مقتطفات من غياث الأمم للجويني – 4

فصل
في الأواني

685 – الدباغُ مختلف فيه على ما يذكره نقلةُ المذاهب ، وفيه أخبارٌ متعارضة ، وأصحها وأظهرها يتضمن أن الدباغ يفيدُ طهارة جلودِ الميتات بعد الحكم بنجاستها بالموت .

686 – ولكن لو نسيت المذاهب والأصح منها ، فالذي يقتضيه الأصل أن ما نجسه الموت لا يطهر بنَشْف فضول وتطييب رائحة ، والدباغ الآن عند القائل به في حكم رخصة غير معقولة المعنى ، وهو مختلفٌ فيه ، فإذا درس السبيلُ الموصلُ إليه ، فالمكلفون يتعبدون بلزوم موجَب الأصل . وهذا يطرد في جميع الرخص على ما سيأتي القول فيه مشروحاً .
687 – وأما الشعور والأوبار والعظام مما اختُلِفَ في نجاستها ، فإذا انحسم مسلكُ نقل المذاهب فيها ، والأدلةِ على الصحيح منها التحق القولُ منها بما يشك في نجاسته ، وقد تقدم أن كلَّ ما يشك في نجاسته فكم الأصل الأخذُ بطهارته .

فصل
في الأحداث الموجبة للوضوء والغسل

688 – موجِباتُ الوضوءِ والغسلِ محدودةٌ ، والذي لا ينقُضُ الوضوءَ والغسلَ لا نهاية له ، كما سبق نظيرُه في النجاسات .
وموجَبُ ما ذكرناه في زمان دروس التفاصيل أمران :
أحدهما – أن كلَّ ما أشكل على أهل هذا الزمان كونُه حدثاً ، فلهم أن يأخذوا باستصحاب الطهارة مع طريانه ، بناءً على القاعدة في أن من استيقن الطهارة ، وشك في الحدث ، لم يقض بانتقاض الطهارة المستيقنة أوَّلا بسبب طريان الحدث .
فهذا أحد ما أردناه.
689 – والثاني أن بني الزمان لو تذكروا أن مسألةً في الأحداث فيها خلاف ، ولم يذكر أحدٌ مذهب إمامه الذي يعتقد قدوتَه وأسوتَه ، فيجوز الأخذ باستبقاء الطهارة جرياً على القاعدة الممهدة .

فصل
في الغسل والوضوء

690 – أصل طهارة الحدث غيرُ معقولة المعنى ، وكذلك آلتُها ومحلها ، وانقسامُها إلى المغسول والممسوح ، فليس لها في الشرع قاعدة معنوية نعتمِدها ، وإنما مرجعها إلى التوقيف .
691 – وقد اشتملت آيةُ الوضوء على بيانٍ بالغٍ فيه ، فليتخذها أهلُ الزمان مرجعَهم ، فهي أصلُ الباب ، وسيتلى القرآن إلى فجر القيامة ، ثم الذي يقتضي الزمانُ الخالي من الفقهاءِ وناقلي المذاهب أن النية لا تجب على المتوضئِ ، إذ ليس لها ذكرٌ في الكتاب ، ولم يُنقل الوضوء نقلَ القُرب التي شرعت مقصودةً للتقرب إلى الله تعالى ، بل نُقلت نقلَ الذرائع والمقدِّمات التي يقصدُ بها غيرُها ، فليس في نقله المطلَقِ على الاستفاضة والتواتر إشعارٌ بالنية ، وليس في كتاب الله ما يتضمنها .
692 – وكذلك القول في التيمم ، فإن قيل : التيمم هو القصدُ فهلاّ أشعر لفظُه بالنية ؟ . فقلنا : هو بمعنى القصد ، ولكنه مربوط بالصعيد فيجب ، من مقتضاه القصدُ إلى التراب .
فهذا حكم النية في الزمان العاري عن ذكر الأدلة على اشتراط النية .
693 – ويجب على أهل الزمان بحكم الآية غسلُ ما ينطلق عليه اسم الوجه ، وليس في الآية ما يوجب غسلَ المرفقين فإنه قال : إلى المرافق ، فلئن لم يقتض إلى تحديداً وموجَبُه إخراج الحد عن المحدود ، فإنها لا تقتضي جمعاً وضماً ، أَيضاً ، فليس فيها إقتضاءُ غسلِ المِرفقين كما ذهب إليه زُفَر .
694 – وكلُّ ما لا يعقل معناه ، وأصلُه التوقيف ، فالرجوع فيه إلى لفظ الشارع ، فما اقتضى اللفظ وجوبَه التُزِم ، وما لا يقتضي اللفظ وجوبَه ، فلا وجوب فيه ، لأن التكاليف إنما تثبت إذا تحقق ورود أمرٍ إلى المكلَّف ، فإن قيل : هلاَّ وجب الأخذُ بالأَحوط ؟ قلنا : لم يتأَسس في قواعد الشرع أن ما شُكَّ في وجوبه وجب الأخذُ بوجوبه . نعم ما ذكره السائل مأخذ الاحتياط المندوب إليه في الشريعة .
695 – فأما غسلُ الرجلين ، فأَخذُه من فحوى الخطاب مُعْوِصٌ مع اختلاف القرّاء في قوله تعالى : (وأرجلكم) بالكسر والنصب . ولكنّ القولَ في هذه المرتبةِ مبنيٌّ على بقاءِ القواعد الكلية في الادِّكار ، ودروسِ تفاصيل المذاهب ، ونقل غسلُ الرجلين عن الرسول وصحبه متواترٌ ، ونسبة المصير إلى المسح إلى الشيعة مستفيضٌ ، ومثل هذا لا يُتصور اندراسه مع توفُّر الدواعي على نقل القواعد .
فإن فُرضَ زوالُ القواعد عن الذكر ، وقع الكلام في المرتبة الرابعة ، على ما سيأتي مشروحاً . إن شاءَ الله تعالى .
696 – فالذي تحصّل من هذا الباب أنه يُتَّبَعُ ما بقى من الادِّكار ، ويُسْتَمْسَكُ بآيةِ الوضوء ، وما لم يُعلم وجوبُه ، ولم يُشعر به كتابُ الله ، فهو محطوط عن أَهل الزمان ، فإن التكليفَ لا يتوجه إلا مع العلم بتوجهه .
697 – فإِن قيل : أليس غلبات الظنون مناطُ معظم الأحكام ؟ فهلا قلتم ما غلب على ظنِّ المسترشد – في خلوِّ الزمان عن الفقهاء – وجوبُه ، وجب عليه الأخذُ بوجوبه ؟ .
قلنا : هذه قولُ من يقنعُ بظواهر الأشياءِ ، ولا يبغي التوصلَ إلى الحقائق ، فليعلم المنتهي إلى هذا الموضع أنا نعلم وجوبَ العمل بموجَب خبر الواحد ، والقياسِ في مرتبته على شرطه ، ويستحيلُ مقتضى العقول أن يفيدَ ظنٌّ علماً ، ووجوبُ العمل بموجب الخبر الذي نقله متعرضون للخطأ معلوم ، والخبر في نفسه مظنون ، وكذلك القول في القياس .
698 – فالعلمُ بوجوب العمل غيرُ مترتبٍ على عين الخبر والقياسِ ، ولكن قام الدليل القاطعُ على وجوب العملِ عند ثبوت الخبر والقياس ، فالذي اقتضى العلمُ بالعمل الدليل الدال على العمل بهما ، كما يستقصَى في فن الأصول .
فالخبرُ والقياس يعمل عندهما ، ويُعلم ذلك بالدليل المقتضي وجوبَ العمل عند ثبوتهما .
699 – فإذا لم يَعلم المكلفُ في الزمان العريّ عن جملة التفاصيل مُوجِباً ، فكيف يعلمُ وجوباً ؟ وظنه الذي لا مستند له من تحقيق ما انتصبَ في الشرع عَلَماً انتصابَ ظنون المجتهدين في أساليب الأقيسة ، ومعظم أصناف الظنون مُطَّرَحةٌ ، لا احتفال بها .
700 – فقد تقرَّرَ ما حاولناه لكل فطن ، ووضح أن تعذّرَ الوصولِ إلى العلم بما كان واجباً في العصور المشتملة على العلماء ، ينزلُ منزلةَ تعذرِ وقوعِ بعضِ الأعمال بالعجز عنه .

فصل
في التيمم وما معناه

701 – التيممُ رخصةٌ لا تحتملُ معنىً مستدركاً ، وإنما المتبعُ فيها مواردُ التوقيف ، فما ظهر في العصر من التيمم على تحقيق وثبَت اتُّبع . وما لم يظهر مقتضيه لم تثبت الرخصةُ بظنون العوامّ ، وهذا يطرد في الرخص كلِّها .
وقد قدمنا الآن أن ظن العامِّي لا يباَلى به فيما يجول في مثله قياسُ العالِم المجتهدِ ، والأقيسةُ من المجتهدين لا جريانَ لها في معظم أبواب الرخص ، فكيف تثبتُ الرخص بظنونٍ لا أصل لها ؟

702 – والذي يجبُ الاعتناءُ به في هذا الفصل أن المكَّلَف إذا فعل عند إعوازِ الماء ما علمه ، وقد وضح أَنه لا يجب عليه ما لم يعلم وجوبَه ، فإذا صلى على حسب العمل والإِمكان ، ولم يكن محيطاً بأن هذه الصلاة في تفصيل المذاهب مما تُقضَى عند زوال الأعذار أم لا ، فالذي يقتضي الأَصلُ الكلّيُّ أنه لا يجب القضاءُ ، لأَنه أدّى ما كُلّف ، وقام بما تمكّن منه .
703– وقد صار إلى ذلك طوائف من العلماء في تفصيل المذاهب منهم المُزَني . ويعزى ذلك إلى الشافعي رضي الله عنه ، وهو خارجٌ على حكم القاعدةِ المعتبرة في خلوِّ العصرِ عن العلماءِ بالتفاصيل ، فإن القضاء لا يوجبه الأَمرُ بالأَداءِ ، إذ الأَمرُ بالأداءِ لا يُشعر إلا به ، وإذا لم يتفق امتثالُه في الوقت المضروب له ، كان موجَبُ الأمر مقتضياً فواتَ المأمور به ، وليس في صيغته التعرضُ للقضاءِ ، وهذا معنى قول المحققين : لا يجب القضاءُ إلا بأمر مجدد ، فإذا أدى المكلف ما استمكن منه ، ولم يعلم أمراً بالقضاءِ ، ولم يُشعر به الأصل ، فإيجاب القضاءِ من غير علمٍ به ، لا وجه له لما سبق تقريره .
704 – ومما نذكره متصلا بذلك أنه لو فتر الزمانُ وشغر ، كما فرضناه ، وقام المكلفون على مبلغ علمهم بما عرفوه ، ثم قيض الله تعالى ناشئةً من العلماءِ ، وأحيا بهم ما دَثَر من العلوم ، فالذي أراه أنهم لا يوجبون القضاءَ على الذين أقاموا في زمان الفترة ما تمكنوا منه ، فإن مما تمهد في الشريعة أن من تطرق الخللُ إلى صلاته بسبب عذرٍ نادرٍ دائم كالمستحاضة ، فإن الاستحاضة تندر ، وإذا وقعت دامت وامتدت في الغالب ، فلو شُفيت لم يلزمها قضاءُ الصلوات التي أقامتها مع استمرار الاستحاضة .
وتقدير خلو الدهر عن حملة الشريعة اجتهاداً ونقلاً نار في التصوير والوقوع جداً . ولو فرض والعياذ بالله ، كان تقدير عود العلماءِ أبدعَ من كل بديع ، فليُلحق ذلك بالنادر الدائم .
فهذا منتهى غرضنا في هذا الفن .
705 – ولا حاجة إلى ذكر المسح على الخفين ، فإنه من قبيل الرخص ، وقد قدمنا في الرخص كلها أصلاً ممهداً ، فليُتّبع في جميعها ذلك الأصل .

فصل
في الحيض

706 – الحيض حالةٌ تبتلى بها بناتُ آدم من حيث الفطرة والجبلّة ، ابتلاءً معتاداً على تكرر الأدوار ، وما كان كذلك ، فالدواعي تتوفر على نقل الأصول التي تمس الحاجة فيه إليها . هذا حكم اطراد الاعتياد ، فلا يجوز أن يخلوَ الزمان عن العلم بأقل الحيض وأكثره ، ما دام الناس مهتمين بإقامة الصلوات .
فإن فُرض انطماسُ أصول الشريعة واستمرار الفترة على الكليّات والجزئيات ، فاستقصاءُ ذلك يقع في المرتبة الرابعة . فإذاً لا يكاد يخفى عن تصوير بقاء أصول الشريعة أن المرأة إذا رأَت عشرة أيام دماً ، وطهرت عشرين يوماً مثلاً أنها تترك الصومَ والصلاة ، ويجتنبها زوجُها ، كما دلَّ عليه قوله تعالى : (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن) .
وهذه القواعد لا تنسى ما ذكِرت وظائفُ الصلوات .
707 – فإذا زاد الدم على العشرة ، فهذا موقع خلاف العلماءِ .
فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحيض قد يبلغ خمسة عشر يوماً ، وأكثر الحيض عند طوائفَ عشرةُ أيام .
فإذا زاد الحيضُ على العشرة ، وقد فُرِض دروسُ التفاصيل ، فقد يخفى كونُه حيضاً على أهل الزمان .
ومما يُقضَى ببقائه في الادّكار أن المرأة مأمورةٌ بالصلاة في إطباق الاستحاضة عليها ، فهذا ما لا يكاد ينسى مع ذكر الأُصول قطعاً .
فالدم الزائدُ على العشر مثلاً ، يتردد في ظن أهل الزمان بين أن يكون حيضاً وبين أن يكون استحاضةً ، وهذا الآن فنٌّ بديع ، فليتأَمله الموفق ، مستعيناً بالله عزت قدرته .

708 – فأقول : قد يظن الظان أن المرأة إذا شكّت في أن ما تراه حيض أم لا ؟ فليست على علم بوجوب الصلاة عليها . وقد ذكرنا أن الوجوبَ لا يُعلم دون العلم بالموجِب ، فقد يُنتج هذا أن الصلاة لا تجب مع الشك .
709 – ولكن يعارضُ هذا أصلٌ آخر لم يتقدم مثلُه ، وهو أن أمرَ الله تعالى بالصلاة والصيام مستمرٌّ على النساءِ لا يسقطه عنهن إلا يقينُ الحيض . والاستحاضة لا تنافي الأمرَ بالصلاة ، فالأمر إذاً بالصلاة مستيقنٌ على الجملة ، وسقوطُه مشكوك فيه ، وحكُم الأُصول يقتضي أَن من استيقن على الجملة وجوباً ، ثم يعارضُ ظناه في سقوط ، أخذ باستمرار الوجوب ، ولم يكن لظنه حكمٌ في سقوطه الوجوب الثابت .
وعلى هذا بنى علماءُ الشريعة مسائلَ الحيض المختلطةَ بالاستحاضة عند الإِشكال على الاحتياط .
710 – والذي يعضد ويؤكد ما ذكرناه في حق الزمان العاري عن العلم بالتفاصيل أن الزائد على المقدار المعلوم ليس له ضبط يُنتهى إليه ، ويوقَف عنده ، وقد تحقق أن دمَ الاستحاضة لا ينافي وجوبَ الصلاة ، فلو تعد المرأَةُ مبلغ اليقين فأَين تقف ؟ ومتى تعود إلى إقامة الصلاة ؟ فهذا ظاهر ، وليست أنفي مع ظهور هذا أن يخطرَ لعاقلٍ في الزمان الخالي أَن الصلواتِ تجبُ واحدةً واحدة على اعتقاب وظائف الأوقات ، وليست في حكم ما علم وجوبُه ناجزاً في الحال ، وشُك في سقوطه ، فالصلواتُ التي تدخل مواقيتُها في الحادي عشر مشكوكٌ فيه . وقد يعارض اعتقاد الوجوب اعتقادُ تحريم الإِقدام على الصلوات ، فإِن إقامة الصلاة واجبةٌ على الطاهرة ، محرمة على الحائض .
711 – والذي قدمتُه من أن الأصل وجوبُ الصلاة من مسالك الظنون والترجيحات التي يتمسك بها المجتهدون . وظنونُ العوام لا مُعَّول عليها ، وسبيلُ العلم منحسمٌ قطعاً ، وليس في الزمان مقلَّدٌ ولا ناقلٌ عن مقلِّد . فما الوجه إذا ً ؟ وإنما قدمنا وجوهَ الكلام تنبيهاً على تقابل الظنون ، وتحقيقاً لاختصاص هذه السبل بذوي الاجتهاد .
فإذا تقرر ذلك ، فأقول :
712 – الجمعُ بين تحريم إقامة الصلوات ، وإيجاب أدائها محال ، والعلم لا يتطرق في حق هذا الشخص إلى درك التحريم ، ولا إلى درك الوجوب ، ولا مرجع يلوذ به ، ولا حكمَ لظنه وترجحه ، فالوجهُ القطعُ بسقوط التكليف عنه في هذا الفنِّ ، والتحاقُه في هذا الحكمِ على الخصوص بمن لا تكليفَ عليه .
فإن فرضت صورة الصلات ، لم يكن لها حكمُ الوجوبِ ولا الإِجزاءِ ، ولا التحريمِ ، إذْ شرطُ التكليف إمكانُ توصُّلِ المكلفِ إلى درك ما كُلِّفَ ، وهذا غيرُ ممكن في الصورة التي ذكرناها . وإنما يستحيل تكليفُ المجنونِ من جهة أنه يستحيل منه فهمُ الخطابِ ودركُ معناه ، وهذا المعنى محققٌ في هذا الحكم الخاص ، في حق هذا الشخص المخصوص . وإن كان التكليفُ مرتبطاً به في غيره من الأحكام .
ولو استحاضت المرأة ، والتبس حيضها باستحاضتها ، فأحكام المستحاضة من أَغمضِ ما خاض فيه العلماءُ .
713 – ومقدار غرضنا من ذلك أنه مهما غمض عليها أنها في حيضٍ أو استحاضة ، وقد خلا الزمانُ عن موثوقٍ به في تفصيل المستحاضات ، وقد علِمتْ من أَصل الشرع أن الحيضَ ينافي وجوبَ الصلاة ، ويحرِّم إقامتها فيه بخلاف الاستحاضة ، فيتصدى لها تحريمُ الصلاة وإيجابُها في كل وقت ، فيسقط التكليفُ عنها ـ في خلو الزمان ـ في الصلاة جملةً ما اطرد اللبسُ عليها .
وهذا لا يغوص على سره إلا مرتاضٌ في فنون العلوم .
714 – وهذا المجموع يحوي أموراً يشترك في استفادتها المبتدئون والمنتهون وأموراً يختص باستدراكها أخصُّ الخواص .
715 – وقد يظن المنتهي إلى هذا الفصل أن سقوطَ التكليفِ فيما ذكرته يختص بخلو الزمان عن العلماء بالتفاصيل ، ولا يتصور مثلُه في زمن توفر العلماء المستقلين بحمل الشريعة .
وأنا أُصور سقوط التكليف مع اشتمال الزمان على العلماء ، في صورة يحارُ الفطنُ اللبيبُ فيها ، فأقول :

716 – لو فُرض بيتٌ مشحونٌ بالمرضى المدنَفِين وكان رجلُ يخطو على سطح البيت من غير اعتداءٍ ولا ظلمٍ ، فانهار السقفُ ، وخرّ ذلك الرجل على مريضٍ ، وعلم أنه لو مكثَ عليه لمات ، ولو تحول عنه لم يجد بُدَّاً من توطّئ مريضٍ آخر ، ولو اتفق ذلك ، لمات من ينتقلُ إليه ، وليس في استطاعته التقصِّي عما هو فيه من غير إهلاك نفس محرمة ، ولا سبيل إلى أمره بالمكث ، ولا إلى أمره بالانتقال ، وأمرُه بالزوال عمَّا ابتلي به من غير تسبب إلى قتلٍ تكليفُ ما لا يطاق ، وذلك محالٌ عندنا .
717 – فإذاً هذه الصورة وإن اتفق وقوعُها ، فليس لله فيها حكٌم ، ولا طَلِبَةٌ على صاحب الواقعة بمُكثٍ ، ولا انتقال ، ولا يطلقُ القول بأَنه يتخير بين المكث والزوال . فإن الخِيَرة من أحكام الشريعة .
718 – والذي اعتاص قضيةً في هذه الصورة التي ذكرناها سبيلُه على الخصوص فيما دُفع إليه ، كسبيل بهيمةٍ لا يتطرق إليها خطاب .
719 – وقد يتفق لآحاد الناس في بقاءِ تفاصيل الشريعة في الادكار حالةٌ يقرِّبُ مأخذُ القول فيها ما ذكرناه في دروس الفروع .
فإذا علمت المرأةُ أنه يحرم إقامةُ الصلاة في زمان الحيض ، ثم ابتليت بالاستحاضة ، وصارت لا تميز بين الحيض والاستحاضة ، في بقعةٍ خالية من العلماء ، ويتصدى لها وجوبُ الصلاة وتحريمُها كما قدمنا تصويَر ذلك ، فإنها تتوقف ، ولا تُمضي أمراً إلى أن تخبر ، وتسأَلَ من يعلم .
720 – فقد تمهد بما ذكرناه أصلٌ عظيم ، سينعطف كلامٌ كثير في هذه المرتبة عليه ، وهو يتهذب بسؤالٍ وجواب عنه .
فإن قيل ألسنا نعلم الآن تقابَل الأمرين في حق المستحاضة الناسيةِ المتحيرةِ ، ونغلِّبُ الأمرَ بالصلاة ، فنأمُرها بإِقامة جميع الصلاة ، فهلا غلَّبِت المرأةُ في زمان الفترة وجوبَ الصلاة على تحريم إقامتها في وقت الفترة ؟
721 – قلنا : قد ثبت في تفاصيل الشريعة عند حملتها أن وجوب الصلاة أغلبُ من النظر إلى تحريم إقامتها ، ونحن فرضنا خلوَّ الزمان عن العلم بالتفاصيل ، واستواءَ الأمر في الوجوب والتحريم في اعتقاد المرأة ، فإن كان بقي في الزمان العلمُ بأن الصلاة لا يسقُط وجوبُها إلا بيقينٍ ، فهذا يتبع الأصلَ بموجبه .
722 – فإن قيل إذا كنتم تُجرون أحكام هذه المرتبة على بقاء أصول الشريعة ، ومن الأصول أن المستحاضةَ لا تترك الصلاةَ دهرها ، فلم فرضتم ذهابَ هذا الأصل عن الأذهان ، وقد أجمع العلماء أن المستحاضة المتحيّرةَ لا تترك الصلاةَ ؟ قلنا : الاطلاعُ على هذا الأصل من غوامض الفقه ، وليس كل مجمعٍ عليه من الأُصول التي عنيناها ، فإن أهل الدهر لو أحاطوا بجميع مواقع الإجماع ، هان عليهم إلحاقُ الفروع بها ، فالأصولُ التي قدرنا بقاءَها كلياتٌ مسترسلةٌ ، لا تعلق لها بالغوامض.
فهذا تمام ما أردنا أن نوضحه من هذه المعاني .
والله ولي التأييد والتوفيق ، بمَنِّه ولطفه .

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف ركن الدعوة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.