أوضاع الجالية المسلمة في بريطانيا

د. رنا قباني
يعود الفضل في إجبارنا علي الانفتاح علي الآخر إلي القضية التي كانت قد أثيرت في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين حول رواية آيات شيطانية للكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي. حتي ذلك الوقت كنا جالية غير مرئية إذا جاز التعبير وإذا ما تسني استخدام مثل هذا الوصف في حق جماعة تبلغ من التنوع ما نبلغه، فلغاتنا متعددة وأصولنا القومية والعرقية متباينة ونتوزع علي كافة الطبقات الاجتماعية والاقتصادية. رغم هذا الاختلاف والتنوع فقد هاجمتنا العقارب العنصرية التي أطلقت من جحورها لتنال منا وتلدغنا دونما تمييز.

وجدنا أنفسنا محصورين بين نوعين من الطغيان، الخميني بما أصدره من حكم بالإعدام علي كاتب (مهما كان خاطئاً أو أحمق)، والفتوي الليبرالية القاسية ضد هويتنا الدينية، والتي أصدرت علينا حكمها التعميمي المحقر دونما تمييز واصفة إيانا بالأجانب والبربريين. لقد أفرزت تلك الأزمة حالة من الاستقطاب بلغت مداها حينما حفزت حتي أولئك الذين اقتصر فهمهم للإسلام وعلاقتهم به علي بعض الأعراف الاجتماعية والعادات العائلية أو الاختيارات الشخصية إلي أن يتحولوا فجأة إلي محاربين في سبيله. في هذا الخضم خلت مواقف الفريقين من أدني مساحة للحنكة. مررنا حينها بظروف مؤلمة ومربكة وأبعد ما تكون عن الشفقة.

إلا أن الأزمات تعلم وتسيس، وقد سيستنا تلك الأزمة وفرضت علينا أن نرتب أوضاعنا. كانت تلك بداية صياغة مصطلح المسلمون البريطانيون ، ذلك المصطلح الذي ولد من رحم عصر الهستيريا الإعلامية التي لم تترك لنا خياراً سوي اللجوء إليه ربما في محاكاة غير مقصودة لمصطلح آخر سبقه وتفوق عليه ألا وهو مصلح اليهود البريطانيون الذي يعبر عن أقلية دينية أخري لا يتجاوز تعدادها ربع تعداد المسلمين، ومع ذلك فقد تمكنت عبر قرن من العمل الجاد والجيد وبفضل ما حققت من ثراء وأنجزت من تضامن من أن تجد لنفسها مكاناً تحت الشمس البريطانية التي لا تكاد تبزغ. لقد تمكنت الجالية اليهودية من أن تحظي بنفوذ ووزن لا يضاهيان وذلك بفضل ما حققته من نفوذ هائل داخل البرلمان وبفضل تواجدها الواضح والمؤثر في الإعلام وفي الأوساط المالية وبفضل ما تملكه من وسائل ضغط سياسية وشعبية.

مقارنة باليهود، كنا معشر المسلمين لا نحسن العلاقات، وكانت مآسينا الناجمة عن استعمار الغرب لبلادنا إما غير معروفة أو لا تحظي باهتمام أحد. وكنا في شقاق مع أنفسنا ومع البلد المضيف لنا، وكنا نفتقر إلي النفوذ سواء السياسي أو الاقتصادي، ولم يكن لنا صوت في وسائل الإعلام التي كان شغلها الشاغل وبشكل يومي تشويه صورتنا، ولم تكن لدينا القدرة علي معرفة كيف نرتقي فوق ما هو شخصي وفردي حتي يتسني لنا خدمة مصالح المجموع الذي غدا جالية مسلمة بريطانية مستقرة وكبيرة الحجم.

كان الاندماج الحقيقي هو العقبة الأكبر والأشق، وكانت اللغة، أو بمعني أصح عدم إتقانها، هو المظهر الأهم لهذه العقبة. ككل المهاجرين الآخرين، اكتسب الجيل الأول مستويات متباينة من إتقان التحدث بالإنكليزية، ولكننا كنا كلما بكينا أو سخطنا نصيح ونلعن بلغاتنا الأصلية، بالأردو أو بالعربية أو بالبنغالية أو بالعفارية أو التركية. كنا ما نزال مواظبين علي قراءة جرائد بلادنا القديمة وكانت الأخبار الواردة من البوسنة أو من العراق أو من كشمير أو من فلسطين تنال منا وتكاد تفتك بنا. وكنا خلال ذلك كله نزداد سخطاً بسبب السياسات البريطانية المعادية لمصالح أمتنا في كل واحدة من هذه القضايا التي كانت تستحوذ علي اهتمامنا نحن معشر المليوني مواطن من مواطنيها. لم يكن الحبل السري الذي ربطنا ببلادنا الأصلية قد انقطع بعد، ومع ذلك فلم نتمكن من العناية به بأنفسنا. كانت الأوضاع في بلادنا الأم دموية وفي غاية الفوضي، ولم يكن ثمة قابلة محلية قادرة علي مساعدتنا في إنجاز هذه الولادة العسرة التي عجزنا وحدنا عن إتمامها.

ما من شك في أن الاندماج يتطلب شارعاً معتني به ومفتوحاً للسير في الاتجاهين لا طريقاً مسدوداً ومجمعاً للنفايات كالذي خصص لنا. فحتي لو كنا في أمس الحاجة إلي الاندماج ـ وكثيرون منا يتوقون لذلك ويريدونه ـ بمعني أن ننحي جانباً كل ما لم يعد ضرورياً وأساسياً من شخصياتنا السابقة، ما كان بإمكاننا إنجاز ذلك دون يد حانية ومرحبة يمدها إلينا شركاؤنا الجدد في المواطنة. ولكن مثل هذه المبادرات الكريمة نادرة جداً، وما قوبلنا به بدلاً من ذلك كان مزيجاً من الحذر والشح والريبة علي المستويين الشعبي والحكومي. تركنا نعاني الآثار النفسية والمادية لمنعزلاتنا إلي أن لوح لنا براية التعددية الثقافية فاستلمناها ولوحنا بها ذات اليمين وذات الشمال طائعين.

وكالعادة، تمتع الأثرياء منا بالحماية، إذ كانت الإقامة الدائمة وما يترتب عليها من اكتساب للجنسية البريطانية لسنوات عديدة تمنح مقابل الاستثمار المالي داخل بريطانيا، وكأنما لسان حال القائمين علي القطاع المالي في البلاد هو: أعطونا أموالكم المكدسة بدلاً من أعطونا جماعاتكم إذا ما أردتم الهجرة بغرض الإقامة بين ظهرانينا.

ولكن حتي بين من كانوا أقل ثراءً، كانت ثمة تباينات واضحة. فالذين جاءوا منا بثقة من مدن راسخة وعريقة مثل دمشق وبومبي واسطنبول ولاهور لم تسرهم الحياة في مانشستر أو في ليفربول أو حتي في لندن، ولكن سريعاً ما تأقلموا مع حياة تلك المدن بما أوتوا من حصافة. أما أولئك الذين قلعوا من مواطنهم في القري الريفية في باكستان أو مصر فلم يتمكنوا من التغلب علي الأعراض الناجمة عن إعادة زرعهم في بيئات غريبة عليهم، فما كان منهم إلا أن وهنوا سريعاً. وتماماً كما حصل مع المزارعين الإنكليز الذين جردتهم الثورة الصناعية من ممتلكاتهم قبل قرن، فقد فقد هؤلاء المسلمون بوصلتهم. ونظراً لأن حياة القرية لم تتوغل في المراكز الحضرية، فقد تقوقعوا علي الذات متمسكين بأفكار دينية ومسلكية ضيقة الأفق رغم أن مثل هذه الأفكار قد تغيرت واستبدلت في الأرياف التي جاءوا يوماً منها وتركوها وراءهم.

في مثل هذه الظروف لا مفر من حدوث صدام حاد بين الأجيال، وخاصة بعد أن أنجب جيل الآباء ذرية لا تفهم ـ ولا تريد أن تفهم ـ اللغة التي ينطق بها الآباء سواء في صياغاتها الحرفية أو بمعانيها التشبيهية. وسبب ذلك هو تدخل بريطانيا الحديثة ـ بمدارسها ولغات شوارعها وأنماط معايشها ـ بين الجيلين، بين الأب وابنه وبشكل أكثر خطورة بين الأب وابنته. ثم ما لبثت هذه المتدخلة أن انسحبت تاركة إياهم في حالة من الضياع والريبة والغضب.

خلق هذا الوضع من الانفصام، في القطاعين الخاص والعام، بيئة خام وفراغاً لم يكن مستغرباً أن تستغله المؤسسة الدينية المنظمة (الممولة من الخارج بمباركة أمريكية ومن جيوب أكثر العناصر تخلفاً في الباكستان والخليج) لتستقطب التائهين من أبناء المسلمين في بريطانيا.
ففي غياب وسط جماعي يستقطبهم، أو مؤسسات علمانية تجتذبهم، أو أموال تنفق علي تحسين أوضاعهم المعيشية أو توفر لهم فرصاً تدريبية تؤهلهم أو مهناً كريمة يسترزقون منها، تدفق الشباب المسلم ـ ، وقد خلا الأفق أمامهم من أي بارقة أمل بمستقبل مطمئن ـ علي المسجد الذي فتح أبوابه مشرعة ليستقبلهم ثم ليستوعبهم تاركاً أولياء أمورهم في حيرة من أمرهم نظراً لأن هذا التحول كان في كثير من الأحيان يأتي مفاجئاً وبلا مقدمات.

ونتيجة لسياسة عدم تدخل الدولة التي تنتهج في بريطانيا، والتي تترجم عملياً في صورة إهمال مريع، ونظراً لأن الحركات الإسلامية السرية نشطة جداً في ملء هذا الفراغ، فإن نوعاً من الانعزال الآلي حل محل أي أمل في تحقيق اندماج طبيعي للكثير من أبناء الجيل الثاني والثالث من مسلمي بريطانيا الذين ارتكب في حقهم من الخطايا أكثير بكثير مما وقعوا فيه هم أنفسهم من خطايا. وكانت العواقب الكارثية لذلك أن انتهي المطاف بعدد ممن يحملون جوازات السفر البريطانية من المسلمين أن يحتجزوا في أقفاص معتقل غوانتانامو بي (في كوبا). بقدر ما هو صعب أن يقال (وأقوله وقلبي يعصره الأسي والحزن) وبقدر ما هو مؤلم أن يسمع، فإن علينا أن نصرح بأن بريطانيا خذلت مسلميها، والتاريخ وحده سيحكم إن كان هذا الخذلان مقصوداً أم غير مقصود.

بعد أن أمضيت في بريطانيا زهاء العشرين عاماً، أناضل في سبيل موقع ولو نصف محترم كإمرأة متعلمة ومتجنسة، أي كمسلمة بريطانية، وصلت إلي قناعة بأن فشل هذا البلد في التعامل مع جاليتي المسلمة كان وسيبقي فشلاً في الإرادة وفي التصور هو انعكاس لفشل هذه البلاد في أن تعيد ترتيب أوضاعها علي نحو أقل أنانية بعد أن أفلت عنها الشمس ولم تعد امبراطورية كونية يحسب لها كل حساب.

من المثير للانتباه أن أشكال التمييز الاجتماعي التي صيغت في المستعمرات جلبت إلي عقر دار المستعمر وسخرت بطريقة شريرة ضد الأغلبية البيضاء في بريطانيا ـ والتي تمثل ذوي الدخل المحدود والفقراء ـ وليس فقط ضد الأقليات الملونة التي تمثل ظاهرة نجمت بدورها عن السياسة الاستعمارية الخرقاء. فما يزال نظام التعليم القائم علي الفصل العنصري هو المعمول به اليوم في بريطانيا تماماً كما كان عليه الوضع حينما عممت المدارس الحكومية لتستجيب لاحتياجات الإدارة (والنخب المحلية الموالية لها) في مد الأساطيل الاستعمارية بما تحتاجه من الرجال حتي تظل سيدة البحار.

حينما زرت شمال إنكلترا لأول مرة لدراسة أوضاع المسلمين هناك ـ وقد أهملوا وألقي بهم كما يلقي بالنفايات تماماً كما لو كانوا مخلفات صناعية بعد أن تبخرت وظائفهم إثر إغلاق المصانع ـ أذهلني أن أري الفقراء من البريطانيين البيض الذين أضحوا هم الآخرين نفايات بشرية بعد أن أفــــقروا وأعدمــــوا من ممتلكاتهم وأصبحوا بلا فائدة، تكتظ بهـــــم الأحياء الداخلية للمدن وضواحيها علـــي حــــد سواء، وقد بتروا بلا رحمة من خارطة بريطانيا الحديثة تماماً كما هو حال معظم الآسيويين والأفارقة البريطانيين.

لقد رأت بريطانيا أن من المناسب أن تتحول إلي بلد يملكه الأغنياء حصراً، ناكرة جميل طبقتها العمالية التي عفا عليها الدهر ومحقرة لها (مع العلم أن مصطلح الطبقة العمالية لم يعد له قيمة ولا احترام بفضل الخصخصة وصناعة الخدمات والمناورات السياسية التي تمارسها الحكومة)، فأقدمت بقدر كبير من اللامبالاة علي إزالة صمامات الأمان التي كانت يوماً قد وفرتها لحماية هؤلاء العمال، السود والبيض منهم والمسلمين والمسيحيين علي حد سواء، متظاهرة في نفس الوقت بمنحهم وذراريهم رعاية صحية أقرب ما تكون إلي المرض منها إلي الصحة وخدمات تعليمية بدائية وقاصرة عن الوفاء باحتياجاتهم. أي أن بريطانيا باختصار سلكت مع العمال ما يمكن أن يتوهم في الظاهر بأنه الوداد بينما كان سلوكها في الحقيقة هو نفسه الفساد، لا تشذ في ذلك عن الأنظمة البائسة في الأقطار النامية من العالم الثالث حيث كانت بريطانيا حتي عهد قريب المستعمر والسيد المطاع.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف ركن الدعوة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.