعة ، وتجتمع الشابات من النساء والأمهات ومعهن أولادهن فتطلب الواحدة منهن في القبلة من الله أن يرزقها الله ولداً ذكراً!…. فتأتي النساء أمام القبلة فينزعن اللباس عن أنفسهن … ويكررن القفز مراراً حتى ينهكهن التعب ….وكان كثير من النسوة يأتي بالأطفال الصغار حتى قبل أن تقوى على المشي أجسامهم ويطلب فك عقدة ألسنتهم! وكانت النساء تأتي بالأطفال إلى حجر أسود عريض …. وتعصر ليمونة خضراء فوق الحجر … حتى إذا تلون حامض الليمون باللون الوردي الناشئ من الحجر الأسود الحديدي ، تحمل الأطفال على لحسه فتتألم الأطفال من حموضة الليمون ، وتصيح صارخة بأصواتها، فتسر الأم لسماعها صياح طفلها وكلما علا صوته من شدة الحموضة أيقنت الأم بتمام المعجزة وشفاء ابنها وانفكاك عقدة لسانه. وللنساء اعتقاد خاص في عمودي القبلة وجزأيهما السفليين وهم مغطيان بطبقة تجعل منظرهما سمجاً بسبب عصارة الليمون”[3].
بل ازداد الأمر سوءاً ففي عام 1856م “كان البيمارستان المنصوري قد بلغ الغاية من الاضمحلال وهجره المرضى ، ولم يبق به سوى المجانين …”[4].
حال البيمارستان المنصوري لا يختلف عن حالنا الراهن قيد شعرة، فالضياع والجهل والهبوط الحضاري على كل صعيد سمة صارت علامة فارقة وواضحة في سيرنا ..
لا أريد أن أدخل في نقد الأنظمة السياسية العربية فإن التخلف الكامن في أعماقها لا يعادله مماثل في الجهل والركود بل والاندثار الحضاري، ودمي شديد الفوران على الظالمين، ولكنني لا أرى أنهم هم سبب الخراب الرئيس بل هم تداعياته المنطقية، وهمنا الأول هو إخراج الجنون من بيتنا الداخلي.
ذكر أحد الشيوخ أمام تلامذته أن النهج الذي سار به حزب العدالة والتنمية في تركية هو نهج ممتاز ويجب اتباعه ، من دون مشاكل ولا صدامات [ربما يظن الشيخ نفسه النسخة العربية من أردوغان] ، ولم يتحمل أحد التلاميذ النبهاء فقال للشيخ: هل تعلمون ياسيدي العناء الذي مر به الإخوة الأتراك وهم يزحفون ببطئ ، بدءاً من بديع الزمان النورسي الذي أخفي حتى قبره لكيلا يذكره الناس ثم عدنان مندريس الذي دفع الثمن من دمه فأعدم الرجل لهويته الإسلامية ثم توركت أوزال ذا الوجه العلماني والقلب الإسلامي، ثم الجهود الهائلة لأب الحركة الإسلامية في تركية نجم الدين أربكان ثم تلميذه المنشق عنه الطيب أردوغان .. وكم مرة دخلوا السجون وكم مرة منعوا من حقوقهم ، وماهي معاناتهم في طريقهم الوعر والشاق!.
لقد قفز الشيخ فوق كل المقدمات وأوهم أن النتائج شيء تلتقطه الجماعات الكسولة مثلما تلتقط الطيور طعامها، وبذلك يتوهم المريدون الأنقياء أن الخط الذيأن
أن الخط الذي يسيرون به هو خط ممتاز بمجرد ثناء الشيخ على حركة لا يعرف عنها نقيراً ولا قطميراً، ومازلت عند بعض الهموم أسلي نفسي بما ذكره أحد المشايخ عندما قابل شخصية مرجعية كبرى وصلى وراءها ففتن بثقب صغير في (كلسات) الإمام وأخذ يتحدث أنه هو شخصياً قد تحدث معه! ورأى زهده العظيم من خلال (كلساته) المثقوبة! غاضاً النظر عن المنهج كله (صواباً أو خطأً) وماهي المقدمات التي تصنعه. وقد يتألم أو يبتسم البعض عند قراءته عن الجنون بل الخرافة التي سرت في البيمارستان المنصوري، ولكن الأكثر فجيعة وألماً هو مايحاوله الشيخ المفتون من تمرير العالم كله من ثقب (كلسات) الإمام.
وقد سمعت أن هناك لجنة (وهي تحقق أهدافاً مباشرة للنظام) مؤلفة من علماء السلطة مع تلوينها ببعض الشخصيات البريئة الغافلة قد وضعت لمنع الفوضى في الجسم الديني ، ولم توص اللجنة بفصل يد الدولة عن الدين، ولم توص بالمطالبة بالحريات العامة! حتى يذهب الجفاء ويبقى ما ينفع الناس، ولم توص بضرورة الارتقاء بالتعليم حتى يتكلم جميع الفرقاء بعلم فيصبح اللقاء قريباً، ولم توص بزيادة التواصل مع الأجسام الإسلامية وخاصة مكتومة الأنفاس والمقموعة لاستلال مافي صدور أبنائها من احتقان! ولم توص اللجنة بإلغاء أحكام الطوارئ أو القوانين التي تحكم على الإنسان بالإعدام أو السجن المديد لمجرد أفكار يحملها، بل تتآمر اللجنة لوضع صيغة يمنع فيها أن يفتى في العقيدة بغير المذهب الأشعري والماتريدي وفي الفقه بغير المذاهب الأربعة، وظاهر الأمر ضبط منهجي علمي وباطنه ضبط أمني وسياسي وتخلف حضاري يهون معه ماصار إليه البيمارستان المنصوري من جهل وجنون.
يمكن لمن يريد الرد على هذا التفكير المشوش أن يستعين بكلام الإمام الغزالي رحمه الله في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (وهو إمام الأشاعرة بلا نزاع رحمه الله)، حيث يقول: ص17 : وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم ، ومعبودهم سلاطينهم، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم، وشريعتهم رعوناتهم، وإرادتهم جاههم وشهواتهم، وعبادتهم خدمتهم أغنيائهم …. ” ، ويقول في العبارة الثانية ص 19 : “فإن زعم أن حد الكفر ما يخالف مذهب الأشعري ، أو مذهب المعتزلي أو مذهب الحنبلي أو غيرهم ، فاعلم أنه غر بليد قد قيده التقليد، فهو أعمى من العميان، فلا تضيع بإصلاحه الزمان …”.
أتذكر دائماً ماقالته بعض الفرق الإباضية من أنه لا حاجة للحاكم أصلاً إذا قام العدل! وأعتقد أن هذا الرأي الفقهي سوف يكون خطيراً على الظالمين، ولكن ربما يكون من الضروري أن ينتشر في جهل ستان فقد يساهم في كف يد الأنظمة (الديكتاتورية) ، ونشر روح الشورى.
وكيلا تكون المقالة مملة فرأي الإباضية (مع الاعتذار من لجنة خنق المسلمين) هو أقرب إلى الفطرة ونبض الشارع، والذي يتناقل في إحدى طرفه اللاذعة أن الحكام العرب قد ركبوا طائرة في نزهة جماعية بعد أحد مؤتمرات القمم ، ومرت الطائرة فوق تلك البلاد التي كرمها الله فمسخها الحكام وأحالوها أشلاء ومزارع خاصة وسجوناً وقبوراً ، ويظهر أن الإنسانية تحركت قليلاً في نفس أحدهم فقال: ماهذا البؤس المرعب ، سأرمي مليون دينار وسيفرح بها الألوف من الناس، وقال زميله بعد أن أدهشه الخراب المريع: وأنا سأرمي عشرة ملايين وسيسر بها عشرات الألوف من أبناء شعوبنا المسكينة، وقال الثالث : وأنا سأرمي خمسين مليوناً وأظن أن هناك مئات الآلاف سيدعون لي … وأخيراً ضجر الطيار من مزايداتهم فالتفت إليهم قائلاً: وأنا يخطر في بالي أن أرميكم جميعاً وأصبح من كبار الأولياء عند كل الشعوب العربية التي ستدعو لي كل صباح ومساء وحتى يوم الدين!
هل من المعقول بعد كل السجون والزنازين ومصادرة الحريات والضبط لأنفاس الناس أن يصبح الضبط على مستوى الفتوى الفقهية، وبطريقة لاتؤذي إلا أهل العلم لأن الجهال لايهمهم من أين يكتالون ويتفقهون، وصار هناك قنوات تنشر السحر والشعوذة والدجل بشكل مباشر تماماً ولم تتحرك هيئة فقهية من هيئات الأنظمة لتحجيمها أو بيان خطرها! وماذا علي لو أنني متمسك بشدة برأي مفتي مصر العلامة الدكتور محمد علي جمعة الذي يحرم ختان البنات بشكل قطعي فهل سيأتي من يحاسبني لأنني أخالف بعض ماورد في بعض المذاهب! وهل ستغلق المحاكم الشرعية في مصر وسورية والسعودية لأنها تعتمد أن فتوى الطلاق بالثلاث لا يقع إلا واحدة على رأي ابن تيمية، وهو ما لاتعتمده المذاهب السائرة بين الناس!
بلاد الجنون والقهر من بوابات أملها الجسم الديني الواعي والراشد ، وليس المتخلف والقافز فوق مقدمات الأمور، والتجربة الإسلامية التركية تجربة رائعة وعظيمة ، وما تقدمه من معطيات عميق ويجب الوقوف عنده بتفكر واستفادة بالغة.
يجب أن نعترف بأن هناك ملاحظات فكرية وسياسية وعقدية تحيط بالتجربة، وبلغ من ضيق صدر أحد كبار القادة الإسلاميين الأتراك أن قال في اجتماع حاشد أن من يريد أن يشتري تذكرة إلى جهنم فليصوت لحزب العدالة والتنمية! واتهمهم آخرون بأنهم ينفذون سياسة أميركا وأنهم عملاء للغرب، وكل ذلك مما يعوزه الدليل وتنفيه السوابق التاريخية للحزب وتأباه السيرة الذاتية لرجال العدالة والتنمية، وبمقابله فقد قدم ذلك الحزب معطيات إيجابية أعتقد أنها تغفر مايراه البعض من سلبيات! ومن أهم ما قدمته حركة العدالة والتنمية مايلي:
أعادت تمحور الأمة التركية حول هويتها الأصيلة وجعلت الروح الإسلامية تتحرك من جديدة لا بشكلها الحماسي بل بنوع من التمكن والتفوق الذي أيقظ الوعي بنظافة الخط الإسلامي وضرورته الحياتية.
بعثت العدالة والتنمية الأمل في أن الإسلام قادر على المقابلة الحضارية على أي صعيد، وفي مقابل ماتعيشه الأمة من مآسٍ، فقد تحرك الأمل في العالم الإسلامي كله ببعث إسلامي راشد.
استطاعت العدالة والتنمية الكسب الحضاري، واستطاعت أن تلم شعث الناس رغم التباينات الدينية والطائفية، فصوت لها أغلب الأرمن (خصوم الأتراك التقليديون) والسريان والطائفة العلوية التركية، وقسم كبير من إخواننا الأكراد، بل كثيرون من الخصوم، وهذا يبرز الخلل الذي تسير فيه بعض الحركات الإسلامية التي لا تحصد إلا العداء للخط الإسلامي ثم للإسلام كله في النهاية. (كان العلامة الدكتور مصطفى السباعي يمر في حملته الانتخابية على الكنائس! ويحصل على نسب مرتفعة من الأصوات من حي باب توما والقصاع المسيحي، فقد كانت رؤيته الإسلامية واسعة، وكان فهمه أن الإسلام يسع الناس كلهم متطابقاً مع حركته الفعلية، بينما أغلبنا يسلم بأمور نظرية ثم ينقضها عملياً).
أوضحت حركة العدالة أن استيعاب الناس إنما يحتاج إلى التدرج في الطرح[5] والصبر عليهم ومعذرتهم في النفور منا بسبب كثرة أغلاطنا وضعفنا عن حمل الإسلام بشكل مناسب ، وأن الناس سيعودون إلينا متى صبرنا عليهم (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) وبالتالي:
فإن التمكن هو الذي يشد الناس، وقد حصر الكثير من الإسلاميين الالتزام في مظاهر ضيقة حجمت أو خنقت الإسلام، والصواب أن التمكن في أي صعيد يعطي قوة هي التي تعيد مد الإسلام الثقافي ثم الاجتماعي ليرجع الناس إلى الالتزام الشخصي والإيماني كحالة وعي دون إكراه، أي أننا نحاول أن نحصل على الكليات من خلال بناء الجزئيات التي لاتنتهي والصواب أن بناء الكليات مباشرة هو الضمان لكل أنواع الالتزام والداعية الأكبر لها في نفوس المجتمعات.
(إن مانلاحظه من استيقاظ الهوية الإسلامية ليس مرده بحال إلى تلك الصور الضعيفة وأحياناً المزرية من الالتزام الشكلي أو المظاهري الذي تعج به الساحة، بل سببه تفاعل مكونات عميقة يستغلها بعض أصحاب المواقع الدينية ويستفيدون منها ويعيشون عليها ومنهم من يساهم في وأدها عبر تحويلها إلى سطحيات أو زعيق أو تمجيد شخصي أو عمل صدامي أو انتحاري، ولا ننسى دور السلطة في أي بلد من تلقفها للصحوة وتدجينها وتعويقها عن طريق المشايخ المرتبطين بها ممن بوأتهم المنابر ومنعت منها كل ذي فكر رشيد، ورغم ذلك فإن الاستيقاظ العميق يسير مثل الماء ضمن الخواص الشعرية للأمة ، وعندما يصل إلى مستوى معين فلا يمكن دفعه بحال).
العمل للإسلام عمل تراكمي طويل، وأحب العمل إلى الله ماداوم عليه صاحبه، والطفرات ليست بحق سواء كانت في البيولوجيا أو علم الاجتماع، وإن غياب النظر الدقيق أدى إلى أننا ننتظر الطفرات، ونغفل عن التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية العميقة، ومادام الهدف هو الإصلاح فقد يتطلب ذلك عملاً يمتد عدة أجيال، و كلما كان المطلوب أعظم كلما كانت الخطة أطول والبناء أبطأ، ولكنه أعمق أثراً ويبقى في الأرض.
قدمت حركة العدالة نموذجاً راقياً في التعاطي مع السلطة، يشكل إحراجاً لمعظم الحركات الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية، فإن فكرة الإمام أو الزعيم أو القائد أو الشيخ الذي يستمر إلى الأبد هي بالحقيقة فكرة خرافية (بل أعتقد أنها من الوثنية السياسية) وإن ترشيح عبد الله غول للرئاسة بدل الطيب أردوغان زعيم الحزب يدل على إدراك عميق لضرورة إبعاد الحركة عن الشخصانية والذاتية. (من كان يعبد محمداً فإن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
يسودنا نحن الإسلاميين انطباع عميق أن كل الحراك السياسي للعدالة والتنمية هدفه هو إصلاح الأمة وليس الحصول على السلطة، أي أن الحكم هو وسيلة وليست هدفاً، ويجب أن نعطي غير الإسلاميين هذا الانطباع الذي يجب أن يكون فعلياً تساهم الحركة بشكل جيد في بلورته (نفضل أن يصل الإيمان إلى أصحاب الكراسي على أن يصل أصحاب الإيمان إلى الكراسي). وأننا مهما كان حراكنا السياسي فعندنا الاستعداد للتراجع لصالح أي جهة تقدم خيراً وإصلاحاً حقيقياً للأمة لأن هدفنا هو الإصلاح لا السلطة.
إن الروح الإسلامية الكامنة في أعماق العدالة والتنمية جعلت الناس توقن أن الخط الإسلامي النظيف هو الضمان لعدم استشراء لفساد الإداري والاقتصادي، وأن أصحاب المنطلقات الإسلامية هم الأقدر على حماية المجتمعات والدول من الآفات الاقتصادية والأخلاقية التي تنخر كالسوس في المجتمعات.
قدم رجال العدالة والتنمية شخصيات وتوجهات ورؤى تثبت للناس أن الإسلاميين قادرون على قيادة الدول وإدارة دفة الإقتصاد والتعاطي مع الوقائع السياسية الكبرى والتعامل الأقرب إلى الرشاد حتى في وجه المحاور الدولية الضاغطة والخانقة.
تصرفت حركة العدالة والتنمية بطريقة راقية مع المنافسين الإسلاميين فأعرضت عن الاشتباك والتطاحن مع إخوة الدرب وقادته وبناته (حزب السعادة) وفضلت توجيه الجهد إلى العمل المثمر، والسبق من خلال العمل لا الحزبيات الضيقة.
أعطت الحركة مداً قوياً للعمل الميداني السلمي والتدرجي مقابل المناهج الصدامية والتكفيرية والعسكرية التي تحاول بعض الجهات المخلصة أو الماكرة فرضها على الساحة مما أعتقد أنه سيقود العالم الإسلامي إلى الانهيار والدخول في نفق مظلم لن تخرج منه إلا أشلاء، وهذا الأمر شيء آخر لا علاقة له بالجهاد والمقاومة لقوات الاحتلال في أي بلد إسلامي مما نعتقد فرضيته ووجوبه (مما شرحناه عدة مرات سابقاً).
إن الريادة لها ضريبة دائماً ، وهو أمر لايستوعبه الكثيرون منا فقد أعطانا الوعاظ خلال مئات السنين صورة أشبه بالخيال وصرنا بعيدين عن إدراك المقدمات التي تصنع النتائج. فصرنا نسارع إلى إحراق أي جهد لايتطابق مع مفاهيمنا الضيقة النظرية أو نترك الساحة بالكلية فنغرق في تفكير سطحي أو خرافي يبعدنا عن الحركة الفعالة الإيجابية لقرون طويلة، وهناك الكثير من المعطيات التي لانملك نحن الإسلاميون خبرة عملية بها والموازنات بين المصالح والمفاسد واختيار أهون الشرين أمر لايحصل إلا من خلال التعاطي الميداني والفعلي وقد صار بيد الحركة الإسلامية في تركية ساحة عمل فعلية تمد سائر العاملين للإسلام بالخبرات وتوفر عليهم الجهود الريادية، ومن الإنصاف القول أن هناك هامشاً من الأخطاء سيحصل ولا بد من الصبر عليه وتحمله من أجل الانتقال على مستوى أفضل وتمكن أعمق.
قدمت العدالة والتنمية رسالة حضارية إسلامية خلاصتها أن الإسلاميين رغم الظلم الذي حاق بهم وخصوصاً من المؤسسات الأمنية والعسكرية فإنهم أحرص على مصلحة البلاد والعباد منها وهم لن يبادلوها العداء (رغم ظلمها ولن يستهلكوا طاقتهم وطاقتها في الجزئيات) بل مستمرون في دربهم الواضح الذي سيضطر الأمنيين والعسكريين في النهاية إلى قبولهم ثم التراجع أمامهم لصالح هوية الأمة ومكوناتها العميقة. (مايزال جنرالات تركيا العلمانيون يمنعون الحجاب حتى في كليات الشريعة الرسمية، وضيق أفقهم جعلهم ينالون دوماً من رجال العدالة والتنمية لأن نساءهم محجبات).
إن ثقل الإسلام كهوية ودين ومبدأ في الحياة لا تصنعه أعمال طائشة هنا أو هناك، بل لابد له من حاضن سياسي واقتصادي واجتماعي، أي لابد له من كيان علينا جميعاً أن نتعاضد في تشييده، وعندها فستتعامل القوى الكبرى مع الإسلام ضمن حجمه الحقيقي وستتغير الكثير من المعطيات (العديد من الجماعات والحكومات الإسلامية تساهم بتقزيم الإسلام وتحجيمه وخنقه ومنعه من أخذ فعاليته ودوره، ولكن أول الغيث قطر ثم ينهمر ،وقد يكون حزب العدالة والتنمية أول هذا القَطر).
منذ أيام أتاني أخ غريب ذكر لي أنه دخل إلى الجامع الأموي وصادف دخوله قدوم رجل وامرأة غربيين، وطلب الحارس من المرأة ارتداء العباءة الخاصة بالنساء فارتدتها ثم جلست عند أحد الأعمدة الحجرية وصارت تصغي باهتمام بالغ إلى درس العلامة الدكتور محمد عجاج الخطيب، وأتاها أحد قيمي المسجد فطلب منها الانتقال إلى مكان خاص بالنساء فرفضت، وألح فرفضت وقام بينهما جدال لعدة دقائق انتهت بتركها المكان قرفاً واشمئزازاً من الطريقة المهينة التي عوملت بها، وتدخل الغريب قائلاً : المكان واسع ولم تضيق على أحد وهي محتشمة وتريد الاستماع والصوت في مكان النساء لا يمكن سماعه جيداً فما المشكلة؟ وقام غيور يهز رأسه بأسف وقال: يابني! أليس عاراً عليك أن تقبل بجلوس امرأة كافرة على المكان الذي تسجد عليه جبهة المؤمن بالله!!!!
أردت البكاء فاختنق البكاء في أعماقي، ثم ضحكت بألم فقد صرنا جميعاً على حافة الهاوية، وتذكرت بيتاً للإمام السرهندي في المكتوبات الربانية ولا أدري لمن هو:
لاتحسبوا أن رقصي بينكم طرباً فالطير يرقص مذبوحاً من الألم
ولأن أغلبنا بنفس العقلية، الذين فوق والذين تحت والمتدين والفلتان فقد مر بعض الشباب(… ) !! بالشارع الذي أسكن فيه، وصاروا يسألون الجيران عني ثم علمت بعد أسابيع فقلت معاتباً أحد الجيران : أهكذا يامنظوم! يسأل عني الشباب الطيبون!! ولا تخبرني؟ فقال خجلاً: في الحقيقة : استحييت من إخبارك بسبب السؤال الذي كانوا يطرحونه؟ فقلت: لاحياء في الدين؟ أخبرني بالله عماذا كانوا يسألون؟ وفوجئت من السؤال الخطير ، لأن عدة أشخاص أتوا يسألون عن طول كلابية الشيخ (الذي هو العبد الفقير كاتب هذه السطور). (مع الاعتذار من الشباب الذين أتوا فقد نسيت أنا نفسي طول [كلابياتي البيضاء] لأنني لم أرتدها منذ زمن طويل لكثرة الغبار والأوساخ، وتدهور البيئة المريع).
في بعض البلاد، ومنها تركية تتحرك الحضارة وفي بلاد أخرى تقبر ويدفن معها كل صاحب مدنية وحضارة، ومن لجنة خنق المسلمين وحتى الجامع الأموي الحزين وانتهاء بالمهتمين بطول الكلابيات لن ننتقل بالبيمارستان الذي نعيش فيه إلى الخراب وحسب بل إلى الجنون المطبق، ولن يكتفي العالم بأن يقول عن بلادنا أنها جهل ستان بل ستصبح جنون ستان بكل استحقاق وتقدير.
عديدون جداً من الإخوة والأخوات يسألون: ماذا نفعل للإسلام؟ وهو أمر يحتاج إلى موضوع خاص ، ولعلي أتناوله في مقال قادم، (راجع أيضاً في الأرشيف من كلمات الشهر مقالاً بعنوان: دعوة إلى المشروع الخاص) ولكن باختصار أقول الآن: سدوا الثغرات التي بين أيديكم بشكل جيد واعتمدوا التواصل في الأفكار، ولا تخافوا مما تطرحون، وافتحوا صدوركم لكل الناس ولا تعادوا أحداً بل عادوا الظلم كمفهوم، وكونوا شجعاناً فيما تعتقدونه من الحق، ولا تتأثروا بكلام الضعفاء ، ولا تفكروا بالعاطفة بل بالعقل، ولا تتحركوا بالذهن البارد بل بالعاطفة الوقادة، وضعف الأمة ليس مبرراً لضعف الفرد، ولتكن طهارة القلب واللسان حاضرة عندكم أبداً … ولا تستقلوا أبداً عملاً صغيراً تقومون به بل ثمروه وأنضجوه.
وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل… وأول الغيث قطر ثم ينهمر ….

كتبه : أحمد معاذ الخطيب الحسني
الكلمة الشهرية لموقع دربنا www.darbuna.com
رجب 1428هـ/ آب 2007م

* للاطلاع على أخبار حزب العدالة والتنمية انظر موقع أخبار العالم وهو بعدة لغات ومنها العربية:
http//akhbaralaalam.net
– وكأمر عملي يقوم به الإخوة والأخوات فآمل منهم توزيع هذه المقالة على من حولهم ومناقشة أفكارها فيما بينهم، وشكر الله لكم جميعاً

[1] – يسمى هذا المؤذن: مؤنس الغرباء أو مؤنس المرضى ، وكان في مدينة فاس وقف للمؤذنين الذين يحيون الليل ، وكل منهم يسبح الله نحو ساعة بصوته الرخيم، انظر:
– شوقي أبو خلبل ، الحضارة العربية الإسلامية وموجز عن الحضارات السابقة ، دار الفكر المعاصرـ بيروت / دار الفكرـ دمشق ، (1415/1994) ، 337
[2] – مصطفى السباعي ، من روائع حضارتنا ، ، ط5 ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، 1407هـ/1987ص 144ـ145.
[3] – بتصرف من : تاريخ البيمارستانات في الإسلام للدكتور أحمد عيسى، وهو من مطبوعات جمعية التمدن الإسلامي بدمشق ، ذو القعدة 1357هـ ، وقدم له عضو إدارة جمعية التمدن الأستاذ سعيد الأفغاني رحمه الله. وانظر التفاصيل المدهشة عن البيمارستان المنصوري من الصفحة 83- 171.
[4]- البيمارستانات في الإسلام، أحمد عيسى، 110.
[5] – أغلب الحركات الإسلامية تلقن أفرادها أن التدرج هو أمر مرحلي انتهى في بداية الدعوة، وهم يخلطون بين الحكم الشرعي المستقر وبين طريقة حمله إلى الناس، ثم تقدير المصالح والمفاسد الشرعية في أولويات طرحه، وانظر حول التدرج فتاوى ابن تيمية المجلد 20 ص 56-58.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.