المرتبة الثانية
(الباب الثاني)
{فيما إذا خلا الزمان عن المجتهدين وبقي نقله مذهب الأئمة}
611 – فأَما المرتبةُ الثانيةُ, فهي فيه إِذا خلا الزمانُ عن المفتين البالغين مبلغَ المجتهدين, ولكن لم يَعْرَ الدهرُ عن نقلَةِ المذاهب الصحيحة عن الأَئمة الماضين, وتكاد هذه الصورةُ توافق هذا الزمانَ وأَهلَه. والوجهُ تقديمُ ما يتعلقُ بالناقل وصفته ثم الخوض في ذكر ما يتعلق به المستفتون فأَقول:
612 – لا يستقل بنقل مسائل الفقه من يعتمد الحفظَ, ولا يرجع إِلى كَيْسٍ وفطنة وفقهِ طبع؛ فإِن تصوير مسائلها أَوَّلا, وإِيرادَ صورها على وجوهها لا يقومُ بها إِلا فقيه. ثم نقلُ المذاهبِ بعد استتمام التصوير لا يتأَتى إِلا من مرموق في الفقه خبيرٍ, فلا ينزلُ نقلُ مسائل الفقه منزلةَ نقلِ الأَخبار والأقاصيص والآثار. وإِن فُرض النقلُ في الجليات من واثقٍ بحفظه موثوقٍ به في أَمانته, لم يمكن فرضُ نقل الخفيات من غيرِ استقلالٍ بالدراية.
613 – فإذا وضح ما حاولناه من صفة الناقل, فالقول بعد ذلك فيما على المستفتين. فإذا وقعت واقعةٌ, فلا يخلو إِما أَن يصادِف النقلةُ فيها جواباً من الأئمة الماضيين, وإِما أَن لا يجدوا فيها بعينها جواباً. فإِن وجدوا فيها مذهب الأَئمةِ منصوصاً عليه, نقلوه واتبعه المستفتون.
ولا بُّد من إِزالة استبهامٍ في هذا المقام.
614 – فإِذا نَقَلَ الناقلون مذهبَ الشافعي رحمه الله ، ونقلوا مذاهبَ عن المجتهدين المتأَخرين عن عصره, فالمستفتي يتَّبعُ أَيَّ المذاهب؟ مع اعتقاده أَن مَنْ بعد الشافعي رضي الله عنه لا يوازيه ولا يدانيه؟
615 – هذا ينبني على ما أَجريتُه في أَثناءِ الكلام في المرتبة الأولى من هذا الركن, وهو أَن من عاصر مفتياًً وصادف مذهبَه مخالفاُ لمذهب الإمام الذي اعتقده أَفضلَ الأَئمة الباحثين والممهدين لأَبواب الأَحكام قبل وقوع الوقائع, فإِنه يتبعُ مذهبَ المفتي أَو مذهبَ الإِمام المقدَّمِ المتقادمِ ؟؟ وقد تقدمَ فيه تردّدٌ, ووضَحَ أَن الاختيارَ اتباعُ مفتي الزمان, من حيث إِنه بتأَخره سبَر مذهبَ من كان قبله, ونظرُه في التفاصيل أَسدُّ من نظر المقلِّد على الجملة.
616 – فإِذا تجدّد العهدُ بهذا, فقد يظن الظان على موجَب ذلك؛ أَن اتباعَ مذاهب الأَئمة المتأَخرين عن الشافعي أَولى, وإِن فاقهم الشافعي رحمه الله فضلا, فإِنهم باستئخارهم اختصوا بمزيد بحث وسبر.
617 – والذي أَراه في ذلك القطع باتباعِ الإِمام المقدَّمِ, والإِضرابُ عن مذاهب المتأَخرين عنه قدراً وعصراً.
وإِن كنت أَرى تقليدَ مفتي الزمان لو صودف؛ لأَن الذي يُوجَد لا يعسُر تقليدُه, وتطويقُه أَحكامَ الوقائع.
فأَما تكليفُ المستفتين الإِحاطةَ بمراتب العلماءِ المتأَخرين عن الشافعي – مثلا – على كثرتهم, وتفاوُت مناصبهم ومراتبهم, فعَسِرٌ لا يستقلُّ به إٍلا من وفرت حظوظُه من علومٍ.
618 – وإِنما رأَيت هذا مقطوعاً به من حيث لم يَرَ أَحدٌ من العلماءِ إِحالةَ المقلِّدين المستفتين على مذاهبِ مَن دون الإِمام المقدَّم, ولكن من كان من العلماءِ مفتياً, جزم فتواه, ولم يذكر مذهبَ مَن سواه, ومن قدَّر نفسه ناقلا, أَحال المراجعين على مذاهب الحَبْر المتقدم.
وهذا لائحٌ لا يجحده محصِّلِ.
فقد تقرر أَن الواقعةَ إِذا نقلَ فيها من هو من أَهل النقل مذهبَ إِمام مُقدَّمٍ, قد ظهرَ للمستفتي بما كُلِّفَه من النظر أَنه أَفضل الأَئمة الباحثين, فالمستفتي يتبعُ ما صحَّ النقلُ فيه.
619 – وإِن وقعت واقعةٌ لم يصادِف النقلةُ فيها مذهباً منصوصاً عليه للإمام المتقدم وقد عَرِيَ الزمانُ عن المجتهدين, فهذا مقامٌ يتعينُ صرفُ الاهتمام إِلى الوقوف على المغزى منه والمرام, وهو سرّ الكلام في هذه المرتبة. فأَقول :
620 – قد تقدم أَن نقلَ الفقه يستدعي كيْساً وفِطْنةً وحُظْوةً بالغةً في الفقه.
ثم الفقيه الناقل يُفرَضُ على وجهين:
أحدهما – أن يكون في الفقه على مبلغٍ يتأتى منه بسببه نقلُ المذاهب في الجليات, والخفايا تصويراً, وتحريراً، وتقريراً, ولا يكون في فن الفقه بحيث يستدُّ له قياسُ غيرِ المنصوص عليه على المنصوص. فإن كان كذلك, اعتُمِدَ فيما نَقَل.
621 – وإِن وقعت واقعاتٌ لا نصوص لصاحب المذهب في أَعيانها, فما يَعْرَى عن النص ينقسم قسمين:
أَحدهما – أَن يكون في معنى المنصوص عليه, ولا يحتاجُ في درك ذلك إِلى فضلِ نظَر وسبْر عِبَر, وإِنعام فِكرَ, فلا يُتصوّر أَن يخلو عن الإحاطة بمدارك هذه المسالك من يستقلّ بنقل الفقه, فليْلحَق في هذا القسم غيرُ المنصوص عليه بالمنصوص عليه.
622 – وبيان ذلك بالمثال من أَلفاظ الشارع أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ من أَعتق شِرْكاً له في عبدٍ قُوِّم عليه نصيبُ صاحبه ] فالمنصوص عليه العبدُ, ولكنا نعلمُ قطعاً أَن الأَمَةَ المشتركةَ في معنى العبد الذي اتَّفقَ النصُّ عليه, ولا حاجةَ في ذلك إِلى الفحص والتنقير عن مباحث الأَقيسة.
فإِذا جرى لصاحبِ المذهبِ مثلُ ذلك, لم يشُكّ المستقلُّ بنقل مذهبِه في هذا الضرب في إِلحاق ما في معنى المنصوص عليه بالمنصوص عليه.
623 – وإِذا احتوى الفقيهُ على مذهب إِمامٍ مقدَّمٍ حفظاً ودرايةً, واستبان أن غيرَ المذكور ملتحقٌ بالمذكور فيما لا يُحتاج فيه إِلى استشارة معانٍ, واستنباط علل, فلا يكاد يَشِذُّ عن محفوظ هذا الناقل حكمُ واقعةٍ في مطرد العادات.
والسببُ فيه أَن مذاهبَ الأَئمة لا تخلو في كل كتابٍ, بل في كل باب عن جوامعَ وضوابطَ, وتقاسيمَ, تحوي طرائقَ الكلام في الممكنات, ما وقع منها وما لم يقع, ولو أَوضحتُ ما نحاوله بضرب الأَمثلة, لاحتجْتُ إِلى ذكر صدرٍ صالحٍ من فن الفقه, من غير مسيس الحاجة في هذا المجموع إِليه, فإِن الناس في هذا الذي أَفضى الكلام إِليه طائفتان : فقهاءُ ناقلون معتَمَدون فيما ينقلون, ومستفتون راجعون إِلى المستقلّين بنقل مذاهب الماضين.
624 – فأَما الفقهاءُ فلا يخفى عليهم مضمونُ ما ذكرتهُ قطعاً, وأَما المستفتون, فلا يُحيطون بسر الغرض فيه, وإِن بُسط لهم المقال, وأُكثرت لهم الأَمثالُ, فنصيبهم من هذا الفصل مراجعةُ الفقهاءِ, والنزولُ على ما يُنهون إِليهم من الأَحكام.
وقد فَهم عنا من ناجيناه من الفقهاءِ ما أَردناه, واتضح المقصدُ فيما أَوردناه.
625 – ثم لسنا مع ما قرّبناه اشتمالَ الحفظ على قضايا جميع ما يُتوقع وقوعُه من الوقائع. فإِن فرضت واقعةٌ لا تحويها نصوصٌ, ولا تضبطها حدودٌ روابط, وجوامعُ ضوابط. ولم تكن في معنى ما انطوت النصوص عليه. فالقولُ فيها يلتحق بالكلام فيما إذا خلا الزمان عن نقلة المذاهب, سيأتي ذلك في المرتبة الثالثة على الترتيب, وهي المقصودة من الركن الثالث؛ وما عداها كالمقدمات والتسبيب.
626 – وما ذكرناه الآن فيما إذا لم يكن ناقلُ المذاهب بحيث يقوى على مسالك الأَقيسة, ويستمكن من الاستداد في استنباط المعاني.
627 – فأَما من كان فقيهَ النفسِ متوقِّدَ القريحة بصيراً بأَساليب الظنون, خبيراً بطرق المعاني في هذه الفنون, ولكنه لم يبلغ مبلغَ المجتهدين لقصوره عن المبلغ المقصود في الآداب, أَو لعدم تبحُّرِه في الفن المترجَم بأُصول الفقه – على أَنه لا يخلو عن أُصول الفقه الفقيهُ المرموق والفطنُ في أََدراج الفقه – وإِن كان لا يستقلُّ بنظم أَبوابه وتهذيب أَسبابه, فمثل هذا الفقيه إذا أَحاط بمذهبِ إِمام من الأَئمة الماضين، وذلك الإِمامُ هو الذي ظهر في ظن المستفتين أَنه أَفضل المقدَّمين الباحثين, فما يجده منصوصاً من مذهه نُنهيه ويُؤديه، ويُلحِقُ بالمنصوص عليه ما في معناه, كما سبق الكلام فيه.
628 – وإِذا عنَّت واقعةٌ لا بد من إِعمال القياس فيها, فقد خَبرَ الفقيهُ المستقلُّ بمذهب إِمامه مسالكَ أَقيسته وطرقَ تصرفاته في إِلحاقاته غيرَ المنصوص عليه للشارع بالمنصوص عليه, فلا يعسرُ عليه أَن يُبَيّن في كل واقعةٍ قياسَ مذهبِ إِمامه.
629 – ثم الذي أَقطع به أَنه يتعيّن على المستفتي اتباعُ اجتهادِ مثلِ هذا الفقيه في إلحاقه – بطرقِ القياس التي أَلِفَها وعرفَها – ما لا نص فيه لصاحب المذهب بقواعدِ المذهب.
والدليلُ عليه أَن المجتهد البالغَ مبلغَ أئمةِ الدين صفتُه أَنه أَنِسَ بأُصول الشريعة، واحتوى على الفنون التي لا بُدّ منها في الإحاطة بأُصول المسأَلة ، والاستمكانِ من التصرف فيها.
فإذا استجمعها العالمُ كان على ظنٍّ غالب في إصابةِ ما كُلِّف في مسالكِ الاجتهاد.
630 – فالذي أَحاط بقواعد مذهب الشافعي مثلا ، وتدَّرب في مقاييسه ، وتهذَّب في أَنحاءِ نظرِه وسبيلِ تصرفاتِه ينزلُ في الإلحاق بمنصوصاتِ الشافعي منزلةَ المجتهد الذي يتمكن بطُرقِ الظنون إلحاقَ غيرِ المنصوص عليه في الشرع بما هو منصوص عليه.
631 – ولعل الفقيهَ المستقلَّ بمذهب إِمامٍ أَقدرُ على الإلحاق بأُصول المذهب الذي حواه – من المجتهد في محاولتهِ الإِلحاقَ بأُصول الشريعة، فإن الإِمامَ المقَّلدَ المقدَّمَ بذَلَ كُنْهَ مجهوده في الضبط، ووضع الكتابَ بتبويب الأبواب وتمهيد مسالك القياس والأَسباب، والمجتهدُ الذي يبغي ردَّ الأمرِ إلى أَصل الشرع لا يصادِفُ فيه من التمهيد والتقعيد ما يجده ناقلُ المذهب في أَصل المذهب المهذّب المفرّع المرتَّب.
632 – والذي يحققُ الغرضَ في ذلك أَنا إذا عدمنا مجتهداً، ووجدنا فقيها دَرِباً قَيَّاساً، وحصلنا عل ظنٍّ غالبٍ في التحاق مالا نصَّ فيه في المذهب الذي ينتحله بالمنصوصات، فإحالةُ المستفتين على ذلك أَولى من تعرية وقائعَ عن التكاليف، وإِحالة المسترشدين على عمايات وأُمور كلية، كما سيأتي شرحنا عليه في المرتبة التالية إن شاءَ الله عز اسمُه.
وهذا فتحٌ عظيمٌ في الشرع لائقٌ بحاجات أَهل الزمان، قد وفق الله شرحَه.
633 – وتنخَّل من محصّل الكلام أَن الفقيه الذي وصفناه يحُل في حق المستفتي محلَّ الإِمام المجتهدِ الراقي إلى الرتبة العليا في الخلال المرعية ناقلا، وملحِقا، وقايساً. ثم يقلدُ المستفتي ذلك الإِمامَ المقدّمَ المنقلبَ إلى رحمة الله تعالى ورضوانِه، لا الفقيهَ الناقلَ القيَّاسَ.
634 – فإِن فَرضَ فارضٌ من مثل الفقيه الذي ذكرناه تردداً وتبلُّداً في بعض الوقائع على ندورٍ، فقد يُتَصورّ توقف المجتهد في بعض الوقائع.
635 – وأَنا بعون الله وتوفيقه أَذكر في آخر المرتبة الثالثة تفصيل القول في آحاد الوقائع، إذا توقف فيها المفتون أو تردد فيها الناقلون، ونوضح ما على المستفتين فيها، ِإن شَاء الله عز وجل.
فهذا منتهى المطلوب في هذه المرتبة.