اكتملت الأركان – 2006-12-02

[ذكرنا فيما سبق أن أركان الفردوس الأميركي قائمة على خمسة ثوابت ، وتحدثنا عن الثابت الأول وهو المادية والثاني وهو الفردية والثالث وهو الرأسمالية ، ونختم الكلام عن الموضوع اليوم بالثابتين الرابع وهو الاستهلاك ، والخامس سماه الكاتب : الآن وهنا ، وأحب أن أسميه : الغرق في الفردوس الموهوم].
الثابت الرابع :الاستهلاك : مر معنا في الثابت الأول أن فورد عدو الحركات العمالية اللدود قدعالج الأزمة الصناعية الكبرى عام 1915 بخطوتين مذهلتين : إنقاص ساعات العمل وزيادة الأجور ، ولم يكن الرجل غبياً فقد استطاع أن يوجد عند الناس وقتاً للفراغ وفائضاً في المال من أجل أن يهيمن شيطان التسوق عليهم [كلا إن الإنسان ليطغى * أن رأه استغنى] ، وبالتخفيضات الموسمية والتقسيط والدعاية بدأت الرأسمالية تمتص وبمكر مدخرات العمال ومحدودي الدخل! ويجب أن يكون الرضى متوفراً عند الشراء! ولا يهم مابعده ، كي تشتري أكثر ..

واجه شيطان التسوق أحد عشر مليون مهاجر إلى أميركا عام 1915 ممن يحملون ثقافة فيها عوامل معيقة ، ومنها على سبيل المثال : احترام رأي الكبار ووضع القرار بأيديهم ، وهؤلاء عادة أبعد نظراً وأقل تقبلاً لقيم الاستهلاك ، لذا كان لابد من توهية مراكزهم ، وبدأ ذلك بالحط من قيمة احترام الكبير بطريقة شديدة الدهاء : لا وظائف لكبار السن ، وهذا يجعلهم عالة على أفراد العائلة الأصغر ، وهو مايضعف من مكانتهم واحترامهم، وإذا حصل توظيف ما فالأجر أقل! مع ترويج أنهم الأقل كفائدة وفائدة وقدرة على التأقلم!! [تستطيع أن ترى هذه الفكرة الشيطانية بمثال أخر مذهل: لقد أمنت المجتمعات المسلمة إمداداً اجتماعياً ومادياً للجهات المرجعية فيها (الكبار) عن طريق مؤسسات مدهشة الأداء! مثل نظام الأوقاف ، فأتت الحكومات الخبيثة فصادرت تلك المؤسسات لتبقى المرجعيات (الكبار) عالة! مع التركيز على عدم كفائتها! و فتح الأبواب لمرجعيات عميلة وهزيلة بديلة لسد الفراغ الاضطراري! ولو كانت تلك البدائل المزيفة من أحط الناس خلقاً وأكثرهم انتهازية بل حتى لصوصية].

اصطدمت الشركات الرأسمالية أيضاً بالعائلة كبيرة العدد والتي تضم أحياناً ثلاثة أجيال ، مما يجعل الاستهلاك أقل، فقد يكون لكل أولئك جهاز هاتف أو راديو وحتى غسالة واحدة! وتمزيق الآصرة الأسرية والحث على الانفراد سيزيد من الاستهلاك ، والفرد الذي كان يكفيه مع مجموعة من الناس بعض الأجهزة لابد أن يقتنيها بنفسه الآن!

العائق الثالث كان في النفسية التي تحب وتعتز بالأشياء القديمة، وتصلحها المرة بعد المرة لما لها من بعد عائلي أو ذكريات وعراقة خاصة! وعلاج ذلك بنشر ثقافة روج لها الإعلام بمكر وتقوم على إضفاء القداسة والتحضر على كل حديث والإزراء بكل قديم! [لاحظ كيف أن الشعوب الغافلة تسير كالنائم إلى الاستبدال والتخلص من القديم لمجرد ظهور الحديث! واحسب التكاليف التي تدفعها وهي تلهث وراء الجديد!].

ومادام لكل دين طقوسه المميزة فلا بد من طقس خاص بالرأسمالية ألا وهو التسوق [والذي لم يعد ينتهي] وبعد الحرب العالمية الثانية والتي اشتغلت فيها الصناعة الأميركية بشكل ممتاز ، كان هناك هاجس من شبح الركود ولا بد له من شيطان يقف في وجهه [تماماً مثل حفلات الدجالين] وكان ذلك الشيطان هو التسوق ، والذي زعم أصحابه أنه سينتج في النهاية مجتمعاً بلا فقر ولا بطالة ، حيث يشتري الجميع فيه ما يريدون!

أصبح التسوق مسألة وطنية وجزءاً من الإيمان به ، ومن الملفت جداً للنظر خطاب الرئيس الأميركي لمواطنيه بعد أحداث أيلول!

لقد صدم الأميركان الطيبون بوجود أشرار في هذا العالم ، فقد كانوا يظنون أن النظام الأميركي قد جلب محبة العالم وإعجابه! ونتيجة الصدمة فقد انكفأ الأكثرون في بيوتهم ، وبدأ خلل في الحياة الطبيعية ، وهنا خرج الرئيس ليطلب من الشعب أن يعود لحياته الطبيعية! ولم يجد مثالاً لذلك إلا بأن يذهبوا إلى (مجمعات التسوق Malls ويمارسوا التسوق!!) بالحرف الواحد!! والمعنى أنه برغم المصيبة التي حصلت فأميركة ستكون بخير مادمت أيها الشعب الأميركي المسكين تتسوق!

ساهمت الدعاية والإعلام ولا شك بطريقة مركزية في الحث على التسوق! ولكن مهلاً فهناك أمر لم ينتهبه له الكثيرون! فقد كان هناك تركيز على البيت الفاره الواسع ومعه حديقة رائعة! [وما دخلك أنت] وتم ذلك عن طريق سياسة حكومية عامة وأهداف شركات عقارية متواطئة مع البنوك الضخمة [العائدة إلى صنف الواحد بالمائة المسيطر] واستغل المذكورون نزعة الحاجة إلى المأوى لتقديم منازل جميلة جداً وواسعة ومغرية جداً تستطيع أخذها بقروض دون ضمانات وبفوائد قليلة! ولكن هناك أمر فني صغير جداً! فالمنزل لن يكون في المدينة! بل في الضواحي!

[حسنٌ وما مشكلتك أنت] وخلال عقد الخمسينات ازداد سكان المدن 1% فقط مقابل 45% في الضواحي! التي حازت على 75% من نسبة البناء في كل الولايات المتحدة ، يقدر حالياً عدد سكان الضواحي بـ 80% من سكان أميركة!

رافق التوسع السكني في الضواحي انفجار في صناعة السيارات ، فكونك في مكان بعيد عن عملك [وفي بلد حتى الآن لا يوجد فيه مواصلات عامة] سيضطرك إلى شراء سيارة! وسيلزم لعمل زوجتك وحتى توصيلها للأولاد سيارة أخرى! ومادمت انتقلت من بيت المدينة الصغير إلى بيت واسع في الريف فسيلزمك أثاث مناسب! وأجهزة كهربائية متنوعة ، ومادامت طرق البناء القديمة لا تؤدي إلى جناية الأرباح الهائلة فلا بد من نشوء طريقة بناء أكثر سرعة وأقل متانة وجودة ، وهذا يعني أنه قد لايبقى مناسباً لسنوات طويلة ، وبالطبع فلديك خيارات لا تنتهي للانتقال إلى بيت أفضل وهناك الشركات العقارية والمصارف في خدمتك ، فقط ادفع ماتدخر أو اقترض حتى تبقى طوال عمرك تدفع كل ماتنتج وتبقى تحت رحمة الديون التي لاتنتهي!

البيت الخاص كان فريداً وله خصوصية أصحابه وبصمتهم ، أما الآن فنموذج معماري يتكرر ، ويساهم في إنتاج أفراد متشابهين ، وهؤلاء الأفراد يشتركون في النزعة الفردية ويرغبون بمسافة أكبر بين الفرد والآخرين! وماداموا متشابهين معمارياً إلى حد كبير ، ولا بد من التميز فليكن في السيارة! والتي لم تعد وسيلة نقل بل هوية ومكون للشخصية! وصار الأميركي [وغير الأميركي] يمتطيها مزهواً ، والحقيقة أنها هي التي كانت تمتطيه! وداخل كل بيت [ليس فقط الأميركي بل كل مغسول بالوهم] هناك في الزاوية وثن صغير أو كبير [حسب قوة الاتباع للدين الأميركي وتماماً مثل الأقوام الوثنية التي كان لكل بيت فيها وثن خاص] وذلك الوثن الذي لم يعد الأكثرون قادرين على الارتداد عنه هو الجهاز العظيم [وثن العصر الحديث] المسمى (التلفزيون).

في عام 1913ؤنشرت مسلسلة شعبية مصورة اسمها (التنافس مع آل جونز) وحققت نجاحاً هائلاً جعلهاتستمر في الصدور ثمانية وثلاثين عاماً!! وكان هدفها الأول : زرع التنافس على الشراء! وغرس حمى التسوق بينهم! ونجحت تلك المصورة ليصبح في داخل كل منا اليوم (آل جونز) الذين يوقدون فينا غرائز الشراء والتنافس والحسد والتسوق الذي لا ينتهي! وللتقليل [من بعض الإحراجات النفسية] لعملية الدفع فسيقدم نظام التقسيط [والذي يؤدي إلى الشور بالدفع القليل ، ولو في البداية] وهو نظام صار شاملاً لكل شيء يمكن شراؤه في أميركة! والطريقة الأخرى للزج في نظام الاستهلاك هي نظام الـ credit card [والتي ولا شك فيه فوائد كبيرة] ولكن المكر الخفي فيه أعظم! ولقد بدأت البطاقة تتحرك ضمن عدة مطاعم لتصبح أكبر فخ استهلاي عالمي! ويمكنك بها أن تتسوق الآن ، وادفع لاحقاً ، وإياك أن تدع آل جونز يسبقونك في شراء أي شيء! وبالتأكيد لن يخبرك أحد أن حجم الدين الشخصي الناجم عن بطاقة الائتمان قد بلغ مع فوائده 1.7 تريليون دولار ، ونسبة 110% من الدخل العائلي [في الولايات المتحدة] .

[خشية أن تَكتشف بعض الحقائق فينفر بعض الناس من نظام الابتلاع التسوقي] سيترك آل جونز في كل منزل وثناً يتعبده المتسوقون ولا يخرجون عن قبضته ، وهو دائم التذكير لهم بطقوس الديانة الجديدةَ، واستطاع ذلك الوثن أن يحول الاستهلاك من نزعة منبوذة في عالم ماقبل أميركة إلى ميل غريزي وفطري في النفوس! ومادامت سكنى الضواحي سيتلوها بيوت متباعدة ونسيج اجتماعي مهلهل أو غائب ، فإن التلفزيون سيكون الأنيس والصاحب ، فضلاً عن تسلله وثناً خفياً في الأعماق! ومن المعلوم أن التلفزيونات تقدم برامج مكلفة جداً وغالبها يمكن التقاطه بالمجان ، فكيف يمكننا فهم أنه يوجد شيء مجاني في عالم المادة وعبادة المال؟ الجواب سهل، فالفواصل الإعلانية هي روح تلك المحطات! ورغم أهمية الترويج لبضاعة ما ، وهو حق مشروع وبرئ [في الظاهر على الأقل] إلا أن الفكر الذي وراءه هو المقصود والخطير حقاً! فالسلعة المقصودة هي أنت أيها المسكين! والهدف هو صورة في ذهنك تتصرف من خلالها ، وتشعر بالتدريج أن السعادة متعلقة بها!

إن الفرد يتعرض يومياً في عصر العولمة إلى مابين 3000- 10000 إعلان! وبالتعاضد فإنها تقوم بغسل مخ جماعي [هناك رسائل شديدة الخطورة تبث في اللاوعي ، وقد يمر مع الدعاية العادية صورة لا تلتقطها العين ولكنها تُلتقط في الذاكرة ، ليكون لها آثار لاحقة، وهو أمر لا يوجد مجال للتطرق إليه الآن] والغسيل الجماعي يعني باختصار أيها السادة: نحن مسيرون بلا اختيار!

[في عصر العولمة ينفق مزارع واحد في كاليفورنية ماينفقه عشرة آلاف فلاح في بنغلاديش] وبالتالي فالطبقات التي تنفق وتشتري وتتسوق أكثر ينبغي أن تكون الأكثر سعادة ، ولكن الإحصائيات والواقع يشيران إلى عكس ذلك!

[هناك هوية مدمرة يزداد حملتها] وهي الشعور بالذات من خلال التسوق، فلقد تجاوزت التنافس مع آل جونز ، لتحترم أنت نفسك وتنظر إليها بعين الرضا كلما كانت قدرتك التسويقية أعظم! لقد حصلت على هوية في عالم لايعترف إلا بالمادة ، ويقيم الإنسان فقط من خلال قدرته الشرائية وليحمل مايشاء من اختصاصات وشهادات فقيمته بقدرته [يقول العوام الجهلة معك فرنك بتسوى فرنك] لذا لابد من الاستهلاك ، وهو من أدوات البعض لتمييز الإنسان عن الحيوان!

أنت تتسوق إذاً فأنت موجود ، وهم يربحون ، فقل لي ماهو حقيقة أفيون الشعوب؟ لقد صارت هناك عيادات ومواقع انترنيت لمعالجة مدمني التسوق!! الذين يشعر أحدهم بالمرض عند زيادة الدين وتراكمه إلى د يعجزه عن سداد الدين، فيحاول ترك إدمان التسوق فلا يستطيع! بل وصل اللعب بالبشر إلى وجود شركات تجارية تقدم لك دواء خاصاً [يمتنع الكاتب عن ذكره كيلا يروج له] وهو خاص لمدمني التسوق لتقليل الاستهلاك، والذي تلاحم مع الوصية التي صارت عرفاً وموجهاً في الحياة الاستهلاكية: Shop till you drop أي تسوق حتى الموت! [وحتى وأنت في حال الاحتضار فلا تنس أن توصي أولادك بتغيير بعض الأثاث لأنه أصبح قديماً ، واشتر قبراً ، واثنين أفضل لمفاجآت الأيام ، واطلب ممن حاول شراء أمور كثيرة كي لا يتحدث أحد عن قلة التزامنا بالدين التسوقي ، وعار أن لايجدوا في بيوتنا بعض التوافه الاستهلاكية] ، [من باب الطرفة الحقيقية قصة أحد المعارف المسنين وكان مشغول البال دائماً بتأمين قبر وكيفية خروج الجنازة ، وشراء طعام للمعزين ، وكنا نداعبه قائلين : نرجوك أن ترحل ونحن ندبر الأمور من بعدك!].

قارن الحكمة! الأميركية: Shop till you drop مع الآية القرآنية (واعبُد ربك حتى يأتيك اليقين) (الحجر:15/99). لتعرف أن هناك نمطين مختلفين بالحياة مهما تلاقيا فلن يتطابقا أبداً لأن أحدهما هو العبادة بكل شمولها وامتدادها والآخر هو العلم الهزيل بظاهر الحياة الدنيا!

[لعل صورة ذلك الدين ماتزال غير واضحة تماماً فأين أماكن العبادة وهل له طقوس موسمية ومن هم كهنته … والصورة كاملة ولكننا لم نعرها الانتباه! فـ (السوبر ماركات والمولات) الضخمة هي دور العبادة (كاتدرايات الدين الأميركي) وهي تلم الناس أجمع ، والأيقونات هي (الماركات العالمية) ، وراقب الجموع المهرولة بحماس ، وخصوصاً في مواسم الأعياد لترى عبادة [تضم مزيجاً من الصلاة والتبتل والطواف] ، أما الكهنة فهم الرأسماليون ، أصحاب الواحد بالمائة المسيطرون على كل اقتصاد في الأرض! أما القرابين التي يقنعك الكهنة باستمرار تقديمها فهي تلك السلع التي صار الأكثرون يستلذون بتسوقها! أما الوثن الرئيس فهو الذات والفردية [إقرأ الكلمة قبل الماضية –في الأرشيف ـ لتتعرف عليها].

وبينما يحرص ثابت الفردوس المستعار على أن تستهلك وتنفق آخر مالديك ، ويجعلك تحت رحمة الديون يأتي ثابتنا الإيماني الرابع ويمثله الصيام الذي بحقيقته هوانقطاع عن الاستهلاك [وكلما كنا مغسولين وتحت الاجتياح حولناه إلى التسطيح الاستهلاكي والإنفاق].

يأمر الصيام بالانقطاع عن الطعام والشراب والعلاقة الجنسية من أجل أن ندرك أن هناك عالماً آخر لايحصل من دون الانقطاع [رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش] ومن بسيط الأمثلة أن مواعيد الطعام المقدسة عند البعض سيتم تغييرها جذرياً ، وإن هناك معان عميقة جداً في الحياة ، وهي أوسع بكثير من مداركنا الحسية المحدودة.

الانقطاع ممكن ، فلم نخلق لنكون [كالأنعام] فنأكل ونشرب ونمارس الجنس ثم ننطلق في الأرض مثل الوحوش لتلبية مطالب الطعام والشراب والجنس! وعندما لا نعي ذلك البعد فنحن نمارس شعيرة ظاهرها الانقطاع وباطنها التحايل .. [الصيام أحد شفيعين: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ..] ..[فلتتذكر وأنت تدخل إلى إحدى كاتدرائيات الدين الجديد قولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفكلما اشتهيت اشتريت].

الثابت الخامس : الآن وهنا

كل فردوس لا يحوي بعداً زمانياً مكانياً سيكون ناقصاً ومشوهاً ، والفردوس الذي لا يسمح بالجنة حيث كل شيء مباح فهو ليس بفردوس حقيقي! لذا فلا بد أن يقدم الفردوس المستعار جنته، وهي ذات مباهج ولذة لانهائية ، فأميركا هي نهاية العالم [لغير المؤمن] وهي الفردوس الأخير!

في الحقيقة لم يحدث أن نشأت حضارة بلا تاريخ سوى حضارة واحدة ، هي حضارة الفردوس المفقود، وفيها لاتوقف عند التاريخ فقد تخلصت أميركة من أثقاله! وأبادت كل متعلقاته ، وكل قيم ومبادئ وأخلاق جديدة هي أفضل مما قبلها ، وابتداء من تورغوت (1718) وكوندوركوت (1794) ثم هيغل (1831) كانت فكرة التقدم حتمية تاريخية لامهرب منها ، وهي المقابل التاريخي لفكر داروين البيولوجي في التطور، ولكن بعد قرنين انفجرت صيف عام 1989 تاريخية هيغل على يد فرانسيس فوكوياما في نظريته حول (نهاية التاريخ) فما أحرزه الغرب هو آخر المطاف والنتيجة النهائية والعملية لتطور الأفكار والإيديولوجيات!

لكن تلك الفكرة خطيرة ففتيل الصراع يجب توقفه ، وماذا ستفعل القوى المحركة الماكرة ، والاحتكارات الاقتصادية لاستمرار الحراك والهيمنة والكسب؟ لابد من اختراع أعداء وهميين أو مصطنعين يساهم وجودهم في إدارة ماكينة الاقتصاد والسياسة والتسليح ، فخرجت النظرية [المرعبة] عن صدام الحضارات لصاموئيل هنتنغتون [لاحظ الاستنفار الذي يقوم به بوش كل فترة والتصريحات من قوله عن الحرب الصليبية إلى المسلمين الفاشيين ، لإيقاظ الغرائز التي تمد الصراع].

ضعف الذاكرة الأميركي لفت نظر مفكرين أمثال نعوم تشومسكي ، وآرثر شاليسنجر ، وهواردزن ، وستيفن برتمان ، فرأوا في تلك الظاهرة أكثر من جهل أو لامبالاة ، لأنه في الحقيقة تجهيل متعمد [للشعب الأميركي نفسه، والمحكوم من طبقة الواحد بالمائة] فستون بالمائة من الأميركيين البالغين لايعرفون أن الرئيس الأميركي أمر باستخدام القنبلة الذرية ولا أين استخدمها!!! فما بالك بإبادة الهنود الحمر ، واستغلال شعوب الأرض ، ونهب الخيرات [فضلاً عن السلاح الأميركي الذي يقتل به يومياً مالايعد من الأبرياء من أفغانستان إلى فلسطين] ..

فلسفة الحاضر presentism هي البديل الذي تحتاجه أميركة، فلا تاريخ ولا مستقبل بل اللحظة الحاضرة! فهي الحقيقة المطلقة ، وكل ماعداها وهم! وباعتبار أن الإدراك الأولي يتعلق بالحواس فقط فإن هذه الفلسفة لها جاذبية شديدة! وكيف للغرق بها أن يرى الفردوس خارج حواسه المحدودة التي حوصر ضمنها من خلال الفلسفات التي أفقدته الإدراك والوعي العميق خارج غرائزه ورغباته! وكانت تلك الأبدية المطلقة [الحاضر] هو الضلع الذي لابد منه ليكتمل الدين الجديد! وكل ماتريده تحصل عليه هنا ، وليس هناك أبعاد للزمان والمكان خارج اللحظة الحاضرة! وهنا الفردوس … المقصد النهائي ، ومكان المباهج والمسرات!

الفردوس المزيف ليس فيه [رضا الله: ورضوان من الله أكبر] بل إرضاء الحواس والمتعة ، حيث تمت برمجة الفرد من خلال مبدأ الحرية الفردية ليصبح جزءاً من فلسفة اللذة التي تقدم المتعة الفردية [مهما دمرت ماحولها] على كل شيء.

رغم أنف كل حضارة كانت اللذة جزءاً من فكر وسلوك البشر ، ولكن فرق بين أن يكون لها دور يغني الحياة أو تصبح طوفاناً مدمراً [يمكن للذة الجنسية أن تكون سبب متعة مباحة بل واجبة تحصل بها السكينة ويستمر التناسل وتتجدد الحياة ، أو تصبح هي الموجه الأول والباب إلى الحيوانية والبهيمية التي لاينجو منها المحارم ولا الأطفال ولا حتى الرضع ، بل ولا القطط والحمير والدجاج والكلاب!! وقد شكوت يوماً ألمي لأخ مسلم غربي لكثرة مافي بلده من أدوات الإفساد الجنسي وحرية الانحلال! فقال الحمد لله أننا أفضل من غيرنا! فقلت وهل هناك ماهو أكثر هبوطاً؟ فقال: نعم ، فبلادنا تمنع فيها مجلات (اللواطة بالحيوانات) بينما هي مسموحة في الدولة المجاورة]. [غفرانك اللهم].

فلسفة اللذة [المنحرفة] نشأت في القرن الخامس قبل الميلاد ، وداخل مرحلة التحلل الأخلاقي للحضارة الإغريقية ، ولها فلاسفتها : أرستيبوس (325 ق.م) وكان من تلاميذ سقراط ، وامتد تأثيره إلى أبيقور (270 ق.م) … ومضى الكل وشهدت عظامهم باندثار فلسفتهم ، ولكن البشر [كلما ضعف اتصالهم بعالم ماوراء الأحاسيس- أي عالم الغيب] كانوا يقعون في براثنها وأسرها!

لقد جاء في مبادئ الاستقلال –المادة الثامنة- أن طلب السعادة هدف أساسي للأمة الناشئة! وفي ظل الحرية الفردية وتقديسها ومع عبادة الذات ، ومع [العمى] عما هو خارج الحواس لم يكن مآل السعادة سوى الغرق في فلسفة اللذة بلا خطوط حمراء.

Have a good time (قضاء وقت ممتع) شعار رئيسي بدأ من الفردية والحرية الشخصية والخصوصية لينتهي في حفلات الجنس الجماعي ، والمخدرات [وقتل طفلات عراقيات بريئات بعد اغتصابهن أمام عيون أهاليهن ، واستباحة أفغانستان التي لم يكتب تاريخ الغزو الفاجر لها بعد ثم الكذب عشر سنوات بخصوص أسلحة دمار شامل موهومة في العراق ليتم بعدها تدمير العراق وإشعال الحرب الطائفية على يد نيرون أميركة ، والطائرات الأميركية من الأباتشي إلى الايف 16 ومابعدها وهي ترمي الصواريخ والقنابل العنقودية بسادية مرعبة فوق العزل في فلسطين وجنوب لبنان … لأن إسرائيل تدافع عن نفسها .. أما الآخرون فلهم حق وحيد هو الموت بالأسلحة الأميركية النذلة والجبانة] ..

سيغموند فرويد (1856-1939) الطبيب النمساوي وصاحب نظرية التحليل النفسي ، وأن الدافع الجنسي هو المسيطر على اللاشعور، هذا الطبيب العبقري اختزل الإنسان في ثلاث مناطق بمعزل عن أي شيء آخر وهي الفم والشرج والفرج!!! فهي التي تكمل شخصية الإنسان وكل ماعداها هباء! والخطير أن فرويد لم يجعل اللذة خياراً [أبيقوريا نسبة إلى فيلسوف اللذة أبيقور] بل جعلها حتمية قدرية أكلت كل مايكون قد بقي في النفوس من عفة أو حرج بل أية محاولة للخروج من أسر الحواس!

كان للفرويدية دور في إكمال الدين الأميركي! فرغم كل النحت في الفطرة البشرية كان هناك بقية [ وستبقى الفطرة أبداً] من العفة والاستقامة والأعراف الأخلاقية ، [بل كان هناك نوع من اللامعقول] الذي جعل الكاتبة آيدا كرادوك تقدم للمحكمة الفيديرالية بتهمة الترويج للفاحشة ، والذي فعلته كان مجرد إصدار كتيب صغير يحوي إرشادات لليلة الزفاف (والتي كانت هي اللقاء الأول بين الجنسين) ، وانتهى الأمر بانتحار الكاتبة ليلة انعقاد المحاكمة! كما حكم على الممرضة مارغريت سانغر بخمسة وأربعين عاماً! من السجن لتأليف كتاب إرشادي عن وسائل منع الحمل ، وبتهمة نشر الفاحشة (وقد فرت الممرضة إلى أوربة قبل التنفيذ).

رغم تلك الأجواء طلع عفريت الجنس من قمقم الساحر الذي لم يكن سوى فرويد ، ورغم أنه نمساوي إلا أن ابن أخته إدوار بيرنيز (1891-1995) حاز الجنسية الأميركية وهو الذي روج لنظرية خاله ، ويعد إدوار الأب الحقيقي لعلم الدعاية والعلاقات العامة وفرض نفسه كأهم وكيل إعلاني في أميركة ، وكان يقول: (إذا فهمنا الآليات والدوافع التي تحرك الجماهير فإننا تستطيع أن نقود ونحرك هذه الجماهير لما نريده دون أن تشعر) وكان يسميها (طريقة الرضا) ، والشيء المهم هو أن إدوار بيرنيز كان يدير الإحصاءات وينشر المقالات وصور الكاريكاتير ويشيع النكات ، ويسهم بشكل فعال في تغيير الرأي العام وكتبه كلها تدور حول تغيير الرأي العام ، وكان زبائن بيرنيزمن طبقة الواحد بالمائة ، وقد اختير لاحقاً ليكون من أهم ألف شخصية أثرت في البشرية خلال سائر العصور!

كان عمل بيرنيز التلاعب بعقول الناس وقد تبنى نظرية خاله ، وبفضل حملات ترويج هائلة وندوات وحوارات ودعم للأساتذة ومنح وتعليقات ونكات … فقد أصبحت نظرية دارون حقيقة شبه مطلقة دخلت إلى الأعماق عبر إعلام يجعل مالا يصدق قابلاً للتصديق!

أخطر مافي النظرية : إن الصمام يجب أن يبقى مفتوحاً كي لاينفجر الأنبوب [ لاحظ دهاء الأنظمة التي تغلق كل الصمامات والحقوق وتبقي فقط صمام الجنس والفاحشة وأدواتها المنفذ الوحيد] وقد حمل عالم التربية سبوك نظرية فرويد إلى التربية وشاركه : مارغريت ميد ، روث بندكت ، أريك أريكسون ، كارل مننغر … وبينما يوصي الإسلام بالأم ضمن مفهوم نبوي راشد (أمك ثم أمك ثم أمك ) فقد عكست نظرية فرويد الاتجاه فنادت أمك ثم أمك ثم أمك سبب كل عوج أو اضطراب في حياتك [ولا بد أن كبتاً جنسياً ما قد قامت به أو ارتكبت خطأ ما تجاهك ضمن السياق الفموي أو الفرجي!!] وبالتأكيد فإن هذا سيقلل من الشعور بقداسة الأم والاحترام الشديد لها! ودخلت مفاهيم فرويد تحت الجلد الأميركي إلى أن ظهر ألفرد كنزي بكتابه (السلوك الجنسي عند الذكر البشري) والذي مهد لثورة جنسية لاحقة ، وهو كتاب غير غرائزي ويعتمد على الإحصائيات والبيانات والجداول! وحقق رواجاً غير مسبوق! وكان ألفرد كنزي عالماً رصيناً وزوجاً وأباً وأسس عام 1947 معهداً لدراسات الجنس أمدته المؤسسات الضخمة وقام باستطلاع شمل 16000 شخص وهو مانشر فيما بعد بالكتاب الذي كان مقدمة الثورة الجنسية في الستينات!

صدم كنزي المجتمع الأميركي من خلال معلومات مريعة منها على سبيل المثال أن 85-98% من الذكور قد مارسوا الجنس قبل الزواج! و 70% من الذكور لديهم تجارب جنسية مدفوعة الأجر مع المومسات! و 17% من ذكور الريف قد مارسوا الجنس مع الحيوانات!! وأن نصف الذكور يخونون زوجاتهم! وأعلن هذا البحث للمنظمات الكنسية والكشفية الملتزمة أن كل ماتفعله ليس ذا جدوى ، وبدل أن يغير الأميركيون سلوكهم فقد غيروا أعرافهم بعد أن اتضح لهم أن [الأطهار قلة] والفساد يمارسه الجميع ، [ومن كان منهم بلا خطيئة فليرم الخاطئين بحجر].

وقال كينزي : (خطيئة الجميع ليست خطيئة) ولم يعد في أي ممارسة جنسية أي إشكال فالكل يقوم بذلك ، ومع الفردية وعدم وجود خط أحمر فكل شيء تابع لا ستطلاعات الرأي من شن الحروب إلى الإجهاض ، وصار وثن الأرقام هو الحاكم بعد أن جُعل كل فرد يعبد نفسه ثم نحتكم إلى مجموع الأفراد الذين يؤلهون أنفسهم!

الدين المزيف يحمل عناصر فنائه وزيفه في داخله ، واتضح فيما بعد أن كينزي الرصين العالم قد قام بتزوير بحثه [ليجر الشباب والمجتمع إلى الفاحشة ويقنع النظيفين أنهم هم الشاذون في بحر اللذة الجنسية الجارفة ، أما قال تعالى : أخرجوهم من قريتكم إنهم إناس يتطهرون] واتضح أنه قد أقحم في بحثه 3000 سجين غالبهم من المحكومين في جنايات جنسية! وتعمد انتقاء مومسات في بحث له عن السلوك الجنسي لدى المرأة! كما أشرف على تدريب عمليات اعتداء جنسي على الأطفال (بزعم أنه يقوم بدراسة ردود أفعال الأطفال الأبرياء) ثم اتضح في النهاية أنه مجرد رجل شاذ يمارس الشذوذ مع شاذين في فريق بحثه! [تماماً مثلما سيتضح يوماً أن بوش شاذ نفسياً وأخلاقياً وأنه مريض وقدوته نيرون روما ولكن على مستوى العالم كله].

رغم كل ذلك فإن هوليود قدمت كينزي عام 2004 في فيلم تكريمي يحمل اسمه غاضة النظر عن كل انحرافاته وتحريفاته فهو بطل حرر المجتمع من العقد والأوهام! ثم تتالت سلسلة التحطيم :

– بعد خمس سنوات من بحث كينزي صدرت أول مجلة عري (بلاي بوي) واعترف هيفنر صاحبها بفضل كينزي وأبحاثه عليه!

– عام 1960 أجازت منظمة الصحة العالمية حبة منع الحمل للنساء!

– عام 1966 صدر بحث يقرر أن المرأة تستمتع بالعلاقات العابرة …

– عام 1968 أصدرت المحكمة الفيدرالية قراراً يجيز تصوير الأفلام الإباحية كنوع من حرية التعبير!

– عام 1973 قررت جمعية الأطباء النفسيين الأميركيين أن الشذوذ الجنسي ليس مرضاً ولا داعي للبحث عن علاج للشاذ فإنه لم يعد شاذاً بعد تلك السنة!

– في الستينات والسبعينات انتشر مفهوم ممارسة الجنس بمعزل عن الحب والمشاعروالعواطف!

– انتشرت كنتيجة لما سبق نظريات الحب الحر [وتبادل الأزواج والزوجات والعلاقات التي نعتذر عن الإشارة إليها هنا].

– بعد انتشار الأيدز تم التركيز على البعد عن المرض لا بالعفة [تلك الطريقة البدائية المتخلفة] بل باستخدام الواقيات الذكرية!

– يذكر الدكتور أحمد خيري العمري إحصائيات عن حجم الفساد الجنسي في الولايات المتحدة موثقة ومنسوبة إلى مراجعها ونعتذر عن ذكرها ومن أهون مافيها أن 85% من الذكور و 77% من الإناث قد مارسا الجنس قبل الوصول إلى المرحلة الجامعية! وهناك نسبة تقترب من واحد بالمائة مخيفة حقاً ومقززة تتعلق بممارسة الجنس مع جثث الموتى!

لم يدر في خلد أحد أن الإنسان سيتوه وينزل إلى هذا الدرك من (أسفل سافلين).

مقابل ذلك الفردوس الوهمي والمنحط هناك عالم الآخرة والغيب ، ومن ذلك المنطلق سوف نرى (كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد) (الفجر 89/6-12).

الإيمان بالآخرة عالم آخر تماماً له حديث خاص سنتابعه في كلمة الشهر القادم بإذن الله.
هدية العدد نشيد صغير لأننا لم نستطع تحميل النشيد كله إضافة إلى صورة جميلة لدمشق القديمة تصلح كسطح مكتب.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.