حديث الشيخ (2)

في الطريق

قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
قال أبو الحسن الورَّاق : لقد صدق حبيب بن مسعود حين قال :
إن دون الوصول إلى يسار سبعة أبواب ، عليها سبعة أقفال من حديد ، ولكن هل تستطيع هذه الأبواب أن تثبت أمام الطَرْق الكثير ؟ والمحاولات المتواصلة في التغلب عليها ؟
كان من عادة يسار عندما يعود إلى البيت بعد صلاة الفجر والاستماع إلى حديث الشيخ ، أن يقضي فترة مـن الوقـت في قراءة جـزء كامـل من القرآن الكريم ، ثم عددٍ من الأدعية المأثورة عن النبي – e – وبعدها يأخذ قسطًا من الراحة بانتظار طعام الفطور ، حتى إذا حان موعده ، تناول فطوره مع أمه ، التي تبدو موفورة النشاط ، ضاحكة متفائلة ، لا تكل عن الحركة .. وأخته الصغيرة سناء ، التي يحاكي وجهها استدارة البدر ، ببشرة بيضاء نقية ، وعينين بلون البن وصفاء السماء . ولم تكن قِطَّتها الكبيرة ذات الشعر الطويل تفارقها ساعة من الزمان ، فهي تتبعها كظلها أينما ذهبت ، ولا تفارقها إلا ساعة النوم .
أما أبوه فكان يخرج من البيت قبل أن يعود يسار من المسجد ثم يتبعه يسار بعد تناول الفطور ، فيساعده في عقد الصفقات ومراجعة الحسابات ومتابعة الديون .
وعندما ارتفعت الشمس في ذلك الصباح الدافئ ، خرج يسار في طريقه إلى السوق ، ولمَّا سار في بعض الطرق ، وقعت علينه عليها .. التقى بها وجهًا لوجه ..
كانت تسير إلى جانب خادمها مريد ، وكانت تبدو عليها الحشمة والوقار ، فلم تلتفت يمينًا أو شمالاً ، ولكنها عندما رأته ألقت عليه نظرة غريبة ، لم يستطع يسار تفسيرها ، فيها الجرأة والحزن والحياء ، وما لم يعرفه من معان أخر .
وأبعدها عن خاطره ، وخاصة عندما احتواه السوق ، وانشغل مع أبيه في أمور التجارة .
ودهش عندما صادفها في اليوم الثاني أيضًا .. كان يتحدث إلى أبي الفداء الماوردي ، وقد سأله عن سبب انقطاعه عن المسجد في صلاة الصبح فأجاب هذا ، وقد ناء بحمل حاجات كثيرة ، وأخذ يتحدث عن بيته وزوجه وطفله المريض وكم مرة في الشهر يأخذه إلى الطبيب .. دهش يسار عندما سمع صوتًا كتغريد البلابل .
فالتفت ..
فإذا .. هي ..
هي .. الجارية .. بكل ما فيها من فتنة وجاذبية وسحر أخَّاذ .. وذهبت بعد أن مسَّت قلبه بكسرة من عينها اليسرى .. فغضَّ بصره في الحال ، وراح يستغفر الله في سرِّه ..
ثم مضى في طريقه .
وأخذ في اليوم الثالث يستعجل أمه في إعداد الفطور ، وفي كل مرة يخرج إلى ساحة الدار ينظر إلى الشمس .. أين وصلت ! وانتبه إلى صوت أخته الصغيرة التي كانت تركض وراء قطتها التي يشبه لون شعرها لون الحناء ، سألته وهي تركض دون أن تنتظر الجواب :
– هل لديك موعد مع أحد ؟
وشعر كأن الصغيرة أيقظته ، فأخذ يلوم نفسه ، ويستغفر الله في سره ، ويحاول أن ينفض ما علق بقلبه من البكر من غبار ..
فكثيرًا ما يعنى المرء بغسل ثوبه وملابسه ، ولكنه يهمل غسل قلبه !
هكذا قال الشيخ .. عندما كان يتحدث بهدوء وتؤدة ، فيجذب إليه القلوب والآذان .. ولكن القلب لا يغسل بالماء والصابون ، إن له غسلاً آخر .. ليس من مادة هذه الأرض .. بالتوبة والاستغفار والإقلاع عن الذنب .
وتعمَّد يسار أن يتأخر أكثر من أي يوم .. ولاحظت أمه أنه بينما كان يحثها على إعداد الفطور بسرعة ، إذا به يسكت فيتركها تعده على مهل .
كانت البيوت تقف على جانبي الطريق متصلة ببعضها ، إلا فتحات قليلة تؤدي إلى النهر ، وتطل الأصص بالأزهار الملونة من الشرفات ، وتبدو الستائر ذات الألوان الزاهية عندما تفتح البيوت التي تواجه النهر نوافذها تستقبل الشمس .
ومضى يسار في الطريق ، وكان مرتاح القلب مسرورًا ؛ لأنه انتبه إلى نفسه ، فعالجها وغسل قلبه من صورة الجارية وصوتها و.. وكان معظم المارة يسلِّمون عليه ، ويسلِّم عليهم ، والتقى في طريقه بالعم عثمان .. وكان هذا شيخًا تجاوز المائة من العمر ، أبيض شعر الرأس واللحية ، أحمر الوجه ، احتفظ باعتدال قامته وشيئًا من نشاطه ، وكان يستند بيده اليمنى على عصا غليظة ، وكان قد قضى ما يزيد على الثمانين من عمره يعمل في البحر .. تاجرًا وبحارًا وربانًا .. حتى لقب بحق ، بأبي البحر .
وقف العم عثمان يسأل يسارًا عن حاله وعن والده ووالدته وعن أخته الصغيرة .. ثم مضى يحدثه دون مقدمات عن إحدى رحلاته إلى بلاد الصين ، عندما غرقت السفينة وقذفه الموج إلى الشاطئ . ثم لجأ إلى قرية ، لما علم أهلها أنه مسلم وأنه من بلاد العرب ، وأنه رأى مكة والمدينة وأدى فريضة الحج ..
هنا أخذ العم عثمان يسعل بشدة ، حتى تحول لون وجهه إلى مثل لون الدم .. فلما هدأ ضرب الأرض بعصاه وقال :
– أتدري ماذا فعلوا ؟ لقد هجموا علي ومزقوا ملابسي ووزعوها على أهل القرية قطعة قطعة يتبركون بها .. ثم طلبوا إليَّ الإقامة عندهم ، فلما أخبرتهم بأني أريد العودة إلى أهلي وبلادي ، جاءوا بجميع فتيات القرية ، وعرضوا عليَّ اختيار من أريد لكي أتزوجها وأقيم عندهم ..
لكني رفضت ، وأخبرتهم بأني متزوج ولي أولاد ..
وسكت العم عثمان ليسترد أنفاسه ، ثم ليخرج من خزانة عمره الطويل ما حوت من أخبار .. ثم قرب رأسه وهو ينحني وقال :
– أتدري ماذا كان قرارهم ؟ أرادوا قتلي ..
وهتف يسار :
– أرادوا قتلك ؟ لماذا ؟ هل أسأت إليهم ؟
فهزَّ العم عثمان رأسه وقال :
– كلا .. لقد أرادوا تكريمي على ما يزعمون .. فعندما رأوا إصراري على عدم البقاء عندهم ، تشاوروا فيما بينهم . وقالوا إن هذا الرجل مبارك ، وذهابه يعد خسارة لنا ، وأنه من الأفضل قتله وإقامة بناء يليق بمكانته على قبره ، فيكون بركة لنا وللقرية على ممر الزمان ..
قال العم عثمان وهو في حالة الانفعال الشديد :
– لم أمكنهم من نفسي .. هربت .. هربت في نفس الليلة التي علمت أنهم سيقتلوني فيها ..
وبينما كان يسار في انسجام تام مع العم عثمان ، وهو يستمع إلى قصته العجيبة ، التي لولا العم عثمان ومكانته لما صدقها .. بينما هو في هذه الحالة من الانسجام إذ سمع صوتًا كاللحن الشارد يقول :
– إنه لا يريدنا ..
والتفت بحركة لا إرادية سريعة .. ورآها ، في ابتسامة مليحة ووجه متورِّد وعينين فيهما الكثير من العتاب .. ثم حوَّلت نظرها إلى الخادم بعد أن ألقت بشواظها على قلب الفتى ( العذراء ) .. قلب يسار ..
ما الذي جاء بها في هذه الساعة ؟ ألم يتأخر في الخروج من البيت حتى ارتفعت الشمس .. هل تأخرت هي أيضًا .. كيف حدث هذا ؟
ومضى ذلك اليوم ، وعندما عاد يسار في المساء ، وبلغ المكان الذي كان يتحدث به مع العم عثمان ، تذكر تلك القصة ، وتذكر الجارية .. فخفق قلبه ..
وتلفت حوله ..
وشعر كأنه يسمع صوتها العذب يردد بدلال وإغراء :
– إنه لا يريدنا ..
وتطلع إلى النهر الذي خيَّم عليه الظلام ، وكانت الريح ساكنة ، والنهر ساكتًا ، وليس هناك من يضرب بمجدافه ويغني .. وبقي واقفًا لحظات تهجم عليه خواطر شتى ..
كيف هجمت هذه الفتاة على قلبه ؟!
كيف تسلَّلت إليه ؟
لقد أصاب قلبه ما كدَّر صفاءه ، لقد تلوث قلبه ، إنه لا يحق له أن يذهب بعد اليوم إلى المسجد ، أو يجلس بين يدي الشيخ .
إنه لم يعد ذلك الفتى الطاهر النقي الثوب ..
إن قلب العابد الموصول بالله يجب أن يخلو من الصور .. لا يدع فيه مكانًا لمثل هذه الجارية ..
كيف سمح لها أن تلوث بساط قلبه بأقدامها ؟!
كيف سمح لها .. إنه لولاه لما طمعت فيه ..
ولكن لا ..
سيذهب غدًا ..
وسيحدث الشيخ بكل ما حدث ، فعنده الدواء ..
ولم لا يحدثه ؟
إنه لا يفضي لأبيه .. ولا لأي إنسان قريب بما يفضي به للشيخ ، إنه يشعر بأن الشيخ منه بمنزلة الأب والأخ الكبير والصديق .. بل أكثر من ذلك كله .. إنه المربي ..
ووقف في غرفته المطلة على النهر ، وأخذ يتطلع من النافذة كان الجو باردًا ولكن ليس شديد البرودة ، وعلى الجهة الثانية من النهر يبدو بصيص بعض الفوانيس .. وأرسل طرفه إلى السماء .. إلى الكون الكبير الساجد .. في ذلك الليل البهيم ، ونظر إلى النجوم التي تطرز ثوب السماء .. وأخذ يردد مع نفسه :
– سبحان الله .. سبحان الله ..
ثم أخذ يرددها بهمس ، وأحس بلذتها وعذوبتها ، فرفع بها صوته وشعر كأنها أخذت تكبر وتكبر حتى عاد الكون كله يستجيب لهتافه .. سبحان الله .. سبحان الله ..
ولم يدر كم بقي واقفًا ، مستغرقًا ، محلقًا بروحه ، منصتًا إلى هتاف الكون ، الذي هو صدى هتافه النابع من أعماق قلبه .
ثم أغلق النافذة وسوى الستائر ، وألقى بنفسه على الفراش وراح يردد مع نفسه أدعية النوم ، ويفكر في معانيها الكثيرة المتجددة .. ثم لفه النوم الهادئ بين أحضانه ..

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كتب, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.