حديث الشيخ (6)

سر الجارية

قال محمد بن إسحاق الموصلي :
لم تمض على خروج يسار ساعة من الزمن ، حتى سمعت الجارية طرقًا قويًا على الباب اهتزت اه جنبات الدار ، فأسرعت تفتحه لترى من الطارق .
وطالعها رجل طويل عريض كبير الأنف صغير العينين ، قد كور فوق رأسه عمامة قديمة مهملة ، واشتمل برداء من الجلد مما يستعمله المسافرون . وقال الرجل بصوت جهوري ضخم :
– أين مريد ؟
وقبل أن تجيب ، ودون أن ينتظر جوابها قال :
– أخبريه بأن القافلة ستغادر غدًا ، بعد صلاة الفجر .
ثم أداره ظهره ومضى دون أن يلقي عليها نظرة، أو يحاول سماع الجواب. لكنها صاحت تقول:
– إلى أين ستغادر القافلة ؟
ودون أن يلتفت ، أو يكلف نفسه عناء الوقوف ، قال :
– إلى الشام .
قال أبو الحسن الورَّاق : واهتزت الجارية لسماع الخبر ، وقد فوجئت به .. إلى الشام ..!!
ماذا يريد مريد من الشام ؟!
أتراه يريد أن يتركها .. دون أن يخبرها أو يطلعها على موضوع سفره ؟!
هل نسي مريد يوم جاء به أبوها طريدًا شريدًا عاريًا ..
كان ذلك منذ سنين مضت ..
يوم كانت سرشير صغيرة تلعب في حديقة البيت عندما أقبل أبوها على جواد أدهم ، وأقد أردف خلفه غلامًا نحيفًا في غير هزال لا يستر جسمه البرونزي إلا خرقة تستر عورته . كان الغلام يبدو غريبًا متوحشًا ، تلمع عيناه ببريق مخيف . فلما رأته تملكها رعب مفاجئ ، فهربت صارخة إلى أحضان أمها التي طوقتها بذراعيها وهي تقول :
– لا تخافي .. لا تخافي يا بنتي .
ثم ترجل أبوها ، وأمر بأن يؤخذ الغلام إلى الحمام . وحاول أن يتمرد ، فكلمه بلطف ، وربت على رأسه ، فانصاع الغلام . ثم كساه بدلة بيضاء أضفت عليه سمتًا مقبولاً ، وأحضر له مؤدبًا علَّمه كثيرًا مما يحتاج إليه أمثاله ، وبقيت مدة لم تحاول الاقتراب منه أو الكلام معه . وكان هو أيضًا ينعزل في ركن من الحديقة الكبيرة التي تطرز حواشيها الأزهار من كل نوع ، وتنتشر في أرجائها الطيور الصغيرة الملونة ، طيور الجنة ، وعدد من البط يختال قرب حوض الماء .
ولم تمض أيام حتى تغير الغلام تمامًا .. لم يعد ذلك الغلام النحيف العري الجسم الموحش .. كانت تسترق إليه النظر وهو يأكل ، وتسترق إليه النظر وهو يجلس أمام مؤدبه . وقد كانت ترميه بكرة الصوف أحيانًا أو ببقايا التفاح ، فإذا نظر إليه شزرًا لاذت بأمها ..
وتجرأت يومًا على الاقتراب منه ، وحدثته .. فلم يرد عليها بكلمة واحدة ، وكان ينظر إليها ، وكأنه ينظر إلى طير صغير جميل .
وبعد ما يقارب الشهر على مجيئه ، أشار إليه أبوها يومًا .. فتبعه طائعًا ، بعد أن ارتدى ثوبًا جديدًا جميلاً . وفي المساء عاد الوالد يتبعه الغلام ، وكان في أشد حالات الانفعال والهياج .. وأخذ يتحدث بلا حذر . وكأنه فقد صوابه :
– لا أدري كيف يثق السلطان بهذا الرجل ؟
ومضى يخاطب أمها :
– كان هناك الوزير مندلي ، قال للسلطان إن هؤلاء لا يؤمن جانبهم يا مولاي ، لا يكن قصرك مأوى لأمثال هذا .
قلت للسلطان :
– أنا أتكفل به يا مولاي .. أنا أستطيع أن أجعل منه شخصًا آخر ، سأعلمه كل ما تريد .
ولكن الوزير الوثني استطاع أن يقنعه .. فأشار بيده يقول :
– أرى أن تضمه إليك .
وضرب كفًا بكف وهو يقول متغيضًا :
– أتذهب جهودي عبثًا ؟
وأشارت الوالدة ، وكانت جارية شقراء فاتنة ، من بلاد التركستان قالت :
– وماذا في ذلك ؟
فأجابها وهو ينفث لهيبًا من النار المتأججة في صدره :
– إن قلبي لا يطمئن إلى هذا الوزير .. إنه مخادع . إني أخشى أن يدبر مكيدة تؤدي بنا وبالسلطان وبالمملكة كلها ..
ثم سكت حتى هدأت ثائرته ، وقال بصوت متألم :
– أردت أن أجعله في خدمة السلطان .. لعله ينفعه .
لم تكن تدرك معنى لما يقوله أبوها ، ولكنها تشعر بأن هناك ما يشير إلى خطر متوقع الحدوث ، وأنا أباها كان يحذر السلطان ملك الهند من هذا الخطر ، ولكنه لم يلتفت إليه ، ولم يعره أهمية .
كيف يستطيع أبوها أن يقنع السلطان وهو لا يتقن إلا صناعة الغناء ! كان أبوها مغني السلطان ، وكان يطربه في ليالي الأعياد والمناسبات .. وكان مقربًا محظوظًا من جميع الذين يترددون على القصر .. إلا الوزير ! فلم يكن يرتاح إلى وجوده ، ولولا مكانته في الغناء ، لاستطاع إبعاده بسهولة .
ومضت سنون ، وارتاحت إلى الغلام الذي شب قويًا ذكيًا مخلصًا . وحدث ما توقعه أبوها . ففي إحدى المرَّات ، عندما خرج السلطان إلى الصيد كعادته في كل عام ، استولى الوزير مندلي على كرسي المملكة ، وطلب عون المماليك الهندية الوثنية فلبت نداءه . وأخذ يتعقب أعوان السلطان محمود الخلجي بالقتل والسجن والتعذيب .
فقتل أبوها .. وماتت أمها غمًا ..
واستطاع أن ينفذ وصية سيده ، فقد كان يوصيه في كل مرة :
– إذا وقع مكروه فلا تبق في هذه البلاد ، خذ سرشير وأمها وغادر البلاد بسرعة .
ولكن الوالدة أبت إلا أن تموت إلى جانب زوجها ، وأخذ الخادم سرشير وغادر المدينة سرًا ، بعد أن جعلها ترتدي ملابس غلام جركسي . ولما علم مندلي بهروبهم ، أمر خمسة من رجاله بأن يتبعوهما .
وعلى مسافة يومين أدركهم رجال الوزير . فوقف عربيد بانتظار القوم . وشعرت الجارية بأن نهايتها قد اقتربت .. فصرخت تقول :
– لماذا وقفت .. هل نسلم أنفسنا ؟
ولم يجب .. فقد وصل الجنود ، وترجَّلوا عن ظهور الخيل ، وتقدَّموا للقبض عليهما ..
كانت تقف قريبًا منها شجرة عظيمة ، حط عليها عدد من الطيور والعصافير ، وصاحت سرشير مرة أخرى وهي تلوذ بالشجرة :
– هل نسلم أنفسنا .. إنه الذبح ..
وحدث ما لم تتوقع ..
فقد ألقى الخادم بنفسه على الجنود ، واستولى على سيف أحدهم ، ثم أخذ يقاتلهم بشجاعة نادرة أذهلتها ، وأثارت إعجابها ، وجعلت الطيور تجفل مخلقة في السماء .. وكان خفيفًا نشيطًا ، سريع الحركة ، استطاع في أقل من ساعة واحدة أن يجندل ثلاثة منهم ، ولاذ الاثنان الآخران بالهرب .
وقف عربيد وصدره العريض يعلو ويهبط ، والسيف في يده يقطر دمًا وقد شعر بهمٍّ عظيم يزاح عن صدره .. فقد انتقم لسيده .
واحتفلت به الجارية بإعجاب وقالت :
– أنت بطل ..
ولم يرد عليها ، وإنما اتجه إلى الخيل ، فأمسك بجوادين ، امتطى أحدهما وأمرها أن تمتطي الآخر ، ثم انطلقا ينهبان الأرض ، حتى وصلا إلى بلاد فارس . فأقاما هناك سنين ، استطاعت الجارية خلالها أن تتقن اللغة الفارسية . وانقطعت عنهما أخبار الهند . ولم يصل إلى علم الخادم إلا أن السلطان محمود الخلجي قد لجأ إلى السطان عبدالحليم ، وقد وعد الأخير بنصرته ، ثم بلغه أن الوزير مندلي قد أرسل وراءهم من يتعقبهم ، وأقسم لينتقمن من عربيد شر انتقام . وأشارت عليه الجارية بالسفر إلى بغداد .. وفي هذه الرحلة أنفقوا كل ما لديهم من مال ومتاع ، حتى إذا وصلا إلى بغداد قالت الجارية :
– هل فكرت في أمرنا يا عربيد ؟
فأومأ برأسه وقال :
– إنني أعرف رجلاً تاجرًا، كان صديقًا لوالدك رحمه الله، وكان يتردد عليه عندما يزور منداو..
فانبسطت أساريرها وقالت :
– من هو .. ما اسمه ؟
ودون أن يلتفت إليها قال :
– أنسيته .
واصطحب الجارية ، وذهب يسأل ويتطلع في الوجوه في سوق التجار لعله يجده .. وهناك رآهما حكيم بن محمود ، وعلم أنهما غريبان يبحثان عن مأوى ، فرحب بهما ، وقدَّم لهما هذا الدار بكل ما فيه من أثاث ومتاع .. وكانت الجارية قد تعلَّمت اللغة العربية عندما تعلمت القرآن في منداو ، وكانت لغة الطبقة الراقية في الهند .. وتعلَّمها عربيد أيضًا لاتصاله بعدد من التجار العرب الذين كانوا يفدون على الهند لغرض التجارة .
ولم تمض في تأملاتها بعيدًا .. فقد أقبل مريد ، وكانت تبدو عليه السرعة والاهتمام .. ودخل دون أين يتلفت إليها ، وتوجه إلى غرفته .. فأسرعت في أثره . فإذا به قد أعدَّ كل شيء ، وحزم أمتعته ولم يبق إلا أن يحملها ويذهب .
فارتاعت لهذا ، ولم تصدق عينيها ، وهتفت بجنون :
– إلى أين يا مريد ؟
ودون أن ينظر إليها قال :
– سأغادر بغداد .
وهتفت به :
– وتتركني يا مريد ؟
فأجاب بكل هدوء :
– نعم .
وصرخت دون وعي :
– لماذا ؟ لماذا يا مريد .. هل آذيتك ؟
ووقف مريد وصدره العريض يعلو ويهبط ، وقد بدا قويًا رائعًا في تناسق جسمه ولون وجهه ، وقال بصوت هادئ :
– لقد قضيت ما مضى من حياتي عبدًا لك .. فأردت أن أقضي ما بقي منها عبدًا لله .
فهتفت به وهي تمسكه من يده :
– ما الذي يمنعك وأنت هنا ؟
فأبعد يدها بلطف وقال :
– أريد أن أذهب إلى بلد لا يعرفني فيه أحد .. أريد أن أهجر الماضي بكل ما فيه من تعاسة وهوان ..
واستعطفته بنظراتها وقالت :
– منذ متى وأنت تعيش في هذه الأفكار ؟
فتنهَّد وقال :
– من يوم التقيت بالشاب العابد الزاهد يسار ..
ومضى يتكلم عنه بصوت عميق يوحي بشدة تأثُّره :
– أنت لا تدرين أي رجل هذا ! إنني أنظر إليه من بعيد ، فأراه كأنه ذهب إلى الآخرة ، واطَّلع على ما فيها ثم عاد إلى الدنيا ، فهو دائم الرغبة والرهبة .. لا تغادره صورة المعذبين في النار ، ولا صور المتنعمين في جنات النعيم ..
إنه رجل .. لا يعرفه كثير من الناس .
كانت تصغي إليه ، وتود لو مضى في وصفه أكثر مما وصف .. إنها تدري أي رجل هو .. فمنذ اللحظة الأولى ، منذ رأته في بيت حكيم بن محمود ، عرفت أنه لا كالرجال الذين رأتهم ، إنه نسيج وحده .. ولذلك فقد أشفقت عليه من نفسها ، وأشفقت على نفسها منه .
ومضى مريد يقول :
– منذ التقيت به لأول مرة ، وأنا أفكر في الكلمات التي قالها لي .. قال : بل أنت مريد .. المريد هو صاحب الإرادة القوية .. اتق الله واجتنب المعاصي .. وفكرت في نفسي ، وفكرت فيك ، وفكرت في يسار .. هذا الفتى الذي يملك المال والقوة والجمال .. مَنْ مِن النساء من لا ترغب في يسار ..؟
ولكنه الفتى النظيف الذي لا يدع شيئًا يلوِّث قلبه الأبيض . لا يغرنك بعض ما ترين من نزوله .. فإنه لا ينزل إلا ليعلو ، ولا يدنو إلا ليبتعد ، ولا يهبط إلا ليحلِّق .. إنه رجل يحاسب نفسه بعد كل هفوة يرتكبها .. ولا يزال بها حتى يقيمها على الجادة البيضاء .
وسكت مريد ، وظل صدره العريض يعلو ويهبط ، وكان يبدو كالبركان الذي ضاق بالنار المتأججة في صدره فأراد أن يقذفها ..
قالت :
– ولكن يا عربيد ..
فقاطعها بحدة :
– لقد سماني يسار ( مريد ) ، ولا أريد أن أستبدل به غيره حتى ولا واسمي القديم .. وقد رضيت أنت به .
وعادت تقول مرة أخرى :
– ولكن يا مريد ..
وقاطعها أيضًا :
– أريد أن تسمعي كلامي أولاً .. ماذا ينفعك هذا المدعو حكيم ، إن ألاعيبه ستعود بالشر العظيم ..
وصاحت قبل أن يستمر :
– مريد .. اسمعني ..
قال :
– لا فائدة يا سيدتي .. لقد دفعت الأجرة ، وسأغادر غدًا .
وصرخت مرة أخرى وقد اعتراها الغضب :
– اسمعني يا مريد .. اسمعني .
ثم سكتت قليلاً ، لتستعيد هدوءها .. ثم قالت بصوت اجتهدت أن يكون في غاية الرقة :
– هل تستطيع أن تنتظر لعدة أيام .. فلعلي أجيء معك .
فهزَّ رأسه بإصرار وقال :
– أبدًا .. لقد تقطَّعت العلاقة بيننا .. إنني لم أعد أصلح لك ، ابحثي عن غيري .. إنني أريد أن أسلك الطريق الذي سلكه يسار .. لقد تبت يا سيدتي . أتفهمين معنى كلمة تبت ..؟
وهمست تقول :
– أنا أيضًا سأتوب .. أقسم لك .
وحمل أمتعته وهو يقول :
– كلا .. هذا آخر لقاء بيننا ..
وقبل أن يخرج ، هتفت تقول :
– انتظر ..
وغابت قليلاً ، ثم عادت وهي تقول :
– خذ هذا .. استعن به على قضاء حوائجك .
ونظر إليها نظرة جامدة .. كانت تحمل كيسًا من النقود مدت يدها به إليه ، وظنت أنه خير ما يقدم لهذا الخادم المخلص الأمين .
ولكنه قال :
– لا يا سيدتي .. أنا لا أريد أن أصل إلى الله بالمال الحرام .. المال الحرام لا يوصل إلى الله يا سيدتي .. لقد كسبت بعض ما حصلت عليه بكدِّ يدي .. بتعبي .. ليالي طويلة مرت علي وأنا لم أذق طعم النوم .. أريد أن أقف بين يدي ربي وأنا نقي الثوب ، نقي الجسد ، نقي القلب . لا يلوثني أثر من آثار المعصية ..
أفهمت يا سيدتي ..
إني مهاجر إلى ربي ..
ومضى مريد يحمل أمتعته في حزمة كبيرة على كتفه ، وتبعته الجارية إلى الباب ، ثم وقفت تشيعه بنظراتها ، حتى احتواه الظلام الذي بدأ يزحف محتلاً مواقع النهار .. ولم تشعر إلا والدموع تنهمر على وجنتيها ..
لقد ذهب مريد ..
لقد فهم إشارة يسار عندما قال له : إن أرض الله واسعة ..
وشعرت الجارية كأن شيئًا عزيزًا قد انتزع منها .. شخص كان يشاركها آمالها وآلامها ، تقاسمت معه السرَّاء والضرَّاء ، حتى إذا كانت في أحوج اللحظات إليه .. تركها ..
تاب ..
وتنهَّدت وهي تنظر إلى الطريق الطويل الذي أخفاه ، فرأت شيخًا عجوزًا مقبلاً يتوكأ على عصا ، وسمعت طفلاً يغني فتردد الجدران صدى صوته .
وردت الباب بلطف ..
ودخلت وهي تفكر في مصيرها ..
ويسار ..
لا .. إنه لا يتزوجها .. إن فورة حبه ستنطفئ إنه كما قال مريد .. سوف يحاسب نفسه حتى يقيمها على الجادة ..
إنه ليس لها ..
إنه ليس من عالمها ..
إنها لا تستطيع أن ترتفع إلى عالمه ، فهل تستطيع أن تدنيه إلى عالمها ؟!
وخيِّل إليها كأنها تسمع صوت حبيب بن مسعود يهمس : لا تفعلي .. بالله عليك .
ثم وهو يقول :
– إن دون الوصول إلى يسار سبعة أبواب ، عليها سبعة أقفال من حديد .
لماذا تركض وراء السراب ؟
من الخير لها أن تنسحب وهي عزيزة مطلوبة مرغوبة ، قبل أن تضطر على الانسجام وهي …!
سوف تبتعد عن طريقه .. تتهرب منه ..
لن تفتح الباب إذا أتى .
ولكن .. هل تستطيع ؟

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كتب, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.