حديث الشيخ (8)

زهد وحسان

قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
وسر أبو محمود لما رأى من تغيُّر يسار ، وصفَّق وهو يقول :
– ألم أقل لكم ، سأسقيه الخمر بيدي .
وكان أبو محمد يظن أنه يستطيع أن يغوي أي شخص مهما كان من علو المنزلة ، والمكانة والزهد والعفاف .. ومهما أحاط بذلك الشخص نفسه ، بأسوار تقيه شر الموسوسين من الجنة والناس أجمعين ! وأن الشيطان لو عجز عن أحدهم ، فلن يعجزه .
قال أبو العرفان : كان حسَّان بن معيقيب أحد هؤلاء الذين سقطوا تحت تأثير حيكم . وقصته كما حدثنا بها غير واحد ، أنه كانت له ابنة عمة ، وكان يحبها كأشد ما يحب الرجال النساء ، وكانت جميلة ، تقيَّة ، مؤدَّبة ، ذات خلق ودين .
عاش معها في بيت واحد ..
ترعرعا سوية .
كانا يلعبان سوية ..
يتذاكران قصار السور من القرآن الكريم ..
كانت تسبقه دائمًا في الحفظ .. وإذا تأخر في قراءة آية أو أخطأ أخذت تنظر إليه وتضحك .
وكانت تعجبه ضحكاتها ..
ولاسيما إذا احتوى فمها الصغير قطعة من الخبز ..
ولكنه كان يغضب كثيرًا إذا استرسلت في الضحك ، وجاوزت الحد الذي يرضيه .
وقد يضربها .. فتذهب إلى أمها تبكي . وإذا غضبت أمها فلا يقوم لها شيء ، فقد تنهال عليه تعنيفًا ، وقد تمنعه من اللعب مع ابنتها زهد . وذلك أقسى عقاب بالنسبة له ..
فهو لا يصبر عنها ..
ولا يجد لذة للعب مع غيرها ..
ولا يعوضه أحد من أطفال المحلة عنها ..
وإنه ليتذكر كيف كانا يحتالان على اللقاء واللعب .. كان يقف في زاوية من الدار ، وتقف هي في زاوية بعيدة ، ويتقاذفان كرة من الصوف ، أو يتحدثان بالإشارة ..
كانا يضحكان كثيرًا ..
إنه لا ينسى ضحكتها أبدًا ، ولا ينسى عندما ترفع يدها الصغيرة وتخط على الحائط كلمة التحذير : أمي ..
فيهرع إلى أقرب مكان يختبئ فيه .
كانت تسرق منه غطاء الرأس وتهرب في المحلة ، فيتبعها يركض وراءها ، يحاول أن يمسكها من ضفائرها التي تتراقص على ظهرها . ولكنها تروغ من بين يديه بكل خفة . فإذا أوشكت على التعب عادت إلى البيت ولاذت بأمها .. فيقف لاهثًا يتمنى لو ظفر بها ! ولكنها تقف وراء أمها ، وتضع الغطاء على رأسها ، وتخرج لسانها الأحمر الصغير .. شامتة ومتحدية ..
كانت أمها قوية شديدة صارمة ، وكانت عبوسًا متجهِّمة ينضح الحنظل من وجهها .. إذا رأت بقعة أو وسخًا على ثوب ابنتها زهد ، عنَّفتها ، وألقت اللوم على حسَّان ..
لا يدري لماذا كانت تكرهه .. ولماذا تحاول النيل منه أمام والده ..
ومع كل ما كان يقاسي من أمها ..
فإنها كانت تلك .. تلك هي الأيام الحلوة في طفولته ..
ثم استيقظ ذات يوم فلم يجدها ..
لم تدغدغ ضفيرة شعرها وجهه ..
ولم يسمع زقزقتها ..
قيل إنها سافرت مع أمها ..
وقيل أن أمها قد تزوجت .. وأنها انتقلت إلى بيت الزوج ..
وقالت له أمه وهي تمسح دموعه :
– لا تبك يا بني .. إنها ستأتي .. ستزورنا مع أمها ..
وأخذ يعد اللحظات والساعات والأيام ..
وطالت غيبتها ..
وكان يبكي كلما خلا إلى نفسه ..
وكان يحتفظ ببعض اللعب ، والأشياء الصغيرة الجميلة التي تركتها .. ولم ينسها .. ولن ينساها أبدًا .
ثم علم أنها زارتهم مرتين .. ولكنه كان نائمًا وقت الظهر !
فعزم على أن لا ينام وقت الظهيرة ما دام حيًا ..
ولكنه لم يرها ..
ومرت سنوات ..
وشبَّ الفتى .. تقيًا صالحًا يتردد على مجالس أهل العلم ..
وبقيت صورة زهد مستقرة في نفسه .. في قلبه ..
حتى عاد ذات يوم من المسجد .. بعد أن أدَّى صلاة الجمعة ..
وعندما دخل البيت ، سمع صوتًا يقول :
– هاهو قد عاد .
ووقف مكانه ..
لقد رأى على بعد خطوات منه فتاة طويلة نحيفة متوردة متفتحة رائعة ..
كانت تنظر إليه ..
كأنها لا تصدق ..
وأخذ قلبه يدق بسرعة ..
وأراد أن يتكلم ..
فاحتبست الكلمات في فمه ..
ورأى الدموع تطفر من عينيها ..
فهتف بكل قلبه :
– زهد .
وتقدمت خطوة ، ومدت يدها وهي تجيب :
– حسَّان .
ولم تتحدث الألسن .. ولا العيون ..
وتشابكت الأيدي في لهفة وشوق ..
وانهمرت الدموع ..
ونسي حسَّان كل ما حوله ، ولم ينتبه إلى وجود أمها وأمه وأخته وأبيه ..
وقال وهو ينظر في عينيها الواسعتين الكحيلتين :
– زهد .
فهتفت ملبية :
– حسَّان .
قال وهو لا يكاد يصدق عينيه :
– أنت كبرت يا زهد .
قالت :
– وأنت يا حسَّان .
قال :
– لقد بكيت وراءك يا زهد .
قالت :
– وأنا يا حسَّان .
قال :
– كدت أموت يا زهد .
قالت :
– وأن يا حسَّان .
قال :
– لماذا لم تأت يا زهد .
قالت :
– لم أستطع يا حسَّان .
قال :
– كنت أتضرع إلى الله أن يجمعني بك يا زهد .
قالت :
وأنا يا حسَّان .
قال وهو ينظر إلى ضفائر شعرها اللتين تدلتا على صدرها :
– أنت جميلة يا زهد .
وتورَّدت خدودها وهي تقول :
– وأنت يا حسَّان .
كانت القلوب تتحدث بأكثر من هذا ..
والعيون بريد القلب إلى القلب ، تروي أحاديث السنين التي مضت واللسان لا يفصح إلا بالقليل .. القليل .
وبقيت الأيدي في عناقها الطويل .
وسألها بلهفة :
– ستبقين هنا زهد ..
فهزَّت رأسها وهي تنظر في عينيه :
– أجل يا حسَّان .
ثم سمع أمها تقول :
– نعم يا حسَّان .. ستبقى كما تشاء .
وسبحت يدها في رفق بالغ .. فتركها ..
وقد أحس في صوت أمها مزيجًا م الحزن واليأس .. ثم نظر إليها ، وأقبل يسلم عليها ..
ولم تكن كما تصورها في طفولته .. فقد نهضت واعتنقته .. وأخذت تنظر إليه وتثني عليه . لم تكن طويلة ولا ضخمة ولا صارمة ، كانت امرأة عادية كباقي النساء ، تحمل قلبًا طيبًا ، يتأثر ويبكي ، ويحب ويكره .
لقد توفي زوجها الثاني .. فعادت إلى بيت أخيها ..
وستقيم ..
وستبقى زهد إلى جانبه ..
وفي المساء ، عاد حسَّان بعد صلاة العشاء ، ولم يتأخر كعادته كل ليلة .. لم يذهب إلى مجلس الشيخ أبي الوفاء ، بل أسرع إلى البيت ليرى ، وليتحدث مع زهد .. كانت الدنيا لا تسعه من شدة الفرح .
ولكن فرحته لم تقف عند هذا الحد ..
فقد سمع أباه يحدث عمته في أمر زواجه من زهد ..
وأخذ قلبه يدق بشدة ، وتلهَّف لسماع الجواب ، ولكنه لم يسمع شيئًا .. فبات تلك الليلة ساجدًا ، ورافعًا يديه إلى السماء سائلاً المولى الكريم الرحيم أن يمنَّ عليه بزهد .. وعندما ارتفع صوت المؤذن لصلاة الفجر ، خرج مع أبيه إلى المسجد .
وتمنى لو حدَّثه أبوه ..
لو أخبره بما قالته عمته ..
ولكن أباه مضى يردد أدعية الصباح ، ودعاء المشي إلى المسجد ..
حتى همَّ بأن يسأله !
ووقف أبوه فجأة ..
والتفت إليه ، وقال :
– لقد وافقت بعد إلحاح طويل ..
ولم يصدق حسَّان أذنيه ، وتمنى لو كرر أبوه العبارة ، وأراد أن يصيح : ماذا يا أبي .
وتمهل أبوه ، وقد اختار ناحية مظلمة من الزقاق ، لكي تستر الانفعال الذي يظهر على وجه ابنه حسَّان .. ثم عاد يقول :
– لقد وافقت ..
وتنحنح قبل أن يضيف :
– ستتزوج ابنة عمتك يا حسَّان .
هكذا هجمت عليه السعادة مرة واحدة .. وهجم حسَّان على أبيه يقبله من وجهه ويده .. ثم خرَّ على الأرض ساجدًا لله شكرًا على ما أنعم عليه .
وتزوجها ..
وعاش معها تسعة أشهر ..
تسعة أشهر كأنها رؤيا ..
كانت تحدثه برؤى كثيرة لطيفة تراها في منامها ، وكانت تلك الرؤى تتحقق كما تراها ..
وكان يستيقظ بعد منتصف الليل فلا يجدها إلى جانبه ، ثم يراها قد وقفت في ناحية تصلي ..
كأنها رابعة العدوية ..
أو إحدى العابدات الصالحات ..
كانت تعيش في عالم الملائكة ..
كانت كأنَّها حورية من حور الجنان ، جاءت في زيارة قصيرة إلى الدنيا ثم عادت إليها خفيفة مسرعة ..
تسعة أشهر ..
تسعة أشهر فقط ..
ثم ماتت ..
وأظلمت الدنيا في عينيه ، وهام على وجهه ..
كانت الشمس الذي تضيء له دنياه ..
كانت الابتسامة الحلوة التي تملأ نفسه نورًا وبهجة ..
كانت اللحن الجميل الذي يطربه بأنغامه ..
كانت ..
وكاد يجن .. لولا أنه كان يراها في منامه .. وتواسيه وتصبِّره ، وتقول له :
– لا تيأس يا حسَّان .. إنني أنتظرك .
وقالت له مرة :
– ارحم نفسك يا حسَّان ..
ولم يجد أبوه وسيلة أو حيلة لتسليته ..
وفي تلك الأيام التقى به حكيم بن محمود ، فأخذ يشير عليه بأن يداوي ما به بشرب الخمر .. وهاله أول الأمر سماع هذه الكلمة ! ونظر إلى حكيم بغضب .. ولكنه تقبلها بعد ذلك .. وذهب معه إلى الأماكن المنزوية .
وفي المساء الذي قارف فيه هذا المنكر .. رأى زوجته في المنام .. رآها تهرب منه إلى مروج بعيدة خضراء .. أما هو فقد رأى نفسه واقفًا في خرائب سوداء مهدَّمة ..
ثم لم يعد يراها بعد ذلك ..
لم تعد تواسيه ..
لم تعد تصبره ..
لم تعد .. لم تعد !!
وغرق فيما هو فيه إلى أذنيه ..

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كتب, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.