التوابون – 2007-02-01

المبالغة في الخطأ دواؤها المبالغة في التوبة كما يقول الحديث الشريف :” عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ” وهو حديث حسن أخرجه الترمذي وأحمد وغيرهما.

خطّاء أي كثير الخطأ ، والتوّاب أي الرجّاع إلى الله بالتوبة ، ومادام ابن آدم خطّاءً فعليه أن يكون تواباً يستغرق بتوبته كل خطأ ، وقد ظهر لي أن حس إدراك الخطأ يكاد يقتصر عند البعض على بعض المعاصي البسيطة التي تقلقل من توازن الإنسان المؤقت فتشعره بالبعد عن الله ، ولكنه لا يستغرق بالتوبة الذنب كله ، وقد يفعل فتكون توبته تتعلق بذنب فردي يؤرقه ، ولا تمتد لتجعل من صاحبها توّاباً ، والعديد من الأخطاء التاريخية إضافة إلى ما يلقى للناس بمكر على أيدي الوعاظ الرسميين قد ساهم بشكل مريع في تدهور معاني التوبة ، بل أزعم أنه بنى في بعض النفوس عزة بالإثم لا يكاد يحس صاحبها معها بخطأ ولا يستدرك معه بتوبة ، لأن بعض الذنوب العامة لم يرتكبها إنسان بعينه بل هي محصلة تراكم طويل من الأخطاء بحيث صار الإنسان يعفي نفسه من حصته الخاصة في ذلك الذنب الجماعي التاريخي الطويل.

أحد أفاضل العلماء هاجم بشكل كاسح بعض رموز النهضة الإسلامية في القرن الماضي لأنهم فتحوا الأبواب لبعض السلبيات وخصوصاً فيما يتعلق بالعلاقة بين المرأة والرجل ، ودور النساء في المجتمع ، وحتى الآن لا أفهم لماذا يسكت الإسلاميون وخصوصاً العلماء والدعاة منهم عن حال بائسة تعيشها كثيرات من النساء في بلاد العرب والمسلمين فإذا حاص بعض العلمانيين حول الأمر استنفرت الأمة للدفاع لا عن الإسلام ، فتلك فريضة ، ولكن عن أعراف جاهلية وفيروسات اجتماعية وأخلاقية تسللت في غيابنا ، وخذ مثلين أحدهما مايقال له : قانون الشرف الذي ليس له أساس شرعي ولا عقلي ، ويهاجمه بعض العلمانيين بنية صالحة أو ماكرة ، و بعضهم يحمل منهجاً من لوازمه دفع ذلك القانون الجائر ، وآخرون لا يهمهم القانون ولا الجرائم بل همهم فتح ثغرة وركوب منبر من أجل الوقيعة الخسيسة في الإسلام وأهله ، والحط من الدين ودوره في الحياة ، وإدعاء لزوم التغريب والخروج بالأمة من إيمانها واعتقادها …. وكل ذلك مفهوم ومعروف .. ولكن .. لماذا لا يصبح الدعاة والعلماء هم التوابون … الذين يقودون الأمة لا بردود أفعال بل بمنهج متوازن ، فيعلنون على الملأ جهاراً نهاراً التوبة مما قد خالط الإسلام من شوائب العصور ، ويقررون بشكل حاسم وصريح الموقف الشرعي من المسائل الأساسية ، وأننا ارتكبنا بالفعل أخطاء منهجية وتربوية أبعدتنا عن الصواب واليوم نحن توابون رجّاعون إلى الحق لا عن ذنوب فردية كل إنسان مسؤول فيها عن نفسه ، ولكننا توابون لذنوب عامة مازالت تقودنا من بؤس إلى شقاء.

المثال الثاني من الكويت حيث قاتلت الحركة الإسلامية قتالاً ضارياً من أجل منع النساء لا من الترشيح بل حتى من المشاركة في الانتخابات ، زاعمين أن الشريعة الإسلامية لا تسمح بذلك ، ولو قالوا أعرافنا وعقليتنا لا تسمح لنا لفهمنا ذلك ، ولما قال صحفي لأحد كبارهم ، ولكنكم تعتبرون العلامة القرضاوي (حفظه الله) من مراجعكم ، وهو يفتي بجواز ذلك ، قال الكبير : لكل رأيه!!

ليست المشكلة هنا بل إن الأمر ليس فيه دليل عقلي ولا نقلي قاطع ، ومعنى ذلك أن طبيعة الحياة ، وزيادة الوعي الشرعي والاجتماعي ستفرضه فرضاً فلماذا لم يتسابق الإسلاميون للريادة فيه والكسب للإسلام من خلاله ، لقد تركوا الفرصة لسفارة أميركة في الكويت والتي صارت النقطة المرجعية والقائد الموجه لأغلب الحركات النسائية ، وستنتقل بها من حق إلى باطل ، وعندما ستظهر آثار التغريب فلنثق أنها من صنع أيدينا نحن لأننا لم نكن توابين ابتداءً ولا أصحاب ريادة بل نلهث وراء الآخرين ولا نلحق ، ونقوم بردود أفعال ولا نقتحم .

هناك قضية فنية ولكنها خطيرة وحساسة بالفعل ، وهي أن ادعاء البعض أن الانتقال من العادة والعرف الفاسد لبناء المنهج الشرعي السليم أمر شديد الصعوبة ، ومانحمله من عادات سلبية إنما يكمن في داخله نوع من الوقاية العامة والحماية الضرورية لمكونات أخرى بحيث يصبح من الصعب جداً التخلي عنه رغم أضراره درءاً لأخطار أشد ، وهذا صحيح نظرياً ، ولكنه باطل ومرفوض عملياً … لأننا في أوقات عديدة كنا قادرين على البناء الطويل الذي لا يقلقل المجتمعات ولا يفتح الثغرات! كنا قادرين عل أن نستل من عقول الناس مايسمى جريمة الشرف دون أن يفتح ذلك الباب لا نتشار الزنا (المعطيات عن انتشاره مقلقة رغم وجود قانون الشرف) ، وكنا قادرين على استلال التعصب المذهبي دون أن يؤدي ذلك إلى خدش الإسلام ، وكنا قادرين على تفعيل دور النساء دون أن يخرج ذلك إلى شطط لانرضاه! وكنا قادرين (لولا التعصب) أن نزرع فقهاً للأسرة راشداً بحيث لايقع طلاق الثلاث إلا واحدة بشروط شديدة حفظاً لآلاف السر من التشرد والضياع … وكنا قادرين على الاجتماعات العلمية لنحدد نقاط الضعف التي تسللت إلى كتبنا في العقيدة والفقه والسلوك فنضع خطة لا جتثاثها من الجذور …وكنا قادرين على أن ندرس بشكل موضوعي عوامل ابتعاد الناس عن الدين الحق وماهي حصتنا من ذلك التقصير فنستدركه … وكنا قادرين على أن نجعل بدل كل وليمة ندعى إليها وطعام يختفي في أجوافنا ساحة هداية وخير وإيمان .. أما قال العلامة محمد الغزالي أن بعض الشيوخ يسمنون والإسلام ينحف!! ولكن … مضت أوقات يسر لم نفعل بها شيئاً …

عندما لا يكون هناك أزمة ننام ، وتنام معها منابرنا ومساجدنا ودعاتنا وعلماؤنا ، وعندما تنفجر الأمور نزعم أنه ليس بالإمكان أي تصرف الآن لأن الوضع لا يتحمل أي حركة فالظروف والكيد والتآمر على الأمة يجعل فتح الأوراق في غاية الخطورة!! أليس هذا هو منهج الحكومات الثورية التي حكمت الأمة العربية الخالدة العقود الطوال فأكلت فيها الأخضر واليابس بل أكلت الحياة نفسها والدين والكرامة بل البشرية في نفوس الناس ، أليست تلك الأنظمة هي التي دمرت حقوق الإنسان ومرغت كرامة البشر في الوحل ، أليست هي التي أعدمت واغتالت وشردت وهجرت ونهبت وقتلت وذبحت وصادرت وأممت وحاكمت وعندما ضاعت الأرض ولولت …. وأليست هي التي جعلت الأمة متخلفة وبدائية وساذجة .. وأليست هي التي بنت السجون والأجهزة وجعلت الناس عيوناً على بعضهم بالملايين .. أليست هي التي صادرت كل قرار ووضعت يدها في كل مفصل .. أليست هي التي سببت هجرة العقول والأدمغة .. وانتشار الرشوة والفساد ونهب المال العام … أليست هي التي أفسدت الضمائر والذمم والأخلاق … أليست هي التي بنت جهازاً دينياً منافقاً عمله التلاعب بعقول الناس وقلب الحق باطلاً والباطل حقاً ، والتركيز على الصغائر قريبة المغفرة والخرس الشيطاني عن الكبائر التي تمحق البلاد والعباد ، وهو الجهاز الذي يحث الناس على الصدقة وبذل المال وفتح المشاريع الخيرية لسد الثغرات التي تحصل من وراء النهب والنهم إلى المال مما لا يتوقف في ليل ولا نهار ولا يرحم بائساً ولا محروماً! …

أو ليست تلك الأنظمة العربية المظفرة هي من صارت الأمة في عهدها أضحوكة لشعوب الأرض … فهي الأكثر مالاً والأجهل علماً بل الأقل قراءة والأشل فعالية والأكسل إنتاجا .. بل الأكثر تدخيناً والأحلك تنمية اجتماعية ، والأكثر حرماناً من الحقوق الأساسية والأكثر تدهوراً في التعليم والصحة والتربية .. والأغيب عن الإعلام الفعال والقرار المستقل والكسب الحضاري … أليست هي التي تتمسح في ظاهراً بالدين لإفلاس القيم الأخرى ، وتكيد له كيداً عظيماً فتسجن وتنفي وتعدم وتشوه صورة أحرار الإسلام … وتزعم تحرير المرأة وهي التي لم يشاركها أحد في أي قرار العقود الطوال فقبرت المرأة والرجل معاً وأحالت الجميع عبيداً ونتفاً وبقايا بشرية شلاء … والقائمة لا يحصرها عد و لايحيط بها بين البشر حساب!!

لقد وجدت بعض الأنظمة الوقت لتفعل كل ذلك وغيره … ولكنها لم تجد أي وقت لتخطط من أجل حرية شعوبها ، ولا أي وقت لبناء كرامة الإنسان ، ولا أي وقت لفتح ملفات الفساد …. لأن العدو بالمرصاد !!

لا يهمني الطغاة ،فالأخطر من ذلك كله هو وضع الأمة … فأسوأ شيء تقع فيه أن تشرب نفسية الطغاة الذين يتحكمون بها وبالتالي تتصرف بوحيهم ومنطقهم ومنهجهم ، وهنا يكسب الطغاة مرتين ، مرة عندما دمروا الأمة من خارجها ، والمرة الأخطر عندما زرعوا فيروساتهم في أعماقها فصارت تفكر كما يريدون.

التوابون لا يتوقفون عند ظرف ، ولا يملون من الحركة الصواب ، والتوابون يخشون على الأمة من الانهيار بحيث يرون المصارع الحقيقية كامنة في الذنوب الكبيرة التي لم يصنعها فرد بمقدار ماهي تواطؤ وتراكم ممتد في الزمان والمكان ، وخذ مثلاً ماذكره المؤرخ الخزرجي وقال بمثله ابن تيمية رحمه الله مما تراه بعينيك من أن الله (ينصر الدولة الكافرة العادلة ولا ينصر الدولة المؤمنة الظالمة ) …

مفهوم الخطأ والتوبة يحتاج إلى مراجعة عميقة .. فنتوب من الجهل كما نتوب من الزنا ونبرأ إلى الله من التعصب مثل براءتنا من الشرك ، ونستغفر من الأنانية والذاتية كما نستغفر من الكفر الصراح ونندم على الجبن والبخل كما نندم لا رتكاب الكبائر المهلكات ونتوب من السكوت عن الظلم كما نتوب عن الفرار من الزحف ونفزع من السطحية في التفكير كفزعنا من فوات الأجر في الصلاة التي لا نعقلها! …. ولو فكرنا لعلمنا أن تلك الذنوب الفردية التي عددناها إنما بواباتها الأساسية هي الذنوب العظام التي نحذر منها …

كما أن هناك ذنوباً من نوع خاص التبس فيها الحق مع الباطل … وتسربت الطبيعة البشرية لتتلاقح مع دعوى الظالمين في الأرض ، من فعلهم كل قبيح وإيجاد الوقت له ثم الاعتذار عن القيام بأدنى الحقوق… فتجد من بين أهل العلم أو الدعاة من فارقه اللطف مع أهل بيته لأنه داعية! (وقد يكون في تفكيره أن من لوازم ذلك أن يكون فظاً غليظاً) .. وترى من نسي نسمات صلاة الفجر لأنه يسهر كل مساء في لغو فارغ مع صحب ليسوا دعاة عاملين بل هم على وصف الأستاذ الراشد (عاملين أنفسهم دعاة) ، وهناك من نابتة الدعاة وأهل العلم من يتسكع بين طاولات المطاعم و لم يبذل في حياته لدعوته نقيراً ولا قطميراً ولم يتفقد أخاً وصاحباً ، وآخر أكل أموال إخوانه وحياته كلها سرف وتبذير فإذا طالبه الغرماء بكى على الديون التي في رقبته ، وهناك من يتحدث عن الأخوة وهو كائن طفيلي ، الأخوة عند طريق عريض باتجاه واحد يضمن له أنانيته ، وهناك من يطيل لسانه على من ربوه ومامن مكرمة عنده يسابقهم بها في كثير ولا قليل … وهناك النقّاق الذي لا يتقن إلا الشكوى .. وهناك ذو الوجهين … والجبان .. ومن لا يتحدث إلا عن نفسه ومواهبه الجامعة المانعة … وزارع الخوف في نفوس إخوانه .. وهناك الإنسحابي والتسطيحي والوصولي والمكدود والمكيود .. وكلها ذنوب أولها فردي وآخرها ماتراه من حالة الأمة اليوم .. ويشترك المذنبون من ظالمي أنفسهم إلى ظلام الأمم بدعوى عدم مناسبة الوقت للتغيير .. وقد قال ابن عطاء لهم قديماً (إحالتك الأعمال على وجود الوقت من رعونات النفس) …

أما العلماء المخلصون فدورهم في التوابين عظيم ، لإعلان البراءة من ضعف السنين ، وتراكمات السياسة والتاريخ ، وأصابع الحكام ونزعة الاستبداد … ولن يخدش ذلك الدين ولا العظماء ولا التاريخ .. بل سنقول بأننا بشر نخطئ ونصيب ونتقدم وننكص … ولكننا في النهاية نبدل كل سيئاتنا بالحسنات .. وكلنا خطَاء ولكن خير الخطائين هم التوابون.
وللحديث بقية إن شاء الله .. أحمد معاذ الخطيب الحسني

14 محرم 1428هـ 1 شباط 2007م
– نرجو الله للأمة المسلمة وللبشرية جمعاء سنة مباركة مليئة بالخير والتوفيق والكرامة.

– انظر من موادنا الجديدة:

1- وفاة العالم الرباني الشيخ محمد الحجار في المدينة المنورة (لم ينزل في الموقع بعد وسيكون جاهزاً يوم الإثنين بإذن الله

2- أجوبة الأسئلة التي وردت في الشهر الماضي

3- نص المقابلة التي أجرتها قناة الجزيرة القطرية مع المشرف على الموقع وتجدها في الأرشيف : مقابلات

4-صوت المؤذن التركي حافظ مراد في قسم الأناشيد وعنوان موقع جميل للقرّاء والقرآن الكريم

إضافة إلى فقرات أخرى ….

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.